بســــــــم الله الرحمـــن الرحــــيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين.
وبعد:
عندما تطورت المناهج التاريخية واللغوية تطوراً كبيراً في أوروبا، وخصوصاً في ألمانيا، إبان القرن التاسع عشر.
وبعد أن طبقوا منهجية النقد التاريخي على الآداب اليونانية والرومانية، وخرجوا بنتائج باهرة.
قالوا: لماذا لا نطبقها على النصوص الدينية؟
فهي أيضاً مشكلة من حروف وألفاظ، وجمل وعبارات، ومرتبطة بظروفها وعصرها.
لذلك بدأوا يطبقونها على التوراة والإنجيل، أو العهد القديم والعهد الجديد، وفوجئوا بأشياء عجيبة لم تكن تخطر لهم على بال.
فقد اكتشفوا مثلاً: أن التوراة ليست من تأليف النبي موسى عليه السلام، كما يعتقد اليهود والمسيحيون منذ آلاف السنين، بل هي من تأليف متأخر، لأنها تحتوي على إشارات ومرجعيات وألفاظ، ما كان يمكن أن توجد في عصر النبي موسى عليه السلام، وبرهنوا بالأدلة القاطعة على أطروحتهم هذه.
عندئذ أصيب الوعي الإيماني المسيحي في الصميم.
لكن الليبراليين قبلوا بالنتيجة، وقالوا: إن العلم لا يدمر الإيمان، كما يزعم الأصوليون المتحجرون بل يضيئه وينعشه !
وهنا بدأت معركة تأويل النص عند الغرب.
وهي المعركة التي يريد أن يستورد العلمانيون العرب أدواتها
(المنهج التاريخاني () واللسانيات) كمحمد أركون ()
والمهندس محمد شحرور () وغيرهم، لإجراء نفس العملية الجراحية الغربية.
لكن مع فارق وحيد أنهم يجرونها على العضو السليم؛ وهو (النص القرآني) الذي ثبت قطعا، أنه نص إلهي، ليس لبشر فيه يد؛ حتى النبي المبلغ له عليه الصلاة والسلام.
وشكلت موجة ما يسمى (القراءة المعاصرة) آخر موجات الصراع المستمرة حول تأويل النص القرآني.
فلايزال الوحي والنص المقدس ساحة صراع.
بين من يحاولون امتلاك ناصية الفهم الحق، والتعبير عن مراد الله تعالى من الخطاب الإلهي، وبين مقلدة الغرب من أصحاب القراءة المعاصرة.
وكثيراً ما تتأثر هذه المعارك الفكرية بالأحداث السياسية، وتكون رجعاً للصراعات الاجتماعية.
فبعد كل حالة من الانكسار التي تتعرض لها الأمة، تعلو بعض الدعوات التي تحاول إعادة تفسير الإسلام من جديد على صورة ، تحل فيها معضلة التناقض التي يتصورها الشباب المسلم الحائر بين النص والوحي من جهة، وبين التجربة والواقع من جهة أخرى.
وقد ظهرت في سوريا قديماً دعوة الأستاذ جودت سعيد (مذهب ابن آدام الأول) بعد الصراع الدامي بين الإسلاميين والبعثيين، وكانت قراءة جديدة متأثرة بالواقع الغائم والنكبة المرة.
وكذلك بعد وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي، ظهرت كثير من الدعاوى التي تدعو إلى تفسير النص القرآني والإسلام تفسيراً جديداً، يحل الإشكالية التي أفرزتها الحالة السياسية والصدمة الحضارية، كما فعلت البهائية () في إيران والقاديانية في القارة الهندية. ()
وإن كان بعضهم يكتفي بتفسير مثل هذه الدعوات بأنها صنعة إنكليزية محضة، أو مؤامرة استعمارية بحتة.
لكنني هنا أريد تناول الموضوع من وجهة نظر أخرى، تتجاوز عقدة المؤامرة، إلى المحاكمة العقلية لهذه المناهج المحدثة.
ونجد أن المفكر الكبير الباكستاني محمد إقبال () شرح تلك الدعوات :
بناء على المؤدى والنتيجة منها بشكل عميق ودقيق.
وأشار إلى أنها تلغي مفهوم العبودية والربوبية التي هي جوهر الأديان كلها، لأنها تحرر الإنسان، وتستعبد الدين فيصبح الدين مقلوبا رأسا على عقب.
ويتحول العبد معها – وهو الإنسان هنا – إلى سيد، والدين إلى عبد خاضع؛ يلبي شهوة الإنسان ورغباته، وقد عبر عن ذلك إقبال شعرا فقال:
وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب ✱ ✱ ✱ فجدد لنا شرعا يلائمه العصر
رأيت بأرض الهند أيَّ عجيبة. ✱ ✱ ✱ فإسلامها عبد ومسلمها حر ()
واليوم نعود لنلحظ هذه الشنشنة التي نعرفها من أخزم، تشرئب مجدداً، وتحاول أن تقدم تفسيراً جديدا للنص، يكاد يكون فهماً بديلاً عن الإلحاد، وإن كان في أصله نوع من الإلحاد في آيات الله.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) سورة فصلت (40)
والإلحاد هنا كما جاء عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ هو أن يوضع الكلام في غير موضعه ().
لينتهي الأمر إلى إفراغ الدين من محتواه، والذي قد يجتذب كثيراً من الشباب المصدوم بالخطاب التكفيري، والممارسات الداعشية، والفتاوى الجامية، والخرافية المتصوفة، وخطاب المؤسسات الدينية الحكومية التي شكلت حالة صادمة للشباب المسلم الحائر في موقفها من الربيع العربي.
وبين دعوات الجمود على التراث، وبين دعوات تجديدية، تستبطن العلمنة تارة والإلحاد تارة، وبين السقوط الأخلاقي لبعض الدعاة في معركة الحرية والظلم.
تجد مثل هذه القراءات رواجاً بين الشباب بما تضفي على نفسها من مسحة عقلانية تستهوي بعضهم.
وهنا أذكر المهندس محمد شحرور نموذجاً _ في قراءته المعاصرة _ للقرآن في عدد من كتبه، والتي يعد من أهمها كتابه ((الكتاب والقرآن قراءة معاصرة))، والذي حدد فيه منهجه اللساني في تناول تفسير آيات القرآن الكريم. ()
وهنا لا أريد الغوص في النوايا، كما يفعل بعضهم، فأمر ذلك لرب العالمين.
ولا يهمني إن كان شحرور عميلاً صهيونيا، أو شيوعيا ماركسياً.
لكن ما لفتني في ظاهرة شحرور مسألتان:
الأولى: كثرة الشباب المفتونين، والمعجبين بطرحه وفكره وبضاعته التفسيرية المبهرجة بغلاف من عقلانية خادعة وشهوانية طاغية.
والثانية: كمية الردود السطحية والساذجة التي يرد بها بعض من الدعاة على المهندس شحرور، بطريقة عاطفية، مما يزيد دعوته قوة وتأثيراً، ويزيد من ردود الباحثين عليه ضعفاً بعين الشباب المثقف المتابع لصليل هذه المعركة.
وفي أحسن الأحول هناك من رد على إنتاجه التفسيري بطريقة تناول الجزئيات التفسيرية في قضايا معينة، مثل قضية الحجاب، والميراث، والصيام.
وهو جهد مبارك لكنه _ من دون تناول، المنهج المعرفي الأبستمولوجي والغوص والحفر في عمقه وتحليله _ يبقى رداً قاصراً، يعالج المنتج، ولا يمس المنهج.
لذلك اخترنا الرد بنقض المنهج الأصولي لشحرور، ودحض منهجه المعرفي من أصله وأساسه، بدلاً من التيه والدوران في ملاحقة منتجاته الفكرية الشاذة في قضايا الإرث، والحجاب وغيرها.
لنحقق غاية بسيطة، وهي أننا بنسف الأصل والمقدمات، يبطل معها كلما يتولد عنه من فروع ونتائج ومخرجات.
وهنا نشرع بتفكيك بعض المقدمات المنهجية التي يقوم عليها منهج شحرور في قراءته المعاصرة.
الشبهة الأولى عند شحرور مشكلته مع علم أصول الفقه :
من المسلم به عند أهل العلم والمعرفة في النظريات المعرفية ومناهج العلوم:
أن العلوم سابقة بالاكتشاف والتطبيق على قوانينها، وليست لاحقة بالاكتشاف بمناهجها وقوانينها.
فاللغة مثلا ً سابقة في الممارسة والوجود على علم النحو والإعراب.
والفقه سابق في الوجود والتطبيق على علم أصول الفقه.
والسنة سابقة على علم الرواية والمصطلح.
والناس كانت تتعامل مع قانون الجاذبية قبل أن يكتشفها نيوتن.
من هنا نريد الوصول إلى قضية كثيراً ما، يدندن بها المهندس محمد شحرور، عندما يقول: “إن مشكلتنا تكمن في كتاب من مئتي صفحة يعني به (كتاب الرسالة) للشافعي _رحمه الله_.
إذا تجاوزناها؛ فإن مشكلتنا كلها مع التراث ستحل تلقائيا”، حتى يقول: “أنا كافر بما جاء به محمد بن إدريس الشافعي. “()
ظناً من شحرور: أن الشريعة الإسلامية هي منتج علم أصول الفقه، الذي دونه الإمام الشافعي _ رحمه الله _ وأننا إذا كسرنا هذا المنهج الأصولي، وتجاوزناه، واستعضنا عنه منهجاً معرفياً آخر، نقرأ من خلاله نصوص الوحي والكتاب: ستنتهي مشكلتنا المعرفية مع الشريعة، لأن المنتج الشرعي والفقهي سيختلف تماما باختلاف منهج الاستنباط القياسي، الذي أتى به الإمام الشافعي _ رحمه الله _ وأن التجديد في الفقه الإسلامي سيتحصل بما يتناسب مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية.
ولم يتفطن شحرور إلى الخطأ المنهجي الكبير الذي وقع به، حينما لم يدرك:
أن الشريعة الإسلامية كانت قائمة طوال أكثر من قرن من الزمان في جيل الصحابة والتابعين، قبل أن يولد الشافعي نفسه، ولم يزد الشافعي _رحمه الله _ إلا أن وضع قواعد أصولية لضبط فهم فروع الشريعة؛ وليس لإعادة إنتاجها من جديد.
وكان لعلم أصول الفقه _ المستند في قواعده على اللغة العربية _ دور كبير في ضبط حركة الاجتهاد، وحماية الشريعة الإسلامية من تحريف المبطلين المتسلقين.
فشحرور يرى: أن أزمة الأمة المعاصرة هي أزمة التمحور حول النص، وأن الحل يكمن في إعادة قراءة النص قراءة معاصرة، وحتى يصل إلى هذه القراءة المعاصرة لا بد من نسف قواعد أصول الفقه التي تشكل حجر عثرة أما م رؤيته، متوهماً أن الشريعة هي وليدة القواعد الأصولية، التي وضعها الإمام الشافعي.
نعود؛ ونؤكد الفكرة التي انطلقنا منها وهي:
أن الشريعة سابقة في الوجود والتطبيق على منهج أصول
الفقه، وليست متولدة منه كما يظن شحرور. فالمنهج الأصولي يكمن دوره في فهم الشريعة، وليس هو المنتج لأحكامها.
فإن الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا يصلون؛ ويصومون؛ ويحجون؛ ويزكون؛ ويتزوجون؛ ويبيعون ممتثلين في كل ذلك أحكام الشريعة الإسلامية، ولم يدون علم أصول الفقه بعد.
الشبهة الثانية: منهج مستورد لقراءة النص:
نتساءل: ما هو المنهج البديل عند المهندس محمد شحرور الذي يريد من خلاله إعادة إنتاج الشريعة الإسلامية من جديد؟ إنه علم اللسانيات، وتاريخانية النص، الذي نشأ في الغرب لأجل حل معضلة التناقض الحاصل بين معطيات العلم المادي الحديث، وبين فهم الكنيسة للنص المقدس.
فإن حالة عدم التسامح بين المذاهب المسيحية في القرون الوسطى، أدت إلى إشعال الحروب الدينية لمئات السنيين في أوروبا.
هذه المأساة حملت كثيرين من فلاسفة الغرب على إعادة قراءة النص المقدس بما يتوافق مع العلم؛ ويوجد القطيعة مع القراءات الكنسية، ورفض احتكار الكنيسة لفهم النص المقدس، التي كانت تتهم كل من يخالفها الرأي بالهرطقة والتجديف.
فلما أرد شحرور أن يقرأ النص قراءة معاصرة، تتمشى مع روح العصر بزعمه.
كان لا بد له من الاستعانة بمنهج معرفي مستورد، يخرج به عن صرامة قواعد أصول الفقه والتفسير، والتي ستدحض كل جديد يأتي به، فاستعاض عنه المنهج اللساني الغربي، الذي أوجده الغرب لتفكيك النص المقدس، عندما وصل إلى المأزق المعرفي بين العلم والنص الديني.
فالإنسان بحاجة للإيمان، ولكن النص المقدس متناقض مع العلم!
ما هو الحل؟ الحل هو التأويل (وهو نقل المعنى المرفوض إلى معنى مقبول) فكان المنهج اللساني الذي يقوم على مسألتين:
- تطور دلالة المصطلحات بتطور الزمان والمكان والحضارة.
وبناء على ذلك يمكن أن نجد في كل عصر تفسيراً جديداً للنص، يتوافق مع روح هذا العصر، ولا يكون معارضاً لما فهمه الصحابة والسلف، فما فهمه السلف هو صحيح باعتبار عصرهم، وما نفهمه نحن اليوم هو صحيح باعتبار عصرنا.
- وهذا يعني أن لا معنى نهائي للألفاظ، لأن اللغة مثلها مثل المادة هي في حالة تطور مستمر.
- وهنا يقوم محمد شحرور بتطبيق وإسقاط النظرية الدارونية الماركسية _ في أصل الأنواع _ على اللغة فيما يسميه الباحثون الأنثروبولوجيا ()
إن عمليـة نقـل وتحويـل هـذا المنهـج اللساني المستورد لحل أزمة النص المقدس في المسيحية، إلـى الدارسـات القرآنيـة، أدت بشـحرور إلـى السـقوط فـي الخطـأ المنهجـي الـذي أشـار إليـه أحـد الباحثيـن بــقوله:
“بلا نـص ولا دلالـة ثابتة لا تفسـير نهائـي للنص، لا تفسـير مفصـل أو موثـوق بـه إنه اللعـب الحـر للغـة، فـكل القـراءات إسـاءة قـراءات، إلـى آخـر تلـك المتاهـات التـي أدخلتنـا فيهـا الحداثـة الغربيــة ومدارســها النقديـة” ()
نتيجة ما جاء به المهندس شحرور:
أنه إذا لم يكن للنصوص معان نهائية، فما حاجتي للإيمان بها أصلاً؟
عند ذلك يكون الكفر بها هو الحل الأمثل! للتعامل مع كلام إله لا يعرف ما يريده منه عباده، ويحمل خطابه لهم في كل عصر وزمان معنى مختلفاً عن الذي قبله، وهكذا لا يثبت النص على معنى، ويصبح التكليف الذي هو جوهر الدين والعبودية ضرباً من العبث.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن العلماء يميزون بين ثلاث دلالات للمفردة القرآنية:
- الدلالة الشرعية للمصطلح
- والدلالة اللغوية
- وهناك الدلالة العرفية.
✱ فالدلالة الشرعية هي ما تدل على مقصود صاحب الوحي من اللفظ.
✱ والدلالة اللغوية هي ما توا ضع عليه أهل اللغة – حين ضبطوا المصطلحات لفهم مراد كلام العرب _ في الزمن الذي نزل به النص.
✱ والدلالة العرفية: وهي التي تخضع للتغير تبعاً لتغير العادات والتقاليد في استخدام الألفاظ ، لتدل على معنى يريده الناس في زمن ما، وهي المتطورة والمتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالناس عرفا لا يسمون السمك لحماً، وإن كان القرآن الكريم سماه (لحماً طريا)
كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة النحل الآية (14)
وَمَنْ حَلَفَ أنه لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ْ فأَكَلَ لَحْمَ سمَكِ لَم يَحْنَثُ ()
هذا في حالة عدم انصراف اسم اللحم إلى السمك عرفا ً، فإن حكم الحالف يتبع لقصده، فإن كان خاليا من القصد فتقدم الدلالة العرفية على الدلالة الشرعية.
ولو حصل أن تغيرت الدلالة العرفية، وصار يسمى السمك لحماً، فإن الحكم يتغير.
وهناك حالة ما إذا صرف الاسم إلى غير المسمى الذي أنيط به الحكم، كصرف معنى التصوير _ الذي جاء النهي عنه بأحاديث صحيحة () والذي يتناول الرسم والنحت _ إلى معنى التصوير في هذا العصر، الذي يدخل فيه التصوير الفوتوغرافي.
فإن العلماء الذين جوزوا التصوير الفوتوغرافي قالوا: إن النص المحرم لا يتناوله، لأننا يجب أن نفهم النص في سياقه التاريخي الذي يدل على المعنى المقصود من التصوير؛ هو النحت والرسم في ذلك الوقت، ولا يتناول المعنى العرفي _ في زماننا هذا _ الذي يتناول التصوير عبر آلة التصوير المعروفة الآن.
النتيجة:
إن الخلل المنهجي الذي يلاحظ في العمل الذي قام به شحرور _ في الوصول إلى فروق بين المصطلحات التي اشتغل عليها _ اعتماده اللغة وحدها في استنباط معاني كل الألفاظ التي تعرض لها.
ولم يفرق بين مفهوم اللفظ الذي أعطاه الشرع معنى محدداً، وبين مفهوم اللفظ اللغوي، الذي يمكن أن يستقرأ معناه من معاجم اللغة فقط،
الأمر الذي أوصله إلى تأويلات أبعد ما تكون عن منطق اللغة العربية.
فالألفاظ التي أعطاها القرآن معنى خاصاً بها، يجب الوقوف فيها عند ذلك المعنى والسياق، ولا ينبغي الانسياق في تقمص معانيها المعجمية اللغوية، وتنزيلها مهما بلغت من التكلف والزيغ ( ) .
الشبهة الثالثة: تلفيق شحرور في توظيف منهج اللسانيات :
الخطأ المنهجي الذي وقع فيه شحرور
- أنه ألحق الدلالة اللغوية والشرعية بالدلالة العرفية من حيث التطور والتغير في المعنى.
- والمسألة الثانية لم يستنسخ شحرور المنهج اللساني بحرفيته، وإنما عمل على توظيفه بطريقة تخدم أفكاره المسبقة، من خلال عمليتي البنيوية والتفكيكية.
وإن غاية البنيوية الحداثية في منهج اللسانيات _ عند الكتاب العرب _ هو فك الارتباط بين الوحي، وبين مراد صاحب الوحي _ وهو الشارع جل جلاله _ ضمن الأوضاع والأساليب اللغوية والحذلقات الكلامية.
وذلك من خلال تفكيك التراكيب اللغوية إلى مفردات، ثم تعبئة هذه المفردات بمعان جديدة من قواميس اللغة التي تحتملها، تؤدي عند إعادة تركيبها إلى اختلاف معنى التراكيب عند تركيبها من جديد.
وهكذا يكون محمد شحرور، قد تجاوز قضية تحريف الرسم القرآني المستحيلة _ بما حفظ الله به هذا القرآن المنزل _ إلى تحريف التفسير والدلالات اللغوية لتراكيب القرآن الكريم وصولاً إلى المعنى الذي يقرر أن يصل له سلفاً.
وبناء عليه لفق المنهج الذي يوصله إلى هذا الهدف.
وهو الوصول بالإسلام إلى فهم متطابق مع تطبيقات الحداثة وفق النموذج الغربي بالتحديد.
على قاعدة كثير من المبتدعة الذين يعتقدون ثم يستدلون.
وهنا يقع شحرور بمطب قاتل آخر؛ وهو تجاوز المنهج الاستنباطي الذي جاء به القرآن الكريم نفسه لفهم مراد الله تعالى.
فهل يعقل أن الوحي الذي جاء بالتبيان لم يزود القارئ المكلف بمنهج معرفي _يفكك من خلاله النص _ ويفهمه على النحو الذي يريده صاحب الوحي الذي أنزله؟
وهنا يأتي السؤال الأساس:
هل فهم البيان الرباني هو على مراد الله تعالى؛ ونحن مكلفون ببلوغ هذا المراد؟
أم على ما يفهمه البشر المكلفون _ من النص _ أياً كان هذا الفهم
هل التزم محمد شحرور بالمنهج اللساني المعلن أم وظفه كمنهج معلن لإخفاء المنهج غير المعلن؟
لا يفترض بالباحث أن يثق بالمنهجية البحثية المعلنة عند كثير من الكتاب.
مثل الحديث عن المنهجية اللسانية، أو القراءة المعاصرة للنص، إذ إن بعضهم يحسب أن هذا فرع تخصصي مع انتشار التخصصات العلمية، ويظن أنها بحق لها قواعدها وضوابطها التي تعاقب عليها جهابذة العلوم والنقاد.
ومع صدمة الحداثة، فإن الحديث عن قراءة معاصرة، يوقع في نفوس كثير من الناس شيئاً من الرهبة، أو الهالة التي تلف كثيراً من التخصصات ت الأكاديمية، مما يرفعها عن البحث والمراجعة فضلاً عن المساءلة والنقد.
على أن الأمر لا يعدو أن تكون المنهجية المعلنة إلا ستاراً، ليعمي به العين الناقدة من النفاذ إلى ما وراء ذلك الإعلان من منظومات خفية غير معلنة.
وعندما مراجعة ما سطره شحرور _ من منهجيته المبتكرة _ كثيراً ما يجد القارئ أن الكاتب نفسه، لا يتحاكم إليها، وإن تحاكم إليها فلا تنتج شيئاً مفيداً.
فماهي إلا مجرد شعارات تحمل من العلوم والمعارف اصطلاحها _ لا مضمونها _ وإن جعجعتها هي المنتج الوحيد لسالكها. وإن الحاكم الأصلي لآراء الكاتب، هي منظومة خفية لم يفصح عنها في منهجه، ولا صرح أنها هي مقصده، مع أنها الأشد تأثيراً وظهوراً في منتجه المعرفي.
وقد تحدث شحرور مراراً عن منهجية يسلكها في كتبه وأخصها المباحث اللغوية لكن الواقع أن كتبه حوت منظومات معرفية خفية، هي الحاكم الأول في ترجيح ما يصل إليه من آراء.
لذلك لا ينبغي الإسراع لتصديق شحرور في المنهجية التي يعلنها لنفسه مراراً، فإن ذلك يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بما سيقوله.
والواقع أن الرجل لا يحتكم إلى أي إطار منهجي معلن، وإنما هو مجرد تلفيق لمنظومات معرفية متنوعة، يؤدي الأخذ بها بعين الاعتبار إلى تفسير ما يقوله شحرور، متى ما اتسق معها.
وبالكشف عنها يمكن للقارئ أن يرصد تحاكمه إليها من كتاب إلى آخر من كتبه.
وعادة ما يجري الحديث عن منظومة واحدة خفية تكون وراء عدم التناقض.
لكننا أمام مجموعة من منظومات متناثرة، تابعة لغيره؛ وليست من ابتكاره.
حاول شحرور تمريرها، لتحكم معاني النصوص التي ينقض عليها بالتأويل.
وقد كفى غيره عناء إثبات: أنها أجنبية عن النصوص نفسها باعترافه: أنه تخلى عن التراث كاملاً، وبدأ من الصفر وإن طريقته جديدة معاصرة.
وتتكاثر المصطلحات في سطوره من صيرورة إلى سيرورة [ ]إلى منع الترادف، ومنع الحشو، والسياق، …… ونحو هذا .
وهي عند التحقيق مجرد ألفاظ لها وقع رنينها في نفس السامع فقط، من دون أن يكون لها أثر موصل إلى مطلوب!
وهي غلاف لتسويغ المنظومات التي يحتكم إليها بطريقة غير واضحة.
تلك المنظومات هي جوهر أطروحته، وما يعلنه _ من لسانيات؛ ونحو هذا_ مجرد عرض.
لذلك فإن الانشغال معه بالبحث في الباب المعلن، هو انشغال بالعرض عن الجوهر وبالهامش عن الأصل الذي يحكم سطوره [].
الشبهة الرابعة: النظرية اللغوية التلفيقية تحت دعوى نفي الترادف:
يعتبر نفي الترادف الأساس المنهجي الأكثر حضوراً في كتب شحرور، ويعتمد عليه بشكل كلي.
إذ يخترق منهجه أفقياً وعمودياً في تحديد معاني الألفاظ.
فالقول: بعدم وجود الترادف في اللغة _ مستندٌ فيه إلى نظرية (أبي علي الفارسي)، والتي اعتمدها (ابن جني وعبد القاهر الجرجاني) في دراسة الشعر الجاهلي _ أدى بشحرور إلى نفي وجوده في القرآن _ بحسب زعمه _ يقول في ذلك:
“التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب.
فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والأولاد غير الأبناء، والفؤاد لا يعني القلب، وللذكر مثل حظ الأنثيين، لا تعني للذكر مثلاً حظ الأنثى” ()
على هذا الأساس، وهو غياب الترادف في اللغة وفي النص القرآني، قعد شحرور لمعان جديدة للكلمات فميز بين “القرآن” والكتاب” والذكر” والفرقان “وأم الكتاب.
مع الإشارة إلى أنّ معنى الترادف الذي يقصده شحرور، هو وجود مفردتين أو أكثر بمعنى واحد.
لكن يظهر تلاعب شحرور في تترسه بقضية نفي الترادف في عدة جوانب:
- إن علماء اللغة مختلفون في قضية الترادف بين من يثبته كسيبويه والفيروز آبادي. وبين من ينكره كابن فارس وابن جني والبيضاوي.
- _ لكن الاختلاف بين علماء اللغة عائد إلى معنى الترادف. هل الخلاف راجع إلى علاقة الاسم بالوصف؟
وهي مسألة ذكرها ابن فارس في (الصاحبي في فقه اللغة العربية) والغزالي في (المستصفى) وفي (معيار العلم) والفخر الرازي في (لوامع البينٌات في الأسماء والصفات)، فالسيفٌ اسم، والمهند والصارم والبتار هي صفات، لها حيثٌياتها.
فالاسم ما دل على الذات دون معنى زائد .
أما الوصف فهو ما دل على الذات مع زيادةٍ في الوصف.
والاختلاف بين الاسم والأوصاف يقضي بعدم التَّشابُه التَّامَّ في كل الأحوال بين معاني الكلمات التي يقال عنها مترادفة؟
أم هل ما يقال عنه ترادف هو في حقيقته أسماء متعددة لمسمى واحد؟
ولكن كل اسم من هذه الأسماء يعطي معنى زائداً او ناقصاً للمسمى؟
وهذا ما يجعل الخلاف لفظيا:
بين من يجعل الترادف هو تعدد أسماء لمسمى واحد.
وبين من يفرق بين الاسم والصفة، فيكون الاسم واحدا، والصفات متعددة.
وهذا ما ينسف التكأة التي يتعكز عليها شحرور ليمرر منهجه البدعي.
فإن اختلاف مبنى اللفظ يؤدي إلى اختلاف بالمعنى _ من حيث الزيادة فيه أو النقصان منه _ وليس لاختلافه تماماً إلى درجة التباين التام.
فكلمة العشق، والهيام، والغرام، والوجد، وإن كانت ألفاظاً مختلفة، لكنها تؤدي إلى أصل معنى واحد، وهو التعلق العاطفي بالشيء ((الحب))
ويبقى التفاوت في وصف هذا التعلق ودرجته من خلال اختلاف اللفظ المعبر به عنه.
- _ وهنا يقول الأستاذ يوسف صيداوي () في ذلك:
إن القراءة المعاصرة (التي جاء بها شحرور) قد تسللت من معنى الترادف، إلى باطل لا علاقة له بالترادف من قريب ولا بعيد.
وذلك أن الأئمة الذين أنكروا الترادف، كأحمد ابن يحيى وابن فارس وأبي هلال العسكري …… لم يزيدوا على أن قالوا ما معناه: إن بين المترادفات فروقاً في الصفات.
والصفة هي زيادة على المعنى الأصلي وليست معنى مستقلا بذاته.
مثال ذلك: أن بين الحسام، والصارم، والمهند، والبتار، والفيصل، فروقاً في الصفات، ولكنها جميعها إنما تدل على تلك الحدة.
ولم يقل أحد من أهل اللغة إن الحسام غير المهند، والمهند غير السيف …… إلخ
أما القراءة المعاصرة التي جاء بها شحرور؛ فقد تسللت من هذا الذي أجمع عليه أئمة اللغة إلى حكم مرتجل لا أصل له!
فقال شحرور: ” الترادف خدعة، والمترادفان متغايران ”
وعليه فإن الكتاب غير القرآن والقرآن شيء، والكتاب شيء آخر، والفرقان شيء ثالث، والذكر رابع، وأم الكتاب شيء سادس، …… وهكذا هات فأساً وخذ قطعاً
وهنا ندرك جوهر التلفيق الذي قام به شحرور.
فأئمة اللغة الذين أنكروا الترادف قالوا: إن بين المترادفات فرقاً في الصفة.
وأما شحرور فقال: إن كلاً من المترادفات يغاير صاحبه‘ فهذا شيء وهذا شيء آخر.
فهل اللغة مجال للعبث واللعب؟ وهل تؤتي البيوت من ظهورها بهذه الطريقة التلفيقية في اللغة؟ () .
الشبهة الخامسة: هل الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية أم مسلمة عقلية :
يعتبر المهندس محمد شحرور “أن قضية الايمان بالله تعالى واليوم الأخر، هي من المسلمات العقلية، وليست حقيقة علمية”.()
وعلى ذلك لا يمكن لقضية الإيمان بالله تعالى دحضها علمياً، ولا يمكن إثباتها علمياً.
ويرى المهندس شحرور: أن قضية الإيمان بالله تعالى يستوي فيها ألبرت أينشتاين العالم الفيزيائي النووي، مع بائع الطعمية البسيط.
مما يعني أن أذكى الفلاسفة والأعرابي البدائي البوال على عقبيه _ في قبول مسألة الإيمان بالله تعالى ورفضها _ سواء.
وبناء عليه يقرر محمد شحرور: أن الملحد الذي لا يؤمن بالله تعالى، لا يسأل يوم القيامة؛ ولا يحاسب على هذا الاختيار العقدي.
وإنما يسأل المجرمون فقط.
وبناء على نظريته في نفي الترادف؛ فإن المجرم غير الملحد() قال تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} سورة القصص الآية (78)
فالمجرمون هم أصحاب النار فقط، وهم من كفر بالله وأساء لخلقه بحسب تعبير شحرور.
لكن لازم كلام المهندس شحرور، يقتضي أن الله تعالى ليس له حجة علمية بالغة على عباده، وبذلك يكون الكافر والمؤمن بالله تعالى سواء!
لكن كيف يستقيم ذلك مع قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) سورة الأنعام الآية (149)
والآيات صريحة، تدلل على أن الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية، لقوله تعالى:
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) سورة محمد الآية (19)
ولم يقل الله تعالى: فسلم بقضية وجود الله تعالى تسليماً.
وإنما كان الأمر أن يسلك مسلك العلم أي إقامة الدليل والبرهان القطعي الدال على هذه الحقيقة الكونية.
وهنا لا بد من تعريف العلم أولاً:
وهو إدراك الحقائق على ما هي عليه بالدليل والبرهان.
والبرهان يمكن أن يكون برهاناً عقلياً كدلالة الالتزام، وبطلان الدور، وبطلان التسلسل، والعلة الغائية للخلق، وعدم وجود التناقض، وقانون السببية.
ويمكن أن تكون البراهين مادية، كالتجريب والملاحظة، والمشاهدة، والإدراك بالحواس.
وبناء على قانون السببية: فإن وجود الله تعالى – مبدعاً خالقاً للوجود – حقيقة علمية، يوجبها العقل، وليست مجرد مسلمة نظرية؛ تقبل الأخذ والرد.
وإلا فكيف يستقيم كلام شحرور مع قوله تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} سورة الإسراء الآية (36)
إلا إذا كان للعلم مفهوم آخر عند شحرور. ()
إن النهي الصريح في هذه الآية الكريمة _ العامة في خطابها؛ الصريحة في دلالتها_ عن اتباع أي قضية، لم يقم عليها الدليل والبرهان العلمي، بما في ذلك قضية الإيمان بالله تعالى.
ماذا نفعل بهذا النص الصريح الواضح مع كلام المهندس شحرور؟
إن مقتضى كلام المهندس شحرور _ مع هذه الآية التي تنهى عن اتباع واقتفاء أي قضية لم يقم عليها البرهان العلمي _يعني أن الله تعالى ينهى عن الإيمان به إلها موجودا، ويجعل من الإيمان به شيئاً محرماً !
طالما أنه مسألة؛ لا يمكن إثباتها علمياً؛ ولا يمكن دحضها علمياً، كما يدعي المهندس شحرور. وهنا نقف
مع قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) آل عمران
في هذا النص الصريح نجد اجتماع ثلاثة شهود، يشهدون بحقيقة واحدة وهي: وحدانية الله تعالى، ووجوده.
هؤلاء الشهود هم الله تعالى، والملائكة، وأولو العلم.
- لكن شهادة الله تعالى هي شهادة ذات لذات.
- وشهادة الملائكة هي شهادة معاينة لأنهم يسمعون كلام الله تعالى.
- وشهادة أولي العلم هي شهادة استدلال، لأنهم استدلوا بآثاره على صفاته، وبصفاته على وجود ذاته، وليست الشهادة هنا من أهل العلم شهادة معاينة حسية؛ لأنها شهادة بالغيب.
لكن قوة الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، جعلتها وكأنها شهادة عيان، ما ثلة أمامهم؛ لا يمكن لأي عاقل إنكارها.
إن محاولة المهندس محمد شحرور نزع تلازم الإيمان عن العلم محاولة يائسة، ترفضها النصوص القرآنية الصريحة، التي تجعل من الإيمان نتيجة حتمية للبرهان العلمي اليقيني.
ويرفضها العقل المنطقي السليم الذي يوجب وجود الله تعالى بناء على القوانين العقلية التي تثبت مسألة الإيمان بالله تعالى كحقيقة يقينية كبرى.
فالقرآن في جوهره؛ هو ثورة على التقليد الأعمى، وتقديس الموروث الذي كان أهل الجاهلية يعتذرون به للبقاء على كفرهم وشركهم، وهم يعطلون عقولهم.
النتيجة:
إن المؤدى الذي يريد أن ينتهي إليه المهندس محمد شحرور، هو أن الإلحاد والكفر هو وجهة نظر اجتهادية، لا يحمل صاحبها أي مسؤولية أخروية عند الله تعالى، وبذلك يكون مؤدى الكفر والإيمان واحداً _ في مآله الأخروي _ في الثواب والعقاب عند الله تعالى، وبذلك تبطل حكمة الرسالة، ويسقط معنى التكليف من أصله.
الخاتمة والنتائج:
- – إن المنهج الذي اعتمده المهندس شحرور -في قراءته المعاصرة، وبخلفيته الفكرية والفلسفية، وبآليته المنهجية الوظيفية – غير قادر على قراءة النص القرآني _ بمفهوم القراءة _ التي يؤسسها القرآن نفسه بأبعاده المقاصدية.
- – البحث في الدلالة المعجمية للمفردة القرآنية _ على شكل الألسنية المعاصرة _ غير وافية بهذا الغرض. على اعتبار الاختلاف الجوهري _ الموجود بين النص الأدبي والنص القرآني _ وعلى اعتبار الفرق بين النص ذي المصدر البشري والنص ذي المصدر الرباني الإلهي.
- – ما قدمه المهندس شحرور في قراءته المعاصرة _ لم يكن أكثر من تنسيق جديد للتفاسير القرآنية _ على أساس الانتقائية اللغوية لمعني المفردات.
فلم يقدم جديداً غير الشكل، فكانت الأزمة في تلك المقاربات منهجية.
كما هو الشأن في معظم المقاربات التجديدية في الفكر الإسلامي، تهتم بالعناوين والشكل دون الغوص في الإشكال المنهجي.
- – تبقى القراءة النسقية، هي القراءة الكفيلة بالوصول إلى كنه معاني القرآن.
- – إذ إن اكتشاف أحكام آيات القرآن الكريم وتفصيلها، يتضح من خلال الدراسة البنائية للقرآن الكريم، الذي لا يفصل بين جزئياته وكلياته.
- – إن المحاكاة الحرفية التي يقع في مصيدتها كثير من العلمانيين العرب والتقليد المنهجي عند استيرادهم لحركة التنوير الغربي -بنفس التحقيب التاريخي؛ وبنفس الأدوات الاجتهادية؛ والمقاربات الفكرية بين الدين والعلم، -يجعل من رواد حركة التنوير العربي مجرد أتباع حرفيين للغرب، يتكلمون من منطلق الانبهار والانهزام الحضاري.
- – من المقرر عند علماء العقيدة: أنه لا يمكن للنص القرآني أن يخالف حقيقة علمية ثابتة، إلا إذا كان النص غير صحيح، أو الحقيقة العلمية لازالت في طور النظرية الظنية، أو أن معنى النص غير صريح، فيقع الخطأ في تفسيره.
مما يجعل المعركة المفترضة عند أصحاب القراءة المعاصرة بين الدين والعلم منتهية.
- – لا شك أننا بحاجة إلى القراءة التدبرية للقرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه.
وصحيح أن كثيراً من التفاسير الجديدة تكرر نفسها؛ وتجتر ما مضى من تفاسير وقراءات.
ولكننا بنفس الوقت نحتاج قراءة منضبطة منهجياً مع كليات الدين وأصول الشريعة، وليست القراءة الفوضوية التي تلوي أعناق النصوص، وتؤول المحكمات؛ وتنسف الثوابت؛ وتعطل الفرائض؛ وتستبيح المحرمات .
- – القراءة المعاصرة مرحلة تكتيكية للوصول إلى القطيعة مع النص.
ربما لا يدرك المفتونون بأصحاب القراءة المعاصرة _ التأويلية للنص والوحي_
ما هي الفكرة الدافعة لأصحاب هذه الدعوة؟
وما هو هدفهم النهائي، الذي ينطلقون منه؟
وأنا هنا لا أحلل تحليلا.
فقد وجدت حوارات محمومة، بين شباب علمانيين متحمسين، يريدون العبور بالشرق من القرون الوسطى إلى مرحلة عصر الأنوار، والقطيعة مع التراث والنص دون الحاجة إلى المرور بمرحلة الإصلاح الديني، التي يتمسك بها بعض حكماء العلمانية ودهاتها.
والذين يرون أن كل محاولة من المثقفين العرب للقفز على مشكلة التراث _ دون خوض معركتها والحفر فيها _ ستبوء بالإخفاق الذريع.
ولا حل للمشكلة التراثية بزعمهم إلا من خلال خوضها بكل صراحة ووضوح.
فلا يمكن العبور في العالم العربي الذي يعيش بعقلية القرون الوسطى
حسب زعمهم ,, والقفز إلى عصر الأنوار, دون المرور بعصر النهضة والإصلاح الديني .
كما حدث في أوروبا عندما دشن مارتن لو ثر بداية عصر الإصلاح الديني، وقيام حركته الاحتجاجية البروتستانتية.
ومن ثم انتقلت أوروبا إلى عصر الأنوار وصولا إلى العصور الحديثة التي أوجدت القطيعة بها مع الدين والنص المقدس نهائيا.
لهذه الأسباب يرى هذا الفريق من العلمانيين العرب الدهاة: أنه لا مندوحة عن خوض معركة التراث، ولا بد قبل خوضها من تحضير السلاح المناسب لها؛ والأدوات المكافئة للمواجهة.
وهو منهج أبستمولوجي، يخرج بقراءة جديدة للنص تنتهي إلى الالتقاء الكامل مع التطبيقات الغربية للحداثة، من خلال تفكيك بنية النص من داخله، وإعادة تركيب معانيها من جديد.
من هنا كان البحث عن المناهج التي حاكم فلاسفة الغرب من خلالها نصوصهم المقدسة.
وهو منهج اللسانيات وتاريخانية النص (الأنثروبولوجيا) وهو المنهج الذي استورده أركون وشحرور من الغرب، الغرب الذي عاش مأزق لا معقولية النص، ولا تسامحية المعتقدين.
فكان التأويل هو المخرج لعقلنة النص _ وإرساء قواعد التعايش بين المؤمنين، وإيجاد عقد اجتماعي؛ يضمن السلم الأهلي _ والذي خرج بأوروبا من الحروب الدينية المذهبية.
وأراد هؤلاء الوكلاء المستوردون تطبيقه على النص القرآني، بمحاكاة حرفية لما جرى في الغرب.
لذلك يقول أحد كبار العلمانيين ,, هاشم صالح:((ما معنى أن أقول أنا إنسان متحرر تنويري، لا علاقة لي بكل هذا التخلف والتعصب ؟
أنا ضد التراث المكرور والممل، لقد حللت مشكلتي مع الماضوية، وأصبحت ليبراليا أو ماركسيا، أو ملحداً، بل أنا شخص تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة!!
ثم يعلق على هذه المقولة فيقول: هذا هراء ومراهقة فكرية.
ويعتبر كل هذا الكلام بلا معنى، إذا لم نخض معركة الماضي وإزالة الرواسب.
لأنه لا معنى لأن أقول: إن التراث الماضوي لا معنى له، إذا كان ثلاثة أرباع الشعب متعلقين به؛ ويعيشون عليه.))
هنا يقول جماعة القراءة المعاصرة: إنه ينبغي المشي مع الشعوب خطوة خطوة، على طريق التحرير، لكي نصل بهم إلى نهاية المطاف:
وهو التأويل العقلاني للدين، وتصالح الإيمان مع العقلانية ! ()
وهذا ما فعله فلا سفة التنوير في أوروبا، عندما دخلوا الصراع مع الأصوليين المسيحيين، من داخل دائرة النص المقدس وليس من خارجه.
لكن الآن وقد وصلت أوروبا إلى العصور الحديثة، فقد تجاوزت معركة التراث والنص، وانتهت منها، وصارت بالنسبة لها مسألة محسومة مقطوعاً بها.
من هذا الكلام نخلص لعدة استنتاجات:
- مدى ما يستبطنه العلمانيون العرب لمعركة العقل والدين، التي وقعت في الغرب بين الفلاسفة والكنيسة، ومحاولة خوضها بحذافيرها في الشرق بين العلم والإسلام على اعتبار أن المسلمين يعيشون في مرحلة القرون الوسطى، وأن مشكلة الشرق هي مع الاسلام، كما كانت مشكلة الغرب مع الكنيسة.
مع أنه لا وجود لمفهوم الكنيسة والسلطة الثيوقراطية عند المسلمين ولا يوجد نص يقيد العقل والبحث والعلم في القرآن الكريم.
- إن القراءة المعاصرة للتراث والنص الإلهي _ التي يدخل حلبتها بعض العلمانيين _ هي بالنسبة لهم ليست أكثر من مرحلة انتقالية، وخطوة تكتيكية لهدف استراتيجي، ومرحلة ضرورية، لا بد منها لنقل المجتمعات المسلمة المتعلقة بالتراث إلى عصر الأنوار من خلال تأويل النص، وليس تجاوزه.
لأن تجاوز النص سيثير المجتمعات المسلمة على الحداثيين والتنويريين، ويحول كل جهود التنوير والتحديث إلى هشيم.
مما يؤدي إلى دخولهم في صراع مع المجتمع، ينتهي بكسب الظلاميين والسلفيين للشارع، باعتبارهم حماة الأصالة والهوية هناك، وينتهي الأمر بالنكوص إلى الماضوية من جديد، وإجهاض دعوات التنوير، والإغراق في الظلامية والقرون الوسطى.
والله من وراء القصد
كتبه عباس شريفة
مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام
1 سبتمبر 2018 إستنبول
مزيد من المراجع
- كتاب بيضة الديك _ نقد لغوي لكتاب: الكتاب والقرآن ليوسف صيداوي، المطبعة التعاونية. وقد تناول فيه أباطيل شحرور من الناحية اللغوية فقط كمتخصص في اللغة العربية.
- (الماركسلامية والقرآن _ أو الباحثون عن عمامة لدارون وماركس وزوجة النعمان _ قراءة في دعوى المعاصرة) للمحامي محمد صياح المعرواي، طبعة المكتب الإسلامي.
- (تهافت القراءة المعاصرة) لمنير محمد طاهر الشواف، دار قتيبة للطباعة والنشر.
- الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن _ دراسة نقدية لماهر المنجد، دار الفكر المعاصر.
- بؤس التلفيق نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سمرين، طبعة مركز دلائل السعودية.
- التحريف المعاصر في الدين (مكيد الماركسية والباطنية المعاصرة تحت شعار قراءة معاصرة للنصوص الإسلامية المصادر) للمؤلف عبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم دمشق.
الفهرس
الشبهة الأولى عند شحرور مشكلته مع علم أصول الفقه : 12
الشبهة الثانية: منهج مستورد لقراءة النص : 15
الشبهة الثالثة: تلفيق شحرور في توظيف منهج اللسانيات : 23
هل التزم محمد شحرور بالمنهج اللساني المعلن أم وظفه كمنهج معلن لإخفاء المنهج غير المعلن؟ 25
الشبهة الرابعة : النظرية اللغوية التلفيقية تحت دعوى نفي الترادف : 29
الشبهة الخامسة : هل الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية أم مسلمة عقلية:……………………………………….35