استشعار المسؤولية في القرآن الكريم “من تحقيقِ المناط إلى ارتفاعِه”
خلق الله تعالى الإنسان وكرَّمه، فجعله مسؤولًا أمام الله تعالى وأمام نفسه وغيره، وهو تكريم يفضي إلى استقرار الحياة والعيش فيها وَفق المنهج الذي أراده ربُنا سبحانه وتعالى، وغرض هذا البحث بيانُ ما تضمنه القرآن الكريم من مبادئ ومقاصد لا ينفك عنها الإنسان من حيث الفكر والروح والقِيَم والتعايش والعمل وعلاقته بالكون، ومنها مبدأ “استشعار المسؤولية من تحقيق المناط إلى ارتفاعه”، وأساس هذه المسؤولية التكريم الإلهي للإنسان إذ جعله مسؤولًا وأناط تلك المسؤولية بموطن التكريم الإلهي وهو “العقل”، فلا مسؤولية على من لا عقل له، وحيثما ارتفعت المسؤولية الأخلاقية والجنائية فليس للتكريم معنى يُنَاطُ به، وللمسؤولية في القرآن أبعاد شخصية وغيرية يكتمل بها تأسيس هذه القضية التشريعية، ثم ما على الفقهاء سوى استنباطِ جزئياتٍ متممة لها على هدي السنة النبوية ومقاصد الشريعة.
مصطلحات الدراسة:
الاستشعار: المقصود بالاستشعار أنّ القرآن الكريم أودعَ في الإنسان حتميَّة الإحساس بالمسؤولية والقيام بها بصفتها أساسًا لصلاح الدنيا.
المسؤولية: مدلولها معلوم، وكلُّ واحد يقوم بها، وهي تحمُّل الشخص ما التزم به طوعًا أو أُلزم به كرهًا.
تحقيق المناط وارتفاعه: أسَّس القرآن لقضية المسؤولية بربطها بالأخلاق والعقل والحرية والتكريم وبَعثة الرسل، فمن قامت به هذه المعاني ثبتت مسؤوليته، وهو المراد بتحقيق مناط المسؤولية، لكن يمكن أنْ ترتفع هذه المسؤولية أخلاقيًّا وجنائيًّا بفقد العقل، وهذا ما نعنيه بارتفاع المناط.
إذًا في كلِّ مسؤوليةٍ تكليفٌ ومشقة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفقة والنصح والإرشاد وقول الحق، فما لا مشقة فيه لا يندرج في مفهوم المسؤولية، وهي إمَّا التزامٌ أو إلزامٌ، ومنها أن يلتزم الإنسان بشيء متطوِّعًا به، وليس المقصود بالتطوع أنَّه لا يأخذ أجرًا، ومن هذا القبيل كلُّ من يرشح نفسه للقيام بالمسؤوليات العامة كرئاسة دولة أو حزب أو وظيفة قضائية أو تدريسية…، ولعل في قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام دليلًا على هذا: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ومثله قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 38-40] عرَض سليمانُ عليه السلام أمرًا فاستجاب له اثنان: عفريت من الجنِّ وشخص عنده علم من الكتاب، وهي استجابة تطوعية، والأصل في تحُّمل المسؤولية أنها تطوَّعية أي أن الإنسان في خِيَرةٍ من أمره بأن يفعل أو لا يفعل، واتصافه بهذه الإرادة شرط لتحمُّل المسؤولية؛ وقد يكون تحُّمل المسؤولية إلزامًا عن طريق قوَّة ملزِمة لتحمُّل المسؤولية كالنفقة على الزوجة والصغار وردِّ الدَّين والعارية.
المبحث الأول
شروط تحمُّل المسؤولية في القرآن الكريم
الناظر في القرآن الكريم وفي الطبيعة التكوينية للإنسان يجد أن الشرط الوحيد لذلك هو الإرادة والقدرة، فالإرادة معنًى قائم بالنفس يوجهه نحو القيام بالفعل، والقدرة تنفِّذ ما كُلِّفَ به وتتنوَّع بحسبه؛ فقد تكون مالية أو عقلية أو بدنية، ولا أحدَ يَصْدُق عليه لفظ مسؤول بهذا المعنى إلا الإنس والجن، فالملائكة ليست مسؤولة لأنها مسيرة في أداء ما كُلِّفت به، فهي مجبولة على الطاعة، أما الحيوان ونحوه فمن باب أولى أنَّه لا يكون مسؤولًا لأنه لا عقل له ولا اختيار، فإن فُقد العقل انتفت الإرادة والقدرة وارتفعت عن الإنسان المسؤولية بجميع درجاتها ابتداء بالمسؤولية العليا وهي الإيمان وانتهاء بالمسؤولية الدُّنيا وهي مسؤوليته عمَّن حوله، وهو معنى قول الفقهاء (إذا أَخَذَ الله ما قَدْ وهَب أَسْقَطَ ما قَدْ وَجَب).
إن اشتراط الإرادة والعقل للقيام بالمسؤولية مبثوث في ثنايا القرآن الكريم تصريحًا وتلميحًا، وأساس ذلك حمل الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، وهذا التَّحمل اختياري، فالعرض: تقديم شيء لشخصٍ ليختاره أو يرفضه، ومنه عرضُ الناقة على الحوض -أي عرضُها عليه لتشرب منه- وعرضُ المجندين على القائد لقبول من يصلح منهم، وفي حديث ابن عمر: ((عُرضت على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردَّني، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني))(1).
وحيثما ثبتت المسؤولية دلَّت على وجود الإرادة والقدرة، وبارتفاعهما ترتفع، ففي الإكراه تنتفي المسؤولية، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وفي الخطأ أو النسيان تنتفي المسؤولية الأخروية، قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] أما المسؤولية الدنيوية فهي باقية لأنها من متعلَّقات الحكم الوضعي وليس من شرطه التكليف، وأما حديث المتكلمين عن جواز تكليف الله تعالى عبادَه بما لا يُطاق فهو في الجواز العقلي لا الشرعي؛ فليست له تطبيقات واقعية، وكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه مقدورٌ للإنسان، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] وقال سبحانه {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6].
ومن أبرز مسائل المسؤولية في القرآن الكريم أنَّ طابعها شخصي، فمن ارتكب جرما يتحمله هو ولا يتحمله غيره عنه في الدارين أيًّا كانت درجة القرابة، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 و89] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37] وهو إنما يفر منهم خوفًا على نفسه من العذاب المنتظر ومن هول الأحداث يومئذٍ، وهذا يدلُّ أنه لا أحد يحمل عن أحد مسؤولياته وتبعاتها، وهذه المسؤولية لا نظير لها ولا بديل، ومن هنا يتبيَّن خطأ عقيدة النصارى في “قضية الصلب” التي تأتي تكفيرًا عن ذنبٍ لم يفعله عيسى عليه السلام.
نعم قد تكون المسؤولية غيْرية من وجهٍ شخصيةٍ من وجه، فالإنسان يُسأل عن أعمال غيره عندما يفتن غيرَه أو يُضلُّه مثلًا، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، ومن ذلك أنْ يسُنَّ سنة سيئة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))(2).
المبحث الثاني
الأسُس النظرية للمسؤولية
1- المسؤولية والأخلاق:
الأخلاق هي أفعال اختيارية تصدر عن الْمُكلَّف ويُناط بها المدح أو الذم، وبذلك ندرك علاقة الأخلاق بالمسؤولية نظريًّا من ثلاثة أوجه:
الأول: ثبوت الاختيار للإنسان، وهذا وصف مشترك بين المسؤولية والفعل الأخلاقي، فما يصدر عن الْمُكرَه لا يتحمل الشخصُ مسؤوليَّته ولا يُعدُّ مذمومًا عليه أخلاقيًّا.
الثاني: التَّكليف وهو شرط تحمُّلِ المسؤولية ويندرج تحت القدرة، وهو شرطٌ أيضًا لتحمل مسؤولية الفعل الأخلاقيِّ، فإذا انتفى التَّكليفُ لعارضٍ من عوارضه كالجنون والصِّغر انتفت المسؤولية وانتفَى الفعلُ الأخلاقيُّ.
الثالث: المدحُ على الفعلِ والذمُّ على الترك، وهما ملازمان للفعل الأخلاقي، فقول الصدق وأداء الحقوق وترك القبائح مسؤولية وهو في الوقت نفسِه فعل أخلاقي يُمدَح فاعله، والقتل ظلمًا وإهدار الحقوق يُذم مرتكبه لأنَّه أخلَّ بالمسؤولية، وهو فعل غير أخلاقي أيضًا؛ لذا لا تدخل المباحات كالنوم والشرب في مسمَّى المسؤولية ولا في الفعل الأخلاقي إلا إذا تجاوزت المباحات حدودها وأثَّرت في غيرها، عندئذٍ تثبت المسؤولية ويُوصف الفعل بأنه غير أخلاقي، ومنه السهر والإفراط في النوم المؤديان إلى التفريط بالحقوق من صلاة أو وظيفةٍ ونحوهما.
وعمليًّا ثمَّة ارتباط بين المسؤولية والفعل الأخلاقي، والآيات في هذا من الكثرة بمكان، من ذلك قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].
الجزاءُ الإلهيُّ في الدنيا والآخرة سواء أكان تكريمًا أم تعذيبًا، والجزاء الدنيوي العادل في الدنيا سواء أكان عقوبة أم تكريمًا؛ كلاهما مرتبط بأداء المسؤوليات، فمن قام بمسؤولياته حق القيام استحق الثواب، ومن أخلَّ بالمسؤولية استحق العقاب، ويربط القرآن الكريم أداء المسؤولية بفعل الجوارح والنية، فحُسْن النية مثلا ومحبة الخير للمسلمين جزء من المسؤولية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ولكن القيام بالفعل وحده دون طلب الثواب من الله تعالى يُسقط المسؤولية وإن كان المكلف مقصِّرًا لتفريطه بالثواب، فلو ترك الإنسان القتل والزنا وشهادة الزور مثلًا خوفًا من الناس لا يُثاب على هذا الترك وإن امتثلَ لمقتضى المسؤولية؛ ذلك أنَّ المقصود بتحمُّل المسؤولية هو الجانب الدنيوي الذي يعود نفعه إلى الغير، أما النية في مثل هذه الأحوال فيعود نفعها إلى الفاعل، ومن ذلك الإنفاق على الزوجة، فالمقصود هو كفاية من يعوله المكلَّف أما نيِّة الامتثال لأمر الله فهي للحصول على الأجر.
وبين المسؤولية والجزاء تلازم، فالتفريط بالمسؤولية يترتب عليه جزاء، وقد بيَّنت قواعد الشريعة أن العفو عن العقوبة الأخروية عند الإخلال بالمسؤولية إنما يكون في حقوق لله تعالى، وقد تسقط العقوبة الدنيوية أيضًا ما لم تكن حدًّا بلغَ القاضيَ خبره، أما حقوق الناس فإسقاط عقوباتها الدنيوية والأخروية مرهون بعفو أصحابها في الدَّارين، فمن مسؤوليات الشخص أن لا يقتل ولا يغتصب ولا يظلم، ومن فعل أخلَّ بمسؤوليته، فإسقاط الله لعقوبة هذه الجرائم رهنٌ بإسقاط أصحابها لها، وهذا المبدأ يُمثِّل أعظم حقٍّ إنساني متعارف عليه اليوم؛ فليس للرئيس أو الخليفة إسقاط عقوبة يتعلق بها حق لآدمي شرعًا.
4- المسؤولية والتكليف:
مصدر المسؤوليات عند أهل السنة هو الوحي، فما حسَّنه الشرع فهو حسن وما استقبحه فهو قبيح، وهذا هو مقتضَى التكليف، فالعقل مناطه وبعثة الرسل شرطه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] خلافًا للمعتزلة الذين يرون العقل مُحسِّنًا ومُقبحًا، وتتسع دائرة الشرع في ضبط المسؤوليات لتشمل أغلب شؤون الحياة، ولا ننسَ أن مسؤوليات العرف مسؤوليات شرعية؛ فالعرف مصدر من مصادر التشريع.
5- المسؤولية والحكمة الإلهية:
التزام الناس بمسؤوليات شخصية وغيرية هو غاية الحكمة من الخلق وإلا صار خلق الناس عبثًا، وهو محال على الله، فالإنسان لم يُخلق سُدًى ولا عبثا بلا مسؤولية، يقول سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
2. مسؤولية تجاه الغير: وفي الآية السابقة دلالة على هذا، وهذا الغير له مراتب عدة أهمُّها: المسؤولية تجاه الوالدين والأولاد والجيران وولاة الأمور، والمسؤولية تجاه غير المسلم وتجاه البيئة والحيوان، علمًا أن المسؤولية تجاه غير المسلمين تكون على حسب الحال، قال تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ثانيا- مستويات المسؤولية المجتمعية:
أ-المسؤولية العلمية والفكرية، وتكون بنشر العلم والثقافة ومقاومة الخرافة والكهانة والأساطير وترك التَّقول على الله بغير علم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
وحسبنا هنا الحديث عن نوعين تمس الحاجة إليهما في بلدنا الحبيب: المسؤولية الجدلية بين الزوجين، والمسؤولية الجدلية بين ولاة الأمور والعلماء.
المبحث الرابع
المسؤولية الجدلية بين الزوجين والمسؤولية الجدلية بين العلماء والأمراء
أولًا: المسؤولية الجدلية بين الزوجين
تُعدُّ هذه المسؤولية المشتركة بين الزوجين ركنًا مهمًّا في بناء المجتمع، فقيامها على أسس صحيحة ومراعاة كلٍّ من الزوجين لها يشكِّل لبنة في صلاح الأولاد وعلاقتهم ببعضٍ وفي علاقة الأولاد بالآباء؛ فالزوجان أبوان وصلاح ما بينهما يؤثِّر على سلوك الأولاد، وفساد علاقتهما يؤدي إلى تشتُّت الأسرة بل يؤثر على المجتمع لأنَّ خلاف الزوجين يؤثر على عائلة كُلٍّ منهما.
لقد تأثَّرت العلاقات الاجتماعية تأثُّرا كبيرًا على كلِّ المستويات في نير الإجرام الذي يرتكبه نظام بشار وزبانيته، وطال هذا التأثير العلاقة بين الزوجين سواء أكان ذلك في المناطق الخاضعة للنظام أو غيرها في سورية أو خارجها، ومن أسباب تأثُّر هذه العلاقة الاغتراب والنزوح خارج المحيط الذي كان يعيش فيه الزوجان، فكثير من حالات الطلاق قد وقعت، والأكثر منها بقاء العلاقة شبه معلقة بين الزوجين، فيبقى الرجل متعنِّتًا لا يطلِّق سواء كان هو المتسبب أم الزوجة، ولهذا الشرخ أسباب كثيرة منها:
1- غياب الرقابة الدينية، وعدم شعور الطرفين بالمسؤولية وترك الامتثال لها.
2- الاطِّلاع على مجتمع جديد وخاصَّةً في المهجر، فرأت بعض النساء مثيلاتها يفعلن متى أردْن كلَّ ما يُردن.
3- شعور بعض النساء بالاستغناء عن نفقة الزوج، فكثير من قوانين بلدان المهجر وخاصة أوربَّا تكفل لها ولأولادها حقَّ العيش.
4- فسق بعض الأزواج نتيجة الهجرة ورؤية مجتمع جديد، فلم يَعُدِ الزواج عند بعضهم هو الطريق الوحيد للعلاقة بين الرجل والمرأة.
وهذا يقتضي استشعار كلٍّ من الزوجين واجب المسؤولية وصبرَ كُلٍّ منهما على الآخر حمايةً للأسرة من التفكُّك وحفاظًا على الودِّ الذي كان بينهما؛ كلُّ ذلك ما لم يكن هناك خروج على شرع الله تعالى، هذا ويُلحظ في النصوص القرآنية التي تضبط المسؤولية بين الزوجين أنها على شكلين:
الأول: نصوص تفصيلية، من ذلك قضية الطلاق وعَدده والعِدَّة وكيفيتها. الثاني: عامَّة، فقد اتَّجهت نصوص القرآن إلى ضبط العلاقة بين الزوجين بالمعروف، والضبط بالمعروف هو ضبط عام تتجه فيه النصوص إلى ضرورة مراقبتهما لله تعالى وعدم اللجوء إلى القضاء إلا في حالة ضيقة؛ فاللجوء إليه من غير تراضٍ يعسِّر على القاضي الوصول إلى الحقيقة لأنَّ العلاقة بين الزوجين مبنية على الستر، وهناك أشياء تحصل بين الزوجين لا يعلمها أحدٌ حتى الأولاد والأقربون، وليس من مصلحة الأسرة ولا الزوجين كشف المستور، ومن النصوص التي تربط الزوجين بالعرف الصحيح والقواعد الأخلاقية العامة وضرورة مراقبة الله تعالى قوله تعالى:
لم يخلُ تاريخنا وحاضرنا من جدل المسؤولية بين العلماء والأمراء وخاصَّة بعد قيام ثورات الربيع العربي، فقد طفت هذه المسألة على الساحة الفكرية حتى صارت من القضايا الكُبرى التي تحتاج إلى وضع ضوابط لهذه العلاقة، وأساس هذه العلاقة هي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ومنها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187و188]، أخذ الله على العلماء بيان الحق في المواقف التي تحتاج إلى بيان وعدم بيع هذه المواقف بجاهٍ أو سلطان، وقد لاحظنا هذا بكل وضوح فيمن وقفوا مع الأنظمة الفاسدة التي ثارت عليها شعوبها في سورية ومصر وليبيا واليمن، وأفتوا للسفَّاحين بأنَّ المعارض من الخوارج أو إرهابي، وقدَّسوا الحكَّام حتى صارت فتاواهم استجداءً لمحبتهم، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره للآية السابقة: (والاشتراء هنا مجاز في المبادلة، والثمن القليل هو ما يأخذونه من الرِّشا والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامة على تأييدِ المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويلِ كل حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعية من ضروب التأويلات الباطلة وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر، وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتحاد جنس الحكم والعلة فيه)(4).
هذا وليس فيما سبق ما يجيز عصيان أولي الأمر الذين يطيعون الله ورسوله، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وعندما نتأمل فقهاء السلاطين الذين باعوا فتاواهم للسلطة وعُرفوا بتملقهم وتزلفهم، أو الذين تعضد فتاواهم السلطان المستبد ولو لم يُعرف لهم ميل نحوه رغم ندرة ذلك؛ فسنجد أنها لا تخرج عن أمور ثلاثة:
أولًا: دعوة الناس إلى الصبر
دعوة الناس إلى الصبر والزهد في الدنيا وترغيب الناس بالآخرة والاكتفاء بلقمة الخبز وملء البطن استنادًا إلى أحاديث لقيتْ رواجًا لدى هؤلاء في أحداث الربيع العربي، منها حديث رواه الترمذي وغيره مرفوعًا: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)): قال الترمذي: (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ)(5) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (سنده ضعيف جدًّا، وعبد الله بن هانئ ترجم له ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» فقال: روى عنه محمد بن عبد الله بن محمد بن مخلد الهروي عن أبيه عن إبراهيم بن أبي عبلة أحاديث بواطيل، سمعت أبي يقول: قدمت الرملة، فذكر لي أن في بعض القرى هذا الشيخ، وسألت عنه، فقيل: هو شيخ يكذب، فلم أخرج إليه، ولم أسمع منه. وقال الإمام الذهبي في «الميزان» و«المغني»: متهم بالكذب، ومع ذلك فقد ذكره المؤلف في «الثقات»، وأبوه هانئ بن عبد الرحمن ذكره المؤلف في «الثقات» وقال: ربما أغرب. وباقي رجال الإسناد ثقات)(6).
أيًّا كان الحكم على سند هذا الحديث وأمثاله فلا ينبغي أن يكون موجِّهًا لرأي عامٍّ خدمةً لأغراض بعض السلاطين في تخدير الشعوب وسرقة ثرواتهم، فذلك ليس سببَ وروده فضلًا عن أن في قضية السلطان والظلم والعدل أحاديث خاصة صحيحة لا ينبغي إغفالها بترجيح حديث مختلف فيه عليها، أما عندما تجد شخصا يائسًا من حياته غير راضٍ بقضاء الله وقدره في بدنه أو رزقه فاذكر له هذا الحديث لعله يرضى، فهذا موقع ذلك الحديث من الحياة والشرع، أما ترويج مثل هذه الأحاديث خدمة للأنظمة التي أفسدت وسفكت وسرقت الكثير والقليل فلا يقل خطرًا عن غيره؛ فهذه ثقافة تصنع إنسانًا ذليلًا، وتدعوه إلى القناعة باليسير وعدم مطالبة السلطة بتحقيق العدل وتوزيع الثروات وكف الظلم، وهذا ما لاحظناه فترات طويلة في بلدنا، وهو الأساس الذي ترجع إليه مقولة البعض اليوم: (كنا عايشين)، وبمقابل هذا لا نجد لدى هؤلاء أحاديث أخرى تحض الحاكم على القيام بواجبه من العدل في الأحكام وتوزيع الثروة واختيار الأكْفَاء والعمل على نزاهة القضاء كالحديث الذي رواه مَعْقِلَ بن يسار رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ))(7).
ومما يؤسف له أنَّ علماء كِبار كانت تُشدُّ إليهم الرحال استمسكوا به، وأقلُّ ما يُقال أنها غشاوة عن الحق واعتداد بالرأي وجهل بالواقع، فما وقع في سورية مثلا بعيد عن مضمون هذا الحديث، فالناس تعرف الظالم وتعرف سبب الظلم، وتعرف أنّها تُقاتل مضطرة دفاعًا عن وجودها ونفسها ومعتقدها وعرضها ومالها، ولم نرَ ممن وقف ضد عصابة النظام أحدًا ضرب برَّ الأمةِ وفاجرها ولم يتحاشَ مؤمنها، بل الذي رأيناه هو أنَّ تلك الطائرات ترمي حمولتها لتبيد الحجر والشجر والبشر من غير تمييز بين من يقف مع السفَّاح أو ضده.
ومما يُثير الغرابة أنَّ القول بالفتنة استنادًا إلى هذا الحديث وأمثاله يقتضي منهم السكوت وعدم الخوض في أقلِّ الأحوال على فرض أنَّها فتنة، فالفتنة تعني أنَّ الأمر ليس واضحًا؛ فليخرس إذًا فقيه السلطان ما دام الأمر فتنة لم يتضح فيها الحق من الباطل، فالذي يقاتل -وهذا واضح من الحديث- تحت راية عمية لن يبصر تحتها الحق والباطل ولن يهتدي إليه وسيقف مع عصبيته وجماعته من غير تمييز، وهذا لم يحصل في بلدنا، يقول القاضي عياض: (يُقال: عِمِّيَّة بكسر العين وبضمها، وكسر الميم وتشديدها وتشديد الياء، قال الإمام: قيل: الأمر الأعمى كالعصبية لا يستبين ما وجهه، قاله أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: هذا في تجارح القوم وقتل بعضهم بعضًا، وكأنه من التعمية وهو التلبيس)(9) ويقول النووي: (معناها أنه يقاتل لشهوة نفسه وغضبة لها، ويؤيد الرواية الأولى الحديث المذكور بعدها “يغضب للعصبة” ويقاتل للعصبة، ومعناه: إنما يقاتل عصبية لقومه وهواه)(10).
ومما يُستدل به على ذلك -وليس المقصود استقراء كل الأحاديث- ما رواه البخاري وغيره من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)(11).
وتجاهل فقهاء السلطان -دون تفصيل للمسائل الفقهية- أنَّ الذي يحكمنا ما كان أهلا للحكم، وهذا واضح في نصِّ الحديث، فالمنازعة فيه ليست منازعة لمن هو قائم على هذا الأمر وهو أهل له يرعى حقوق رعيته ناصحًا لهم معتنيًا بهم، كما تعامى هؤلاء عن التفريق بين الفسق ابتداء -وهذا لا تصح له أصلا الولاية- والفسق الطارئ، يقول القاضي عياض: (فإن كان فسقه كفرًا وجب خلعه، وإن كان ما سواه من المعاصي فمذهب أهل السنّة أنّه لا يخلع، واحتجُّوا بظاهر الأحاديث وهي كثيرة، ولأنه قد يؤدّي خلعه إلى إراقة الدّماء وكشف الحريم؛ فيكون الضرر بذلك أشَدَّ من الضرر به، وعند المعتزلة أنَّه يخلع، وهذا في إمام عُقد له على وجه يصحُّ ثم فَسَق وجار، وأمّا المتغلِّبون على البلاد فالكلام فيهم يتَّسع)(12).
ونسي هؤلاء أنَّ الحاكم الفاسق لا ولاية له أصلا، يقول العز بن عبد السلام: (وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية كما في تصرف الأئمة البغاة فإنه ينفذ مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وإنه لا انفكاك للناس عنهم)(13) هذا النص واضح بأنه لا ولاية لهم، والسكوت عنهم لا يعني صحة ولايتهم ولو بقيت سنين، يقول الجويني: (ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق)(14)، يقول القرطبي: (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق)(15).
ونسي هؤلاء أيضًا أن هذه العائلة السفَّاحة التي حكمتنا منذ عشرات السنين هي متغلبة في الحكم، وأقلُّ ما يُحكم على المتغلب أنه فاسق، يقول ابن حجر الهيتمي: (المتغلب فَاسق معاقب لَا يسْتَحق أَن يبشر وَلَا يُؤمر بِالْإِحْسَانِ فِيمَا تغلب عَلَيْهِ بل إِنَّمَا يسْتَحق الزَّجر والمقت والإعلام بقبيح أَفعاله وَفَسَاد أَحْوَاله)(16).
ثالثًا: ضرورة طاعة السلطان وعدم الخروج عليه:
من أبرز ما يستدل به فقهاء السلطان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] لكن نسي هؤلاء أن هذا أمر بطاعة أولي الأمر الذين يطيعون الله ورسوله، وتناسوا أن طاعة الله والرسول ليست مقصورة على الشعب دون الحاكم، فالحاكم داخل في الخطاب، ومطلوب منه أن يُطيع الله في رعيته، ومن جملة طاعة الله تعالى النُّصح للرعية وإقامة العدل بينهم وتوزيع الثروات بالقسط والدفاع عن أعراضهم وزرع قيم الخير والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومما يستدل به فقهاء السلطان حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه َقَالَ: (بَايَعَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَة عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)(17) فهم يحملون الكفر في الحديث على الكفر بالمعنى الاصطلاحي ويقصرونه عليه، ولن تجد حاكمًا مهما كان غبيًّا يُصرِّح بالكفر أو يعمل عملا مُكفِّرا لا يقبل التأويل، وكيف يفعلون ذلك وهم يتظاهرون بأنهم حماة الحمى والدين، فتراهم يبنون المساجد ويحضرون صلاة العيدين ومسابقات القرآن وبعض المناسبات الدينية، ويدعون العلماء إلى موائد الإفطار في رمضان، وهذا ما كان يحصل من الهالك حافظ بينما كان يأتي من المنكرات ما لا يعلم به إلا الله تعالى، فالحديث وإنْ اشترط الكفر لكنَّه ليس مقصورًا عليه، وهذا للأسف لا يُذكر عند فقهاء السلاطين، يقول النووي في شرحه للحديث: (والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم مُنكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم)(18) كلام النووي واضح هنا في حمل معنى الكفر على المعاصي والمطالبة بالإصلاح، والمظاهرات التي حصلت في بلدنا داخلة في مفهوم الإنكار وقول الحق وليست من الخروج المسلَّح والمنازعة، فمن البدهي أن السوريين لم يحملوا السلاح إلا بعد أشهر دفاعًا عن النفس والعرض، وليس فهم الكفر بمعنى المعاصي خاصًّا بالنووي، فالنووي ينقل عن القاضي قائلًا: (قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها)(19)، ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني: (أجمعت الأمة أنه يوجب خلعَ الإمام وسقوطَ فرض طاعته كفرُه بعد إيمانه، وتركُه إقامة الصلاة والدعاء إليها)(20).
خلاصة ما نفهمه من هذين النَّقلين أنَّ الكفر الوارد في الحديث ليس مقصودًا به الشرك وحده، فترك الصلاة داخل في ذلك، ومن المعلوم بالتواتر عند كل السوريين أنَّ نظام عائلة الأسد كان يمنع الصلاة في الجيش، وهذا أقلُّ منكراته، وعدم ربط الخروج بالكفر بالمعنى الاصطلاحي مأخوذ من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع)) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ((لا، ما صلوا))(21).
نخلص مما سبق إلى أنَّ المسؤولية في القرآن الكريم هي مقصد عالٍ من مقاصد الشريعة، وهي مرتبطة بتكريم الإنسان وتكليفه، وأنَّ الإنسان مسؤول في الدنيا والآخرة ما دام يملك الإرادة والقدرة، لكنَّها مسؤولية شخصية إلا إذا أغرى الإنسان غيره أو فتنه فإنه يتحمل مسؤولية جُرم غيره.
وللمسؤوليات مستويات عدة فردية ومجتمعية، وأهمها اثنتان؛ أُوْلاهما المسؤولية الجدلية بين الزوجين، وقد تبين اعتناء القرآن الكريم بهذه العلاقة والمحافظة عليها من خلال ربطها بضرورة مراقبة الله تعالى وخشيته؛ فمن المتعذر على القضاء أنْ يفصل فصلًا كاملًا في هذه الحقوق بلا حيفٍ لما فيها من خصوصيات لا تظهر للقضاء.
أما الثانية فهي المسؤولية الجدلية بين الأمراء والعلماء، وقد ظهر لنا أنَّه ليس من مقاصد الشرع بحالٍ توجيهُ عامَّة الناس نحو الصبر على ظلم الحكام وجعل ذلك منهجًا، وأثبتنا أنَّ بعض الفقهاء خاصة في سورية سعى جاهدًا لحمل نصوص القرآن والسنة وإخضاعها لوجهة واحدة لتكون في خدمة الحاكم، وأنهم قصروا بعض دلالة القرآن والسنة على ذلك طمعًا في منصب، وربما حمل الغرورُ بعضَهم على ذلك ظنًّا منهم أنّ ما يفهمونه لا يفهمه الآخرون ممن كانت تُشدُّ إليهم الرحال، أو انطلاقا من حُسن نية ساذجة بصلاح رأس العصابة، وأيًّا كان الدافع فهو بعيد عن فهم النصوص الشرعية وفقه الواقع، لكن ثمة كثير من العلماء أيضًا صدعوا بالحقِّ وكانوا على بصيرة من دلالات النصوص وفهمها، فأسأل الله العظيم أن يمنَّ على بلدنا بالأمن والأمان، وأنْ يُخلِّصنا من هذه العصابة الحاكمة وأعوانها، نِعم مَن يُسأل ربُّنا وخير من يُجيب هو.
____________________
1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية – تونس، 1984 هـ، 22/ 125، والحديث رواه الترمذي في سننه وقال: “هذا حديث حسن صحيح”. الجامع، كتاب أبواب النكاح، باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة، رقم: 1361، ورواه ابن حبِّان في صحيحه، 11/ 29، ترتيب: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تح: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408 هـ – 1988 م.
2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، رقم: 1017، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
3) صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب حق الجسم في الصوم، رقم: 1975، تح: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
4) التحرير والتنوير:4/ 193.
5) سنن الترمذي، تح شاكر، أبواب الزهد، باب في التوكل على الله، رقم : 2346.
6) صحيح ابن حبان، تح: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط2، 1414 – 1993.
7) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب من استُرعِيَ رعية فلم ينصح، رقم: 7150.
8) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، رقم: 1848، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
9) إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، تح: يحيى إسماعيل، دار الوفاء، مصر، ط1، 1419 هـ – 1998 م :6/ 258.
10) شرح النووي على مسلم، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392، 12/ 239.
11) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (سترون بعدي أمورا تنكرونها) تح: مصطفى البغا، دار ابن كثير، بيروت، ط3، 1407 – 1987.
12) المُعْلم بفوائد مسلم، المازري، تح: محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية، المؤسّسة الوطنية للكتاب بالجزائر، 3/ 53.
13) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص 79.
14) غياث الأمم في التياث الظلم، الجويني، أبو المعالي، تح: عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، ط2، 1401هـ، ص 327.
15) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تح: أحمد البردوني وآخَر، دار الكتب المصرية – القاهرة، ط2، 1384هـ – 1964 م، 1/ 270.
16) الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، تح: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وآخَر، مؤسسة الرسالة – لبنان، ط1، 1417هـ – 1997م، 2/ 627.
17) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورا تنكرونها» رقم: 7056.
18) شرح النووي على مسلم، النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392ه، 12/229.
19) شرح النووي على مسلم، 12/229.
20) التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن، تح: دار الفلاح، دار النوادر، دمشق – سورية، ط1، 1429 هـ – 2008 م، 2/ 440.
21) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك 3/ 1480.
دعوة لإعادة النظر في كتابة بعض الكلمات القرآنية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فقد تفشى الجهل بين المسلمين، وانصرف غالب الناس عن تلقّي القرآن الكريم مشافهة، وهناك بعض الكلمات في القرآن قد تقرأ على وجه غير صحيح، فأحببت أن أنبّه عليها، ولا أدعو في ذلك إلى إعادة كتابة القرآن حسب قواعد الإملاء المعروفة الآن، فقد اختلفت مجامع اللغة العربية في قواعد الكتابة، ولا مُشاحة في الاصطلاح. وليس من لوازم الحِفَاظ على الرسم العثماني قراءة القرآن بشكل غير صحيح.
لم أخالف في بحثي هذا قاعدة ثابتة في كتابة القرآن، ولا قراءة متواترة من قراءاته، بل قعّدت (بعد التتبع الدقيق للرسم القرآني) بعض القواعد، وسترى أن أغلب الكلمات المشكلة كتبت بشكلين: واحد لا لبس فيه، والثاني مشكل.
وكثير من تعليلات كتابة بعض الكلمات ليست تعليلات مطّردة.
وقد جرى مؤخراً تغيير كلمة(التوبة: 47) فحذف منها الألف التي بعد الهمزة لئلّا يحصل اللبس في قراءتها، ولم تحذف في(النمل: 21) مع أن العلة واحدة. كما حذفت الألف التي قبل (إلى) في قوله تعالى: (آل عمران: 158)، و(الصافات: 68)، وكانت تكتب (لإالى).
وهذا البحث قابل للنقاش، وأتمنى أن أسمع رداً معقولاً ـ إن كان هناك ردّ ـ لا أن يغلق الباب بالكلِّيَّة، فالحكمة ضالَّة المؤمن، أينما وجدها فهو أحقُّ بها. إن أريدُ إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله.
عُني العلماء بالكلام على رسم القرآن، وحصْرِ تلك الكلمات التي جاء خطُّها على غير مقاسِ لفظِها، وقد أفرده بعضهم بالتأليف، منهم:
1-أبو عمر الدّاني المتوفى 444هـ في كتابه: (المُقنِع في رسم مصاحف الأمصار).
2-محمد بن أحمد الشهير بالمتولّي في أرجوزته: (اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم).
3-محمد خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية في شرحه على أرجوزة المتولّي، ثم ذيّل الشرح بكتابه: (مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن).
واختلف العلماء في كتابة المصحف: هل هو سنّة وطريقة لا يُعدَل عنها؟ أم يجوز كتابته على ما أحدثه الناس من الهجاء؟
فسُئِل الإمام مالك رحمه الله تعالى: «هل يُكتَبُ المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟» فقال: «لا، إلا على الكتْبة الأولى».
وقال البيهقي في شعب الإيمان 5/600: «مَن كتَب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كَتَبوا، ولا ينبغي أن نظنَّ بأنفُسِنا استدراكاً عليهم». اهـ.
وأكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية، إلا أنه قد خرجت أشياء عنها يجب علينا اتِّباع مرسومها، فمنها ما عرفنا حكمه، ومنها ما غاب عنّا عِلمه.
وهذا كان في الصدر الأول، وأمَّا الآن: فقد يُخشى الالتباس، ولذا قال العزُّ بن عبد السلام المتوفى 660هـ: «لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى؛ لئلّا يوقع في تغييرٍ من الجهّال». اهـ
قال ابن عقيلة المكي المتوفى 1150هـ في كتابه: (الزيادة والإحسان في علوم القرآن) 2/426: «وهذا لا ينبغي إجراؤه على إطلاقه؛ لئلا يُترَك شيءٌ أحكمَه السلفُ مراعاة لجهل الجاهلين». اهـ
وقال ابن خلدون المتوفى 808 هـ في مقدمته 419: «ولا تلتفتنَّ إلى ما يزعمه بعض المغفّلين من أن العرب كانوا مُحْكِمين لصناعة الخط، فلم تكن العربُ أهلَ كتابة، ففي هجائهم ضعف». اهـ
أمثلة على عدم التزامهم بقاعدة ثابتة في كتابة بعض الكلمات:
1-رسْمُهم: (ابن أمّ) في قوله تعالى: (الأعراف: 150) مفصولة، ورسْمُهم إياها موصولة في قوله تعالى: (طه: 94).
2-زيادة واو في كلمة:(الأعراف: 145)، و(الأنبياء: 37)؛ للدلالة على أن الهمزة مضمومة، مع أنها كتبت في (غافر: 29): .
5-زيادة الياء في (أيد)، كما في قوله تعالى: (الذاريات: 47)، وقد علَّلوا كتابتها كذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، على حدِّ القاعدة المشهورة: (زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى)، لكنها في (ص: 17): .
وكذا في قوله تعالى: (القلم: 6)، مع أنهافي (التوبة: 124)، و(هود: 7)، و(النمل: 38)، و(الملك: 2).
6-زيادة ألف في (شيء) في قوله تعالى: (الكهف: 23)، مع أنها وردت في القرآن في 193 موضعاً ولم تكتب بهذا الشكل، بل كتبت .
7-كتابةدون ياء في سورة البقرة في 15 موضعاً، وكتابتها بياءفي بقية المصحف في 54 موضعاً، مع أنهما قراءتان (إبراهام) و(إبراهيم).
8-في قوله تعالى: (قريش: 1) (قريش: 2)، كتبت الأولى بياء دون الثانية مع صحة قراءتهما بالياء وبدونها، فراعت الكلمة الثانية قراءتها دون ياء، ولم تراعها في الأولى.
9-إضافة ألف في (جيء) من قوله تعالى: (الزمر: 69)، وفي قوله تعالى: (الفجر: 23)، وقد قرئ: (وَجِيْ) و(وَجِيَّ) وكل القراءات السابقة لا يناسبها كتابتها بشكلها الحالي.
10-كتابة (نشاء) في (هود: 87) هكذا: مراعاة لضم الهمزة، مع أنها رسمتهكذا في 18 موضعاً من المصحف.
تعليلات لكتابة بعض الكلمات القرآنية بما يخالف قواعد الإملاء:
1-رُسمت (ثمود) بطريقتين للدلالة على الإعراب، فـدون ألف آخرها ممنوعة من الصرف (مجرورة)، وذلك في (الأعراف: 73)، و(التوبة: 70)، و(هود: 61)، و(إبراهيم: 9)، و(النمل: 45)، ومنصوبة في (الإسراء: 59). ورسمتبألف لأنها مصروفة في بعض القراءات، وذلك في (هود: 68)، و(الفرقان: 38)، و(العنكبوت: 38)، و(النجم: 51).
2-حذفت ياء المضارعة لالتقاء الساكنين في قوله تعالى: (يونس: 103) فيكون الوقف على (ننجِ) دون ياء على قراءة حفص، وبالياء عند يعقوب، وأضيفت في قوله تعالى: (الأنبياء: 88) فيوقف عليها بالياء.
ومثلها قوله تعالى: (الحج: 54)، وقوله تعالى: (الروم: 53)، فيوقف على (هاد) دون ياء عند حفص خلافاً ليعقوب، أما في قوله تعالى: (النمل: 81) فرسمت الياء للوقف عليها بالياء.
3-كتبت همزة (نبأ) تحت الياء في (الأنعام: 34) هكذا: وذلك للدلالة على قراءة حمزة لها بالياء عند الوقف. أما في (الأنعام: 67)، و(النمل: 22)، و(القصص: 3) فقد كتبت هكذا لعدم الوقف عليها بالياء.
ومثلها همزة (تلقاءِ) فقد كتبت في (يونس: 15) هكذا: وذلك للدلالة على قراءة حمزة لها أيضاً بالياء عند الوقف. أما في (الأعراف: 47)، و(القصص: 22) فكتبت هكذا لعدم الوقف عليها بالياء.
وكذا (إيتاء)، إذ رسمت الهمزة أيضاً تحت الياء في (النحل: 90) للدلالة على قراءة حمزة لها بالياء عند الوقف: ، ولم تكتب هكذا في (الأنبياء: 73)، و(النور: 37)، بل كتبت هكذا: لعدم الوقف عليها بالياء.
ومثلها (آناءَ)، ففي (طه: 130) رسمت هكذا: للدلالة على وقف حمزة عليها بالياء، ولم تُزَد في (آل عمران: 113)، ولا في (الزمر: 9)، بل كتبت هكذا: لعدم الوقف عليها بالياء.
وكذا (بلقاء)، إذ رسمت الهمزة تحت الياء في (الروم: 8) هكذا: و(الروم: 16): للدلالة على قراءة حمزة لها بالياء عند الوقف، ولم تكتب في (الأنعام: 31 و154)، و(الأعراف: 147)، و(يونس: 45)، و(الرعد: 2)، و(المؤمنون: 33)، و(السجدة: 10)، و(فصّلت: 54)، وذلك لعدم الوقف عليها بالياء.
وأخيراً كلمة (وراء) في (الشورى: 51) كتبت هكذا: وذلك للدلالة على قراءة حمزة لها بالياء عند الوقف، أما في (هود: 71)، و(الأحزاب: 53)، و(الحجرات: 4)، و(الحشر: 14)، فرسمت الهمزة دون ياء لعدم قراءتها بالياء عند الوقف.
4-كل ياء رسمت في القرآن بدل الألف فهي للدلالة على الإمالة في قراءة، مثاله:(البقرة: 29)،(البقرة: 102)،(البقرة: 144)،(البقرة: 185)، (البقرة: 251)، (البقرة: 282)،(آل عمران: 3)،(آل عمران: 28)،(آل عمران: 151)،(آل عمران: 152)،(آل عمران: 153).
ولم يشذّ عن هذه القاعدة إلا (أيام) في قوله تعالى:(إبراهيم: 5)، فقد رسمت ألف (أيام) بالياء وليس فيها إمالة. قال الداني في (المُقنِع): رأيتها في بعض مصاحف أهل المدينة والعراق بياء واحدة ثم ألف.
5-كتبت الصلاة بالواو هكذابدل الألف للدلالة على تفخيم الألف، لكنها أتت بالألف وليس بالواو في تسعة مواضع: في (الأنعام: 92)، و(الأنفال: 35)، و(المؤمنون: 2)، و(المعارج: 23 و34)، و(الماعون: 5) ،و(الأنعام: 162)، و(الإسراء: 110)، و(النور: 41)مع أنها مفخّمة سواء كتبت بالواو أو بالألف.
6-كتبت ألف (الغداة) بالواو هكذا: وذلك في (الأنعام: 52)، و(الكهف: 28)، ومثلها (النجاة) كتبت هكذا: (غافر: 41) لأن أصل الألف واو.
7-كتبت ألف (الزكاة) أيضاً بالواو هكذاومثلها:(النور: 35) مع أنها قرئت بالإمالة، فكان الأولى كتابتها بالياء بدل الواو، ومثلها (النجم: 20) ولا أدري ما العلة في ذلك.
8-رسمت بعض الكلمات بالألف الممدودة بدل المقصورة مع أن أصلها الياء؛ وهي في قوله تعالى: (يوسف: 25)، وفي قوله تعالى: (الإسراء: 1)، وقوله تعالى: (المؤمنون: 44)، وقوله: (يس: 20)، وقوله: (الحاقة: 11).
9-حذف ياء المضارعة من غير جازم للدلالة على بعض لغات العرب، كما في قوله تعالى: (هود: 105)، وذلك وفقاً للغة هُذيل. فيوقف على (يأت) دون ياء عند حفص، وبالياء عند ابن كثير ويعقوب.
10-كتبت الهمزة على واو للدلالة على أن الهمزة مضمومة، وهذا تعليل مضطرب:
لكنها في (العنكبوت: 19) كتبت على ياء: ، وكذا (سبأ: 49)، و(البروج: 13). كما كتبت على ياء في قوله تعالى: (النجم: 31). وكتبت على ألف في قوله تعالى: (القصص: 76).
د-في قوله تعالى: (إبراهيم: 9) كتبت (نبأ) على واو لأنها مضمومة، وكذا في (ص: 21 و67)، وفي (التغابن: 5).
لكنها في (التوبة: 70) هكذا: .
هـ-أما كلمة الضعفاء: ففي (إبراهيم: 21): ، وكذا في (غافر: 47).
لكنها في (البقرة: 266): .
و-وأما (الملأ): ففي أربعة مواضع هكذا: (المؤمنون: 24)، وكذا في (النمل: 29 و32 و38).
لكنها غير ذلك في 16 موضعاً، ففي الآية 33 من سورة المؤمنون نفسها: ، وكذا في (الأعراف) في سبعة مواضع، وفي (هود: 27 و38)، و(يوسف: 43)، و(الشعراء: 34)، و(القصص: 38)، و(الصافات: 8)، و(ص: 6 و69).
ز-وأمّا (البلاء) ففي (الصافات: 106): ، وكذا في (الدخان: 33).
لكنها في (الرعد: 14) هكذا: .
ط-أما (جزاء): فالهمزة على واو في أربعة مواضع: في قوله تعالى: (الشورى: 40)، وكذا في (المائدة: 29 و33) و(الحشر: 17).
لكنها على السطر في 13 موضعاً: في (البقرة: 85): ، وكذا في (البقرة: 191)، و(المائدة: 85 و95)، و(التوبة: 26 و82)، و(يونس: 27)، و(يوسف: 25)، و(طه: 76)، و(سبأ: 37)، و(الزمر: 34)، و(فصلت: 28)، و(الرحمن: 60).
ي-قوله تعالى: (الزخرف: 18) كتبت الهمزة على الواو لأنها مضمومة.
لكنها كتبت على ياء في قوله تعالى: (الرعد: 12).
وعلَّلوا كتابة الألف بعد الهمزة في كل ما سبق: إما تقوية للهمزة لخفائها، وإما على تشبيه الواو التي هي على صورة الهمزة في ذلك بواو الجمع التي أُلحقِت الألف بعدها.
11-زيادة الياء للدلالة على أن الهمزة مكسورة، وهي قاعدة غير مضطردة.
لكنها لم ترسم في ثلاثة مواضع: في قوله تعالى: (الأنعام: 67)، وفي قوله تعالى: (النمل: 22)، وفي قوله تعالى: (القصص: 3).
ب-وزيدت الياء أيضاً في ستة مواضع: في قوله تعالى: (الأعراف: 103)، و(يونس: 75)، و(هود: 97)، و(المؤمنون: 46)، و(القصص: 32)، و(الزخرف: 46)، وفي قوله تعالى: (يونس: 83).
لكن الياء لم تكتب للدلالة على الكسرة في أربعة مواضع: في قوله تعالى: (البقرة: 246)، وفي قوله تعالى: (الشعراء: 34)، وفي قوله تعالى: (الصافات: 8)، وفي قوله تعالى: (ص: 69).
12-ومن التعليلات الغريبة نقص الألف من (جاؤوا) في قوله تعالى: (يوسف: 16)، وذلك للإشارة إلى أن مجيئهم كان على وجه غير صحيح، لكن كلمة (جاءوا) وردت في 9 مواضع: في (آل عمران: 184)، و(الأعراف: 116) و(يوسف: 16 و18)، و(النور: 11 و13)، و(الفرقان: 4)، و(النمل: 84)، و(الحشر: 10)، من هذه المواضع ثلاث لا يصح فيها هذا التعليل، وهي قوله تعالى: (آل عمران: 184)، وقوله تعالى: (النمل: 84)، وقوله تعالى: (الحشر: 10).
ثم ما العلة في حذف الألف من قوله تعالى: (البقرة: 61)، و(آل عمران: 112)، و (البقرة: 90) ، ومن قوله تعالى: (البقرة: 226). ومن قوله تعالى: (سبأ: 5)، ومن قوله تعالى: (الحشر: 9).
وأيضاً ما العلة في زيادة ألف في (ملاقو) من قوله تعالى: (البقرة: 46)، (البقرة: 249)، (هود: 29).
وفي (أولو) في 16 موضعاً، منها قوله تعالى: (البقرة: 269)، وفي (بنو) في قوله تعالى: (يونس: 90)، وفي قوله تعالى: (العنكبوت: 31)، وفي قوله تعالى: (الدخان: 15).
13-تكتب هاء التأنيث بالهاء إلا في مواضع فبالتاء، فإذا كتبت بالتاء وقف عليها بالتاء على لغة طيّ، وبها أخذ حفص، ووقف غيره عليها بالهاء على لغة قريش.
أشهر خطاطي القرآن الكريم:
1-عثمان طه: ولد في ريف حلب 1934م، كتب أول مصحف عام 1970م لوزارة الأوقاف السورية، وفي عام 1988م جاء للسعودية، وعين خطَاطاً في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف في المدينة، فكتب مصاحف المدينة.
2-عبيدة محمد البنكي (بتقديم الباء على النون): ولد في دير الزور 1964م، كتب مصحفاً لقطر.
3-حامد الآمدي: شيخ الخطّاطين ولد في تركيا 1891م، كتب المصحف بخط يعتبر من أجمل الخطوط.
أهم الكلمات المشكلة إملائياً في المصحف الشريف
الكلمة
السورة
الآية
الصفحة
ملاحظات
–
البقرة
237
38
البقرة
259 (2)
43
البقرة
261
44
الأنفال
65 (2)
185
الأنفال
66 (2)
185
الكهف
25
296
النور
2
350
الصافات
147
451
البقرة
275
47
البقرة
276
47
البقرة
278
47
آل عمران
130
66
النساء
161
103
آل عمران
144
68
الأنبياء
34
324
النساء
176
106
المائدة
18
111
الأنعام
5
128
لكنها في القصص 66 ص 393:
الشعراء
6
367
الأنعام
94
139
لكنها في النساء 12 ص 79، والأنعام 139 ص 146، والزمر 29 ص 461، والقلم 41 ص 565
الشورى
21
485
الأعراف
103
163
لكنها في الشعراء 34 ص 368، والصافات 8 ص 446، وص 69 ص 457 دون ياء.
يونس
75
217
هود
97
232
المؤمنون
46
345
القصص
32
389
الزخرف
46
492
يونس
83
218
الأعراف
145
168
لكنها في غافر 29 ص 470
الأنبياء
37
325
يونس
4
208
لكنها في العنكبوت 19 ص 398 على ياء، وكذا في سبأ 49 ص 434، والبروج 13 ص 590.
يونس
34
213
النمل
64
383
الروم
11
405
الروم
27
407
يونس
90
219
هود
87
231
رسمت في 18 موضعاً.
يوسف
85
245
الرعد
39
254
إبراهيم
5
255
ليس فيها إمالة حتى تكتب بالياء
إبراهيم
9
256
لكنها في التوبة 70 ص 198
ص
21
454
ص
67
457
التغابن
5
556
إبراهيم
21
258
لكنها في البقرة 266 ص 45
غافر
47
472
النحل
48
272
الكهف
23
296
وردت في 193 موضع
طه
18
313
طه
94
318
لكنها في الأعراف 150 ص 169
طه
119
320
المؤمنون
24
343
لكنها في المؤمنون 33 ص 344، وفي الأعراف في سبعة مواضع، وهود في موضعين 27 و38، ويوسف 43، والقصص 38، وص 6
النمل
29
379
النمل
32
380
النمل
38
380
النور
8
350
الفرقان
77
366
الشعراء
197
375
فاطر
28
437
النمل
21
378
الروم
13
405
الروم
39
408
الصافات
106
450
لكنها في البقرة 49 ص 8، والأعراف 141 ص 167، وإبراهيم 6 ص 256
فمَا وَقَفَ عليه ﷺ دائماً تحقَّقنا أنـَّه فاصلة، وما وَصَلَهُ دائماً تحقَّقنا أنه ليس بفاصلة، وما وَقَفَ عليه مرَّةً ووَصَلَهُ أُخرَى احتَمَلَ الوقفُ أنْ يكونَ لتعريفِ الفاصلةِ، أو لِتَعريفِ الوقفِ التَّامِّ، أو للاستراحةِ. والوَصلُ أنْ يكونَ غيرَ فاصلةٍ، أو فاصلةً وصَلَها لتَقَدُّم تعريفها أو علَى الأصلِ، فحَصَل التَّردُّدُ، وحينئَذٍ احتيج إلى القياسِ.
ب – السُّورةُ الواحدةُ لا تَلتَزمُ فاصلةً واحدةً، عدا القليل منها وهي: (الكهف، الفتح، القمر، المنافقون، الطلاق، الجن، الإنسان، الأعلى، الشمس، الليل، القدر، البينة، العصر، الفيل، الكوثر، الإخلاص، الناس)، وقد تصل الفواصل إلى 12 فاصلة (كما في سورة هود).
ج – خُتِمَتْ الفاصلةُ القرآنيةُ بالمدِّ العارضِ للسُّكون أو مدِّ العِوَض حتَّى سورة محمَّد()، (أما مدُّ اللِّين ففي سورة قريش فقط)، وحِكمَةُ الخَتْم بالمدِّ (كما قال ابن عقيلة) وجودُ التَّمَكُّنِ من التَّطريبِ بذلك، لأنـَّهم إذا ترنـَّموا أَلحقُوا الألِفَ والياء والنُّونَ.
د – استَخدَمَت الفَواصِلُ القرآنيَّةُ جميعَ حروفِ العربية عدا الخاء والغين.
هـ – كَثـُر في القرآن خَتْمُ الفاصلةِ بالنُّونِ، والأَلِفِ، والميمِ، والرَّاءِ. فقد كررت النون 3126 مرة أي 50%، والألف 1192 أي 19%، والميم 663 أي 11%، والراء 451 أي 7%، أما الدال فـ 199 والباء 162 والتاء 156 أي 3% لكل منها، بينما كررت اللام 67 مرة أي 1%، وكررت الهاء 48، والقاف 40، والياء 25، والظاء 13، والعين 13، والطاء 12، والهمزة والزاي والسين 10 مرات لكل منها، والجيم 9، والصاد والكاف 8 مرات لكل منها، والفاء 4، والثاء والذال والشين والواو مرتان لكل منها، والحاء والضاد مرة واحدة، علماً بأن عدد آيات القرآن هو 6236 آية.
و – الفاصلةُ القرآنيَّةُ المختومةُ بالنُّون يأتي معها الفاصلة المختومة بالميم غالباً إلا في: (الرعد، طه، محمد، النجم، المنافقون، المزمل، المدثر، عبس، الغاشية، البلد، العلق، الزلزلة).
ز – السُّوَرُ الـمُختَلَفُ في عدد آياتها 70 سورة، والمتفق عليها 40، وأربعة اختلف في أماكن فاصلتها ولم يختلف في عددها وهي: (القصص – العنكبوت – الجن – العصر) كما قال ابن عقيلة في كتابه الزيادة والإحسان، النوع الثامن والثلاثون 2/46.
ح – الحروف المقطعة في فواتح بعض السور آية بنفسها في (19) سورة وهي (البقرة، آل عمران، الأعراف، مريم، طه، الشعراء، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، يس، غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف)، وبعض آية في 10 سور وهي: (يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النمل، ص، ق، القلم) .
وذكر ابن عقيلة في النوع الرابع والثلاثون من كتابه 1/453 أن حروف فواتح السور وَجْهُ عدّها آية استقلالها ومناسبة الفاصلة (قلت: لكن هذا لا ينطبق على سورة الأعراف ومريم والشورى)، وجه عدم عدّها الاختلاف في الكلمة (قلت: وهذا لا ينطبق على سورة النمل و ص و القلم).
مقترحات:
آل عمران، الآية 3: يوضع الرقم عند كلمة (الْفُرْقَانَ) في الآية 4 لاستواء المعنَى، ومناسبة الفاصلة.
هود، الآية 54: يوضع الرقم عند كلمة (مُّؤْمِنِينَ) في الآية 86 لاستواء المعنى، ويحذف رقم الآية 54 ورقم الآية 96.
الشعراء، الآية 49: تحتاج لفاصلة عند قوله تعالى (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، ويلغى رقم الآية 92 لترابط المعنى.
الروم، الآية 2: يوضع الرقم عند كلمة (سِنِينَ) في الآية 4 لترابط المعنى، كما يلغى ترقيم الآيتين 3 و4، فالسورة مختلف في عدد آياتها.
الصافات، الآيات 22، 151، 167، 168: يلغى ترقيمها كلها من أجل ترابط المعنى، والسورة مختلف في عدد آياتها.
غافر، الآية 71: يوضع رقمها عند كلمة (فِي الْحَمِيمِ) في الآية 72 لترابط المعنى، وآية 73 يلغى ترقيمها لترابط المعنى، والسورة مختلف في عدد آياتها.
الدخان، الآيات 34، 43، 45: تلغى ترقيماتها لترابط المعنى، والسورة مختلف في عدد آياتها.
القيامة، الآية 26: يلغى ترقيمها لمناسبة الفاصلة.
ماجد الحموي
نقض منهجية القراءة المعاصرة
بســــــــم الله الرحمـــن الرحــــيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين.
وبعد:
عندما تطورت المناهج التاريخية واللغوية تطوراً كبيراً في أوروبا، وخصوصاً في ألمانيا، إبان القرن التاسع عشر.
وبعد أن طبقوا منهجية النقد التاريخي على الآداب اليونانية والرومانية، وخرجوا بنتائج باهرة.
قالوا: لماذا لا نطبقها على النصوص الدينية؟
فهي أيضاً مشكلة من حروف وألفاظ، وجمل وعبارات، ومرتبطة بظروفها وعصرها.
لذلك بدأوا يطبقونها على التوراة والإنجيل، أو العهد القديم والعهد الجديد، وفوجئوا بأشياء عجيبة لم تكن تخطر لهم على بال.
فقد اكتشفوا مثلاً: أن التوراة ليست من تأليف النبي موسى عليه السلام، كما يعتقد اليهود والمسيحيون منذ آلاف السنين، بل هي من تأليف متأخر، لأنها تحتوي على إشارات ومرجعيات وألفاظ، ما كان يمكن أن توجد في عصر النبي موسى عليه السلام، وبرهنوا بالأدلة القاطعة على أطروحتهم هذه.
عندئذ أصيب الوعي الإيماني المسيحي في الصميم.
لكن الليبراليين قبلوا بالنتيجة، وقالوا: إن العلم لا يدمر الإيمان، كما يزعم الأصوليون المتحجرون بل يضيئه وينعشه !
وهنا بدأت معركة تأويل النص عند الغرب.
وهي المعركة التي يريد أن يستورد العلمانيون العرب أدواتها
(المنهج التاريخاني () واللسانيات)كمحمد أركون ()
والمهندس محمد شحرور () وغيرهم، لإجراء نفس العملية الجراحية الغربية.
لكن مع فارق وحيد أنهم يجرونها على العضو السليم؛ وهو (النص القرآني) الذي ثبت قطعا، أنه نص إلهي، ليس لبشر فيه يد؛ حتى النبي المبلغ له عليه الصلاة والسلام.
وشكلت موجة ما يسمى (القراءة المعاصرة) آخر موجات الصراع المستمرة حول تأويل النص القرآني.
فلايزال الوحي والنص المقدس ساحة صراع.
بين من يحاولون امتلاك ناصية الفهم الحق، والتعبير عن مراد الله تعالى من الخطاب الإلهي، وبين مقلدة الغرب من أصحاب القراءة المعاصرة.
وكثيراً ما تتأثر هذه المعارك الفكرية بالأحداث السياسية، وتكون رجعاً للصراعات الاجتماعية.
فبعد كل حالة من الانكسار التي تتعرض لها الأمة، تعلو بعض الدعوات التي تحاول إعادة تفسير الإسلام من جديد على صورة ، تحل فيها معضلة التناقض التي يتصورها الشباب المسلم الحائر بين النص والوحي من جهة، وبين التجربة والواقع من جهة أخرى.
وقد ظهرت في سوريا قديماً دعوة الأستاذ جودت سعيد (مذهب ابن آدام الأول) بعد الصراع الدامي بين الإسلاميين والبعثيين، وكانت قراءة جديدة متأثرة بالواقع الغائم والنكبة المرة.
وكذلك بعد وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي، ظهرت كثير من الدعاوى التي تدعو إلى تفسير النص القرآني والإسلام تفسيراً جديداً، يحل الإشكالية التي أفرزتها الحالة السياسية والصدمة الحضارية، كما فعلت البهائية () في إيران والقاديانية في القارة الهندية. ()
وإن كان بعضهم يكتفي بتفسير مثل هذه الدعوات بأنها صنعة إنكليزية محضة، أو مؤامرة استعمارية بحتة.
لكنني هنا أريد تناول الموضوع من وجهة نظر أخرى، تتجاوز عقدة المؤامرة، إلى المحاكمة العقلية لهذه المناهج المحدثة.
ونجد أن المفكر الكبير الباكستاني محمد إقبال () شرح تلك الدعوات :
بناء على المؤدى والنتيجة منها بشكل عميق ودقيق.
وأشار إلى أنها تلغي مفهوم العبودية والربوبية التي هي جوهر الأديان كلها، لأنها تحرر الإنسان، وتستعبد الدين فيصبح الدين مقلوبا رأسا على عقب.
ويتحول العبد معها – وهو الإنسان هنا – إلى سيد، والدين إلى عبد خاضع؛ يلبي شهوة الإنسان ورغباته، وقد عبر عن ذلك إقبال شعرا فقال:
وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب ✱✱✱ فجدد لنا شرعا يلائمه العصر
رأيت بأرض الهند أيَّ عجيبة. ✱✱✱ فإسلامها عبد ومسلمها حر ()
واليوم نعود لنلحظ هذه الشنشنة التي نعرفها من أخزم، تشرئب مجدداً، وتحاول أن تقدم تفسيراً جديدا للنص، يكاد يكون فهماً بديلاً عن الإلحاد، وإن كان في أصله نوع من الإلحاد في آيات الله.
والإلحاد هنا كما جاء عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ هو أن يوضع الكلام في غير موضعه ().
لينتهي الأمر إلى إفراغ الدين من محتواه، والذي قد يجتذب كثيراً من الشباب المصدوم بالخطاب التكفيري، والممارسات الداعشية، والفتاوى الجامية، والخرافية المتصوفة، وخطاب المؤسسات الدينية الحكومية التي شكلت حالة صادمة للشباب المسلم الحائر في موقفها من الربيع العربي.
وبين دعوات الجمود على التراث، وبين دعوات تجديدية، تستبطن العلمنة تارة والإلحاد تارة، وبين السقوط الأخلاقي لبعض الدعاة في معركة الحرية والظلم.
تجد مثل هذه القراءات رواجاً بين الشباب بما تضفي على نفسها من مسحة عقلانية تستهوي بعضهم.
وهنا أذكر المهندس محمد شحرور نموذجاً _ في قراءته المعاصرة _ للقرآن في عدد من كتبه، والتي يعد من أهمها كتابه ((الكتاب والقرآن قراءة معاصرة))، والذي حدد فيه منهجه اللساني في تناول تفسير آيات القرآن الكريم. ()
وهنا لا أريد الغوص في النوايا، كما يفعل بعضهم، فأمر ذلك لرب العالمين.
ولا يهمني إن كان شحرور عميلاً صهيونيا، أو شيوعيا ماركسياً.
لكن ما لفتني في ظاهرة شحرور مسألتان:
الأولى: كثرة الشباب المفتونين، والمعجبين بطرحه وفكره وبضاعته التفسيرية المبهرجة بغلاف من عقلانية خادعة وشهوانية طاغية.
والثانية: كمية الردود السطحية والساذجة التي يرد بها بعض من الدعاة على المهندس شحرور، بطريقة عاطفية، مما يزيد دعوته قوة وتأثيراً، ويزيد من ردود الباحثين عليه ضعفاً بعين الشباب المثقف المتابع لصليل هذه المعركة.
وفي أحسن الأحول هناك من رد على إنتاجه التفسيري بطريقة تناول الجزئيات التفسيرية في قضايا معينة، مثل قضية الحجاب، والميراث، والصيام.
وهو جهد مبارك لكنه _ من دون تناول، المنهج المعرفي الأبستمولوجي والغوص والحفر في عمقه وتحليله _ يبقى رداً قاصراً، يعالج المنتج، ولا يمس المنهج.
لذلك اخترنا الرد بنقض المنهج الأصولي لشحرور، ودحض منهجه المعرفي من أصله وأساسه، بدلاً من التيه والدوران في ملاحقة منتجاته الفكرية الشاذة في قضايا الإرث، والحجاب وغيرها.
لنحقق غاية بسيطة، وهي أننا بنسف الأصل والمقدمات، يبطل معها كلما يتولد عنه من فروع ونتائج ومخرجات.
وهنا نشرع بتفكيك بعض المقدمات المنهجية التي يقوم عليها منهج شحرور في قراءته المعاصرة.
الشبهة الأولى عند شحرور مشكلته مع علم أصول الفقه :
من المسلم به عند أهل العلم والمعرفة في النظريات المعرفية ومناهج العلوم:
أن العلوم سابقة بالاكتشاف والتطبيق على قوانينها، وليست لاحقة بالاكتشاف بمناهجها وقوانينها.
فاللغة مثلا ً سابقة في الممارسة والوجود على علم النحو والإعراب.
والفقه سابق في الوجود والتطبيق على علم أصول الفقه.
والسنة سابقة على علم الرواية والمصطلح.
والناس كانت تتعامل مع قانون الجاذبية قبل أن يكتشفها نيوتن.
من هنا نريد الوصول إلى قضية كثيراً ما، يدندن بها المهندس محمد شحرور، عندما يقول: “إن مشكلتنا تكمن في كتاب من مئتي صفحة يعني به (كتاب الرسالة) للشافعي _رحمه الله_.
إذا تجاوزناها؛ فإن مشكلتنا كلها مع التراث ستحل تلقائيا”، حتى يقول: “أنا كافر بما جاء به محمد بن إدريس الشافعي. “()
ظناً من شحرور: أن الشريعة الإسلامية هي منتج علم أصول الفقه، الذي دونه الإمام الشافعي _ رحمه الله _ وأننا إذا كسرنا هذا المنهج الأصولي، وتجاوزناه، واستعضنا عنه منهجاً معرفياً آخر، نقرأ من خلاله نصوص الوحي والكتاب: ستنتهي مشكلتنا المعرفية مع الشريعة، لأن المنتج الشرعي والفقهي سيختلف تماما باختلاف منهج الاستنباط القياسي، الذي أتى به الإمام الشافعي _ رحمه الله _ وأن التجديد في الفقه الإسلامي سيتحصل بما يتناسب مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية.
ولم يتفطن شحرور إلى الخطأ المنهجي الكبير الذي وقع به، حينما لم يدرك:
أن الشريعة الإسلامية كانت قائمة طوال أكثر من قرن من الزمان في جيل الصحابة والتابعين، قبل أن يولد الشافعي نفسه، ولم يزد الشافعي _رحمه الله _ إلا أن وضع قواعد أصولية لضبط فهم فروع الشريعة؛ وليس لإعادة إنتاجها من جديد.
وكان لعلم أصول الفقه _ المستند في قواعده على اللغة العربية _ دور كبير في ضبط حركة الاجتهاد، وحماية الشريعة الإسلامية من تحريف المبطلين المتسلقين.
فشحرور يرى: أن أزمة الأمة المعاصرة هي أزمة التمحور حول النص، وأن الحل يكمن في إعادة قراءة النص قراءة معاصرة، وحتى يصل إلى هذه القراءة المعاصرة لا بد من نسف قواعد أصول الفقه التي تشكل حجر عثرة أما م رؤيته، متوهماً أن الشريعة هي وليدة القواعد الأصولية، التي وضعها الإمام الشافعي.
نعود؛ ونؤكد الفكرة التي انطلقنا منها وهي:
أن الشريعة سابقة في الوجود والتطبيق على منهج أصول
الفقه، وليست متولدة منه كما يظن شحرور. فالمنهج الأصولي يكمن دوره في فهم الشريعة، وليس هو المنتج لأحكامها.
فإن الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا يصلون؛ ويصومون؛ ويحجون؛ ويزكون؛ ويتزوجون؛ ويبيعون ممتثلين في كل ذلك أحكام الشريعة الإسلامية، ولم يدون علم أصول الفقه بعد.
الشبهة الثانية: منهج مستورد لقراءة النص:
نتساءل: ما هو المنهج البديل عند المهندس محمد شحرور الذي يريد من خلاله إعادة إنتاج الشريعة الإسلامية من جديد؟ إنه علم اللسانيات، وتاريخانية النص، الذي نشأ في الغرب لأجل حل معضلة التناقض الحاصل بين معطيات العلم المادي الحديث، وبين فهم الكنيسة للنص المقدس.
فإن حالة عدم التسامح بين المذاهب المسيحية في القرون الوسطى، أدت إلى إشعال الحروب الدينية لمئات السنيين في أوروبا.
هذه المأساة حملت كثيرين من فلاسفة الغرب على إعادة قراءة النص المقدس بما يتوافق مع العلم؛ ويوجد القطيعة مع القراءات الكنسية، ورفض احتكار الكنيسة لفهم النص المقدس، التي كانت تتهم كل من يخالفها الرأي بالهرطقة والتجديف.
فلما أرد شحرور أن يقرأ النص قراءة معاصرة، تتمشى مع روح العصر بزعمه.
كان لا بد له من الاستعانة بمنهج معرفي مستورد، يخرج به عن صرامة قواعد أصول الفقه والتفسير، والتي ستدحض كل جديد يأتي به، فاستعاض عنه المنهج اللساني الغربي، الذي أوجده الغرب لتفكيك النص المقدس، عندما وصل إلى المأزق المعرفي بين العلم والنص الديني.
فالإنسان بحاجة للإيمان، ولكن النص المقدس متناقض مع العلم!
ما هو الحل؟ الحل هو التأويل (وهو نقل المعنى المرفوض إلى معنى مقبول) فكان المنهج اللساني الذي يقوم على مسألتين:
تطور دلالة المصطلحات بتطور الزمان والمكان والحضارة.
وبناء على ذلك يمكن أن نجد في كل عصر تفسيراً جديداً للنص، يتوافق مع روح هذا العصر، ولا يكون معارضاً لما فهمه الصحابة والسلف، فما فهمه السلف هو صحيح باعتبار عصرهم، وما نفهمه نحن اليوم هو صحيح باعتبار عصرنا.
وهذا يعني أن لا معنى نهائي للألفاظ، لأن اللغة مثلها مثل المادة هي في حالة تطور مستمر.
وهنا يقوم محمد شحرور بتطبيق وإسقاط النظرية الدارونية الماركسية _ في أصل الأنواع _ على اللغة فيما يسميه الباحثون الأنثروبولوجيا ()
إن عمليـة نقـل وتحويـل هـذا المنهـج اللساني المستورد لحل أزمة النص المقدس في المسيحية، إلـى الدارسـات القرآنيـة، أدت بشـحرور إلـى السـقوط فـي الخطـأ المنهجـي الـذي أشـار إليـه أحـد الباحثيـن بــقوله:
“بلا نـص ولا دلالـة ثابتة لا تفسـير نهائـي للنص، لا تفسـير مفصـل أو موثـوق بـه إنه اللعـب الحـر للغـة، فـكل القـراءات إسـاءة قـراءات، إلـى آخـر تلـك المتاهـات التـي أدخلتنـا فيهـا الحداثـة الغربيــة ومدارســها النقديـة” ()
نتيجة ما جاء به المهندس شحرور:
أنه إذا لم يكن للنصوص معان نهائية، فما حاجتي للإيمان بها أصلاً؟
عند ذلك يكون الكفر بها هو الحل الأمثل! للتعامل مع كلام إله لا يعرف ما يريده منه عباده، ويحمل خطابه لهم في كل عصر وزمان معنى مختلفاً عن الذي قبله، وهكذا لا يثبت النص على معنى، ويصبح التكليف الذي هو جوهر الدين والعبودية ضرباً من العبث.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن العلماء يميزون بين ثلاث دلالات للمفردة القرآنية:
الدلالة الشرعية للمصطلح
والدلالة اللغوية
وهناك الدلالة العرفية.
✱ فالدلالة الشرعية هي ما تدل على مقصود صاحب الوحي من اللفظ.
✱ والدلالة اللغوية هي ما توا ضع عليه أهل اللغة – حين ضبطوا المصطلحات لفهم مراد كلام العرب _ في الزمن الذي نزل به النص.
✱ والدلالة العرفية: وهي التي تخضع للتغير تبعاً لتغير العادات والتقاليد في استخدام الألفاظ ، لتدل على معنى يريده الناس في زمن ما، وهي المتطورة والمتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالناس عرفا لا يسمون السمك لحماً، وإن كان القرآن الكريم سماه (لحماً طريا)
كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة النحل الآية (14)
هذا في حالة عدم انصراف اسم اللحم إلى السمك عرفا ً، فإن حكم الحالف يتبع لقصده، فإن كان خاليا من القصد فتقدم الدلالة العرفية على الدلالة الشرعية.
ولو حصل أن تغيرت الدلالة العرفية، وصار يسمى السمك لحماً، فإن الحكم يتغير.
وهناك حالة ما إذا صرف الاسم إلى غير المسمى الذي أنيط به الحكم، كصرف معنى التصوير _ الذي جاء النهي عنه بأحاديث صحيحة () والذي يتناول الرسم والنحت _ إلى معنى التصوير في هذا العصر، الذي يدخل فيه التصوير الفوتوغرافي.
فإن العلماء الذين جوزوا التصوير الفوتوغرافي قالوا: إن النص المحرم لا يتناوله، لأننا يجب أن نفهم النص في سياقه التاريخي الذي يدل على المعنى المقصود من التصوير؛ هو النحت والرسم في ذلك الوقت، ولا يتناول المعنى العرفي _ في زماننا هذا _ الذي يتناول التصوير عبر آلة التصوير المعروفة الآن.
النتيجة:
إن الخلل المنهجي الذي يلاحظ في العمل الذي قام به شحرور _ في الوصول إلى فروق بين المصطلحات التي اشتغل عليها _ اعتماده اللغة وحدها في استنباط معاني كل الألفاظ التي تعرض لها.
ولم يفرق بين مفهوم اللفظ الذي أعطاه الشرع معنى محدداً، وبين مفهوم اللفظ اللغوي، الذي يمكن أن يستقرأ معناه من معاجم اللغة فقط،
الأمر الذي أوصله إلى تأويلات أبعد ما تكون عن منطق اللغة العربية.
فالألفاظ التي أعطاها القرآن معنى خاصاً بها، يجب الوقوف فيها عند ذلك المعنى والسياق، ولا ينبغي الانسياق في تقمص معانيها المعجمية اللغوية، وتنزيلها مهما بلغت من التكلف والزيغ ( ) .
الشبهة الثالثة: تلفيق شحرور في توظيف منهج اللسانيات :
الخطأ المنهجي الذي وقع فيه شحرور
أنه ألحق الدلالة اللغوية والشرعية بالدلالة العرفية من حيث التطور والتغير في المعنى.
والمسألة الثانية لم يستنسخ شحرور المنهج اللساني بحرفيته، وإنما عمل على توظيفه بطريقة تخدم أفكاره المسبقة، من خلال عمليتي البنيوية والتفكيكية.
وإن غاية البنيوية الحداثية في منهج اللسانيات _ عند الكتاب العرب _ هو فك الارتباط بين الوحي، وبين مراد صاحب الوحي _ وهو الشارع جل جلاله _ ضمن الأوضاع والأساليب اللغوية والحذلقات الكلامية.
وذلك من خلال تفكيك التراكيب اللغوية إلى مفردات، ثم تعبئة هذه المفردات بمعان جديدة من قواميس اللغة التي تحتملها، تؤدي عند إعادة تركيبها إلى اختلاف معنى التراكيب عند تركيبها من جديد.
وهكذا يكون محمد شحرور، قد تجاوز قضية تحريف الرسم القرآني المستحيلة _ بما حفظ الله به هذا القرآن المنزل _ إلى تحريف التفسير والدلالات اللغوية لتراكيب القرآن الكريم وصولاً إلى المعنى الذي يقرر أن يصل له سلفاً.
وبناء عليه لفق المنهج الذي يوصله إلى هذا الهدف.
وهو الوصول بالإسلام إلى فهم متطابق مع تطبيقات الحداثة وفق النموذج الغربي بالتحديد.
على قاعدة كثير من المبتدعة الذين يعتقدون ثم يستدلون.
وهنا يقع شحرور بمطب قاتل آخر؛ وهو تجاوز المنهج الاستنباطي الذي جاء به القرآن الكريم نفسه لفهم مراد الله تعالى.
فهل يعقل أن الوحي الذي جاء بالتبيان لم يزود القارئ المكلف بمنهج معرفي _يفكك من خلاله النص _ ويفهمه على النحو الذي يريده صاحب الوحي الذي أنزله؟
وهنا يأتي السؤال الأساس:
هل فهم البيان الرباني هو على مراد الله تعالى؛ ونحن مكلفون ببلوغ هذا المراد؟
أم على ما يفهمه البشر المكلفون _ من النص _ أياً كان هذا الفهم
هل التزم محمد شحرور بالمنهج اللساني المعلن أم وظفه كمنهج معلن لإخفاء المنهج غير المعلن؟
لا يفترض بالباحث أن يثق بالمنهجية البحثية المعلنة عند كثير من الكتاب.
مثل الحديث عن المنهجية اللسانية، أو القراءة المعاصرة للنص، إذ إن بعضهم يحسب أن هذا فرع تخصصي مع انتشار التخصصات العلمية، ويظن أنها بحق لها قواعدها وضوابطها التي تعاقب عليها جهابذة العلوم والنقاد.
ومع صدمة الحداثة، فإن الحديث عن قراءة معاصرة، يوقع في نفوس كثير من الناس شيئاً من الرهبة، أو الهالة التي تلف كثيراً من التخصصات ت الأكاديمية، مما يرفعها عن البحث والمراجعة فضلاً عن المساءلة والنقد.
على أن الأمر لا يعدو أن تكون المنهجية المعلنة إلا ستاراً، ليعمي به العين الناقدة من النفاذ إلى ما وراء ذلك الإعلان من منظومات خفية غير معلنة.
وعندما مراجعة ما سطره شحرور _ من منهجيته المبتكرة _ كثيراً ما يجد القارئ أن الكاتب نفسه، لا يتحاكم إليها، وإن تحاكم إليها فلا تنتج شيئاً مفيداً.
فماهي إلا مجرد شعارات تحمل من العلوم والمعارف اصطلاحها _ لا مضمونها _ وإن جعجعتها هي المنتج الوحيد لسالكها. وإن الحاكم الأصلي لآراء الكاتب، هي منظومة خفية لم يفصح عنها في منهجه، ولا صرح أنها هي مقصده، مع أنها الأشد تأثيراً وظهوراً في منتجه المعرفي.
وقد تحدث شحرور مراراً عن منهجية يسلكها في كتبه وأخصها المباحث اللغوية لكن الواقع أن كتبه حوت منظومات معرفية خفية، هي الحاكم الأول في ترجيح ما يصل إليه من آراء.
لذلك لا ينبغي الإسراع لتصديق شحرور في المنهجية التي يعلنها لنفسه مراراً، فإن ذلك يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بما سيقوله.
والواقع أن الرجل لا يحتكم إلى أي إطار منهجي معلن، وإنما هو مجرد تلفيق لمنظومات معرفية متنوعة، يؤدي الأخذ بها بعين الاعتبار إلى تفسير ما يقوله شحرور، متى ما اتسق معها.
وبالكشف عنها يمكن للقارئ أن يرصد تحاكمه إليها من كتاب إلى آخر من كتبه.
وعادة ما يجري الحديث عن منظومة واحدة خفية تكون وراء عدم التناقض.
لكننا أمام مجموعة من منظومات متناثرة، تابعة لغيره؛ وليست من ابتكاره.
حاول شحرور تمريرها، لتحكم معاني النصوص التي ينقض عليها بالتأويل.
وقد كفى غيره عناء إثبات: أنها أجنبية عن النصوص نفسها باعترافه: أنه تخلى عن التراث كاملاً، وبدأ من الصفر وإن طريقته جديدة معاصرة.
وتتكاثر المصطلحات في سطوره من صيرورة إلى سيرورة [ ]إلى منع الترادف، ومنع الحشو، والسياق، …… ونحو هذا .
وهي عند التحقيق مجرد ألفاظ لها وقع رنينها في نفس السامع فقط، من دون أن يكون لها أثر موصل إلى مطلوب!
وهي غلاف لتسويغ المنظومات التي يحتكم إليها بطريقة غير واضحة.
تلك المنظومات هي جوهر أطروحته، وما يعلنه _ من لسانيات؛ ونحو هذا_ مجرد عرض.
لذلك فإن الانشغال معه بالبحث في الباب المعلن، هو انشغال بالعرض عن الجوهر وبالهامش عن الأصل الذي يحكم سطوره [].
الشبهة الرابعة: النظرية اللغوية التلفيقية تحت دعوى نفي الترادف:
يعتبر نفي الترادف الأساس المنهجي الأكثر حضوراً في كتب شحرور، ويعتمد عليه بشكل كلي.
إذ يخترق منهجه أفقياً وعمودياً في تحديد معاني الألفاظ.
فالقول: بعدم وجود الترادف في اللغة _ مستندٌ فيه إلى نظرية (أبي علي الفارسي)، والتي اعتمدها (ابن جني وعبد القاهر الجرجاني) في دراسة الشعر الجاهلي _ أدى بشحرور إلى نفي وجوده في القرآن _ بحسب زعمه _ يقول في ذلك:
“التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب.
فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والأولاد غير الأبناء، والفؤاد لا يعني القلب، وللذكر مثل حظ الأنثيين، لا تعني للذكر مثلاً حظ الأنثى” ()
على هذا الأساس، وهو غياب الترادف في اللغة وفي النص القرآني، قعد شحرور لمعان جديدة للكلمات فميز بين “القرآن” والكتاب” والذكر” والفرقان “وأم الكتاب.
مع الإشارة إلى أنّ معنى الترادف الذي يقصده شحرور، هو وجود مفردتين أو أكثر بمعنى واحد.
لكن يظهر تلاعب شحرور في تترسه بقضية نفي الترادف في عدة جوانب:
إن علماء اللغة مختلفون في قضية الترادف بين من يثبته كسيبويه والفيروز آبادي. وبين من ينكره كابن فارس وابن جني والبيضاوي.
_ لكن الاختلاف بين علماء اللغة عائد إلى معنى الترادف. هل الخلاف راجع إلى علاقة الاسم بالوصف؟
وهي مسألة ذكرها ابن فارس في (الصاحبي في فقه اللغة العربية) والغزالي في (المستصفى) وفي (معيار العلم) والفخر الرازي في (لوامع البينٌات في الأسماء والصفات)، فالسيفٌ اسم، والمهند والصارم والبتار هي صفات، لها حيثٌياتها.
فالاسم ما دل على الذات دون معنى زائد .
أما الوصف فهو ما دل على الذات مع زيادةٍ في الوصف.
والاختلاف بين الاسم والأوصاف يقضي بعدم التَّشابُه التَّامَّ في كل الأحوال بين معاني الكلمات التي يقال عنها مترادفة؟
أم هل ما يقال عنه ترادف هو في حقيقته أسماء متعددة لمسمى واحد؟
ولكن كل اسم من هذه الأسماء يعطي معنى زائداً او ناقصاً للمسمى؟
وهذا ما يجعل الخلاف لفظيا:
بين من يجعل الترادف هو تعدد أسماء لمسمى واحد.
وبين من يفرق بين الاسم والصفة، فيكون الاسم واحدا، والصفات متعددة.
وهذا ما ينسف التكأة التي يتعكز عليها شحرور ليمرر منهجه البدعي.
فإن اختلاف مبنى اللفظ يؤدي إلى اختلاف بالمعنى _ من حيث الزيادة فيه أو النقصان منه _ وليس لاختلافه تماماً إلى درجة التباين التام.
فكلمة العشق، والهيام، والغرام، والوجد، وإن كانت ألفاظاً مختلفة، لكنها تؤدي إلى أصل معنى واحد، وهو التعلق العاطفي بالشيء ((الحب))
ويبقى التفاوت في وصف هذا التعلق ودرجته من خلال اختلاف اللفظ المعبر به عنه.
_ وهنا يقول الأستاذ يوسف صيداوي () في ذلك:
إن القراءة المعاصرة (التي جاء بها شحرور) قد تسللت من معنى الترادف، إلى باطل لا علاقة له بالترادف من قريب ولا بعيد.
وذلك أن الأئمة الذين أنكروا الترادف، كأحمد ابن يحيى وابن فارس وأبي هلال العسكري …… لم يزيدوا على أن قالوا ما معناه: إن بين المترادفات فروقاً في الصفات.
والصفة هي زيادة على المعنى الأصلي وليست معنى مستقلا بذاته.
مثال ذلك: أن بين الحسام، والصارم، والمهند، والبتار، والفيصل، فروقاً في الصفات، ولكنها جميعها إنما تدل على تلك الحدة.
ولم يقل أحد من أهل اللغة إن الحسام غير المهند، والمهند غير السيف …… إلخ
أما القراءة المعاصرة التي جاء بها شحرور؛ فقد تسللت من هذا الذي أجمع عليه أئمة اللغة إلى حكم مرتجل لا أصل له!
فقال شحرور: ” الترادف خدعة، والمترادفان متغايران ”
وعليه فإن الكتاب غير القرآن والقرآن شيء، والكتاب شيء آخر، والفرقان شيء ثالث، والذكر رابع، وأم الكتاب شيء سادس، …… وهكذا هات فأساً وخذ قطعاً
وهنا ندرك جوهر التلفيق الذي قام به شحرور.
فأئمة اللغة الذين أنكروا الترادف قالوا: إن بين المترادفات فرقاً في الصفة.
وأما شحرور فقال: إن كلاً من المترادفات يغاير صاحبه‘ فهذا شيء وهذا شيء آخر.
فهل اللغة مجال للعبث واللعب؟ وهل تؤتي البيوت من ظهورها بهذه الطريقة التلفيقية في اللغة؟ () .
الشبهة الخامسة: هل الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية أم مسلمة عقلية :
يعتبر المهندس محمد شحرور “أن قضية الايمان بالله تعالى واليوم الأخر، هي من المسلمات العقلية، وليست حقيقة علمية”.()
وعلى ذلك لا يمكن لقضية الإيمان بالله تعالى دحضها علمياً، ولا يمكن إثباتها علمياً.
ويرى المهندس شحرور: أن قضية الإيمان بالله تعالى يستوي فيها ألبرت أينشتاين العالم الفيزيائي النووي، مع بائع الطعمية البسيط.
مما يعني أن أذكى الفلاسفة والأعرابي البدائي البوال على عقبيه _ في قبول مسألة الإيمان بالله تعالى ورفضها _ سواء.
وبناء عليه يقرر محمد شحرور: أن الملحد الذي لا يؤمن بالله تعالى، لا يسأل يوم القيامة؛ ولا يحاسب على هذا الاختيار العقدي.
وإنما يسأل المجرمون فقط.
وبناء على نظريته في نفي الترادف؛ فإن المجرم غير الملحد() قال تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} سورة القصص الآية (78)
فالمجرمون هم أصحاب النار فقط، وهم من كفر بالله وأساء لخلقه بحسب تعبير شحرور.
لكن لازم كلام المهندس شحرور، يقتضي أن الله تعالى ليس له حجة علمية بالغة على عباده، وبذلك يكون الكافر والمؤمن بالله تعالى سواء!
لكن كيف يستقيم ذلك مع قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) سورة الأنعام الآية (149)
والآيات صريحة، تدلل على أن الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية، لقوله تعالى:
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) سورة محمد الآية (19)
ولم يقل الله تعالى: فسلم بقضية وجود الله تعالى تسليماً.
وإنما كان الأمر أن يسلك مسلك العلم أي إقامة الدليل والبرهان القطعي الدال على هذه الحقيقة الكونية.
وهنا لا بد من تعريف العلم أولاً:
وهو إدراك الحقائق على ما هي عليه بالدليل والبرهان.
والبرهان يمكن أن يكون برهاناً عقلياً كدلالة الالتزام، وبطلان الدور، وبطلان التسلسل، والعلة الغائية للخلق، وعدم وجود التناقض، وقانون السببية.
ويمكن أن تكون البراهين مادية، كالتجريب والملاحظة، والمشاهدة، والإدراك بالحواس.
وبناء على قانون السببية: فإن وجود الله تعالى – مبدعاً خالقاً للوجود – حقيقة علمية، يوجبها العقل، وليست مجرد مسلمة نظرية؛ تقبل الأخذ والرد.
وإلا فكيف يستقيم كلام شحرور مع قوله تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} سورة الإسراء الآية (36)
إلا إذا كان للعلم مفهوم آخر عند شحرور. ()
إن النهي الصريح في هذه الآية الكريمة _ العامة في خطابها؛ الصريحة في دلالتها_ عن اتباع أي قضية، لم يقم عليها الدليل والبرهان العلمي، بما في ذلك قضية الإيمان بالله تعالى.
ماذا نفعل بهذا النص الصريح الواضح مع كلام المهندس شحرور؟
إن مقتضى كلام المهندس شحرور _ مع هذه الآية التي تنهى عن اتباع واقتفاء أي قضية لم يقم عليها البرهان العلمي _يعني أن الله تعالى ينهى عن الإيمان به إلها موجودا، ويجعل من الإيمان به شيئاً محرماً !
طالما أنه مسألة؛ لا يمكن إثباتها علمياً؛ ولا يمكن دحضها علمياً، كما يدعي المهندس شحرور. وهنا نقف
في هذا النص الصريح نجد اجتماع ثلاثة شهود، يشهدون بحقيقة واحدة وهي: وحدانية الله تعالى، ووجوده.
هؤلاء الشهود هم الله تعالى، والملائكة، وأولو العلم.
لكن شهادة الله تعالى هي شهادة ذات لذات.
وشهادة الملائكة هي شهادة معاينة لأنهم يسمعون كلام الله تعالى.
وشهادة أولي العلم هي شهادة استدلال، لأنهم استدلوا بآثاره على صفاته، وبصفاته على وجود ذاته، وليست الشهادة هنا من أهل العلم شهادة معاينة حسية؛ لأنها شهادة بالغيب.
لكن قوة الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، جعلتها وكأنها شهادة عيان، ما ثلة أمامهم؛ لا يمكن لأي عاقل إنكارها.
إن محاولة المهندس محمد شحرور نزع تلازم الإيمان عن العلم محاولة يائسة، ترفضها النصوص القرآنية الصريحة، التي تجعل من الإيمان نتيجة حتمية للبرهان العلمي اليقيني.
ويرفضها العقل المنطقي السليم الذي يوجب وجود الله تعالى بناء على القوانين العقلية التي تثبت مسألة الإيمان بالله تعالى كحقيقة يقينية كبرى.
فالقرآن في جوهره؛ هو ثورة على التقليد الأعمى، وتقديس الموروث الذي كان أهل الجاهلية يعتذرون به للبقاء على كفرهم وشركهم، وهم يعطلون عقولهم.
النتيجة:
إن المؤدى الذي يريد أن ينتهي إليه المهندس محمد شحرور، هو أن الإلحاد والكفر هو وجهة نظر اجتهادية، لا يحمل صاحبها أي مسؤولية أخروية عند الله تعالى، وبذلك يكون مؤدى الكفر والإيمان واحداً _ في مآله الأخروي _ في الثواب والعقاب عند الله تعالى، وبذلك تبطل حكمة الرسالة، ويسقط معنى التكليف من أصله.
الخاتمة والنتائج:
– إن المنهج الذي اعتمده المهندس شحرور -في قراءته المعاصرة، وبخلفيته الفكرية والفلسفية، وبآليته المنهجية الوظيفية – غير قادر على قراءة النص القرآني _ بمفهوم القراءة _ التي يؤسسها القرآن نفسه بأبعاده المقاصدية.
– البحث في الدلالة المعجمية للمفردة القرآنية _ على شكل الألسنية المعاصرة _ غير وافية بهذا الغرض. على اعتبار الاختلاف الجوهري _ الموجود بين النص الأدبي والنص القرآني _ وعلى اعتبار الفرق بين النص ذي المصدر البشري والنص ذي المصدر الرباني الإلهي.
– ما قدمه المهندس شحرور في قراءته المعاصرة _ لم يكن أكثر من تنسيق جديد للتفاسير القرآنية _ على أساس الانتقائية اللغوية لمعني المفردات.
فلم يقدم جديداً غير الشكل، فكانت الأزمة في تلك المقاربات منهجية.
كما هو الشأن في معظم المقاربات التجديدية في الفكر الإسلامي، تهتم بالعناوين والشكل دون الغوص في الإشكال المنهجي.
– تبقى القراءة النسقية، هي القراءة الكفيلة بالوصول إلى كنه معاني القرآن.
– إذ إن اكتشاف أحكام آيات القرآن الكريم وتفصيلها، يتضح من خلال الدراسة البنائية للقرآن الكريم، الذي لا يفصل بين جزئياته وكلياته.
– إن المحاكاة الحرفية التي يقع في مصيدتها كثير من العلمانيين العرب والتقليد المنهجي عند استيرادهم لحركة التنوير الغربي -بنفس التحقيب التاريخي؛ وبنفس الأدوات الاجتهادية؛ والمقاربات الفكرية بين الدين والعلم، -يجعل من رواد حركة التنوير العربي مجرد أتباع حرفيين للغرب، يتكلمون من منطلق الانبهار والانهزام الحضاري.
– من المقرر عند علماء العقيدة: أنه لا يمكن للنص القرآني أن يخالف حقيقة علمية ثابتة، إلا إذا كان النص غير صحيح، أو الحقيقة العلمية لازالت في طور النظرية الظنية، أو أن معنى النص غير صريح، فيقع الخطأ في تفسيره.
مما يجعل المعركة المفترضة عند أصحاب القراءة المعاصرة بين الدين والعلم منتهية.
– لا شك أننا بحاجة إلى القراءة التدبرية للقرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه.
وصحيح أن كثيراً من التفاسير الجديدة تكرر نفسها؛ وتجتر ما مضى من تفاسير وقراءات.
ولكننا بنفس الوقت نحتاج قراءة منضبطة منهجياً مع كليات الدين وأصول الشريعة، وليست القراءة الفوضوية التي تلوي أعناق النصوص، وتؤول المحكمات؛ وتنسف الثوابت؛ وتعطل الفرائض؛ وتستبيح المحرمات .
– القراءة المعاصرة مرحلة تكتيكية للوصول إلى القطيعة مع النص.
ربما لا يدرك المفتونون بأصحاب القراءة المعاصرة _ التأويلية للنص والوحي_
ما هي الفكرة الدافعة لأصحاب هذه الدعوة؟
وما هو هدفهم النهائي، الذي ينطلقون منه؟
وأنا هنا لا أحلل تحليلا.
فقد وجدت حوارات محمومة، بين شباب علمانيين متحمسين، يريدون العبور بالشرق من القرون الوسطى إلى مرحلة عصر الأنوار، والقطيعة مع التراث والنص دون الحاجة إلى المرور بمرحلة الإصلاح الديني، التي يتمسك بها بعض حكماء العلمانية ودهاتها.
والذين يرون أن كل محاولة من المثقفين العرب للقفز على مشكلة التراث _ دون خوض معركتها والحفر فيها _ ستبوء بالإخفاق الذريع.
ولا حل للمشكلة التراثية بزعمهم إلا من خلال خوضها بكل صراحة ووضوح.
فلا يمكن العبور في العالم العربي الذي يعيش بعقلية القرون الوسطى
حسب زعمهم ,, والقفز إلى عصر الأنوار, دون المرور بعصر النهضة والإصلاح الديني .
كما حدث في أوروبا عندما دشن مارتن لو ثر بداية عصر الإصلاح الديني، وقيام حركته الاحتجاجية البروتستانتية.
ومن ثم انتقلت أوروبا إلى عصر الأنوار وصولا إلى العصور الحديثة التي أوجدت القطيعة بها مع الدين والنص المقدس نهائيا.
لهذه الأسباب يرى هذا الفريق من العلمانيين العرب الدهاة: أنه لا مندوحة عن خوض معركة التراث، ولا بد قبل خوضها من تحضير السلاح المناسب لها؛ والأدوات المكافئة للمواجهة.
وهو منهج أبستمولوجي، يخرج بقراءة جديدة للنص تنتهي إلى الالتقاء الكامل مع التطبيقات الغربية للحداثة، من خلال تفكيك بنية النص من داخله، وإعادة تركيب معانيها من جديد.
من هنا كان البحث عن المناهج التي حاكم فلاسفة الغرب من خلالها نصوصهم المقدسة.
وهو منهج اللسانيات وتاريخانية النص (الأنثروبولوجيا) وهو المنهج الذي استورده أركون وشحرور من الغرب، الغرب الذي عاش مأزق لا معقولية النص، ولا تسامحية المعتقدين.
فكان التأويل هو المخرج لعقلنة النص _ وإرساء قواعد التعايش بين المؤمنين، وإيجاد عقد اجتماعي؛ يضمن السلم الأهلي _ والذي خرج بأوروبا من الحروب الدينية المذهبية.
وأراد هؤلاء الوكلاء المستوردون تطبيقه على النص القرآني، بمحاكاة حرفية لما جرى في الغرب.
لذلك يقول أحد كبار العلمانيين ,, هاشم صالح:((ما معنى أن أقول أنا إنسان متحرر تنويري، لا علاقة لي بكل هذا التخلف والتعصب ؟
أنا ضد التراث المكرور والممل، لقد حللت مشكلتي مع الماضوية، وأصبحت ليبراليا أو ماركسيا، أو ملحداً، بل أنا شخص تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة!!
ثم يعلق على هذه المقولة فيقول: هذا هراء ومراهقة فكرية.
ويعتبر كل هذا الكلام بلا معنى، إذا لم نخض معركة الماضي وإزالة الرواسب.
لأنه لا معنى لأن أقول: إن التراث الماضوي لا معنى له، إذا كان ثلاثة أرباع الشعب متعلقين به؛ ويعيشون عليه.))
هنا يقول جماعة القراءة المعاصرة: إنه ينبغي المشي مع الشعوب خطوة خطوة، على طريق التحرير، لكي نصل بهم إلى نهاية المطاف:
وهو التأويل العقلاني للدين، وتصالح الإيمان مع العقلانية ! ()
وهذا ما فعله فلا سفة التنوير في أوروبا، عندما دخلوا الصراع مع الأصوليين المسيحيين، من داخل دائرة النص المقدس وليس من خارجه.
لكن الآن وقد وصلت أوروبا إلى العصور الحديثة، فقد تجاوزت معركة التراث والنص، وانتهت منها، وصارت بالنسبة لها مسألة محسومة مقطوعاً بها.
من هذا الكلام نخلص لعدة استنتاجات:
مدى ما يستبطنه العلمانيون العرب لمعركة العقل والدين، التي وقعت في الغرب بين الفلاسفة والكنيسة، ومحاولة خوضها بحذافيرها في الشرق بين العلم والإسلام على اعتبار أن المسلمين يعيشون في مرحلة القرون الوسطى، وأن مشكلة الشرق هي مع الاسلام، كما كانت مشكلة الغرب مع الكنيسة.
مع أنه لا وجود لمفهوم الكنيسة والسلطة الثيوقراطية عند المسلمين ولا يوجد نص يقيد العقل والبحث والعلم في القرآن الكريم.
إن القراءة المعاصرة للتراث والنص الإلهي _ التي يدخل حلبتها بعض العلمانيين _ هي بالنسبة لهم ليست أكثر من مرحلة انتقالية، وخطوة تكتيكية لهدف استراتيجي، ومرحلة ضرورية، لا بد منها لنقل المجتمعات المسلمة المتعلقة بالتراث إلى عصر الأنوار من خلال تأويل النص، وليس تجاوزه.
لأن تجاوز النص سيثير المجتمعات المسلمة على الحداثيين والتنويريين، ويحول كل جهود التنوير والتحديث إلى هشيم.
مما يؤدي إلى دخولهم في صراع مع المجتمع، ينتهي بكسب الظلاميين والسلفيين للشارع، باعتبارهم حماة الأصالة والهوية هناك، وينتهي الأمر بالنكوص إلى الماضوية من جديد، وإجهاض دعوات التنوير، والإغراق في الظلامية والقرون الوسطى.
والله من وراء القصد
كتبه عباس شريفة
مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام
1 سبتمبر 2018 إستنبول
مزيد من المراجع
كتاب بيضة الديك _ نقد لغوي لكتاب: الكتاب والقرآن ليوسف صيداوي، المطبعة التعاونية. وقد تناول فيه أباطيل شحرور من الناحية اللغوية فقط كمتخصص في اللغة العربية.
(الماركسلامية والقرآن _ أو الباحثون عن عمامة لدارون وماركس وزوجة النعمان _ قراءة في دعوى المعاصرة) للمحامي محمد صياح المعرواي، طبعة المكتب الإسلامي.
(تهافت القراءة المعاصرة) لمنير محمد طاهر الشواف، دار قتيبة للطباعة والنشر.
الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن _ دراسة نقدية لماهر المنجد، دار الفكر المعاصر.
بؤس التلفيق نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سمرين، طبعة مركز دلائل السعودية.
التحريف المعاصر في الدين (مكيد الماركسية والباطنية المعاصرة تحت شعار قراءة معاصرة للنصوص الإسلامية المصادر) للمؤلف عبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم دمشق.
لم يعد خافياً على أحد أنّ منطقتنا العربيّة تمرّ بأصعب مراحلها اليوم، فَبَعد أنْ تكوّنت الجمهوريّات والدول المستقلّة عن وصاية المستعمِر، بُعيد الاستقلال وجلاء المستعمر عن أرضنا العربيّة، دخلت أمّتنا في دوّامة عميقة من التجاذبات السياسيّة في تشكيل ما سُمِّي بالعقد السياسيّ بين السلطة والشعب، والذي انتهت بحكومات سعت لتأبيد السلطة وتوريثها، ونَخَرَ الفساد في كلّ أجهزتها، فلا يحقّ لأحد أن يقول لها: كيف؟ ولماذا؟ ومن أين؟
وجدنا أنفسنا كشعوب عربية في جمهوريّات وراثيّة، وديمقراطيّة شكليّة صوريّة يحصل فيها المرشّح الوحيد على نتيجة تصل إلى 99.99 % ودساتيرَ وهميةٍ، تُفصَّل على مقاس الحاكم وبأمره، وإعلامٍ زائف يعمل على تخدير الشعوب، والتسبيح بحمد الطاغية، ولم تكن محاكم الظَّلَمة تعرف وزنًاً لشيء من القيم السياسيّة، وتوحّشت الأجهزة الأمنيّة في قمع المعارضة، وممارسةِ أبشع صور الإرهاب على الشعوب، ومع هذا كان هناك استقرار أمنيّ نسبيّ دفع ببعضهم إلى أن يقبّلوا أياديهم حمدًا لله على هذه النعمة المسداة من الحاكم، ويطلبوا من الشعب الصبر على ما هم عليه من ظلم وجَور واستبداد، وعاشت الجماهير حِقبة من الزمن تَقْبَل بمقايضة الحريّة مقابل الأمن والحياة، ولم يعلموا أنّ مهادنة الاستبداد السياسيّ هو معركة مؤجّلة توشك أن تنفجر بأية لحظة.
ومع استمرار القمع السياسيّ، والتفقير الاقتصاديّ، وتفشّي الفساد الإداريّ طفح الكيل، وبلغ السيل مبلغه، ليتشكل منه السيل العَرِم الذي كسر سدود الطغيان، بعد أن نفد الصبر والسلوان، ليولد الربيع العربي بشكلٍ لم يكن متوقعاً من مراكز الدراسات والرصد، فكان الخروج الجماعيّ للجماهير للشوارع والهتافات والحراك السلميّ هو سيّد الموقف.
ومن شعار (الشعب يريد) كانت البداية، ولكنْ لم تمرّ شهور حتّى تعثّر الربيع، ودخل في حال من المخاض العَسِر، وبدأ يراوح في عنق الزجاجة، فلم تتوقّف مسبّبات دوافعه التي تُزّكي ضِرامه، ولم تنقضْ موانع تقدّمه التي تكبح جماحه، وأخذت الثورة في بعض الدول تحولاً خطيراً، حيث تمّ أسلمة الثورة، ومن ثَمّة عسكرتها خصوصاً في سوريّة.
واكتشفت الجماهير العربيّة وطليعتها الثوريّة، أنّه لم تُسقط إلّا رأسَ الهرم، من منظومة الاستبداد الذي كان يشكّل الجزء المرئي من جبل الجليد، والذي كان يعيق سفينة الحريّة من الإبحار، لترتطم سفينة ثورتهم بالجزء المخفيّ منه والذي لايزال على حاله، يمعن في منع سفينة الثورة من الإبحار والتقدم، ويتّخذ من الثورة المضادّة أسلوباً لصدّ ثورة الجماهير كما في مصر، وهو الأمر الذي بات يعرف بالثورة المضادّة، ومديرها هي (الدولة العميقة).
إنه لمن المبكّر أن نحكم على الربيع العربيّ بالفشل، أو أن نحكم بانتصار الثورة المضادة، فحركة التاريخ لا تنتهي بهذه السهولة، وتعرّجات الأحداث لا تعطي حكماً نهائياً بدون النظر إلى المسار العام لتلك التعرّجات، فالمواجهة لاتزال في بدايتها والأيام حُبْلى بالمفاجآت.
والشعوب لم تستنفد طاقتها بعدُ.
لكنَّه من المؤكّد أنَّ أحد الأسباب الرئيسة لتعثّر الطليعة الثوريّة، وفي مقدمتها الحركات الإسلاميّة التي تصدّرت المشهد، والتي كانت جزءاً رئيسيّاً منه، هو خطؤها في فهم الواقع الثوريّ، وضعفِ التقدير لمسارات الصراع وخوافيه، لذلك كان عليها أن تتأكّد في مراجعاتها من صحّة فهمها للواقع الثوريّ ومطابقته للحقيقة، وتحديد العوامل التي سارعت لإعادة تشكيل الثورة المضادّة، والتي تسعى لإعادة الشعوب إلى حظيرة الطغيان، بعد أن تنسمت نسائم الحريّة.
كما لا نستطيع أن نجزم بانتهاء الربيع العربيّ وتحوله إلى شتاء قارس، أو أن نسدل الستار عن فصوله تماماً، ونقرّ بعودة الاستبداد كأمر واقع…
لكنّه بالتأكيد في حال تعثّرٍ وتوحّلٍ ومدافعةٍ من قوى السيطرة، ومنظومة الاستبداد والفساد العميقة، الضاربة بأطنابها في مفاصل مؤسّسات الدولة، والتي بات يتعارف عليها بـ (الدولة العميقة).
*****
في هذه الأوراق القليلة لن نحاول الوقوف على كلّ مسبّبات تعثّر الربيع العربيّ التي يطول البحث بها، لكنّنا سنغوص في تجليّة التحدّي الأهمّ الذي وقف أمامه، وهو ما بات يعرف بـ (الدولة العميقة) كأهم أداةٍ ومفاعيلٍ للثورة المضادة، محاولين فهم تركيبتها، ومفاصل سيطرتها، وأركان قوّتها، ونظام حركتها، وسنبحث في أنجعِ سُبُلِ مواجهتها، وإزاحتها تماماً بما تمثله من حائط عثرة، في طريق الحريّة والثورة.
وسنحاول في هذا البحث التأصيل لنظريّة جديدة في الصراع بين الثورة والثورة المضادة، تخرج بنا من الخيارات الكلاسيكيّة المعروفة في المواجهة الصفرية العنيفة، والتي تتردّد بين المدخلِ السياسيّ في المواجهة والمشاركةِ السياسيّة للتغيير والعمقِ الثقافي في معالجة المفاهيم، وبين الخيار العسكري وحمل السلاح للتغيير بالقوة، محاولين الوقوف على خيارات أخرى أكثر نجاعةً وفاعليّة، وأقلَّ كلفة وخسارة في معركتنا المصيريّة، ومفاصلتنا الحدّيّة مع الاستبداد والطغيان السياسي، وفي واقعٍ من التأثير الكبير للنظام العالمي والدور الإقليمي الخارجي في مثل هذه الملفات الحساسة.
مفهوم الدولة العميقة
لابدّ لكلّ باحثٍ من تحديد عنوانِ بحثه، ليكون هو والقارئُ معاً على بصيرة فيما يحتويه البحث ويتضمّنه، ويمتاز به عن غيره، ولكي يعرف الباحث مادةَ ما يبحث فيه، ويبتعدَ عما يكون البحث فيه عبثاً، حائداً عن نقطة البحث، وكذلك يكون القارئ في الوقت نفسه متصوّراً للهدف الذي يبتغيهِ فيهِ.
إنّ مصطلح (الدولة العميقة) المتداول في الأوساط السياسيّة في سياق الصراعات السياسيّة، والصراعات في دول الربيع العربيّ، والتعثّرات التي رافقته، لا ينتمي نظريّاً إلى المدوّنة السياسيّة الأكاديميّة، بقدر انتمائه إلى الممارسة السياسيّة التاريخيّة التي ارتبطت بتاريخ الأمّة التركيّة ومنظمة “أركان كون” التي حمت الأثنيّة التركيّة من الاندثار إبّان حروب الإبادة الصينيّة، فالمصطلح ارتبط عمليّاً بالتاريخ التركيّ الحديث أواخر الدولة العثمانيّة، وتقسيم ما سُمي تركة الرجل المريض بين الدول الاستعماريّة، وبالتالي فهو مرتبط بالجماعات السرّيّة والتنظيمات شبه العسكريّة، على غرار جمعيّات (الاتحاد والترقي) و(تركيّا الفتاة) ثمّ استمرّت استخداماته في سياق الأمّة التركيّة، والدولة الحديثة التي أسّس لها (مصطفى كمال أتاتورك) (أبو الأتراك المُعاصِرِينَ)() ثمّ استحكمت الدولة العميقة بعد انقلاب 1960 وإعدام رئيس الوزراء (عدنان مندريس)()، ثمّ في حقبة حكم (عدنان أفرن) في السبعينيّات، وفي حكم (سليمان ديميريل)، ورئيس الوزراء (تركت أوزال) نهاية الثمانينيّات وبداية التسعينيّات، غير أنّ رئيس الوزراء (رجب طيّب أردوغان) هو أوّل من شهّر بالدولة العميقة في عام 2007، وتصدّى للجنرالات العسكريّة الممثلة للظاهرة إزاحةً وملاحقةً وقضاءً.
وقريب من مصطلح الدولة العميقة مصطلح (الدولة داخل الدولة)، وهو مصطلح بمقدار ما يراه الإسلاميّون مناهضاً للإسلام والهويّة، وخدمة للعلمانيّة واللائكيّة()، يراه اليساريّون مناهضة للعمّال، وإغراقاً في الوطنيّة والقطريّة المناهضة للأمميّة..
الدولة العميقة في تركيّا كانت انعكاساً لسيطرة الجهاز العسكريّ القويّ الخفيّ على عجلة ومفاصل الدولة التركيّة.
وبالمحصّلة فإنّ مصطلح (الدولة العميقة) ليس بالاكتشاف السياسيّ الحديث، فهو متداول في دول الانتقال الديموقراطيّ، سواء في أمريكا اللاتينيّة ما بعد حكم الدكتاتوريّات، أو دول أوربة الشرقيّة المتحرّرة نهاية الثمانينيّات وبداية التسعينيّات.
لكنّ المتداول بين الباحثين أنّ المخابرات الأمريكيّة (سي أي أيه) هي من غرس بذرة (الدولة العميقة) في تركيّا في عام 1952 خوفاً من شبح عودة الخلافة الإسلاميّة.
هذه المقدّمات كانت وراء نزول الجيش التركيّ إلى الشوارع عام 1997، وقرار مجلس الأمن القومي بإقصاء حزب (الرفاه) ذي المرجعيّة الإسلاميّة الذي يتزعمه رئيس الوزراء (نجم الدين أربكان)() وعزله نهائيّاً من الحكم، مع الحَجْرِ السياسيّ.
وإذا كانت الظاهرة التي يُعبر عنها بـ (الدولة العميقة)، شكلاً ومضموناً، قديمة ومستبطنة بالخيال الجمعيّ العام، فإنّ هذا المصطلح لم يعرف الرواج الجماهيريّ الواسع إلا في ظلّ انتفاضات الربيع العربيّ، أو لنقل للتدقيق، في أعقاب بدايات انحسار الربيع العربي وتراجعات مدّه الأول تحت تأثير القوى النافذة التي شكلت فيما بعد بنية الدول العميقة.
ويعبّر مصطلح (الدولة العميقة) عن ذلك التحالف العميق الذي يجمع من بين ظهرانيه بنيات الدولة المختلفة، من مركبٍ إداري وسياسيّ وإعلاميّ، ومؤسّسةٍ عسكريّة واستخبارات، وقضاءٍ ومثقّفين ورجالِ دين وأصحابِ أموال.. يجمعهم جميعاً “رابطة” واحدة منطقها ومؤدّاها: الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصّة، واستثناؤهم من أيّة محاسبة أو مساءلة، ثمّ عدم تعرّضهم لأيّة متابعة قضائيّة إنْ اهتز النظام القائم، أو استجدّت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة.
ويعبر المصطلح أيضاً عن الطبيعة الشبكيّة وليس الهرميّة لهذه الدولة، إذ تبدو هذه الأخيرة على شاكلة بناء شبكي متراصّ، يتكوّن من العناصر الرفيعة في النظام، تجمعُها مصالحُ اقتصاديّة ومشاريعُ تجاريّة وماليّة، وعلاقاتٌ اجتماعيّة وعائليّة، وطقوسٌ احتفاليّة، وانتماءاتٌ طائفيّة وعلاقةُ مصاهرة وممالكُ إعلاميّة وما سواها.
واليوم بات مصطلح (الدولة العميقة) يرتبط بشبكات المصالح المترابطة، بمعنى الدولة فوق الدولة، وليس الدولة ضمن الدولة، بأذرعها السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة والتشريعيّة والقضائيّة والاعلاميّة، والمؤسّسات الدينيّة والتي تصبّ في خدمة ما يعرف بالثوة المضادّة المتصدّية للربيع العربيّ.
إنّ أرباب (الدولة العميقة) في بلدان الربيع العربيّ هم قطعاً بقايا الأنظمة الدكتاتوريّة التي سقطت نظرياً، لكنّها لاتزال تحافظ على مواقعها المتقدّمة والحساسة في الدولة والإدارة، ومازالت تتمتّع بمصادر نفوذها الماليّ والاعلاميّ، وعلاقاتها المحليّة والدوليّة، والتي تتشكل منها الكتلة الحرجة التي تعمل على عرقلة وإجهاض مسارِ الثورةِ السياسيّ، بالتأثير الناعم كما في تونس، أو العنيف كما في مصر، أو على شكل حرب إبادة يُستَقدم لها التدخل العسكري الخارجيّ.
تفكيك الدولة العميقة
لابدّ أنْ ندرك: أنّ (الدولة العميقة) تركيبةٌ معقّدةٌ ومتداخلةٌ أشدُّ ما يكون التداخل، لا تترك مجالاً أو فضاءً (سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو ثقافيّاً أو فنّيّاً أو رياضيّاً) إلا غَزَتْه واكتسحته، لا يفلت من عِقالها إلا زاهدٌ في الدنيا، أو شاردٌ غيرُ مبال، أو محاصرٌ لا قدرة لديه على القول، فما بالك بالفعل المؤثر والمحرك المقلِق.
ولذلك، فإنّ اختراقها أمر يكاد يكون متعذّراً لدرجة الاستحالة؛ بسبب الرابطة المصلحية التي تدفع المنظومة للاستماتة في سبيل حفظ المكتسبات والذود عنها أمام أيِّ خطر محدق، كما أن تفجيرها من الداخل أمر محفوف بالمجازفة وبالمخاطر، إذ قد يتفتّت بجريرتها كيان الدولة، ويعود بالشرخ على المجتمع بالجملة والتفصيل؛ بسبب تجذُّر هذه الشبكة المصلحية في مكونات المجتمع الحامل والحاضن لها، ضمن قطاعات مرتبطة ضرورة بمصالحها مع هذه المنظومة.
فلو سلّمنا مثلاً بإمكانيّة العصف برأس الدولة وحاشيته في انقلاب عسكري، “سلميّ” أو “دمويّ”، فإنّ ذلك لن يؤذي المنظومة، ولا من شأنه أن يقوّض النظام، وذلك لسببين اثنين:
– الأوّل: لأنّ المؤسسة العسكريّة في دول الربيع العربيّ هي أصلاً إفرازُ النظام، وصنيعةُ المنظومة، وهي مكوّن من مكوّنات الشبكة، بل ربما تكون أقوى عناصرِها، حتى وإنْ تصدرت بعد انقلابها واجهة ذات النظام، أو مقدّمة ذات المنظومة فإنها تبقى الممسك الأقوى بتلابيب الدولة ومؤسساتها كإدارة خلفية.
– والثاني: لأنّ عمليّة الانقلاب، أتت من داخل النسق، وليس من خارجه، لذلك فهي لم تلجأ إلى العمليّة الانقلابية إلا بغرض إعادة ضبط إيقاع النسق، بعدما يكون قد أصابها الوَهَن، أو تراجعت الرابطة التي أشرنا إليها من قبلُ، أو اشتدت الطموحات الفرديّة بداخله، أو اضطرت لمثل هذه الحركة تحت تأثير وضغط الشارع، فتأتي مثلُ هذه الحركة ليقتنع الشارع أنه تمَّ تحقيق مطالبه بإسقاط رأس المنظومة.
لذلك فإنّ الانقلاب العسكري هنا ليس انقلاباً على (الدولة العميقة) بحد ذاتها، إنما هو مجرّد إعادة بناءٍ وترتيبٍ لعناصر المنظومة القائمة، لتبقى أقوى وأرسخُ من الوضع الهش الذي قد يتسبب بانهيارها جملة، دون المسّ بطبيعة أركانها ومنهاجها، أو بالوضعيّة الماديّة والاعتباريّة التي يتمتعون بها.
وقد يختلف أمر الانقلاب في حالتي الانتفاضة أو الثورة من حيث الدرجةُ، لكنَّه لا يختلف معهما كثيراً من حيث الطبيعةُ، إذ لو تسنّى لمكون من مكونات (الدولة العميقة) أن يتوارى مؤقّتاً ويبتعد عن المشهد لحين إعادة ترتيب البنية، فإنه سُرْعَان ما يُعِدّ العُدّة للعودة بقوّة أكبر بعد أنْ يكون قد استدرك على مواطن ضعفه بالإحكام:
إمّا من خلال تلغيم “المؤسّسات الجديدة”، وتشديد الخناق عليها إلى حين تهاويها وفشلها في أنْ تُشكِّل بديلاً ناجحاً يرتاح معه المجتمع.
وإمّا عبر القَبول بها كأمر واقع، لكنْ مع عدم الانصياع لقوانينها، والعمل على حصر مفعول هذه الأخيرة في حده الأدنى لا داخلها في حالة من العطالة.
لذلك كان لا بدّ من التفكير الإبداعي في إبداع الحلول والطرائقَ الفاعلةِ في مواجهة وتفكيك هذا الكيان المتصلّب، وقد تكون معركة الوعي هي أكثر الوسائل تأثيراً على المدى الطويل، وبناءُ المنظومة الموازية هو التحدي الأكبر، وتشبيك المصالح الحساسة ضمن منظومة جديدة تشكل البديل الضروري عن الدولة العميقة الفاسدة، لكن تبقى كل هذه الافتراضات بحاجة للبرهان الواقعي في تأمين مساحة للفعل والتطبيق، ففي مثل هذه الحالات لا يمكن أن يكون هناك حلولاً جاهزة ومفصلة للتطبيق المباشر.
الدولة العميقة: المكوّناتُ، واستراتيجيّتها في مواجهة الثورة:
“ليست (الدولة العميقة) دولة داخل الدولة كما يتصور البعض، إنّها الدولة ذاتها، بترتيباتها المؤسّساتيّة، وبتنظيمها العموديّ والأفقيّ، وبأجهزتها في القمع والإكراه، وبأدواتها في التجسّس والتضليل، وبأُطُرها الإعلاميّة والثقافيّة والدينيّة، وشراءِ الذّمم التي تبني لها الشرعيّة وتزيّن لها السلوك”
لم يكن الربيع العربيّ انقلاباً عسكريّاً ولا ثورة دمويّة، قضى بجريرتها بشر، أو دمّر في أعقابها حجر، أو أحرق بسببها شجر…
إنّما كانت انتفاضات جماهيريّة، أخذت شكلَ اعتصامات ضخمة بالميادين والساحات العموميّة، اضطرت رئيساً إلى الهرب، ودفعت آخر إلى الاستقالة، وأدّت بثالث إلى التهلكة بعد كبير مكابرة، وأقصت عن الحكم آخر، بضمانات حصانة ضدّ المتابعة، ودفعت آخر للتحالف مع مليشيا طائفيّة عميلة لدول خارجيّة واستجلاب الاحتلال الخارجي وتعويم الإرهاب، ودفعت هذا الأخير إلى التمسّك بالسلطة، والعمل على أسلمة الانتفاضة ، لوصمها بالإرهاب، ثمّ عسكرتها، لنقل المشكلة من أزمة سياسيّة ـ لا يمكن مواجهتها بدولة فاقدة تماماً للحياة السياسية، مما يجعل ميدان المنازلة ميداناً محسوماً لصالح الثورةـ إلى أزمةِ صراع بين الدولة الشرعيّة والإرهاب، وجَعْلِ الحلّ العسكري هو الحلّ الوحيد؛ لينقل الصراع إلى ساحة المنازلة العسكرية الذي تتفوق بها الدولة على الثورة .. وهكذا…
ومع أنَّ سياق انفجار هذه الانتفاضات كان واحداً، والظروفَ التي أدت إليها متشابهة، فإنّ ما ترتب عنها، على مستوى دور وأداء (الدولة العميقة) لم يختلف كثيراً بين دولة وأخرى، اللهم إلا بالنسبة إلى تونس، حيث أديرت مرحلة ما بعد (الربيع العربيّ) بمرونة وتقديرِ موقف، وبالنسبة إلى ليبيا حيث البلد في شبه حرب أهليّة بين الفصائل والمليشيات، وإعادة إنتاج جيش مدعوم من الدول الوظيفية المعادية للربيع العربيّ، كما في دعم بعض الدول للضابط الليبي (خليفة حفتر)() ضد الثورة
أمّا في سورية فالوضع مختلف تماماً، فقد تحولت لمنطقة استقطاب وصراع محلي ودولي وإقليمي، وشكّل دخول الإرهاب على الخط تحولاً كبير في الملف، وسنأتي على الحالة السورية بتفصيل أكبر في ثنايا البحث.
بقيت إذن حالتا اليمن ومصر، – ففي مصر، بدأت (الدولة العميقة) تشتغل وبقوّة منذ نجاح الرئيس (محمد مرسي)() في الانتخابات، ولربما قبل أنْ يبدأ في مباشرة مهامّه كان قرار الانقلاب قد اتخذ، أي حينما دفع بـ (أحمد شفيق) من لدنْ (الدولة العميقة) ومنظومة النظام لينافسه في انتخابات كان قاب قوسين أو أدنى من كسبها، لولا “وهج الميادين” الذي أضاع عليه بعض آلاف من الأصوات، ليفشل الأسلوب السياسي في تكسير قرون الثورة، ولتبدأ الخطة الموازية من خلال الحملة الإعلامية، والعصيان المدني، وتمرد مؤسسات الدولة على الرئاسة، وصولاً إلى الانقلاب العسكري الدموي .
لا نقاش في أنَّ تحرك 30 يونيو كان حركة احتجاجية واسعة، تدعو إلى تقديم موعد الانتخابات، وتنحِّي الرَّئيس بحجَّة جمع ملايين التَّواقيع، ولكنَّ ذلك لم يجرِ ضدَّ النظام القائم، ولا ضدَّ أجهزة الدولة، بل بمشاركة أغلبيَّة جهاز الدولة في الحشد والتَنظيم والتَّوقيع ضدَّ رئيس الدَّولة المنتَخب. ولا شكَّ في أنَّ بيانات الجيش المصريِّ التي تؤكِّد حماية المتظاهرين كانت في الواقع دعوةً إلى التَّظاهر() وكلُّ هذا قد حدث في نظام حكمٍ أنجزت الثورة إمكانية تغيير رئيسه وبرلمانه بالانتخابات() .
وعلى الرّغم من أنّه لا أحد بمصر كان يزايد على (محمد مرسي)() في الشرعيّة الشعبيّة التي منحته إيّاها صناديق الاقتراع، ولا الشرعيّة الدستوريّة التي اكتسبها بمجرّد أدائه اليمين أمام المحكمة الدستوريّة، فإنّ (الدولة العميقة) لم تغفر له بعض أخطاء الممارسة؛ (بحكم غياب التمرّس)، وبحكم حجم التحديات التي واجهته من دولة شبه مشلولة، ومؤسسات نخر فيها الفساد، فحوّلتها بدهاء منقطع النظير إلى خطايا، ركبت ناصيتها، وأجّجتها، ونفخت فيها من روحها، لتصبّ مباشرة في معين انقلاب عسكريّ، زجَّ برئيس منتخب وبأعوانه وبأعضاء حزبه وبجماعته في غياهب السجون، ودهاليز محاكمات مهينة ومشينة، تصل لحد الهزلية الساخرة، لا تليق بحضارة علّمت الحضارات الأخرى تقنيات التحنيط وفنون الرسم على الصخر.
ومن المفارقات الغريبة أنّ قائد الانقلاب أعلن عن حركته (قلب نظام مرسي) وهو محاط بكلّ مكونات (الدولة العميقة) (وضمنها مؤسّستا: القضاء والأزهر، تحديداً والكنيسة)، ثم تحايل على الشارع، في عمليّة شيطنة إعلاميّة ضخمة لغرمائه، ليصبح بأمر الواقع رئيساً للدولة.. (الدولة العميقة)، بكلّ مكوّناتها الأصلية، المدنيّة والعسكريّة، الدينيّة والدنيويّة على حدّ سواء.
لم ينحصر عنف هذه الدولة، وقد استردّت مشروعيّتها وشرعيّتها وبعضاً من عافيتها، عند هذا الحدّ، بل أمعنت في تدمير كلّ من تجرّأ عليها، وأقصاها من المشهد، فعمدت إلى حلّ جماعة الإخوان المسلمين، ثم صنفتها ضمن (المنظّمات الإرهابيّة)، ثمّ أشارت للقضاء بألا تأخذه رحمةٌ أو لينٌ أو شفقةٌ بأعضائها، في حين أسندت لرجال الدين، ثمّ للإعلام، ثمّ (للمثقفين) مهمّة تشويه صورتها، وتبيان خطرها، ومدى فظاعة ما كانت تراهن عليه أو مقبلةً عليه، في مشهد يوحي كأنّنا إزاء (ثيولوجيا الخلاص)() التي طالما دفع بها المبشرون الإنجيليكانيون.
كلّ أجهزة (الدولة العميقة) انتعشت إذن في ظلّ الوضع الجديد، الأجهزة الخشنة والناعمة سواء بسواء، فسُنّ تقليد من حينه، مفاده: أنّ من لا يساند ما بدر منها، فهو ضدّه؛ أي مناهض له، وبالتالي وجب تصنيفه في خانة الخائن، تماماً كما يصنّف المرء مرتدّاً لمجرّد أنّه نسي الشهادة، أو نسي شروط الدين.
– أمّا في اليمن، حيث الاقتتال على أشُدِّه منذ بداية الحراك أواسط عام 2011، فإنّ الأمر لا يختلف كثيراً عمّا جرى بمصر، اللهمّ إلا تعويض الرئيس بنائب الرئيس، مع تأمين حصانة تامّة للأوّل، والتزام خطيّ من الثاني: بألا يعمد إلى تفعيل المتابعة في حقّ شخص كان رئيسه المباشر، حيناً من الزمن قبل الانتفاضة الشعبيّة، لكنَّ الرئيس صالح عاد ليحرك المليشيات الحوثية، التي انقضت على الشرعية بانقلاب استولى من خلاله على عدن وكثير من المحافظات، مما حمل التحالف العربي على التدخل العسكري لإنقاذ الوضع في اليمن، الذي كلفهم كلفة مالية مرتفعة جداً، إلى أن عاد الرئيس المعزول صالح لينقلب على الحوثيين، الذين لم يجدوا حرجاً من قتله بصورة تنم عن مدى الطُّعَن التي وجهها لهم.
العطب الذي أصاب التجربتين لا يتمثّل فقط في عدم تقدير قوّة (الدولة العميقة) بجهة مهادنتها، ثمّ استيعابها ولو مؤقّتاً، لحين توفير بدائل عنها، بل أيضاً في استفزازها ومواجهتها، والبدء في إجراءات محاسبتها بأفق متابعتها وسحب امتيازاتها.
إنّ الثابت في حال اليمن، إنّما هو بقاء الرئيس (علي عبد الله صالح)() رمز (الدولة العميقة) في المشهد، وعلى رأس حزب أسّسه وحكم البلاد به سنين طويلة، وبقي يديره حتّى وهو مقال ومحصن، بالتالي فإنّ أحد رموز (الدولة العميقة) بقي حيّاً يرزق سياسيّاً، فبات من الطبيعيّ ـ والحال هاته ـ أنْ يحرّك باقي مكوّنات ذات الدولة (من مؤسّسة عسكريّة، وبيروقراطيّة إداريّة ومؤسّسة قضائيّة، ووسائل إعلام، ومثقّفين وما سواهم، وحتى الاعتماد على مليشيات الحوثي() الطائفية التي تشكل الذراع الإيراني في اليمن) لإعاقة أداء (النظام الجديد)، أو للضغط عليه، أو للتشويش عليه وصولاً إلى الانقلاب على العملية السياسية، واحتلال الحوثي لصنعاء بدعم إيراني وتماهي من القاعدة مما أجبر السعودية والتحالف العربي على خوض معركة عاصفة الحزم التي لم تؤدِّ نتيجتها إلى الآن رغم الكلفة المالية الكبيرة؛ لذلك تركت (الدولة العميقة) في اليمن الدولة المركزيّة تتهاوى، وهيبتها تتلاشى وتتوارى أمام عبث المليشيّات من كلّ حَدَب وصَوْب، وعَجْزِ رئيس يضغط عليه من فوق، من لدن أحزاب ومجموعات مسلّحة، ومن تحت من لدن (دولة عميقة)، لا تزال العديد من خيوط اللعبة بين يديها.
هذان النموذجان (أنموذج مصر وأنموذج اليمن) إنّما يبيّنان بقوّة مخاض انتقال دول وشعوب من حال نظام تمّت الانتفاضة عليه، إلى حال نظام تمّ القبول به بالصناديق، أو تمّ التوافق بشأنه، على الأقلّ إلى حين انصرام القديم وتجذّر الجديد.
ويبدو من الحالين معاً أنّ ذهاب رأس النظام، لا يعني بالضرورة ذهاب المنظومة، كليّاً أو بعض مكوّناتها، إذ هي (أعني المنظومة) ليست ظاهرة ماديّة تنتفي بانتفاء بُعدها الماديّ، إنّها حال سيكولوجية ()، ثقافيّة ونفسيّة، تخضع في جزء كبير منها لمتلازمة ستوكهولم ()، حيث يتحوّل الحقد المطلق على الجلاد وبيده السوط، إلى تعاطف معه عندما يغدو عديم الحيلة.
ويبدو لأنّ العطب الذي أصاب التجربتين، لا يتمثّل فقط في عدم تقدير قوّة (الدولة العميقة) بجهة مهادنتها، ثمّ استيعابها ولو مؤقّتاً، لحين توفير بدائل عنها، بل أيضاً في استفزازها ومواجهتها والبدء في إجراءات محاسبتها بأفق متابعتها، وسحب امتيازاتها من تحت أقدامها.
ولعلّ تجربة الجزائر في هذا الباب مفيدة ومليئة بالعبر، إذ لم يعمد الرئيس (بوتفليقة)()إلى مواجهة المؤسّسة العسكريّة – وهو أحد مؤسّسيها زمن بومدين- بل عمد إلى مهادنتها ومجاراتها، من خلال تعويض رموزها الكبار بالتدريج ودونما إهانتهم، فضمن مساندتها لدرجة ذهبت لحدّ تزكيته رئيساً وهو مقعد على كرسيّ متحرّك.
استراتيجيّة (الدولة العميقة) في صناعة الثورة المضادّة
مفهوم الثورة المضادّة:
إذا كانت الثورة هي التمرّد الشعبيّ على السلطة المستبدّة، فإنّ الثورة المضادّة -كما جرى تحديدها وممارستها-هي التمرّد (الذي يُدعم بفئات شعبيّة، أو عبر انقلاب عسكريّ) على سلطة شعبيّة شرعية منتخبة تحمل أهداف الثورة.
الفرق القانوني والتشابه الأداتي بين الثورة والثورة المضادة
«بثورة الشعب، لا نقصد شيئاً آخر سوى أنّ الشعب يسعى، من خلال العنف durch Gewalt ، إلى أن يتنعَّم بحقوقه في صيرورته راشداً، وأن ينقض الروابط القانونية الموجودة بينه وبين ذوي الامتيازات. إنّ التعريف، الذي قدمناه في السابق حول ماهية الثورة،
هو كونها عبارة عن انقلاب في التشكيلة القانونية الأساسية للدولة der Grundverfassung eines Staats sei. إذا قمنا، الآن،
بتحديدها بدقة، بأن نأخذ في الاعتبار، أيضاً، صاحب هذه الثورة، ينبغي أن يكون تحوُّل التشكيلة، إذاً، في صالح أولئك الذين يثورون.
ولا هدف لثورة الشعب سوى تعديل التشكيلة القانونية الأساسية لفائدة الشعب. ينبغي، في هذه النقطة بالضبط، التمييز بين ثورة
الشعب Revolution des Volks وبين الثورة التي تندلع بوساطة الشعب vermittelst des Volks. في هذه الحالة الأخيرة، يمكن للشعب أن ينتفض على حسابه، عن جهلٍ، أو لأنّه مخدوع. ولا يمكننا القول إنّ هذا الشعب قام بثورة، بل كان، فحسب، مُستخدَماً
لإنجاز هذه الثورة das Volk ließ sich zu einer Revolution gebrauchen. لنحترس، أيضاً، من الخلط بين ثورة الشعب، الذي يسعى إلى تعديلٍ في الحقوق الدستوريّة للشعب، وبين العصيان Rebellion ، الذي نرفض فيه الرضوخ للزعماء دون السعي إلى تغيير الحكومة، أو ـ أيضاً ـ بين التمرُّد Insurrektion ، الذي نسعى فيه إلى نقض الحقوق القسرية، أو التصرُّفات والمزاعم الحكومية بحكم أنه، في حالة الثورة، يُستبعَد اللجوء إلى الحق الموجود، الذي يُعارض كلّ ثورة، لكن يعترف بالأخلاق مرجعيةً عُليا die Moral als diehöchste Instanz ( يرضخ لها وحدها، فإنّ ثورة الشعب ليست شيئاً يمكن الحسم فيه على المستوى القانوني. في المقابل، كلّ ثورة هي تحت وازع الأخلاق، عندما تكون الوسيلة الوحيدة في الظفر بالحقوق.
استراتيجية عمل الثورة المضادة
وتقوم استراتيجية (الدولة العميقة) من خلال أداته (الثورة المضادّة) باحتضان الثورة، ومحاولة الاحتواء لها والتوقّف عن نقدها، بل والدفع للتغلغل في صفوفها، وحمل شعاراتها وأهدافها لِيَتمّ استعمال نفس الشعارات والأسلوب في الالتفاف على الثورة وإجهاضها من جديد.
ومن ثَمّ الانسحاب من السلطة، وترك المفاصل الهشّة -الرئاسة، الحكومة، البرلمان-فيها ليصل إليها الثوّار مع الإمساك بمفاصل السلطة الصلبة -الجيش، الأمن، الاقتصاد، الإعلام، القضاء-ثُمّ العمل من خلال استغلال وجود الخلايا المتحكّمة في المفاصل الصلبة للسلطة على إفشال تجربة الحكم لقوى الثورة من خلال العصيان، وإدخال مؤسّسات الدولة في حال من التعطيل.
هذا سيُولّد وضعاً من السَخَط الشعبيّ، بسبب دخول مؤسّسات الدولة في الفساد والتعطيل، ليبدأ الإعلام دوره في التحشيد، وتسليط الضوء على حال الفشل الإداريّ للدولة، ليتمّ زجّ الجماهير في مظاهرة شعبيّة تسقط الثورة بنفس المنطق الذي أسقطت الثورة فيه الأنظمة الاستبداديّة، وهنا يتمّ تصنيع الرمز المخلِّص والمُلهَم من بقايا الأنظمة البائدة، ليقود قاطرة الثورة المضادّة، ويعيدها للحكم، ولتعود الثورة المضادّة إلى الحكم من النافذة، بعد أن خرجت من الباب، وهنا لابدّ من إتمام المشهد بمباركة المؤسّسات الدينيّة، وهذا السيناريو كان واضحاً في كلٍّ من مصر وليبيا واليمن وتونس، وإن أخذ في بعضها مسالك عنيفة أكثر من بعض.
أدوات الثورة المضادة
تمتلك الثورة المضادّة بشكل عام من القدرات المؤسّساتيّة أضعاف ما تمتلكه الثورة، ولذلك يكون لها غالبًا اليد العليا في هذا الصراع، في حال لم تتمكن الثورة من الاستيلاء على هذه المؤسّسات أو تحييدها أو تدميرها، أو إنْ لم تتمكن من إنشاء مؤسّسات موازية قويّة، ومن هذه المؤسسات الفاعلة:
1-الجيش والأجهزة الأمنيّة:
يُعتبر الجيش أكثر المؤسّسات مرجعيّة في أيّة دولة.
يقوم الجيش على نظام ( السمع الطاعة) و(تنفيذ الأوامر دون اعتراض )، وبطبيعة الحال لا يحبّ أيٌّ من رجالات النظام القديم أنْ يسيطر على السلطة نظامٌ جديد، قد يهدد مصالحهم بشكلٍ مُباشر، ويكون من الواجب عليه إطاعة (أوامره) وتنفيذُها خصوصاً ما يستهدف مصالحه بشكل مباشر.
الجانب الآخر من هذه النقطة: أنَّه في الدول صاحبة التجارب الديكتاتوريّة -والتي عادةً ما تقوم فيها الثورات-يُعيِّن الديكتاتور أو النظام الحاكم الديكتاتوريّ فيها رجالاتُ الجيش بناءً على هواه، باعتباره القوّة الوحيدة التي يستطيع أن يعتمد عليها دوماً.
كذلك الأجهزة الأمنيّة -الشرطة وأجهزتها المتعدّدة-هي المنوط بها حماية الأنظمة القديمة، وتكون الأجهزة الأمنيّة في جميع الثورات هي الأجهزة التي تشتبك مع الثوّار، وتقوم بتصفيتهم، لصالح النظام القديم. وفي نظام مثل النظام السوري، يعمد النظام إلى تغليب اللون الطائفي على الجيش بحيث تكون بنية الجيش الأساسية من طائفة واحدة يضمن ولاءها، ويستطيع أن يحرك هذه الكتلة ضد الشعب من خلال التغذية الطائفية، في قمعِ أيِّ ثورة يمكن أن تتحرك ضد النظام
أما في الحالة المصرية فالجيش مشتبك اشتباكاً وثيقاً مع شبكات المصالح ورجال الأعمال، وتحول الكثير منهم إلى مستثمرين وملاك عقارات، وصار موقف كبار الضباط من أيّ ثورة هو موقفٌ منطلقٌ من مبدأ الحفاظ على مصالحهم المرهونة باستمرار منظومة الفساد والحفاظ عليها.
ويبقى جوهر وأُسُّ الخلل ـ الذي يمنع الجيش من الانحياز لثورة الشعوب المظلومة ـ طبيعةُ العقيدة القتالية التي يحملها الجيش، والحسُّ الوطني الذي يجعل من ولاء أفراده للدولة ومؤسساتها وللوطن ومكوناته، وليس للسلطة التي تختزل الوطن بمجموعة من الأفراد، إن الوضع التأسيسي للجيوش في الدول العربية عموماً، يحكم عليها أنّها جيوش ـ في أصل نشأتهاـ تأسست على عقيدة الدفاع عن الحاكم الفرد الرمز، والحاكمُ هو ابن المؤسسة العسكرية في الغالب، مما يجعل وصف هذه الجيوش أقرب للميليشيات المسلحة منها إلى الجيش الوطني.
2-القضاء:
لا يتمتع القضاء في الدول الديكتاتورية بأدنى درجات الاستقلالية، من حيث أنَّه خاضع للمؤسسة الأمنية، وتابع في هيكلته للسلطة التنفيذية تحت ما يسمى وزارة العدل، ولا يتمتع كذلك بالنزاهة، فهو أداة بيد السلطة القهرية لتجريم المعارضة السياسية، وحماية الموالين للسلطة القهرية من المحاسبة، ومنحهم الحصانة من أيِّ مسائلةٍ قانونيةٍ مهما بلغت جرائمهم، ناهيك أنه مرتع للفساد والرشوة والمحسوبية، ويمكن للقضاء أن يساعد الثورة المضادة كثيرًا.
ففي الدّول ذات التجارب الديكتاتوريّة غالبًا ما يتمّ اختراق القضاء لصالح النظام الحاكم، والقضاءُ يستطيع أن يعطيكَ أحكامًا خاصَّة لمعارضيك، وللنشطاء السياسيين والثوار، وفي بعض الدول أيضًا لا يتمّ تقنين القضاء العسكريّ فيتم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكريّ. وغالباً ما تكون أقبية الأمن والاستخبارات تُمارس التعذيب والتصفية الجسدية بعيداً عن عين القضاء، وكثير من الموقوفين السياسيين تتجاوز مدة اعتقالهم الفترة القانونية دون إحالتهم على القضاء، مما يعكس الطبيعة البوليسية للأنظمة الاستبدادية، التي تمارس كل أنواع الإرهاب والقتل بعيداً عن عين الإعلام ورقابة القضاء الصوري أصلاً.
3-طبقة رجال الأعمال والمُنتفعين من النظام القديم:
استطاعت الأنظمة المستبدة أن تبني حولها دوائرَ من الفساد، الذي يحمي النظامُ من خلالها نفسَه، ومن هذه الدوائر طبقة رجال الأعمال المتحالفة مع السلطة، بعدما قام بتصفية كلِّ الطبقة الرأسمالية، التي لا تدخل في دائرة الخضوع له، كما تشكلت حالة من تحالف السلطة والمال بأقذر صورها لتعبر عن مُرَكَّب متحالف من ليبرالية اقتصادية فاسدة مع دكتاتورية سياسية غاشمة.
وتنحو أغلب الأنظمة السيئة إلى تكوين ما يمكن تسميته بـ (طَبَقَة) جديدة من رجال الأعمال، وأصحاب المحسوبيّة، والمنتفعين من النَّظام القائم، ما يعني: أنَّ سقوط هذا النظام سيكون مسألةَ حياةٍ أو موتٍ بالنسبة إلى هذه الطبقة وهؤلاء المنتفعين. لذلك لم تجد هذه الطبقة بُدّاً من الاصطفاف مع النظم الاستبدادية ضد ثورات الربيع العربي؛ لتحافظ على مكتسباتها، التي جنتها من تمرير القوانين الخاصة لصالح استثمارات هذه الطبقة، مما دفع رجال الأعمال إلى ضخ كمية كبيرة من الأموال في سبيل التصدي لثورات الحرية والربيع العربي؛ للحفاظ على ثروتها التي حصلت عليها من ثغرات الفساد في هذه الأنظمة، مدفوعةً للمحافظة على الذات أمام الخطر الوجودي؛ بسبب ترابط هذه الطبقة مع النظام الديكتاتوري ما يعني السقوطَ بسقوطه، والبقاءَ ببقائه.
4-الإعلام:
الإعلام يُمثِّل سلاحًا قويّاً بنفس قُوَّة الدبّابة أو السلاح.
ويستطيع الإعلام أنْ يحشد التأييد الشعبي للثورة المضادّة، باعتبارها (استكمالًا للثورة الحقيقيّة) بسهولةٍ بعد عدّة تكتيكات، ووضع استراتيجيّات إعلاميّة معيَّنة، خصوصاً إنْ علمنا أنّ أغلب القنوات الإعلاميّة مملوكةً لرجال الأعمال المتحالفة مع النظم الحاكمة، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الجيوش الالكترونية، التي تغزو الميديا بحالة أشبه ما تكون بالذباب الالكتروني الذي يعمل وفق غرفة عمليات مسيطرة، تديرها المخابرات التابعة للأنظمة عبر مواقع التويتر والفيس بوك، والتي تعاملت بعدة استراتيجيات، ومنها كان اختراق الثورة والطعن في رجالها ومؤسساتها ورموزها باسم الثورة نفسها إظهاراً للغيرة وممارسة للنقد، وكان الهدف من وراء ذلك هو التسقيط وهذا الفخ انْجرَّ فيه الكثير من الثوار الحقيقيين.
ومن خلال حَمْل هذه المعرفات لإشارات وبروفيلات تعبر عن التنظيمات الإسلامية المتشددة، لتقوم هذه المواقع بالطعن في الثورة، من خلال خطاب إسلامي تكفيري، قد يحمل الكثير من شباب الثورة للانجرار وراء هذه الموجات البصرية والسمعية، التي تسلب التركيز أمام طغيان الصورة.
في هذا البحث نتحدث عن تلك الاستراتيجيات الـعشرة التي يسلكها الإعلام للإلهاء والتحكم في الشعوب، ونعتمد بشكل أساسي على مقال نعوم تشومسكي في هذا الصدد. والتي مارس الإعلامي الحكومي في دول الربيع العربي الكثير منها في مواجهة الحراك الثوري.
1-استراتيجية الإلهاء:
(حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، وألهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً دون أن يكون لديه أيَّ وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى.) مقتطف وثيقة (أسلحة صامتة من أجل خوض حروب هادئة).
ويقول (تشومسكي): أنّ عنصرًا أساسيًا في التحكم الاجتماعي، هو إلهاء انتباه العامة للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصديرِ كَمٍ كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وتتضمن تلك الاستراتيجية أيضاً منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية.
وبذلك يتأكد: أنَّ سلاح الجهل هو السلاح الناجع في تطويع الشعوب للأنظمة الاستبدادية، من خلال احتكار وسائل المعرفة بتمرير ما يريده النظام، وتشويهِ أو حجب ما لا يريد.
2-خلق المشكلة ووفر الحل:
تستخدم هذه الاستراتيجية عندما يريد مَنْ هُم في السلطة أنْ يمرروا قراراتٍ معينةً، قد لا تحظى بالقبول الشعبي إلا في حضور الأزمة، التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات لحل الأزمة، وتعرف بطريقة (المشكلة – رد الفعل – الحل) من خلال اختلاق موقف أو مشكلة يستدعي رد فعل الجمهور فعلى سبيل المثال: دع العنف ينتشر في المناطق الحضارية، أو قم بالتحضير لهجمات دموية، مما يجعل الجمهور هو الذي يطالب السلطة باتخاذ إجراءات وقوانين وسياسات أمنية تَحُد من حريته، أو اخْتَلِق أزمةً اقتصادية للقبول بحلٍّ ضروري، يجعل الناس يغضون الطرف عن حقوقهم الاجتماعية والسياسية وتردي الخدمات العامة باعتبار ذلك الحل (شرٌّ لابد منه).
وهكذا يقوم النظام بابتزاز الشعوب ومساومتهم على الحرية السياسية مقابل الأمن، وعلى الحقوق السياسية مقابل الخبز، مع أنَّ الأزمة الأمنية والاقتصادية هي من افتعال الأنظمة القهرية.
3-التدرج:
لتحقيق ما يمكن قبوله من تدابير عليك، يمكنك تقبله تدريجياً قطرة بقطرة، فخلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تم فرض عدد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمختلفة جذرياً عن سابقتها تدريجياً، وأدت إلى ازدياد نسبة البطالة، ومرتبات غير لائقة، وعدم الاستقرار، واللامركزية والتوسع في الخصخصة، ونقل الملكيات من إدارة لأخرى، والعديد من التغييرات الجذرية التي كانت ستتسبب في ثورة لو تمّ تطبيقها دفعة واحدة.
وهذا نلاحظه في سياسية الأنظمة في قضية رفع الأسعار وزيادة الضرائب.
4-التأجيل:
واحد من الطرق التي يتم استخدامها لتمرير قرار غير مقبول شعبياً، هو تقديمه على أنّه (موجع ولكنه ضروري)، فمِنَ الأسهل أنْ يتقبل العامة قراراً مستقبلياً على أن يتقبلوا قرارًا فوريًا، وذلك لأنّ المجهود المطلوب من العامة لن يتم بذلك بشكل فوري، كما أنّ هناك اتجاه عام لديهم بأن (المستقبل دائماً أفضل) ومن الممكن أن نتجنب التضحية المطلوبة، وهذا يعطي مزيدًا من الوقت للعامة كي يتأقلموا مع القرار وقبوله حتى يحين وقت تنفيذه. وهكذا يتم تخفيف الألم من خلال التمني وانتظار مستقبل مشرق وأفضل.
وهكذا تتم عملية الترحيل لقرار الانفجار، مِنْ وقْع الضغط تحت أُمْنِية: أنّ المستقبل أفضل، ولا يدري الشعب المقهور أن المستقبل الأفضل يصنعه الشعب الحرُّ، وليس السلطة القهرية المستبدة الفاسدة.
5-خاطب العامة كأنهم «أطفال»:
(إذا تمَّ التوجه إلى شخص ما كما لو أنه لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلاً كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر، من المحتمل، إذن، أن تكون إجابته التلقائية أو ردُّ فعله مُفرَغَةً من أيِّ حسٍّ نقدي، كما لو أنّه صادرٌ فعلاً عن طفل ذي اثنتي عشرة سنة.) – دليل (أسلحة صامتة من أجل خوض حروب هادئة).
دائماً ما تستخدم معظم الإعلانات الدعائية الموجَّهة لعامة الشعب ـ خطباً وحججاً وشخصياتٍ ـ نبرةً طفولية ضحلة وسطحية، كما لو كان المشاهدُ طفلًا صغيراً أو معاقًا ذهنياً. وقد شكلت قناة الدنيا السورية مثالاً صارخاً لهذا لنوع من الخطاب الذي يجيب عن الأسئلة العميقة بأجوبة طفولية ساذجة.
وقد سمعنا كثيراً من مثقفين ومشايخ عندما تواجهه بفساد قرارات السلطة جوابُهم: أنّ أولياء الأمور أعلم وأدرى، وأنّ الشعوب عاطفية والشارع يتحرك باللاوعي.
6-استخدم الجانب العاطفي بدلاً من الجانب التأملي:
استخدام الجانب العاطفي هو أسلوب كلاسيكي للقفز على التحليل المنطقي والحس النقدي للأفراد بشكل عام، فاستخدام الجانب العاطفي يفتح المجال للعقل الباطني اللاواعي لغرس الأفكارِ والرغبات والمخاوف والقلق والحضِّ على القيام بسلوكيات معينة. وقد حاول الرئيس المصري حسني مبارك استعمال هذه اللغة في خطاباته للشعب المصري بداية الاحتجاجات عندما بدأ الحديث في خطابه عن تاريخه في خدمة وطنه وعن أمنيته أن يموت على ثراه.
7-إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء:
(يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدّنيا، رديئة بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة) – دليل (الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة)
وبذلك يصبح المجتمع عاجزًا عن فهم التقنيات والأساليب المُستخدمة للسيطرة عليه واستعباده من قِبَل مَنْ هُمْ في السلطة. لذلك تحرص كل الأنظمة الاستبدادية على مضمون معرفي هزيل في الإعلام؛ لأنَّ تنامي أيَّ حالةِ وعي عند الشعوب ستؤدي لرفع سقف الطموح والمطالبة بالحقوق وستكون منذِرَة بانفجار ثورة شعبية عند أدنى شرارة تشعلها.
8-تشجيع العامة على الرضا بجهلهم:
تشجيع الجمهور على أنه من الطبيعي والمألوف أنْ يكونوا جهلةً وأغبياء وغيرَ متعلمين، (القيادة أعلم، القيادة أحكم). وهكذا يتم التعامل بين الحكومة والشعب على قاعدة الشيخ والمريد، والطاعة والتسليم للشيخ؛ لأنه يعلم أكثر من المريد، وربما يكون الأمر بإضفاء صفات فوق البشرية في الحكام الطغاة، وأنهم معدن مختلف عن البشر، كما كنا نسمع المبالغات في عبد الناصر وصدام حسين، والأسد، إلى درجة تصل بهم إلى الألوهية.
9-تحويل التمرد الشعبي إلى شعور ذاتي بالذنب:
من خلال جَعْل كل فرد يشعر بأنه السبب في تعاسته وسوء حظه، وذلك بسبب قصور تفكيره وذكائه، وضعف قدراته، وقلة الجهود المبذولة من جانبه، وهكذا بدلاً من أن يتمرد ضد النظام، ينغمس في الشعور بالتدني الذاتي، الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أي محاولة للفعل لديه، وهكذا يتم تحميل الثوار المسؤولية في تخريب الأوطان، وتهجير الإنسان، والقتل، والإرهاب ليقال لهم: (لولا ثورتكم لما وصلنا إلى هنا، وأن الحاكم كان يسير بمسيرة الإصلاح، لكن تمردكم أوقف مسيرة إصلاحه).
10-معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم:
أدى التقدم العلمي المتسارع، الذي شهدته الـ50 عاماً الأخيرة، إلى توسيع الفجوة بين المعرفة العامة والمعرفة التي تمتلكها النخب الحاكمة، فبفضل علوم الأحياء والأعصاب وعلم النفس التطبيقي، تمكن (النظام) من معرفة الكائن البشري جسدياً ونفسياً، فالنظام يستطيع معرفة الشخص العادي بشكل أفضل مما يعرف هو نفسُه، وهذا يعني أنّ النظام، في أغلب الحالات، هو الذي يملك أكبرَ قدْر من السيطرة والسلطة على الأفراد أكثر من الأفراد أنفسهم.
وهكذا استطاعت بعض الأنظمة من خلال الدراسات الاستخباراتية عن الأشخاص أن تتعامل معهم في ثورات الربيع العربي.
5-لا بدَّ من قائدٍ مُلهم:
تحبّ الجماهير دومًا الحديث عن قائد مُلهم، زعيم، مُخلِّص، يحمل عنها أعباءها ومشكلاتها.
إحدى تقنيّات الثورات المضادة أن يبزغ نجم أحد رموز النظام القديم، من الدرجة الثانية أو الثالثة، ويتمّ تلميعه إعلاميًّا، وتكريسه كبطل يستطيع القيام بمهام غير طبيعيّة، ويمكن مثلًا الحديث عن الجنرال (عبد الفتاح السّيسي) في مصر، و(خليفة حفتر) في ليبيا.
كشخصيات يتم تلميعها ودفعها من رحم الثورة المضادة، وفلول الأنظمة الساقطة؛ لاختراق الثورة، أو جذب بعض الأفراد؛ لتحويلهم من صف الثورة إلى صف الثورة المضادة.
6-الفوضى
بطبيعة الحال تمرُّ البلاد بعدَ أيّة ثورة بحالات من الفوضى، وانعدام الأمن بشكلٍ أو بآخر، يظلّ الاختبار الأمني أحد أبرز الاختبارات التي تواجهها الثورات. مع سعي الثورة المضادة إلى زعزعة فترة وصول شرائح الثورة للسلطة لتساعد على تأليب الشعوب ضدها.
وهي نفس الاستراتيجية التي يتكلم فيها ميكافيلي في كتابه الأمير عن الثورة وكيف يواجه المستبد شعبه عندما يثور عليه، وهي خطة تقوم على (التخلي عن الأطراف والإمساك بالمركز) وترك مكونات الثورة تخوض الفوضى العارمة في مناطق سيطرتها، الأمر الذي سيجعل الحاضنة تنفض مما يسهل على النظام إعادة السيطرة عليها، وإعادة اخضاعها لسلطة المركز بسهولة، وربما تسهم أجهزة الاستخبارات للأنظمة القهرية بِدَسِّ عناصر التخريب، وإشاعة الفوضى بين الثوار؛ لخلق هذا المشهد على شكل مجموعات من اللصوص لتشويه سمعة الثوار، أو مجموعات من المتطرفين لتأليب الرأي العام العالمي على الثورة، وهي نفس الاستراتيجية التي انتهجتها أجهزة الأمن الجزائرية (إبان العشرية السوداء) بعد وصول جبهة الإنقاذ إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وانقلاب الجيش على العملية الديمقراطية، وهي نفس الاستراتيجية الذي ينتهجها نظام الأسد اليوم في سورية.
7_ المؤسسات الدينيّة:
شكلت غالب المؤسسات الدينية الرسمية: (من الإفتاء إلى الأوقاف إلى المدارس وكليات الشريعة) منظوماتٍ داخل منظومة الدولة العميقة، ووُظّف الخطاب الديني من أجل مواجهة ثورات الربيع العربيّ، وبدأت موجة من الفتاوى التي تحرّم الخروج على الحاكم المسلم.
ثمّ لمّا تغلبت الثورة المضادّة، نادت هذه الأصوات نفسها بضرورة طاعة وليّ الأمر المتغلّب، وكانت المؤسّسات الدينيّة -تحديداً في مصر-لعبت أسوأ دور ضدّ الثورة، ومنذ اليوم الأوّل، سواء المؤسّسة الدينيّة الإسلاميّة أو المسيحيّة، فكانت فتاوى (أحمد الطيّب) (شيخ الأزهر)، و(علي جمعة) مفتي الجمهوريّة، من اليوم الأوّل ضدّ الثورة، وكان لـ (علي جمعة)() فتوى شهيرة يوم 11 فبراير: بأنّه لا يجوز الخروج في المظاهرات، درءاً للفتنة، فالمؤسّسة الدينيّة لم تكن محايدة..
وكان (علي جمعة) مفتي مصر، و(الطيب) قد باركا انقلاب (السيسي)، ودعا (علي جمعة) (عبدَ الفتّاح السّيسي) إلى أن “يضرب بيد من حديد”.
وكذلك أفتى (ربيع المدخليّ)() لجماعته السلفيّة المدخليّة في ليبيا: أن يحملوا السلاح مع (حفتر) ضدّ من سمّاهم بـ (الإخوان المسلمين).
وقد سمعنا كثيراً من الفتاوى التي تحرّم المظاهرات في أثناء اجتياح الربيع العربيّ، بحجّة حرمة الخروج على الحاكم المسلم.
الإرهاب ودوره الوظيفيّ في تأهيل الثورة المضادّة
أيّاً كانت أسباب نشوء تنظيم (الدولة الإسلاميّة/ داعش) ()، وأيّاً كانت القوى التي رعتها وساهمت في خلقها، فإنّ البحث في مؤدّيات وظيفتها، والأهداف التي عملت عليها منذ أن برزت في سياق الحراك المسلّح ضدّ نظام (الأسد)، يوضّح بشكل جليّ أنّ هذا التنظيم، لا يعمل وفق أجندة إسلاميّة تصب في صالح ثورات الربيع العربي، وأنّ كلّ ما قام بصنعه طيلة الفترة الماضية، كان يخدم قوى الاستبداد والثورة المضادّة، التي قامت الثورة في سوريّة من أجل دحرها، ولهذا كان جميع من تعرّض له، وقام بقراءة مسار سياساته وعمله على الأرض، يربط بينه وبين السياسة التي اتبعها النظام تاريخياً، لتخريب صفوف مناهضيه وتحويل الصراع بين ثورة وطغيان إلى صراع بين نظام شرعي وإرهاب.
إن تَتَبُّعُ حركيّة العمل العسكريّ ـ الذي قام به التنظيم ـ يقودنا إلى الدور الوظيفي الذي لعبه، إذ لم يترك أي سبيل لتخريب الثورة دون أن يسلكه، من سياسة تحرير المُحرّر، والتي كان يستولي فيها على مواقع بذل الثوار ـ من الفصائل المعتدلة ـ الدمَ والأرواح من أجل طرد قوات النظام منها، مروراً بقيامه بتصفية كوادر الثورة المدنيّة، ومقاتلي الجيش الحرّ، إلى قيامه باختطاف الصحفيّين السوريين والعرب والغربيّين الذين كانوا يغطّون الأحداث على الأرض، والقيام بذبحهم أمام الكاميرات، وكذلك اختطاف الشخصيّات الداعمة للثورة كالأب (باولو)() وغيره، وأيضاً قيامه بعقد صفقات مع النظام، ذات بُعْدٍ اقتصاديّ، وأحياناً تصل للتنسيق العسكريّ، ما يؤكّد تلك الفرضيّات التي تتحدّث عن تنسيق عالٍ بين الجهتين.
ولكن أخطر الأدوار التي قام بها تنظيم داعش، على الصعيد الإعلاميّ، كان نصبه فخّاً كبيراً تورطت فيه كلّ الوسائل الإعلاميّة الغربيّة وكذلك العربيّة والثوريّة، تمثل في جذبه لها من خلال ممارسته لأعلى درجات العنف ضدّ ضحاياه، وتسويق هذا العنف عبر الميديا، التي كانت تتلقفه وتساهم في إعادة تصديره وإنتاجه، ليصبح أكثر تأثيراً على الجمهور في كلّ مكان، ما خلخل الحكاية الإعلاميّة الأساسيّة، التي كانت تنقل عبر الصحافة عن الثورة السوريّة، حيث تحوّلت الصورة من حالة ثورة تدرّجت من السلميّة إلى الحال المسلحة، في مواجهة نظام مستبدّ، إلى حال مواجهة بين (نظام علمانيّ) يواجه (تنظيمات إرهابيّة إسلاميّة متطرّفة)!!
هكذا وعلى يد (داعش) ومن يشبهها، تكرّست في كافة أصقاع الأرض رواية النظام ذاتها، والتي ما انفك يكرّرها منذ الأيام الأولى للثورة، والتي تنفي وجود شعب منتفض ضدّ القمع والديكتاتوريّة، لتحلّ محله مجموعات مسلّحة إرهابيّة متطرّفة تسعى لتدمير الدولة السوريّة ولإبادة الأقليّات. الخ.
إذاً قراءة حال (داعش)، يجب أن تبدأ من وظيفتها، ومن الدور الذي تقوم به، وأيضاً من تحديد المستفيدين منها، فالنظام الطائفيّ في العراق الذي دعم النظام السوريّ ماليّاً وعسكريّاً وأمنيّاً، كان هو المستفيد الأوّل من سيطرة داعش على الموصل، حيث تظهر المعطيات على الأرض أنّ ما حصل زاد في تكريس الطائفيّة التي كانت توجّه سهامها إلى تدمير أي مرتكز مدنيّ في المجتمع، ما أحال الصراع في العراق ـ والذي كانت ملامحه مدنيّة سلميّة ضدّ استبداد النظام الطائفيّ ـ إلى صراع بين السُّنّة والشيعة، وهو الأمر الذي عملت عليه (إيران) طيلة السنوات التي تلت سقوط نظام (صدّام حسين)().
ولعلّ المقارنة بين الحالتين العراقيّة والسوريّة تُظهر أنّ المسارات متشابهة، تختلف القوى فيها، ولكنّها تشترك بوجود قوّتين؛ (داعش وإيران)، وعلى جانب كلّ مسار من هذه المسارات، سنرى كيف يستفيد أصحاب الأجندات الخاصّة والضيّقة من وجود التنظيم، وكيف يرتدّ وجوده على الشعوب ليدمّر حياتها ووجودها، كما دمّر أحلامها بقيام الدولة المدنيّة الديموقراطيّة، وكذلك لا يغيب عن التفاصيل: كيف أنّ داعش تحوّلت إلى مادة أساسيّة في السياسات الداخليّة، لأغلب الدول الإقليميّة وفي مشرق الأرض ومغربها، ما يجعل من وجودها ضرورة مرحليّة يستفيد منها الجميع، ضمن توجّهاتهم السياسيّة والاقتصاديّة، فمن أجل داعش تجرّد الجيوش، وتجتمع البرلمانات، وتهزم أحزاب، وتربح أخرى، ويستمر المشاركون في جني الأرباح.
والدور الذي قامت به (داعش) في الثورة السوريّة والعراقيّة، كانت تقوم به أيضاً في ليبيا، فخليفة (حفتر) وبدعم إقليميّ كبير، يمثل حجر عثرة أمام التحوّل الديمقراطيّ في ليبيا، فهو يرفض أيّة تسويّة سياسيّة تسمح بعودة الديمقراطيّة أو التوافق الوطنيّ أو انتخابات جديدة، بدعوى أنّه مفوّض من الشعب بمحاربة الإرهاب، وعندما ينتهي من حربه على الإرهاب ينظر في الأمور الأخرى، وهو لا يحارب إرهابًا أبدًا، بل يتحالف معه ويقوم بمحاربة الفصائل الثوريّة في ليبيا، بل إنّ التعاون بين (حفتر) و(داعش) وثيق جداً، وقد أثبتت التحرّكات على الأرض أنّ التنسيق بينها عالي المستوى.
والآن يتمّ تسمين (داعش) في منطقة سيناء على عين إسرائيل والنظام المصريّ، ويتمّ إعدادها لدور وظيفيّ قادم، وقد صرّح أحد جنودهم أنّ هدفهم القادم هو (حماس) ()و(غزة) على قاعدة محاربة المرتدّ، قبل الكافر الأصليّ.
سورية ودولة الفرد والحاكم المطلق المنشق بين المنظومات
جزء من أزمة الثورة السورية هي في خطأ التشخيص العميق لطبيعة النظام السوري، وآليات حركته وإدارته، فكثير من منظري الثورة يرون أنّ السلطة في سورية هي نظام طائفي أمني وحسب، والحقيقة أن السلطة في سورية هي أقرب ما تكون لتحالف منظومات، والنظام يلعب دورَ المنسق والمدير الضروري؛ الذي تسقط بسقوطه المنظومة وتستمر بوجوده، ومن هنا كان الخطأ في تركيز الثورة والمعارضة على إسقاط النظام بدون تفكيك المنظومة المركبة والمعقدة من منظوم الجيش، ومنظومة الأمن، ومنظومة الحزب، ومنظومة الطائفة، ومنظومة رجال الدين ومنظومة رجال المال.
لقد أسّس (حافظ الأسد )() دولةَ استبدادٍ شموليّة غيرَ عصريّة، طيّف فيها الجيش من خلال عمليّة تغيير واسعة لقياداته، وجعْله جيشاً عقائدياً يدين بعقيدة حزب البعث السياسية، وبنى أجهزة أمنيّة عنيفة وطائفيّة، وطعّم الدائرة المحيطة به بمنتفعين وانتهازيّين جشعين من كلّ الطوائف، واشترى الولاءات، ونشر الفوضى، وجعل ركيزة دولته الأمنيّة بضع رجال أمن (الحرس القديم) ومعهم رجال قادرون على تجييش الطائفة، التي دجّنها بالترغيب والترهيب، وتحكّمت دولته القمعية بالتعليم والإعلام والدين والاقتصاد والبيئة والمجتمع، ومارست موبقات جرميّة، تبدأ بنهب الثروات، والإسهام بتخلّف البلد؛ بدءاً من تصحير الأرياف إلى ترييف المدن، ولعب في البنية الاجتماعيّة للبلد، فقام بتقطيع الأواصر الاجتماعيّة؛ ليقيم بدلاً منها أواصر المصلحة والتحالفات النفعيّة، واستهدف المجتمع السوريّ بمحاصرته فكريّاً وإيديولوجيّاً، وتدمير بنيته المجتمعيّة، وتعميم ثقافة الخوف والانتهازيّة، وصولاً إلى القمع والتعذيب والمحاصرة والقتل.
كما استطاع النظام السوريّ أنْ يبني شبكة من التحالفات مع دول مافياويّة، مثل إيران وروسيا، واستطاع أن ينفد إلى بعض التنظيمات، ويقوم بتوظيفها لصالحه، ولم يجد غَضَاضة في التحالف مع حركة (حماس) ذات الجذور الإخوانيّة، ليُظهر نفسه بمظهر الداعم للمقاومة، كنوعٍ من تثبيتٍ للشرعيّة السياسيّة، كذلك كان للتركيبة المُعقّدة للجيش والأمن أثر هامٌّ أيضاً، حيث صّممت هذه المؤسسات وفقاً لخريطة معقّدة متشابكة، تضمن عدم إفلاتها من قبضته.
الدعم الخارجي للنظام السوريّ لم يأتِ من فراغ، ولا نتيجة تحالف الدولة السوريّة و(صداقاتها) مع تلك الدول (أو المافيات)، بل نتيجة لتحالفاتٍ خلْفيّة نسجتها (الدولة الشمولية القمعية) خلال خمسة عقود، والتركيبةِ المُعقّدة لمؤسّسات الحكم التي بنتها بعناية، لتضمن من خلالها تحالفاً سلطويّاً محلّيّاً وإقليميّاً ودولياًّ لا يمكن تفتيته ببساطة.
1_ من منظومة الجيش العقائدي
تمت أدلجت الجيش بعقيدة البعث؛ من خلال الخضوع لعمليات تنقية وتصفية متلاحقة، من كل المكونات التي تشكل تهديداً على النظام.
الجيش المسيّس المطعّم باللون الطائفي الأقلوي المتشكل من نواة جيش الشرق الطائفي الذي أسسته فرنسا، بحيث يضمن النظام عدم تمرد الأكثرية فيه على السلطة، ويضمن تنفيذه للأوامر في استعمال العنف إلى أقصى حدٍّ ضدّ أيّ شريحة اجتماعية يمكن أن تتمرد على السلطة، كما أغرق هذا الجيش بكل أنواع الفساد: من الرشوة، والمحسوبية، وانعدام الاحترافية، وتوزعه بجوار المدن الكبرى، بشكل يشير إلى تحسب النظام من الشعب أكثر من العدو خارج الحدود.
2_ ومن الأجهزة الأمنية
التي كانت تلعب دور مراقبة واختراق المجتمع، والحركات الاجتماعية والسياسية في سورية وفي دول الإقليم، وتحويل هذه الخدمات إلى أداة لنيل الشرعية الخارجية، باعتبار النظام ركناً في توازن الاستقرار والضبط الذي تتوخاه الأجهزة الأمنية الدولية في علاقتها مع أنظمة المنطقة
وأدواتها فكان الاعتماد على شبكات رسمية “إدارات الأمن الأربعة التي يشرف عليها
مكتب الأمن الوطني”وأخرى غير رسمية “شبكات المخبرين”، انظر الشكل أدناه:()
3-منظومة الحزب
ينص الدستورـ الذي كتبه حافظ الأسد في المادة الثامنة منه ـ أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع، وبذلك تجففت الحياة السياسية نهائياً في سورية، وتم منع الأحزاب السياسية الأخرى من النشاط في مؤسستي التعليم والجيش، وتُركت هذه الميادين لحزب البعث يؤدلج من خلالها الضباط والطلبة بعقيدة البعث، ومن سِنِّ الطفولة كانت تخضع الأطفال في المرحلة الابتدائية لمعسكرات طلائع البعث، في اعتداء صارخ على الطفولة القاصرة، وكانت الكثير من الوظائف في الدولة محصورةً بمنتسبي الحزب، مما دفع الشباب للإقبال على الحزب حتى وصل عددُ المنتسبين للحزب إلى أكثر من مليوني منتسب، كما تم احتواء باقي الأحزاب السياسية فيما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية، مما جعل الأحزاب أقرب للمستحاثات والهياكل العظمية البالية.
4-منظومة رجال المال
بسبب إجراءات الستينيات من الإصلاح والتأميم، طرأ تعديل واسع على طبيعة رجال المال في سورية، وتراجعت أسماء العائلات التقليدية ورجال الأعمال مثل: القوتلي، والعظم، واليوسف، ودياب، وقطب، والحلبوني، وصائم الدهر، والحفار، والطباع، والصباغ، والقباني، ودسوقي، وسعادة، وأخوان، والمهايني، والططري، والشرباتي، والقدسي، وشبارق، والأتاسي، والزعيم، والبرازي، والكيخيا، والجابري، وهنانو، والرفاعي، وإبراهيم باشا، وأصفر، ونجار، والقدسي، وسكر.. وانسحبت إلى الخلف، وهاجرت مع أموالها التي قدرت وقتذاك بنحو 800 مليون ليرة سورية، وبعد حسم الصراع داخل الحزب، بين صلاح جديد الردكالي المعتمد على التنظيم المدني لحزب البعث، وبين حافظ الأسد البرغماتي المعتمد على التنظيم العسكري للبعث، لصالح الثاني. ومع قدوم الأسد إلى السلطة، وشعوره بالحاجة إلى الاستثمار الخاص، طرح مبدأ التعددية الاقتصادية، وبدأ التخفيف من الإجراءات الاشتراكية، إلى أن وصل في التسعينيات إلى قانون الاستثمار رقم (10).
ومع قدوم الأسد الابن للسلطة كانت قد تشكلت الرأسمالية الجديدة، من أبناء المسؤولين الذين تحولوا إلى كبار رجال الأعمال والمال، من عائلة مخلوف وشاليش وخدام وطلاس والأسد والشهابي، وأصبح لها من القوة التي تسمح لها بالتدخل في مستويات القرار، و التي تساهم اليوم بتمويل المليشيات التابعة للنظام من أموالها التي تربحتها من الفساد السياسي، واستغلال النفوذ واحتكار بعض القطاعات الاقتصادية والتجارية.
وعلى الجميع أن يدفع لممثل “الدولة” أتاوت ما، على شكل رسوم وضرائب ورشاوى، أو على شكل شراكات وهميّة، بين الرأسماليّة الجديدة البديلة عن الرأسماليّة السنيّة التي تمّ تصفيتها في انقلاب /8/أذار 1963، والتي نشأت بعد القانون رقم عشرة الذي أصدره (حافظ الأسد).
كتلك التي بين (ماهر الأسد) و(محمد حمشو)، أو على شكل احتكار بعض العقود والاستثمارات؛ كما هو الحال مع (رامي مخلوف) وشركات الاتصال للهاتف المحمول، مع ما يعنيه ذلك من فقدان كامل للحريّات السياسيّة والاقتصاديّة، فحرّيتك لها ثمن.
وبالطبع لا تشبه الرسوم التي يدفعها السوريّ مثيلاتها في الدول المستقرّة، حيث يعود عليه ما يدفعه بالمفرّق على شكل خدمات عامّة تساعد المجموع في التمتّع بحياة سهلة، وصحة جيّدة، وبيئة نظيفة وتعليم جيّد. أمّا في الحالة السوريّة فهي تعود لجيب أركان النظام الخاصّة.
5-منظومة الطائفة
إنَّ أزمة الطائفة العلوية مع محيطها السني هو جزء من أزمة كل الأقليات المشبعة بثقل التاريخ والخوف من خطر الزوال.
إنّ هذه التحالفات بين النظام السوريّ وبين القوى الاستعماريّة قديمة جداً، فبعدما احتلّت فرنسا الأراضي السوريّة عام (1919م) بقيادة (غورو)()، عمدت إلى تقسيم سوريّة إلى ستّ دويلات، لتفتيت شعبها: حلب، ودمشق، ولبنان، وجبال النصيريّين (العلويّين)()، وجبال الدروز، والاسكندرون التي أعطيت فيما بعد لـ (مصطفى كمال أتاتورك) في أثناء معاهدة أنقرة وترسيم الحدود.
ولم يجد الاحتلال الفرنسي لديه أفضل من الاعتماد على الأقليات في تطويع الأكثرية ، فدان كثير من العلويين لسلطات الاحتلال بالتبعيّة والولاء، والتنفيذ لسياساتها وأهدافها، والقيام بدور المراقب على الشعب السوري نيابة عن الاحتلال، وكانوا النواة التي شكّلت فرنسا منهم جيش (الشرق) لتقاتل بهم في مستعمرتها مستغلة حالة الفقر والجهل المستشري بين الطائفة، وليشكلوا فيما بعد نواة الجيش السوريّ، في دولة ما بعد الاستقلال.
كما حرص الاحتلال الفرنسيّ على دمج العلويين في المنظومة الإسلاميّة، رغم بعدهم كلّ البعد عن عقائد الإسلام، وذلك حتّى يسهل تقبّلهم لدى عموم الشعب السوريّ.
وهذا لا ينفي بالطبع وجود الكثير من الأصوات الحرّة والشرفاء من الطائفة العلويّة الثائرة في وجه الاستعمار، والتي تمَّ إقصاؤها وتهميشها. والتي قام حافظ الأسد بإزالة نفوذها بين العلويين كعائلة الخير و خير بك والخطيب وجديد، وليتصدر مشهد الطائفة عائلة الأسد التي لا يعرف لها وجود ونسب بعد جدهم سليمان الأسد، حيث جاء للقرداحة ليعمل فلاحاً على المرباع.
الأسد الجدّ والوثيقة الغادرة
كانت أبرز مواقف الخيانة والعمالة التي أظهرها بعض المحسوبين على الطائفة العلوية، ومنهم عائلة (الأسد)، تلك الوثيقة التي وقّع عليها وجهاء العلويّين وأرسلت إلى السلطات الفرنسيّة، يطالبون فيها نيابة عن الطائفة بعدم إلغاء الانتداب الفرنسيّ على سوريّة، وعدم منح سوريّة الاستقلال.
وظهر في الوثيقة مدى كره العلويّين للمسلمين، ومدى تعاطفهم مع اليهود إزاء وجودهم في فلسطين، والنقمة على العرب المسلمين الذين يتصدّون لتوسّعاتهم الرّامية إلى إقامة دولة لهم في القدس المباركة.
كان سليمان الوحش (قبل تغييره إلى الأسد) جدّ بشّار، أحد المُوقّعين على هذه الوثيقة المحفوظة في سجلات الخارجيّة الفرنسيّة تحت رقم (3547) بتاريخ 15/6/1936م.
وفي 30 أغسطس عام 2012م، وفي أثناء مداولات مجلس الأمن بشأن اللاجئين السوريين، واجه (لوران فابيوس) وزير خارجيّة فرنسا، (بشار الجعفريّ) مندوب النظام السوريّ لدى الأمم المتحدة، بتلك الوثيقة التي تعود إلى عهد الانتداب الفرنسي على سوريّة، وهو الخبر الذي نشرته (العربيّة نت) في مطلع سبتمبر 2012م.
وخلال اللقاء قال (فابيوس) للجعفري: (بما أنّك تحدّثت عن فترة الاحتلال الفرنسيّ، فمن واجبي أن أذكّرك بأن جدّ رئيسكم (الأسد) طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريّة، وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسميّة وقّع عليها، وهي محفوظة في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، وإن أحببت أعطيك نسخة عنها).
الثورة المضادة واللعب بالورقة الطائفية
لم يفتأ النظام السوري واصفاً نفسه بحامي الأقليات، ليعكس شعوراً أنّ الأقليات في خطر، ويثبت أنّ الشعب السوري هو شعب طائفي، وأنّ النظام هو من يمسك بصمام الأمان للفتنة الطائفية، وبزواله سينفجر البركان الطائفي وتمتد ألسنة لهبه وكرة النار إلى كل دول الإقليم المجاورة.
هذا النظام الذي قام في بنيته وتشكله على البعد الطائفي، وغذى كل الأحقاد الطائفية بعد أن جعل من تركيبة الجيش والاستخبارات من لون طائفي واحد، واستجلب كل الميلشيات الطائفية من كل الأصقاع والدول، وبراعية من المرجعية الشيعية الإيرانية للجهاد في سورية ضد قتلة الحسين بزعمهم، وهي التي حركت ميلشيات القتل على أساس طائفي في حمص واللاذقية من أجل الاحتماء بالطائفة وتجنيدها في حماية النظام.
وبشكل عام تحاول أنظمة القمع العربي أن تخلق تلازميه بين وجودها وبقاء حكمها واستقرار الوضع الطائفي، وبين زوالها وزعزعة حكمها ومع الانفجار الطائفي؛ حتى تدفع كل خصومها إلى أن يضطروا للدفاع عنها وحمايتها.
وهذا ما حاولوا الترويج له؛ ففي مصر قاموا بتفجيرات في الكنائس ومحاولة خلق صراع إسلامي قبطي، وفي اليمن صراع زيد سني، وفي سورية صراع شيعي علوي من جهة وسني من جهة أخرى.
علماً أنّ هذه الطوائف ظلت متعايشة مع بعضها مئات السنين، بدون فتن ولا حساسية من قبل أن تستولي هذه الأنظمة القمعية على الحكم.
6- منظومة رجال الدين
واجهت (حافظ الأسد) مشكلة فعلى الرغم من اعتماد نظام البعث في سوريّة على صيغة عَلمانيّة، بحسب زعمه، لإدارة بلاد تتكوّن من نسيج مذهبيّ وطائفيّ ودينيّ، فإنّ ممارسات النظام السوريّ وتعامله مع الأديان ورجالاته لا يوفّر أي فرصة لاغتنام الرصيد المعنويّ لأيّ رجل دين، مهما كان مذهبه، أو فكره، أو طائفته، لدعم حكمه وترسيخ هيبته ومرجعيّته السياسيّة الأحاديّة.
المشهد الديني في سوريّة على تنوعه إلى درجة التعقيد، لا تكاد تخفي وجه النظام وممارساته المتطرّفة، التي توّجت (حافظ الأسد) حاكماً أبديّاً للشعب السوريّ، وصولاً إلى ابنه الغريب عن تعاليم الدِّين، والدائم التساؤل عن تفاصيله، بحسب ما نقل عن كثير من الشيوخ الذين التقوا (بشار الأسد).
من أمثال مفتي الجمهوريّة السابق الكردي الأصل الشيخ (أحمد كفتارو)ـ الذي بسط مؤسّسة دعويّة دينيّة على امتداد البلاد وخارجها، واستقبلت مؤسّسته نظير الدعم الرسميّ المعلن لنظام الحكم، آلاف الطلاب الأجانب لتعليمهم اللغة العربيّة وتعاليم الدين، مخالفين بذلك أنظمة التعليم الرسميّة وقوانينها، ومكرّسين الفكر الصوفيّ الزاهد في السلطة، والناظر إلى من يخوض فيها نظرة (المتنجّس) و(غير الطاهر)ـ تبدأ أحد أهم مقومات الخطوط التي حاكها (حافظ الأسد) الذي ينتمي للنصيريّة العلوية لتوطيد أركان حكمه.
وحاول (حافظ الأسد) منذ وصوله إلى السلطة التقرّب من التيّارات الدينيّة، واستخدم سلطته السياسيّة ليؤمّم السلطة الدينيّة، كما فعل (عبد الناصر) مع الأزهر، أو (البشير) مع (حسن الترابي).
ونجح (الأسد) في استخدام (أحمد كفتارو) مفتي سوريّة والإسلام الرسميّ لتثبيت شرعيّة دينيّة على حكمه، بعد أن اتّهمه الإخوان المسلمون في السبعينيّات بأنّه غير مسلم.
ولم يكن يخطر ببال أيّ من زعماء سوريّة قبل وصول (حافظ الأسد) الى الحكم أن يدخل إلى المسجد الأمويّ متأبّطاً ذراع المفتي (أحمد كفتارو). بعد أن فشلت محاولاته التقرّب بالشيخ (حسن حبنّكة الميدانيّ )() وأخيه الأصغر الشيخ (صادق)، وشيوخِ دمشق الذين رفضوا أن يتعاملوا مع (حافظ الأسد) لما عرفوا عنه واختبروا مكائده.
أسّس (كفتارو) في حقبة (حافظ الأسد) مجمع (أبي النور الإسلاميّ) عام 1974م، وقد عرف بنزعته الصوفيّة، وأوكل إلى نفسه مهمّة الدفاع عن نظام السلطان، ولم يجد (كفتارو) حرجاً من الشهادة أمام الناس بضرورة الانصياع لـ (حافظ الأسد).
ونجح (الأسد) في استخدام (أحمد كفتارو) مفتي سوريّة والإسلام الرسميّ، لتثبيت شرعيّة دينيّة على حكمه، بعد أن أصبح الحكم عسكريّاً، انفرد به (حافظ الأسد) ومَنْ حوله من الضباط الكبار في الجيش والأمن السياسيّ، وكان (الأسد) يعلم أنّ وضعه غير طبيعيّ؛ إذ كيف يحكم الأكثريّة وهو من طائفة قليلة؟ لذلك استعان بالمشايخ الذين ينافقون له، ويجمِّلون صورته: بأنّه يميل إلى دين الأكثريّة مثل المفتي (أحمد كفتارو).
ولكن (الأسد) لم يستطع إلا أن يُظهِر ما يخبئه للشعب السوريّ، فحاول تغيير مادة في الدستور تنصّ على أنّ رئيس الجمهوريّة يجب أن يكون مسلماً، فقامت الاعتراضات الكبيرة تواجه هذا التصرّف فسكت عن الموضوع، ثمَّ جاءت الخطوة الثانية، حين أبعد كلّ المدرّسين المتديِّنين عن التدريس في الثانويّات – سواء كان مدرّساً للمواد الدينيّة، أو للمواد الأخرى، وإحالة هؤلاء المدرّسين للعمل في الوزارات الخدميّة؛ مثل وزارة الصحّة أو المواصلات أو الزراعة. في الوقت ذاته عمل (كفتارو) ليكون خريجو معهده أحد المستفيدين من الفراغ الحاصل.
لقد أزعج هذا التصرّف المسلمين في هذا البلد الذي تبلغ نسبة أهل السُّنة فيه 80 ٪، وشعروا أنّ هذا جزءٌ من مخطّط مُبَيَّت وستتلوه إجراءات أخرى، ثمَّ جاء اعتقال الشيخ (مروان حديد)، ثمَّ وفاته في السجن تحت التعذيب، ليكون ردُّ الفعلِ أنْ حمَلَ السلاحَ تلامذةُ الشيخ (مروان) ردّاً على الظلم ودفعاً للضيم، واقترفَ (الأسد) في سوريّة المجازر بحقّ الأكثريّة، فخسرت سوريّة خيرة شبابها، في سجون تدمر؛ حيث أُعدِم آلافاً منهم أيضاً، ولقد كان ردُّ فعل الدولة ظالماً قاسياً بل متوحشاً، والذي يقرأ كتاب (تدمر شاهد ومشهود)() وكتاب (القوقعة ) لمصطفى خليفة وغيره من الكتب، التي تتحدّث عن مآسي الشعب السوري مع هذا النظام يدرك ذلك، وقُصِفَت مدينة (حماة) وهُدّمَت بعض أحيائها، وقتل الآلاف، وأبيدت بعض الأسر فلم يبقَ منها أحد، كلّ ذلك حدث بوجود المفتي (أحمد كفتارو) وثلة من المشايخ التي جعلت من ثوار الثمانينيات خوارجاً، ومن الأسد حاكما شرعياً وولياً للأمر، كما ساهم كفتارو مع رئيس غرفة تجارة دمشق (بدر الدين الشلاح) بعدم قيام دمشق في عصيان مدنيّ، احتجاجاً على مجازر (حماة)، وتهيئة الأمور لتوطيد حكم الأسد الأب، ومساهماً في شق عصا السوريين بتسليم (حافظ الأسد) السلطة، وإضعاف موقف علماء الشام، كون (كفتارو) مسلماً سنيّاً كرديا.
وبذلك يشترك (كفتارو) مع (الأسد) في نسج حكاية علاقات أسريّة، جرّت البلاد والعباد من دولة مدنيّة مؤسّساتيّة ديمقراطيّة… في خمسينات القرن الماضي، إلى كتلة هلاميّة من العلاقات الأسريّة والفئويّة والطائفيّة، تحكم بأسلوب أمنيّ، مع غياب كلّي للمجتمع والدولة، وللإنسان بخصوصيّته الفرديّة، وسرقة مقدّرات الشعب ونهب خيراته.
كان لوفاة (حافظ الأسد) الأثر الكبير في تهاوي أحلام (كفتارو)، الذي فقد بريقه بعد أن استعمله الأب، ورماه الابن، الذي اتجه لتشييع سوريّة بمساعدة المفتي الجديد (أحمد أديب حسون الحلبي) بعد وفاة (كفتارو)، إلا أنّ (كفتارو) لم يكن يستطيع إلا أن ينهي ما بدأه، فلطالما نهى (كفتارو) تلامذته ومريديه – علناً – عن الانشغال بالشأن السياسيّ، لكنّه لم يجد غضاضة أن يفتي بوجوب الجهاد في العراق إبّان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، بناء على رغبة النظام الحاكم في إغراق أمريكا في المستنقع العراقيّ، وبقي الاحترام والتقدير من (كفتارو) لشخص (الأسد) الأب، ونصَّ في وصيّته لأتباعه حرفيّاً على «الالتزام التام بمنهج سيادة الرئيس (بشّار الأسد) وحكومتنا الوطنيّة».
ومع بداية الثورة السوريّة كانت شخصيّة الدكتور (محمد سعيد البوطي) ذي الأصول الكرديّة، هو الشخصيّة الأقوى التي استعملها النظام في مواجهة الحراك الثوريّ الشعبيّ.
والذي لم يفتأ يصف الثائرين بأنّ (جباههم لا تعرف السجود لله تعالى)، كما حرّم أشدّ التحريم الخروج بالمظاهرات المنادية بإسقاط النظام، كما أجزل الثناء على الخطوات الإصلاحيّة التي أقدمت عليها السلطة، وثمّن تدخّل الجيش في قمع الثورة، ورآه عملا مشروعاً لاستعادة الأمن، وإنهاء المؤامرة، وراح يكيل المدح والثناء للشبحيّة والجيش، حتّى وصفهم (أنّهم أشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وادّعى البوطيّ أنّ الصلاة صارت تقام في الجيش، وأنّه خصّصت لإقامة الصلاة أَماكنُ في الثُّكنات..
وكان (البوطيّ) قد لعب دوراً مؤثّراً في شرعنة النظام، وتزيينه في أوساط الأكاديميين، حيث لم يكن يصل تأثير (كفتارو) إلى هذه الشريحة الواسعة والمؤثّرة.
ولم يكتف (البوطيّ) بتسخير لسانه وظهوره الإعلامي في برنامجه الأسبوعي على شاشة التلفاز السوريّ، بل إنّه سخّر حتّى قلمه الأديب للغرض ذاته، حيث كان كتابه (الجهاد) عبارة عن بحث سياسيّ أكثر منه فقهيّ، اعتبر فيه النظام هو السلطة الإسلاميّة الشرعيّة، ومن سحقهم في (حماة) هم عبارة عن بغاة، أو خوارج وأنّ قتلهم تمّ بسيف الشريعة.
دولة عميقة أم مافيا أم شبكة من المنظومات …!!!
نستطيع القول إنّه لا يوجد في الحالة السوريّة مافيات بالمعنى الدقيق للكلمة، كما لا توجد دولة عميقة بالمعنى المتعارف عليه للدولة العميقة.
مع الإقرار بوجود كل مكونات الدولة العميقة والدولة المافياوية في مفاصل السيطرة وتحالف القوى النافذة، لكنها لا تشبه الدولة العميقة بالمعنى المعترف به؛ حيث تقسم الدولة إلى دولة ظاهرة ماثلة للعيان يتم التعامل معها، ودولة تتحكم بخيوط اللعبة وتديرها من الخلف، مع إمكانية انسحاب الدولة الظاهرة من المشهد أمام الانفجار الثوري ليعاد إنتاج النظام من جديد من قِبل الدولة العميقة، ومع وجود هذه الثنائية في النظام السوري لكنها ثنائية صلبة لا يمكن تفكيكها أبداً، على عكس الأنظمة الأخرى التي استطاعت فيها الثورة تفكيك العلاقة بين الدولة الظاهرة والدولة العميقة، ثم قامت الدولة العميقة بعملية الالتفاف من خلال صناعة الثورة المضادة لتعود لمسرح المواجهة مع الثورة بنفس منطق الثورات، لكن بأدوات ووسائل وغاية ومكونات وفلول الأنظمة الساقطة.
وهذا ما لا يدل على أنَّ الثنائية هذه غيرُ موجودة في تركيبة النظام السوري، لكنها غير موجودة بالصورة القابلة للانفصال والمناورة أمام ثورات الشعوب، وكأنها دولة أقرب للتركيبة الأحادية صلبة البنية لدرجة أنها لم تستطع التضحية برأس النظام مقابل الحفاظ على نفسها، بل استطاع رأس النظام أن يزج جميع مكونات نظامه في المواجهة الصفرية مع الثورة، من خلال رهن سقوط النظام بسقوط كل منظومته الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمشيخية والإعلامية والطائفية وبقاء هذه المنظومة مرتهنة ببقائه.
إذن ما يوجد في سورية هو أكثر من الدولة العميقة، وأكثر من الدولة المافياوية.
ونفينا لوصف النظام السوري بأنه يتشكل من دولة عميقة لا ينفي وجود إدارة قوية ونسق متحكم في العمق يدير مجموع المنظومات من الخلف وبسيطرة تامة.
فالنظام السوري بهذه الحالة المتصلبة، ليس متغلغلاً في البنية الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية والإعلامية لكنه مستحوذ عليها بشكل تام، بحيث لا يمكن أن ينشق أو ينفصل أي جزيء منها عن الكتلة الصلبة للنظام.
وهذا يعيدنا إلى النقد المتكرر للأنظمة الشموليّة عموماً، التي تبتلع أو تحاول أن تبتلع الدولة والمجتمع. إنّه منسق منظومات متوحشة بحبال غليظة من المصالح الوجودية، وليس مجرد دولة أو نظام .
ولا ينافسه هنا في الشبه والسلوك سوى النظام الكوري الشمالي، فكلاهما ابتلعا الدولة والمجتمع في البلدين لصالح الفرد الحاكم المطلق، وكلاهما استخدما الأجهزة المخابراتيّة لتكميم الأفواه، وكلاهما مهددان بالزوال متى تحرك الشعب بثورته، لذلك كانت معركة النظام السوري مع الثورة السوريّة معركة صفريّة، وهي الثورة الوحيدة من ثورات الربيع العربي التي لم تنتقل لخانة الصراع بين الثورة والثورة المضادة بعد زوال الأنظمة الرسميّة، وبقي الصراع في المربع الأول لسبب وحيد؛ وهو أنه المربع الأول والأخير والخندق الأخير للنظام، فأيّ عمليّة انسحاب ستشكل له هزيمة أبديّة، وستسرع بتوالي انهيار المنظومات المترابطة بأعلى الهرم.
لذلك بقيت الثورة في خانة الصراع بين الثورة والنظام، على نحوٍ وحشيّ لم يعرف له مثيل في التاريخ، والسبب أنّ النظام السوريّ هو القلعة الأولى والأخيرة أمام الثورة السوريّة، وبانهياره ستنهار معه دولته العميقة وأجهزته الأمنيّة وجيشه ومنظومته الدينيّة والاقتصاديّة والطائفية، ولن يستطيع تشكيل نفسه من جديد بصورة ثورة مضادّة قادرة على المناورة والالتفاف من الخلف، لذلك كانت معركته مع الحراك الثوريّ صفريّة استئصاليّة منذ الصرخة الأولى إلى اليوم.
إذاً نحن أمام كتلة صلبة يصعب من خلالها فرز مكوّناتها إلى حلقات أو مفاصل، يمكن تفكيكها، فتفكيك أي حلقة من حلقاتها هو انفراط عقد السلسلة بكلّ مكوّناتها، والمنسق العام لهذه المنظومات هو أقوى منها جميعا لذلك هي مضطرة للدفاع عنه حتى لو وصلت إلى درجة الفناء.
نستطيع القول أنَّ هنالك دولة عميقة مختطفة بدورها من رأس النظام، والنظام هنا حلقة مغلقة على الطائفة الحاكمة، والطائفة الحاكمة هنا أوسع قليلاً من طائفة الرئيس، والمطعّمة بعدد من المنتفعين من الطوائف الأخرى والأكثرية السنية، لكن خيوط اللعبة تبقى في يد مافيا الطائفة الأضيق، لدينا هنا مافيا تتحكم بالدولة العميقة. وهذه “الدولة” لا تتحكم في القرارات السياسيّة والاقتصاديّة للدولة فقط، بل تبتلع كلّ مقدّرات الدولة الماديّة والمعنويّة، فالثروة النفطيّة إلى اليوم لم تدخل خزانة الاقتصاد السوريّ، بل ومقدّرات الأفراد بالغاً ما بلغوا من القوّة، أو الضعف.
النظام العالميّ ومؤثراته في الثورة والثورة المضادة
النظام العالمي ـ الذي نشاهده الآن ـ نشأ جراء سلسلة صراعات كبرى، بدأت مع العصر الصناعي قبل أكثر من قرن، والذي ضاعف قدرة الدول على احتلال دول أخرى، فظهور الطفرة الصناعيّة في أوربة دفع الأوروبيّين للخروج من القارّة بحثاً عن المواد الخامّ في العالم، لإمداد مصانعهم بها، فبدأت بذلك مرحلة الاستعمار، التي أظهرت نوعًا جديدًا من القوّة، يعتمد على التقدّم العلميّ والثقافيّ بدلاً من كثرة العدد وشدّة البأس.
وبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، اجتمع المنتصرون وأنشأوا منظمة «عصبة الأمم»؛ وهي أوّل مؤسّسة دوليّة لدول العالم، ولأنّها التجربة الأولى فلم تحظ بنجاح في إدارة ما بعد الحرب، ولذا استطاعت ألمانيا التفلّت من العقوبات، وعادت للتصنيع الحربيّ، والألمان قوم ذوو ثقافة عسكريّة قديمة؛ فهم أهل حرب منذ القدم، هذا بجانب ذكائهم جعلهم متفوّقين على محيطهم الأوروبيّ، وبسبب وجود هذا الاعتزاز بالنفس، والشعور بالتفوّق كان من الصعب عليهم الاستمرار بتقبل معاهدة مذلّة كمعاهدة (فرساي)، ووسْط هذا الشعور بالتذمّر ظهر (هتلر) والحزب النازيّ الذي راح يدندن على: أنّ معاهدة (فرساي) مذلّة للألمان، وأنَّ اليهود متآمرون مع الغرب ضدّنا، وأنّنا يجب أن نبني ألمانيا العظمى من جديد، وانضمّ إليها كلّ الشعوب التي تنطق بالألمانيّة، وسرعان ما تقبّل الألمان هذه الشعارات التي لامست أنفسهم من الداخل، وتأثّروا بها، فصوتوا لـ (هتلر) في الانتخابات، وأصبح رئيس (ألمانية)، وخلال سنوات معدودة جعل جيشها الأكثر تفوّقاً صناعيّاً وفكريّاً، فاجتاحت جيوشه المدرّعة شرق وغرب أوروبا، وتحالف مع إيطاليا واليابان ضدّ بريطانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا، وبدأت الحرب العالميّة الثانية في عام (١٩٣٩) وانتهت باستسلام ألمانيا في عام (١٩٤٥) وتمّ تقسيمه، وبقاءُ جيوش الحلفاء فيها لضمان عدم عودة الألمان لإشعال الحروب مرّة أخرى.
وبسبب اختلاف ثقافات المنتصرين، انقسم العالم إلى معسكرين:
الأوّل: شيوعي برئاسة الاتّحاد السوفيتيّ، وضمَّ معه الدول الشرقيّة، والثاني: رأسماليّ برئاسة أمريكا، ومعها دول الغرب، وحاولت بقيّة دول العالم الحياد عبر منظمة (دول عدم الانحياز)، وبدأ هنا عصر الحرب الباردة، والتي تتجنّب فيها القوى العظمى التورّط بحروب مباشرة مع بعضها، وتكتفي بحروب الوكالة عبر حلفائها الصغار، وهذا يرجع بشكل رئيسيّ لظهور السلاح النوويّ، الذي إن استخدمته الدول العظمى ضدّ بعضها فلن يستطيع أحد تخيل الدمار في العالم، ولذا يعتبر المفكرون أنّ القنبلة النوويّة كانت صمام أمان، حال دون حدوث حرب عالميّة ثالثة، فالأزمات والصراعات لم تنتهِ بعد الحرب العالميّة الثانية، ولكن وجود سلاح الردع النوويّ أبعدَ الدول العظمى عن خيار الحرب المباشرة لصالح حروب الوكالة والمخابرات، وسباق التسلّح وغزو الفضاء كحلبة صراع، تغني عن التورّط في حرب نوويّة تأكل الأخضر واليابس.
فَشلُ المنتصرين في إدارة ما بعد الحرب العالميّة الأولى جعلهم يرتّبون أوراقهم جيّداً لإدارة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، ولذا خطّط الغرب جيّداً هذه المرّة، ورتّب أفكاره بشكل يضمن استثماره للنصر، بهيمنة عالميّة سياسيّة عسكريّة اقتصاديّة دائمة؛ فَقَبْل دخول أمريكا الحرب العالميّة الثانيةـ كانت لجنة استشاريّة خاصّة قد أنهت تقريراً مطوّلاً عن أهداف الحرب التي يجب أن تفرضها أمريكا مع حلفائها في النهاية، وأوصت بإنشاء منظمة….
ظهور النظام العالميّ الجديد
مع انهيار الاتّحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيّات، انتهت الحرب الباردة الأولى، وأصبحت أمريكا القوة المهمينة على العالم، وهذا ما جعلها تتوسّع لتنشر أكثر من (٧٠٠) قاعدة عسكريّة في أنحاء العالم، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي كان الأمريكان يبشّرون بنظام آخر، تكون السيطرة في العالم لهم وحدهم، وبدأَ العمل على هذا (النظام)، وقد سقط الاتحاد السوفيتي بعد ظهور مصطلح (النظام العالمي الجديد) عام (1991).
ويعتبر الرئيس الأمريكي (جورج بوش) الأبّ هو المدشّن الحقيقيّ لما يعرف بـ (النظام العالميّ الجديد)،
هذا النظام يخدم مصلحة الولايات المتّحدة ولا أحد آخر.
تحاول الولايات المتّحدة من خلال استراتيجيّة (النظام العالميّ الجديد) أن تسيطر على الدول الأصغر والأضعف، ليس من خلال العمليّات العسكريّة أو الغزو، وإنّما من خلال العديد من شبكات المصالح الاقتصاديّة بالأساس.
إلاّ أنّ استنزاف أمريكا في حربها على الإرهاب، طوال العقد الماضي في أفغانستان والعراق، والذي هزّ هيبتها سياسيّاً وعسكريّاً وكان سببًا رئيسيّاً في الأزمة الاقتصاديّة، تزامناً مع صعود الصين، وتعافي روسيا، وهذا أعاد شيئًا من التوازن العالمي، فانتهت بذلك فترة القطب الأمريكي التي امتدت عشرين عامًا، وعاد الروس لاستخدام (الفيتو) ضدّ قرارات أمريكا في مجلس الأمن، وهو أمر لم يتمكنوا منه فترة ضعفهم السابقة في العشرين عامًا التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، وعادت أساطيلهم تجوب المحيطات، وعادت روسيا تتصرّف كقوّة عظمى، كما كانت في السابق، وهذا ما جعلها تتمسّك بحلفائها في إيران وسوريّة وأوكرانيا وصربيا وغيرها، وبذا يكون العالم قد دخل رسميّاً في حقبة الحرب الباردة الثانية. وهذا ما أدى في النهاية إلى تحول ساحة دول الربيع العربي إلى ساحة صراع بين المصالح الأمريكية والمصالح الروسية، مما سيضيف إلى الصراع بين ثورات الحرية والأنظمة الاستبدادية بُعداً إقليميا ودولياً، سيكون له تأثير كبير على مجريات الأحداث وموازين القوة، كما نلحظ هذا الأمر في اليمن وليبيا وفي سورية بشكل أوضح؛ حيث تحول اللاعب الإقليمي إلى قوة مؤثرة بشكل كبير تفوق تأثير الأطراف المحلية للصراع وتتحكم بمسارتها، وليتم تدويل الصراع وتحيله إلى قضية دولية وتحويل الأطراف المحليين إلى أجندات للقوى الخارجية في صراعها وقتالها.
الدول الصغيرة في ظلّ النظام العالميّ
إن التطوّر العلميّ والثقافيّ الهائل الذي حدث في القرن الماضي غيَّر شكل الدول ووظائفها، ودورها داخليّاً وخارجيّاً، وانتهى عصر الإمبراطوريّات، حيث كانت تقف حدود الدولة، حيث تصل جيوشها، وصارت ولادة الدول خاضعة للاعتراف الدوليّ أوّلاً، وتغيّرت وظيفة الدولة؛ فالدولة قديماً كانت مسؤوليتها تقتصر على حماية الشعب، وحفظ الأمن والقضاء في الخصومات وجباية الضرائب، أمّا الآن فهي مسؤولة عن كلّ كبيرة وصغيرة، ولذا نرى كيف أنّ ارتفاع نسبة البطالة في أيّ بلد أوروبيّ كفيل بالإطاحة بالحكومة، وهذا يختلف من بلد لآخر بحسب تطوّر ثقافة الناس، وطبيعة نظام الحكم، فوظيفة الحاكم والدولة قديماً تختلف عمّا هو الآن، بسبب التطوّر الذي حدث في احتياجات الشعوب؛ فالغذاء، والدواء، والسلاح، والأجهزة الكهربائيّة، ومواد البناء، والوقود هي سلع أساسيّة يتمّ تداولها عالميّاً باتفاقيّات بين الدول، وهذه الاتفاقيّات تعتمد على قدرة الحكومات الحديثة على ترتيبها وفق المصالح، التي لا تصادم القوى العظمى المهيمنة على الاقتصاد العالميّ، عبر البنك الدوليّ، وصندوق النقد، ومنظمة التجارة العالميّة؛ فلم يعد وجود الثروات الطبيعة في بلد – كالنفط والذهب والمعادن – كفيلاً بجعله بلداً غنيّاً، وبجعل حكومته ناجحة في الحكم؛ لأنّ هيمنة الغرب على النظام الدوليّ تتيح إبقاء هذا البلد في دوّامة الفقر، والمشاكل الاقتصاديّة والسياسيّة، كما فعلوا مع السودان، ونفس الأمر مع العراق وكوبا وإيران وكوريا الشماليّة؛ ففي كل منها يحرص الغرب على إجهاض أي نجاح، ليتمّ ترويض سياسة البلد مع الوقت وتختلف مقاومة كلّ بلد بحسب الظرف العالميّ، فهامش الصمود كان أقوى فترةَ القطبين في الحرب الباردة الأولى، وأصبح أضيق في فترة القطب الواحد، عندما تسيّدت أمريكا العالم، وأصبح الرئيس (بوش) يخاطب دول العالم بكلّ غطرسة: «إمّا معَنا، أو مع الإرهاب» ويشنّ حروبًا دون إذن من مجلس الأمن، لأنّه لم تكن هناك قوّة تستطيع إيقافه.
أمّا بعد سياسة البطّة العرجاء التي اتخذها (باراك أوباما) وعودة التوازن العالميّ، ورفض الشارع الأمريكي لخوض حروب جديدة، بعد مآسي الحرب على العراق وأفغانستان، وآثار الأزمة الماليّة، أصبحت أمريكا أعجز عن التحرّك بمفردها، واتّخذت سياسة الاعتماد على الوكلاء، وادارة الصراعات دون الانغماس بها، واتخذت من سياسة الاحتواء المزدوج المركّب للربيع العربيّ عبر مراكز النفوذ والسيطرة، والغضّ والدعم للانقلابات العسكريّة، استراتيجيّةً بديلة عن التدخّل المباشر، ممّا أعطاها نفوذاً عموديّاً على حساب الانسحاب الأفقيّ، وأصبح هامشُ صمود أعداء أمريكا أكبرَ، كلٌّ بحسب وضعه وظروفه وموقعه، وتمحورت سياسة أوباما في المنطقة عبر ثلاث استراتيجيات:
أولاً-التقارب مع إيران وإشراكها في حل مشاكل المنطقة.
ثانياً-تحجيم الدور الروسي.
ثالثاً -الانسحاب إلى الخلف والتدخل عبر الشركاء والوكلاء في المنطقة.
لكنّ الولايات المتحدة في ظل قيادة ترامب الجدية عادة لموازنة سياستها وفق الأولوية التالية:
أولاً-تحجيم الدور الإيراني وطردها من المنطقة العربية.
ثانياً -الانفتاح على روسيا وإشراكها في حلول مشاكل المنطقة.
ثالثاً -العودة للتدخل المباشر في المنطقة لرسم الحلول المناسبة للمصالح الأمريكية.
سياسة الاحتواء المزدوج المركَب لأطراف الصراع
تقوم سياسة الاحتواء المزدوج باعتماد القوى المستعمرة على تضارب مصالح القوّتين الرئيستين في المنطقة، وعداء هاتين القوّتين لها، وتقوم بتغذية هذا التضارب، ليصل الى مرحلة الصراع، وعندها يتغيّر جدول العداء لدى القوّتين فيصبح العدوّ الأوّل في جدول العداء هو القوى الأخرى، أمّا قوى المستعمرة فتصبح العدوّ الثاني في الجدول، وحين يصل الصراع الى مرحلة خطرة عندها يصبح الحصول على مساعدة العدوّ الثاني للتخلّص من العدوّ الأوّل أمراً ضروريّاً على شرط أن يكون سرّيّاً، أو عبر طرف ثالث، أو بطريقة غير مباشرة، فتساعدها القوى المستعمرة سرّاً في البداية، ثمَّ تقوم بنشر هذه المعلومات بطريقة أو بأخرى، دون الإخلال بالاتّفاق، الأمر الذي يؤدّي الى اشتعال الصراع، حيث يظنّ كلا القوّتين (الطرفين) أنّه يواجه العدوّ الأوّل (القوّة المستعمرة) والعدوّ الثاني (الطرف الأخر) في آن واحد، ولابدّ من تسخير كلّ الطاقات والقدرات للفوز بالنصر في المعركة، وتتدخّل القوّة المستعمرة من حين لأخر، إمّا بنشر أكاذيب أو فبركة أخبار، أو حتّى بالمساعدات الفعليّة، لإعادة التوازن بين الطرفين، حيث إنّ النصر لإحدى القوّتين يعتبر خطّاً أحمر لدى القوّة المستعمرة، وبذلك تصبح القوّة المستعمرة في وضع قويّ، ويزداد قوّة لا بقوته الذاتيّة، وإنّما بضعف القوّتين الأخيرتين اللتين استنفدتا طاقاتيهما وقدراتهما في مواجهة بعضهما بعضاً، أمّا بعد الربيع العربيّ فقد انتقل التطبيق من الصراع بين الدول، إلى الصراع بين القوى النافذة من المعارضة والنظام داخل الدولة الواحدة…
فإنّ هناك اختلالاً في توازن القوى داخل كلّ بلد عربيّ، وربّما تتطوّر الاستراتيجيّة، فتصبح استراتيجيّة احتواءٍ مزدوجٍ مركّب، أي عمليّة داخل عمليّة، بحسب بيئة كلّ بلد، فتكون عمليّة احتواء مزدوج بين القوّتين الرئيستين، في قوى النظام الجديد، داخل عمليّة الاحتواء المزدوج لقوى النظام الجديد، وقوى النظام القديم، فقد نرى صراعات بين الإخوان والسلفيّين من جهة، داخل صراع بين إسلاميّين وليبراليّين، وكذلك صراع ليبراليّ ليبراليّ ضمن صراع بين قوى الأنظمة الجديدة، وقوى الأنظمة السابقة، بعد أن غيّرت جلدها.
وهكذا تقوم الولايات المتحدة بتطبيق هذه السياسة على ثنائيات الصراع في المنطقة؛ بين السعودية وإيران فعملت على سحب أكبر كم من الأموال من الخليج بحجة صفقات السلاح وحمايتهم من إيران، وبنفس الوقت تتعاون أمريكا مع إيران في قتال داعش في العراق وتتغاضى عن سحق الثورة العراقية في المحافظات السنية، وتدخل المليشيات الإيرانية في العراق.
كذلك بين ثورات الربيع العربي والثورات المضادة، ففي ليبيا تم الغضُّ عن دعم الدول الإقليمية لخلفية حفتر بدون تدخل مباشر، وفي سورية تم دعم المعارضة بقوة لا تحقق النصر وتمنع الهزيمة مع إعطاء النظام السوري المهل من أجل سحق الثورة.
كذلك بين تركيا والبككا، فبالرغم من تحالف الولايات المتحدة مع تركيا، قامت الولايات المتحدة بدعم الميشيات الكردية الانفصالية بأحدث الأسلحة، وبنت لنفسها قواعد عسكرية في مناطق الحسكة من أجل ابتزاز تركيا بالورقة الكردية في احتواء الثورة السورية.
البنيّة الهرميّة والدائريّة للنظام العالمي وتأثير ذلك على الدول الوطنية:
يتكوّن النظام العالميّ الجديد في جانبه غير المرئيّ من عدّة دوائر نفوذ، وآليّات لهذه الدوائر تقوم عليها، وتعمل تحت يديها، وبحسب ما صرّح به الكاتب الأمريكي (نعوم تشو مسكي) () تعتبر الشركات عابرة القوميّات، أحد أبرز دوائر النفوذ التي تتّحكم في هذا النظام وتعمل عليه، وبحسب جوزيف (ستجليتز)() المستشار السابق في البنك الدوليّ، فإنّ مؤسّسات كبيرة تقوم عليها الدول الكبرى، تقوم بخدمة هذه الشركات الكبرى، وهذا ما يعني أنّ الشركات الكبرى تقوم بالتحكّم في سياسات الدول الكبرى، وتؤثّر فيها، حيث إنّ بعض ميزانيّات هذه الشركات تتجاوز ميزانيّة دولة كبرى، أو عدّة دول أصغر مجتمعة، وهذه الشركات لها مصلحة في إيجاد مناطق نفوذ بمنطقة مستقرة لحماية الإنتاج، ومناطق مشتعلة بالحروب لضمان الاستهلاك.
يتشكّل النظام العالميّ في جزئه المرئيّ:
من بنيته الهرميّة، وهو نظام غير ديمقراطيّ، فقرار العالم بيد الخمس الكبار، هم من يمتلكون حقّ (الفيتو) أو النقض، في كلّ قرارات مجلس الأمن، وهناك دول كبرى أكبر من بعض دول مجلس الأمن غير ممثّلة؛ مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل ونيجيريا…
وأهم قواه:
الصهيونيّة العالميّة التي تمثّلها إسرائيل.
الصليبيّة الغربيّة التي تمثلها أمريكا والغرب.
الحكومات الوظيفيّة المستبدّة في بلاد المسلمين، التي تحالفت مع النظام العالميّ الجديد.
4الخيارات العلمانيّة، وظيفتها أن تقف في الدور، بعد الحكومات كاحتياط وبدائل؛ بحيث لو سقطت الحكومات الوظيفيّة من خلال الثورات، تكون هناك خيارات بديلة، مرتبطة بالنظام العالميّ.
الطوائف والأقليّة المنطوية على عقدة المظلوميّة، والتي توظّف في قهر الأغلبيّة.
الجماعات الاسلاميّة الدائرة في فلك التوظيف، مثل الجماعات الموالية للأنظمة القمعيّة، أو الأعداء المفيدين في تثبيت أركانهم كالقاعدة وداعش.
وهذه القوى الوظيفة بكل ترتيباتها وتراكيبها هي قوة معادية لثورات الحرية والربيع العربي.
وسائل سيطرة النظام العالميّ على الدول الوطنية:
«الأمم المتّحدة» لتحديد المقبول والمرفوض تجاه أحداث العالم.
«مجلس الأمن» للاحتكار، وإعطاء الغطاء الشرعيّ للحروب، ومهمته إضفاء الشرعيّة على كلّ التحرّكات الأمريكيّة في معاقبة خصومها، أو شنّ الحروب عليهم.
احتكار السلاح صناعةً وتجارةً وبيعاً خصوصاً السلاح النووي، والدخول إلى النادي النوويّ وامتلاك أسلحة الدقّة العاليّة شديدة التدمير، والذراع التكنولوجيّة الطويلة.
القمح، والدواء: تكمن أهميّة أكياس القمح التي يلصق عليها العلم الأمريكي في إضفاء الدور الإنسانيّ لأمريكا، كمنقذة للشعوب الجائعة من جهة، ومن جهة أخرى لابتزاز الدول الفقيرة المحتاجة للغذاء، في شراء مواقفها السياسيّة.
المواد الخام من نفط وغاز ومواد أوليّة، التي تشكّل الطاقة للعالم المتقدّم.
«البنك الدوليّ» و«صندوق النقد» لإدارة اقتصاد العالم، وهذه هي مؤسّسات الهيمنة الغربيّة على العالم.
فأيّ ولادة لدولة جديدة لا يتمّ بدون اعترافٍ من النظام العالميّ؛ الذي يرسم لها حدودها السياسيّة، ويسمح بحصولها على مقعد بمنظمة الأمم المتّحدة، لتنخرط سياسيّاً ببقيّة العالم، وتفتح سفارات، ويُعترف بسيادتها، وأيّ دولة تغزو دولة أخرى بغير إذن النظام العالميّ، يأتي دور مجلس الأمن لإصدار إذن دوليّ بمعاقبتها عسكريّاً كما حصل في غزو العراق للكويت، وبغزو الصرب لكوسوفو وغيرها، وأيّ دولة تحاول الحصول على النوويّ، أو تدعم (الإرهاب) يتمّ فرض العقوبات الاقتصاديّة عليها لخنقها حتّى تذعن عبر البنك الدوليّ، كما حدث مع إيران وكوريا الشماليّة، وفي بعض الحالات يمكن إلغاء قيمة عملتها عبر صندوق النقد، كما فعل في اليونان ولبنان.
لذلك نجد أن هذا النظام العالمي يشكل مادة صلبة أمام الثورات المحلية، وتأثيره لا يقل عن تأثير القوى المحلية المناهضة للثورة وقد يكون أكثر تأثيراً، ولا يمكن لثورة أن تصل لمبتغاها بدون أن تتجاوز هذا التحدي الكبير؛ من خلال بعث رسائل الطمأنينة لهذا العالم الذي غالباً ما يتدخل لاحتواء الثورات، وإدخالها في المسار الوظيفي، أو الانقلاب عليها، فنحن أمام دول مركزية تنادي بالديمقراطية كشعارات وتمارسها في بلدانها، وتحاربها بلا هوادة في البلدان التي ترزح تحت نير الاستبداد.
تنظير جديد لاستراتيجيّة الصراع مع (الدولة العميقة) يتعلق بسياسة الجماعات الإسلامية
بُعيد سقوط الخلافة العثمانيّة في عشرينيات القرن المنصرم، ووقوع العالم العربيّ تحت نير الاستعمار الغربيّ، وظهور ما بات يعرف بـ (الجماعات الإسلاميّة) التي حملت على عاتقها المشروع الإسلامي، وحاولت حشد الجماهير لإعادة التمكين للدين، بوصفه نظاماً شموليّاً للحياة، انتهت المقاربات الإصلاحيّة لدى هذه الجماعات إلى اتجاهين:
– اتجاهٍ بات مقتنعاً بنظريّة التغيير، من داخل المنظومة العالميّة الضاربة بأطنابها، الراسخة بقواعدها، الصلبة بمكوّناتها، المتماسكة بمصالحها الكبرى، لكنّ هذا التيّار مع امتناعه عن المواجهة العسكريّة مع النظام الدوليّ العالميّ، لكنّه يخوض معارك فكريّة شرسة مع منظومته الفكريّة وقيمه الأخلاقيّة، ممّا يجعل كثيراً من أوراقه مقروءة للعالم، وكثيراً من طاقته منصرفة في الجهود الدعويّة، والجدل الأيديولوجي، والبحث عن تمايز الهوية للأمة.
وهذا التيّار يرى أنّ الوسيلة المتاحة للتغيير هي المشاركة السياسيّة، والنضال السلميّ ضدّ الأنظمة الحاكمة، واعتبار الخصومة معها خصومة سياسيّة، تحلّ وفق السبل السياسيّة، من خلال تشكيل الأحزاب والتظاهرات، والمشاركة باللّعبة الديمقراطيّة، ودخول البرلمانات، وكثيراً ما يدلّل أقطاب هذا التيّار على عدم فائدة المواجهة المسلّحة مع الأنظمة المستبدّة، بسبب النهايات المأساويّة التي خلّفتها تجارب القتال معها، والنتائج الكارثيّة التي خلفتها بسبب اختلال ميزان القوى اختلالاً طاغياً لصالح الأنظمة، ولعلّ مَن يُعبّر عن هذا التيّار هم عموم تيّار ما بات يعرف بـ (الإسلام السياسيّ) الذي يحاول أن يقدم برنامجاً سياسياً مستمداً من الإسلام. وهي عموم التيّارات التي خرجت من رحم جماعة (الإخوان المسلمون) أو المتأثّرة بها، لكنّ هذا التيّار لايزال يعاني من جدل الهويّة والأيديولوجيّة ودمج السياسة بالدعوة، وهو مرهق بتبعات الحزبيّة الدعويّة “والخصومات التاريخيّة مع الأنظمة” والإرث الشائك، والاستقطاب الحدّي مع القوى العلمانيّة والليبراليّة المعاديّة للهويّة.
– واتجاهٍ يرى استحالة التغيير من داخل المنظومة العالمية أو المحلية، لأنها تتكون من حلقات محكمة الإغلاق، ولأنَّ ممارسة السياسيّة مهما يكن لن تكون إلا من الثغرات التي يتيحها لك هذا النظام، والنتائج لن تكون إلا بناء على المقدّمات التي تحدد قواعد اللعبة السياسية، والقواعد التي يفرضها النظام العالميّ، بل هذا التيّار لا يرى جواز المشاركة السياسية أصلاً، ولو كان ممكناً واقعاً، باعتبار أن الديمقراطية والمجالس البرلمانية وسيلة كفرية غير شرعيّة، والشريعة تؤكد دائماً على شرعيّة الغاية والوسيلة معاً، وهو يعتبر كلّ مكسب في إبراز الهويّة والشريعة يأتي من خلال السقوف التي تتيحها الأنظمة الجاهليّة في حكم المرفوض. ولا يرى إلا الوسيلة الخشنة في الجهاد والصراع المسلّح متى أمكن ذلك، ويدخل الخصومة مع الأنظمة المستبدة في نطاق الصراع العقدي الصفري، ولايرى في هذه الأنظمة إلا حكومات وظيفيّة مرتدة تشكل امتداداً وذراعاً للأنظمة الاستعماريّة، وعليه فإن هذا التيار لا يقبل أي نوع من الحوار أو المشاركة أو الاصلاح السياسي بالوسائل الديمقراطيّة، وطالما كان يستدلّ بانقلاب جيوش هذه الأنظمة على نتائج الانتخابات التي تفرز فوز الإسلاميّين على عبثية هذا المسار وعدم فائدته.
ويعبّر عن هذا التيّار ما بات يعرف بـ (السلفيّة الجهاديّة) و(القاعدة) و(داعش)، وهذا التيّار كذلك يعتمد في استراتيجيّته الحركيّة على نظريّة إدارة التوحّش()، وفي بنيته النظريّة على أدبيّات سلفيّة جهاديّة، وهو مُرْهَق بالاختراق الاستخباراتيّ، نتيجة المجهوليّة لقياداته وعناصره المستخفية في الأسماء الحركية، مما يسهل على المخابرات العالمية دسَّ عناصرها بين صفوف هذه الجماعات، كما تعاني هذه الجماعات من تنامي الفكر التكفيري في صفوفه، وتكوّن لديه نظريّة: أولويّة قتال المرتدين على الكفار الأصليين. ممّا يجعل معركته الأساسيّة هي مع تيارات الصحوة الإسلاميّة، التي يحكم عليها بالردّة أو العمالة، لذلك كان هذا التيار تياراً مرغُوباً فيهِ من القوى الدوليّة والإقليميّة، لقدرته على إثارة الصراع السنيّ السنيّ، والإسلامي الإسلاميّ، أينما حلّ، وهذا كان مفيداً جدّاً للأنظمة الاستبداديّة، في ضرب التيّارات الإسلامية بنفسها ومشاغلتها، ومفيدة للدول الاستعماريّة، في إثارة الحروب التدميريّة في المنطقة العربيّة، وفق التكلفة الصفريّة للحرب، وجعْل هذه الدول في دوامة الفوضى، التي تضرب كل مشاريع التنمية والتحرير.
أمام هذا الاستقطاب الحادّ بين التيّارين السالفيّ الذكر يظهر لدينا تيّار ثالث، وهو ما بات يسمّيه بعض الباحثين: (ما بعد الإسلام الحركيّ)؛
هو التيار الإسلامي الذي خرج من دائرة التنظيمات الإسلاميّة وابتعد عن الإسلاميّ السياسيّ، إلى مرحلة ما بعد الإسلام الحركيّ، والذي تمثّله اليوم (العدالة والتنمية) في تركيّا، و(بيغو فيتش) في البوسنة، والنهضة في تونس، أبرز ملامحهم الفكريّة تقوم على أربع معالم أساسيّة:
أوّلاً: إعادة النظر في التاريخ الإسلاميّ السياسيّ، والمثاليّة التمجيديّة الطاغية عليه، وبخاصّة جيل الصحابة (كما فعل سيّد قطب) الذي نزع السمات البشريّة عنهم، وأعادوا قراءة تاريخهم السياسيّ على أنّه تجربة بشريّة محضة، تقبل الأخذ والردّ، وليست محلَّ اقتداء ملزم بعمومها، خصوصاً فيما يراعي المصلحة والمفسدة لكلّ عصر وظروفه الخاصّة.
ثانياً: إعادة الاعتبار لشأن العقل، وحلّ إشكاليّة العلاقة بين النقل والعقل، واعتبروا أنّ النقل يفهم من خلال العقل، وليس هناك أفهام جاهزة لكلّ مسألة علينا التسليم به، أو قوالب مسبقة يجب التأطر بها دون إعارة أي اهتمام لإعمال العقل في تجديد فهم النص الديني.
ثالثاً: رفض اختزال العلاقة مع الغرب في سياق الصراع السياسي فحسب؛ بل هم يعتبرون الغرب جزءاً من الذّات نتيجة الثورة الثقافيّة والصناعيّة والاتصال التي تجتاح العالم، وهي ترفض تفسير الصراع مع الغرب أنّه صراع دينيّ، بل اعتبرته صراع نفوذ ومصالح، وهم يرون أنّ في الثقافة الغربيّة ما يمكن الإفادة منه في عمليّة إعادة بناء الفكر الإسلامي، والصراع موجّه لوراثة الحضارة الغربيّة وليس لإسقاطها.
رابعاً: تبنّت هذه المجموعة الديمقراطيّةَ والتعدديّة السياسيّة والثقافيّة مبكّراً، وآمنت أنّ الشعب هو مصدر الشرعيّة للسلطة، وهو أساس النظام السياسيّ، وقبلت بتحييد الدولة عن الصبغة الأيديولوجيّة، ورفضت مقولة الشرعيّة الدينيّة للنظام.
كما لجأ هذا التيّار لخيار آخر، أكثر حنكة ودهاءً في نضالها السياسيّ، فلم يتورّطوا بحرب استنزاف طويلة الأمد، مع الفكرة الأيدولوجيّة التي تصوغ شكل النظام العالميّ (الديمقراطيّة والليبراليّة والعلمانيّة).
وإنّما سلكوا طريقاً مغايراً، واستراتيجيّة تقوم على الاشتباك القريب، ومن خلال الأسلحة الناعمة، وتصفير مسافة التسديد مع العدوّ، وتفتيت الفكرة من داخلها، وإزاحة هذه الصخرة الكأداء من طريق نهضتهم دون مصادمة مكلفة، وذلك من خلال حيلة بسيطة تجمع بين الحرب والصلح مع هذه الفكرة…
التصالح مع الفكرة في الملعب السياسيّ، والدخول إلى ملعبها في إطار التنافس السياسيّ الديمقراطيّ، والاستفادة من أدواتها وأليّاتها المتاحة، للدخول في مسلك الإصلاح، معتبرين أنّ الدولة المدنية الحديثة دولة محايدة يمكن تغذيتها بالقيم التي نحملها.
وفي الوقت نفسه مواجهة هذه المفاهيم فلسفتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة في الصميم، بتفكيك هذه المنظومة الفلسفيّة ومن ثمَّ إعادة تفسير الفكرة، وصياغة الثقافة الاجتماعيّة من خلال القوّة الناعمة بالدعوة والإعلام والتربية والتعليم بما يتوافق مع هويتنا الإسلامية.
وهذا يقوم على مبدأ مهم للغاية وهو تميّز الدعويّ عن السياسيّ، بدون فصل مطلق للدين عن الدولة يجعل من الدولة معادية للدين، ولا اتصال مطلق يجعل من الدولة دولة دينية.
وهذا ما أشار إلى جزء منه الرئيس التركي (رجب طيّب أردوغان) في ردّه على سؤال مذيع الجزيرة (علي الظفيري) عن العلمانيّة هل أنت علمانيّ؟ فقال مجيباً:
أوّلاً: أنا مسلم…
ثانياً: لقد قمنا بإعادة تفسير العلمانيّة، وإعادة تفسير الديمقراطيّة، وفهم العلمانيّة أنّها حريّة التديّن للجميع…
تبقى المعضلة أمام هذا الخيار في إيجاد الإطار الفقهي لتسويغ النظريّة شرعاً، ومن ثم صياغة الخطاب السياسي بعيداً عن فقه الاستضعاف، وحال الاضطرار، وتحقيق الممكن الذي يجعل منها خياراً آنيّاً تكتيكيّاً، ومن ثمَّ معرفة قواعد واستراتيجيّة الخصم السياسيّة المناوئة، وجدوى المواجهة معه بهذه الطريقة، التي ربّما – وبخطأ واحد – تتحوّل إلى عمليّة انتحار سياسيّ وفكريّ.. خصوصاً إنْ جرّدت من الشوكة.
استراتيجية التأثير عبر جماعات الضغط السياسي
على النخبة الثورية عدم الاغترار بإعطاء الأيديولوجية حجماً أكبرَ في تفسير الصراع وفهم مفاتيحه؛ فالأيديولوجية لا تعدو أن تكون باطنية سياسية تخفي وراءها مصالح أساسية.
كما يجب ألا نُخْدَع كثيراً بالخطابات الشعاراتيةِ القيمةِ فغالباً ما تكون نوعاً من النفاق السياسي لحشد الجماهير الساذجة، وإنما علينا التركيز دائماً على شبكة المصالح التي على أساسها تُبنى التحالفات، وتبدأ الخصومات، ويتحول العدو إلى صديق، ويتحول الصديق إلى عدو، فليس هناك عدوات دائمة، ولا صدقات دائمة في عالم السياسة، ولكن هناك مصالح دائمة، وإن حجم قوتك في هذه الشبكة هو بمقدار ما تستطيع أن تعطل من مصالح للأعداء، ومقدار ما تستطيع أن تحقق من مصالح للحلفاء، من هنا نريد أن نشكل مدخلاً لدراسة جماعات الضغط السياسي، التي بمجرد معرفة مدى تأثيرها، وسياسة تحركاتها، ومقدار نفوذها سيتحول هدف الوصول إلى السلطة إلى هدف تافه، إذا ما قِيسَ بنفوذ وسلطة هذه الجمعات غير المرئية على مسارح السياسة.
جماعات الضغط السياسي جماعات شديدة الشبه بالأحزاب السياسية، في كثير من الأنشطة يخلط الكثيرون بينهما، ولكن بينها وبين الاحزاب السياسية اختلافاً جذرياً؛
فالأحزاب السياسية تتصف بالانتشار الفوقي، وتسعى للانتشار الجماهيري، والحشد الانتخابي ضمن برنامج سياسي لتنفيذ البرنامج حال كانت في السلطة، أو ممارسة المعارضة السياسية حال كانت خارج السلطة. بينما لا تسعى جماعات الضغط لذلك في كل الأحيان
وتختلف عن منظمات المجتمع المدني،
فمنظمات المجتمع المدني تعني في أبسط تعريف لها: كل مجموعة من المواطنين نظموا أنفسهم ذاتيًا من أجل دعم، أو تحقيق قضية مدنية من خلال العمل التطوعي، فتشمل الأحزاب جماعات الضغط النقابات الأندية الرياضية والثقافية والجمعيات الخيرية والتضامنية الخ…….
إن جماعات الضغط قد تكون سياسية أو فئوية، والغالب عليها أنها جماعات مصالح تسعى لتحقيقها من خلال الضغط على السلطة دون الرغبة في الوصول إليها.
ويطلق على جماعات الضغط عادة مسمى: (لوبي) أي الرواق أو الردهة، ومصدر التسمية: أن أصحاب المصالح كانوا ينتظرون رجل البرلمان، أو الوزير في أروقة البرلمان لتقديم مطالبهم. ويختلف الباحثون حول نظرتهم لجماعات الضغط :فمنهم من يراها ظاهرة ديمقراطية، حيث تجد الجماعات المختلفة فيها وسيلة للدفاع عن مصالحها، ومنهم من يراها تعكس حالةً من فساد سياسي في الواقع السياسي؛ حيث ينتصر أصحاب المصالح بقوةِ تأثيرهم ونفوذهم على أصحاب الأفكار والمبادئ، وفي ذلك تطفيفٌ وحيفٌ كبير.
تعريف جماعات الضغط:
ويمكن تعريف جماعة الضغط: بأنها مجموعة من الأشخاص لها مصالح مشتركة، أو رؤية مشتركة تضغط على الحكومة بوسائلها الإعلامية والاقتصادية والسياسية؛ لتحقيق مأربها الجماعية.
أقسام جماعات الضغط:
وتنقسم جماعات الضغط الى أنواع ثلاثة:
١ –جماعات ضغط سياسية: وهي تهدف لتحقيق رؤى سياسية، أو ضمان مصالح سياسية (كاللوبي الصهيوني في أمريكا المشهور بالضغط على الحكومات منذ قيام دولة إسرائيل إلى الآن) وإن كان هذا المثال يختلط السياسي فيه بالعامل العقائدي وراءه.
إنّ أحد أجنحة هذا اللوبي المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي المؤسَس في عام ) ١٩٧٤( في الولايات المتحدة الامريكية، ويضم باستمرار العديد من كبار السياسيين والعسكريين السابقين وحتى رؤساء وكالة المخابرات المركزية في هيئته الاستشارية، بالإضافة إلى العديد من مشاهير الإعلاميين والكتاب والمحللين، وظهر تأثيره جليًا إبان فترة تسعير الحرب على العراق في ولاية بوش، وقد كان العديد من رجال إدارته مرتبطين بهذا المعهد بشكل أو بآخر.
وكذلك فقد أثر اللوبي الياباني في الثمانينات على التشريعات الاقتصادية الأمريكية Kوتمكن من الحدِّ من تلك التشريعات؛ التي كانت تهدف لحماية السوق الأمريكي من تدفق البضائع اليابانية.
وتوجد أمثلة متعددة في دول مختلفة لجماعات ضغط سياسية، تتمثل في منظمات حقوقية وسياسية تهدف لتحقيق الديمقراطية، وضمانة الحريات العامة، وحقوق الانسان، ولها تأثير واضح في التحول الديمقراطي في كثير من الدول النامية، كتلك التي تتعهد بالرقابة على الانتخابات، وتوعية الرأي العام بالمرشحين ومواقفهم السياسية وبرامجهم الانتخابية وتاريخهم السياسي.
٢ -جماعات ضغط اقتصادية: وتهدف الى تحقيق مصالح اقتصادية (كاتحادات رجال الأعمال والصناعة والنقابات العمالية والمهنية في كثير من الاحيان (قد يكون لهذه النقابات اختصاصات تنفيذية، وقد يكون لها تدخل حكومي يخرجها من نطاق جماعات الضغط لنطاق المؤسسات الحكومية وتمارس ضغطًا على الحكومات ضمانًا لتحقيق مصالحها، وتتولى النقابات الوساطة بين المنتسبين إليها، وبين أصحاب الاعمال، في تحديد الأجور والامتيازات الوظيفية، وتحمي أعضائها من التعسف والظلم.
٣ -جماعات ضغط اجتماعية: وتشمل الجماعات المدافعة عن البيئة، والجماعات الدينية كالكنيسة الكاثوليكية كبيرة التأثير بفرنسا، وكجماعة عبد الله غولن في تركيا، وكجماعات الطرق الصوفية وجماعة محمود أفندي، وقد كان للأزهر سطوته في زمن ما على السياسة، وكذلك الحركات النسوية، وأحيانًا جمعيات خيرية وتنموية وثقافية، وإن كانت أهدافها اجتماعية في المقام الأول، يدخل فيها أهداف أخرى ثانوية اقتصادية أو سياسية.
المؤسسة العسكرية ودورها في جماعة الضغط:
يصنف البعض المؤسسة العسكرية كجماعة ضغط منفردة، أو كأحد جماعات الضغط السياسية، فحتى تلك الدول الموغلة في الديمقراطية، والتي يعتبر خضوع المؤسسة العسكرية للقيادة المدنية من المُسلمات، يظل للعسكريين ثقلٌ يمارسون بها ضغطًا في مواضيع متعددة، وقد عبر الرئيس الأمريكي الراحل إيزنهاور في عام (١٩٦١) بمصطلح (المركب العسكري الصناعي) ليشير به الى العلاقات بين الجيش والشركات الخاصة المرتبطة به، وتأثيرها على العلاقات الخارجية، وسياسة التسلح وغير ذلك، ولكن يظل هذا التأثير محدودًا؛ فلم يستطيع الجيش منع الانسحاب الأميركي من فيتنام، ولم يستطيع الجيش الفرنسي منع ديجول من حيازة السلاح النووي، ولكن يصعب على الباحث المدقق التغاضي عن كون وزير الدفاع في عهد كيندي هو روبرت مكنمار الرئيس السابق لشركة فورد، ووزير دفاع إيزنهاور نفسه كان شارلز ويلسون رئيس جنرال موتورز الأسبق، وطبقًا لتقرير رسمي فقد كان هناك أكثر من ٢٠ ألف ضابط متقاعد يحتلون مناصب إدارية كبرى في الشركات الخاصة في العام ١٩٦٩، والعلاقات بين الشركات الكبرى التي تتعاقد مع الجيش الأمريكي، وأعضاء الكونجرس والحزبين أكبر من أن يتم تجاهلها، ولكنّ محاولةَ السيطرة على نفوذ هذا المركب العسكري الصناعي مستمرةٌ؛ لضمان عدم خروجه عن الإطار المقبول من النفوذ والقوة
فقد أصدر وزير الدفاع في عهد نيكسون جيمس شيلسنجر أوامره للجيش بعدم إطاعة الرئيس إن أصدر قراراً بضربة نووية؛ لشكه في اتزانه النفسي، وانضم للضاغطين عليه لتقديم استقالته بعد فضيحة ووتر جيت، وكذلك رفض الجيش تنفيذ أوامر كيندي في إزالة الصواريخ الأمريكية من تركيا قُبيل أزمة الصواريخ الكوبية، ويؤكد بعض الباحثين أنّ الاتحاد السوفيتي كان لديه مركب مماثل، وأن القيادات العسكرية والصناعة الثقيلة تحالفوا مع الجناح المحافظ في الحزب الشيوعي للإطاحة بخروتشوف.
ولكن في دولة كالصين فالأمر يختلف فقد أعاد الجيش ماوتسى تونغ للسلطة بعد الثورة الثقافية وحسما الموقفَ عدة مرات بين الزُمر المتنافسة داخل الحزب الشيوعي.
ولجيش التحرير الصيني أنشطة متعددة بعيدًا عن الجانب العسكري، فيؤدى مهام مدنية متعددة وساهم في التنمية الزراعية، والإنشاءات مساهماتٍ كبرى.
والعلاقات السياسية العسكرية متشابكة في الدول الاشتراكية حيث قادة الجيش أعضاء في الحزب يلتزمون بقرارته ويتأثرون بالصراعات الداخلية في صفوفه.
والعسكريون دومًا كانوا فئة خطيرة سياسيًا، فمنذ قديم الزمن مُنعت القوات العسكرية من دخول روما، وعزل أفلاطون في مدينته الفاضلة طبقةَ الجند عن سائر المجتمع، وقد ساد اعتقادٌ أن القوة هي مصدر السلطة، حتى قيل: إن أول ملك كان جنديًا موفقًا. ولهذا أمثلة تاريخية متعددة، والدولة تسعى لاحتكار القوة، ولا تسمح للمواطنين باستعمال السلاح إلا تحت أمرها ومراقبتها الحثيثة.
وإن دخولَ العسكريين معترك السياسية متحيزين إلى فئة أو طبقة أو لمصالحهم الخاصة أمرٌ متكرر في التاريخ، وإن كانت إقامة الديكتاتورية العسكرية لفترة طويلة أمرًا نادرًا لطبيعة العسكريين ونفسيتهم ففي الفترة (1945 و1975 ) وقع ١٢٨ انقلاباً ناجحاً في ٥٦ دولة نامية، وأكثر من ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة كانت تحت الحكم العسكري في العام (١٩٧٦)، ولكن الواقع الدولي الآن يعتبر الأنظمة العسكرية شاذةً، ولا يتعاون معها الإ في نطاق ضيق، و يقتصر وجودها بشتى صورها على العالم الثالث، وعادة ما تعتمد المؤسسة العسكرية على البيروقراطيين وبعض الأحزاب السياسية التي كانت في صفوف المعارضة قبل الانقلاب لإدارة الأمور، التي لا تمتلك الخبرة، ولا الرغبة في إدارتها، فالحكم العسكري التام المباشر غاية في الندرة بينما الشائع الحكم العسكري غير المباشر حيث تكون السلطة المدنية صورية، والحكم شبه مدني، حيث يتحكم العسكريين في القرارات الهامة والمصيرية، بينما يُترك للمدنيين المسائل الداخلية والخدمية وكذلك يكون هناك نوع من التزاوج بين السلطة المدنية الديكتاتورية، والمؤسسات العسكرية التي تدعمها، وتَدَخُل المؤسسة العسكرية في الشؤون ذات الطبيعة السياسية عادةً ما يكون تحت ذريعة حماية الأمن القومي ومقتضياته.()
يعدد صامويل هنتنجتون أربعة عوامل لتوازن العلاقات السياسية المدنية في النظم الديمقراطية
١ -درجة عالية من المهنية في عمل القوات المسلحة.
٢ -خضوع المؤسسة العسكرية للقيادة المدنية المنتخبة، والتسليم بحقها في تحديد ملامح العلاقات الخارجية والعسكرية.
٣ -قبول القيادة السياسية المدنية باستقلالية المؤسسة العسكرية المهنية.
٤ -تحجيم التدخل السياسي في الشؤون العسكرية، وتحجيم التدخل العسكري في الشؤون العسكرية بشكل عام.
وبنظرة سريعة لتاريخ العلاقات العسكرية المدنية في العالم نجد: أن السبب الرئيسي وراء الحركات الانقلابية بما في ذلك الثورية) أدلجة الجيوش، واستبدال الإدارة التكنوقراطية بأخرى أيدلوجية متحزبة) سواء تم ذلك من خلال الحكومة، أو المعارضين، أو من خلال قادة عسكريين تشبعوا بالأفكار الأيدلوجية، واستغلوا مناصبهم لتحقيقها ثمّ فشل الإدارة المدنية في السيطرة على الدولة خاصةً في أوقات الأزمات، وأخيرًا فساد النخبة العسكرية وارتباطها بمصالح مع جماعات مدنية وهذا ما يعد نتيجة طبيعية لفشل الإدارة المدنية وضعفها أمام توغل المؤسسات العسكرية.
(وقد شهدنا هذه الحالة في سورية فترة الخمسينيات؛ حيث ولّد ضعف السلطات المدنية ـ التي تعاقبت على حكم البلاد، وتحزيب الجيش بالأفكار القومية والشيوعية والناصريةـ إلى دخول البلد ضمن دوامةٍ من الانقلابات العسكرية بدايةً ضد الإدارة المدنية، ومن ثَمَّ قامت التيارات داخل الجيش بتصفية بعضها البعض، وقد بدأت من انقلاب حسني الزعيم إلى أن تمت مصادرة الحياة السياسية واستقر حكم الأسد الأب والابن لأكثر من أربعين سنة).
بينما قد تفيد القيود الدستورية في منع السياسيين من التدخل في الشئون العسكرية، ومحاولات تحزيب الجيوش، لا تساوي هذه القيود شيئًا في مكافحة طموح العسكريين السياسي إنْ فشل السياسيين المدنيين في الحكم، ووضع قبضتهم على مقاليده.
فلم يمنع الدستورُ ولا القسم عليه على عدم التدخل في الحياة السياسية ضياءَ الحق من القيام بانقلاب (١٩٧٧) في باكستان، ولا برويز مشرف (١٩٩٩)، وكذلك الحال في الجزائر التي حكمها المجلس الأعلى للأمن منذ عام (١٩٩٢ ) بعد إلغاء نتيجة الانتخابات إلى اليوم، ولم يمنع السيسي وزير الدفاع في حكومة هشام قنديل من الانقلاب على حكم الرئيس مرسي المنتخب ديمقراطياً في مصر من تنفيذ انقلاب عسكري، والاستيلاء على رأس السلطة بحكم عسكري شمولي.
وسائل جماعات الضغط
تستخدم جماعات المصالح عدة وسائل من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها، وتختلف هذه الوسائل تبعاً لطبيعة الجماعة، وحجمها، وإمكاناتها، وأهدافها، والواقع الذي تعمل فيه، وهي تستخدم في ذلك:
أساليب مشروعة: مثل الحوار، والنقاش، والتقارب، وإعداد الدراسات العلمية حول الموضوعات التي تتبناها وتقديمها إلى صانع القرار.
ووسائل أخرى غير مشروعة: كالرشوة، واستخدام العنف، والفساد، والمحسوبية، وسوف نقوم هنا بتسليط الضوء على أهم الأساليب التي تستخدمها جماعات المصالح.
وهي على النحو التالي:
1 -الاتصال بالمؤسسات السياسية: فقد تلجأ جماعة المصلحة إلى الاتصال بأعضاء البرلمان لحثهم على استصدار قرارٍ أو قانونٍ معين يخدم مصلحتها، أو الاتصالِ بالسلطة التنفيذية بهدف إقناعها بانتهاج سياسةٍ معينةٍ، أو وقفِ إجراءات تضر بمصلحة الجماعة.
وفي بعض الأحيان تقوم السلطات السياسية من جانبها بالاتصال بهذه الجماعات بهدف استطلاع رأيها حول مشروعات القوانين قبل إصدارها.
2 -المساندة الانتخابية: حيث تقوم الجماعة خلال فترة الانتخابات بمساندة الأحزاب والأفراد المؤيدين لمطالبها، وهي ترمي من وراء ذلك إلى كسب رضى هذه الأحزاب والقيادات، ومن ثَم النفاذ الى مواقع صنع القرار، والتأثير على السياسات الحكومية بما يخدم مصلحتها.
3 -الاستمالة: حيث تلجأ الجماعة الى التقرب من المسؤولين الحكوميين بإقامة علاقات معهم بهدف كسبهم إلى صفها، وقد تستخدم في ذلك وسائل مشروعة، وأخرى غير مشروعة كتقديم الهدايا والرشاوي وغيرها.
4 -مخاطبة الرأي العام: وهنا تقوم الجماعة بمخاطبة الرأي العام بهدف كسب تعاطفهم، أو تجنب معارضته لمطالب الجماعة، وبسبب زيادة أهمية الرأي العام في العقود الأخيرة، والناجم عن التطورات الهائلة في تقنية الاتصالات، فقد أصبحت جماعات المصالح تولي الرأي العام أهميةً كبيرة، وتعول عليه في معاركها المحتملة مع السلطات الحاكمة، على أن ومما تجدر الإشارة إليه: أن مخاطبة الرأي العام تتوقف على نوعية القضايا المطروحة، فكل ما كانت القضية ذات طابع قومي عام، وكلما كانت تَهمُّ قطاعاً أكبر من المواطنين كلما تعاطف معها الرأي العام، وكلما ضاقت الشريحة التي تحمل الموضوع كلما تعذر تحويلها الى قضية رأي عام.
5 -الاحتجاجات العنيفة: على الرغم من أن جماعات المصالح تعوّل كثيراً على الوسائل السلمية في سعيها لتحقيق مصالحها، إلا أنها تلجأ في بعض الأحيان إلى وسائل عنيفة كالإضراب عن العمل، أو تسيير المظاهرات إلى غير ذلك من الوسائل العنيفة.
سلاح الإعلام الأقوى في أساليب جماعات الضغط:
أهم وسائل جماعات الضغط هو بالتأكيد الإعلام الذي يحرك الجماهير بشكل كبير، ويشكل رأيه حول عديد من القضايا الهامة، ويضرب المثل بحالة معادة الشيوعية الحادة في أميركا في الخمسينات من القرن المنصرم، وللدخول في الحرب دفاعًا عن الديمقراطية والعالم الحر كما قيل في الستينات ثم التسعينات، وبينما يَصِمُ الاشتراكيون الإعلامَ الرأسمالي بأنه إعلام يحوّل جمهوره إلى بلهاء سهلة الانقياد، كما يوصم الإعلام الاشتراكي والحكومي عامة بأنه إعلام يقوم بعملية غسل مخ منظمة للجماهير.
ويقوم الإعلام بدور كبير في عملية تنجيم السياسيين وتلميعهم، فيضيفون على القادة صورةً أسطورية، وسمات بطولية ومثالية بعيدةٍ تمامًا عن الواقع؛ فيحصلون على شعبية تمكنهم من حسم القضايا المختلفة لصالحهم.
حتى قيل: إن الإعلام في النظم الديمقراطية هو بمثابة الهراوات في الدول الشمولية، لكننا لا نشعر بلسعها وهي تجلد عقولنا، وتضغط على مداركنا؛ لنُقِرَّ بما لا نعتقد، ونرى الحقيقة مقلوبة عن واقعها، وقد رأينا كيف ساهمت الحملة الإعلامية المسعورة، التي قام بها أوركيسترا من الإعلاميين المصريين إبّان حكم الرئيس مرسي بشيطنة شخصية الرئيس، ودفعت بجموع كبيرة للنزول إلى ميدان التحرير تطالب بإسقاطه مستعينة بالجيش.
وعلى كل حال فالقول بوجود الإعلام المستقل دومًا محل شك، فإن لم تكن هناك ضغوط حكومية علنية أو سرية، ولا ارتباط بمصالح حزبية أو فئوية تبقى الضغوط الاقتصادية وعوائد الاعلانات باباً كبيراً للتأثير على وسائل الإعلام المختلفة، وفى النهاية تبدو الاستقلالية التي تتطلب الموضوعية المقاربة للحياد: أن يقوم على وسيلة الإعلام أناس على قدر كبير من الموضوعية ؛ بحيث يجنبون اختياراتهم الشخصية في المواد التي يقدمونها للجمهور، ولا شك في ندرة هذا النوع من البشر، ولكن تظل مساحة الموضوعية “النسبية” مرتبطة بالاستقلالية النسبية” للمؤسسات الإعلامية، فتلك غير المتحزبة أو المتحيزة أو المدفوعة من أصحاب مصالح بِعَيْنهم، تسعى لإرضاء العميل القارئ أو المشاهد فتحاول الوصول لأكبر قدر ممكن من المصداقية، ولا يتأتى إلا بقدر جيد من الموضوعية وهنا يظهر دور طبيعة الطبقية في المجتمع في الصورة، فالمجتمع الذي تكون فيه الفوارق الطبقية أمرًا ثانويًا، وينتقل أفراده من طبقة لأخرى بسلاسة عادةً ما يكون إعلامه أكثر حيادية من ذلك المجتمع الذي تسوده طبقة بعينها، وتحتكر الوظائف ذات الأهمية النوعية، وفي مقدمتها وظائف الإعلام التي لا تَقل أهمية عن وظائف الأمن والإدارة العليا.
ولكن في عصرنا هذا ساهم تعدد وتنوع وسائل الإعلام، وظهور وسائل النشر الإلكترونية التي كسرت احتكار الشركات الإعلامية الكبرى لهذه المنابر، وأتاحت لكل شخص أن يفتح لنفسه نافذة على العالم ويبدأ بعملية التأثير على المتابعين، أخرجت المتلقي من أَسْر الاحتكار الإعلامي للمؤسسات الإعلامية والإمبراطورية الإعلامية الكبرى.
وكذلك ساهمت زيادة مستوى ثقافة الجماهير واطلاعها في الحد من خطورة الحملات الدعائية، التي كونت عند الجماهير مناعة نسبية من تأثيرها الجارف، فلم يعد يمكن القول بإن حملة إعلامية مكثفة كفيلة بتحقيق الغرض، ودفعِ الجماهير إلى تبني موقف بعينه محسومًا، بل أصبح يُعَدُّ أمرًا نسبيًا قد يحدث، وقد يفشل فلم يعد يمكن القول بسهولة:
(أنّ ما حققته لجنة جبريل التي دفعت الشعب الأمريكي من زاهد في الخوض في مشكلات أوروبا لمتعطش للحرب ضد الألمان في (١٩١٦) يمكن تكراره، وفي الحقيقة أن الإحصاءات تؤكد أن الجماهير لم تعد سهلة الانقياد كما كانت سابقًا، ففي عام (٢٠٠٦ ) تبين أنّ ٢٢ % فقط من متابعي القنوات التلفزيونية الأكثر مشاهدة أنهم يصدقون كلَّ أو معظم ما يعرض لهم، وكذلك المؤسسات الصحفية ذات السمعة الجيدة:
نيويورك تايمز حصلت على ٢٠ %، وول ستريت جورنال ١٨ %، وحتى نشرات التلفاز المحلية تدهورت مصداقيتها من (٣٤ % في عام ١٩٨٥ ) إلى (٢٢ % في عام ٢٠٠٦).
وإن كان الإعلام دومًا يستهدف استقطاب أكبر عدد من النخبة، التي تحوز ثقة الجماهير واحترامهم من الساسة والمفكرين ورجال الدين. الخ لصالح قضية أو لأخرى، إلا أنه يستهدف الجماهير مباشرةً أيضًا بحيل نفسية تبدو أنها بسيطة، ولكنها ذات تأثير هائل، فاستدعاء الانتماء الوطني لأي قضية كثيرًا ما يحسمها للمترددين، حتى وإنْ لم تكن للهوية الوطنية علاقة بالموضوع، أو حتى لوكان الموقف الذي يحشد له الناس مضراً تماماً بالمصلحة الوطنية، ففي حرب الخليج الثانية كان الشعار للحرب على العراق: “أيدوا قواتنا” فمن يقول: لا لتأييد قواته؟ أما الأقلية التي تسأل فيمَ أؤيد القوات؟ وما هو الموقف؟ تحديدًا فلهؤلاء جيوش جاهزة من المحللين والمثقفين لتأييد القرارات ودحض حجج مخالفيها، أو على الأقل التشكيك فيها، ففي حرب احتلال العراق التي خاضها بوش الابن كان المبرر هو نشر الديمقراطية في العراق، فمن هذا الذي سيقف في وجه قيمة الديمقراطية وهي البضاعة الثقافية للولايات المتحدة الأمريكية.
حتى وصل الأمر ببوش الابن أن جعل من مهمة غزو العراق أمراً وتكليفاً إلهياً، فهل من يقف ضد مشيئة الله تعالى! وقد لاحظ المحللون ارتباط مشاهدي قناة فوكس نيوز لتأييد الحرب على العراق أكثر من غيرهم وتأييدهم للرئيس وقتها بوش الابن والحزب الجمهوري، لكن هذه الخطة لم تحقق نجاحًا كاملاً في حرب فيتنام مثلاً؛ حيث ظلت الأقلية الرافضة نشطةً، تمارس ضغطًا وتوعية ورفضًا للحرب حتى نهايتها.
وحتى من دون ذلك فالانتقائية في عرض بعض الحقائق، وتجاهل بعضها لها تأثير عظيم، فأنت تتخذ موقفًا من قضية بناء على المعلومات التي تتاح لك بشأنها، فإن كان كم المعلومات الذي يصب في صالح موقف بعينه أكبر بكثير من كم المعلومات المساوي أو يزيد في الأهمية لصالح موقف مغاير فغالبًا ستأخذ هذا الموقف ذو الأدلة البرّاقة، بالتأكيد أيًا كان قدر ثقافتك، وإلا شككت في موضوعتيك وربما كانت كذبة أسلحة الدمار الشامل التي خدع بها بلير الشعب البريطاني لخوض حرب احتلال العراق في (2003) دليلٌ حي في دور المخابرات في حجب وتمرير المعلومات التي تريد من أجل بناء رأي عام مؤيد لسياسة الحكومة.
وتبرز على الساحة الوسائل الإعلامية الموجهة للفئات العرقية والطوائف الدينية المختلفة بشكل يعتبره البعض مثيرًا للقلق، حتى من الليبراليين الذين يتخوفون من أثار سلبية متوقعة من الخطاب المخصص الذي قد يعمق الخلافات بشكل يصل للتحريض رغم انحيازهم لحرية واسعة للإعلام
إن دور الاعلام على مر العصور في تحريك القضايا السياسية لا يمكن إنكاره فمذبحة بوسطن (١٧٧٠) مثلاً، والتي تحولت لأيقونة الثورة الأمريكية ضد البريطانيين وشرارتها، ووزعت رسوم بول ريفيرس لها، ومقالات صامويل إدمز عنها بكثافة، فحرضت السكان المحليين على التمرد ضد السلطات البريطانية ومقاومتها، والانضمام لمطالب الاستقلال.
ومنذ بداية السينما استُخدمت للدعاية السياسية، خاصةً في أوقات الحروب، فأنتجت مئات الأفلام بدعم حكومي ظاهر أو مستتر؛ لرفع المعنويات وشحذ الهمم، ولا يقتصر الأمر على تقوية الجبهة الداخلية فقط بل لعبت الدعاية والاعلام دورًا قويًا في إضعاف الأعداء.
ففي عام (١٩١٨) قام الحلفاء بتوزيع الملايين من الصحف والمنشورات على جنود إمبراطورية النمسا والمجر، ويقدر بعض الباحثين أن نتيجة هذه العملية الدعائية الواسعة، كانت استسلامُ وهروب مئات الألاف من الجنود ذوي الأصل السلافي، الذين استهدفت المواد الدعائية حِسَّهم القومي، وحقَّهم في تقرير مصيرهم، بدلاً من خوض حرب لصالح غيرهم.
وما كانت وزارة جوبل الدعائية الشهيرة في ألمانيا النازية إلا ردَّ فعل متوقع؛ للتأثير الكبير الذي أحدثته وسائل الدعاية التابعة للحلفاء، من راديو وصحف في الحرب العالمية الأولى حتى أنَّ نشرة الأخبار الخاصة بالجيش ورد فيها عشية الهزيمة: (لقد أوقع بنا العدو الهزيمة في مجال دعاية المنشورات، فإن إطلاق السهام من مخبأ آمن لم يكن أبدًا فنًا ألمانيًا)
ولا يمكن إنكار دور الصحف الروسية الثلاث: إيسكرا ثم برافدا ثم ازفيستا، في الثورة البلشفية برغم غلبة الأمية على السكان، كمثالٍ واضحٍ على استخدام الإعلام لتسويق الإيدلوجيا، و تحويلها من نظريات وأفكار في عقول قلة محدودة من المثقفين، إلى واقع ملموس، وكلما زاد تأثير الإعلام كلما زادت رغبة السياسيين في السيطرة عليه.
وقد شاع خلال سنوات الحرب العالمية الثانية مصادرة الصحف، وتكثيف الرقابة عليها (في دول الحلفاء الديمقراطية)، وكذلك إجزال العطاء للمتعاونين مقابل التضييق على غيرهم، فلم يكن غريبًا أن يجلس في استوديوهات البي بي سي في الأربعينات رقيبًا، يضع أصبعه على زر إيقاف البث، ولم يكن بالأمر الغريب أن يجهل عامة البريطانيين عروض ألمانيا للسلام في الحرب العالمية الثانية.
كما أدخل الأمريكيون أساليب جديدة فاخترعوا قنبلة مونروا؛ وهي جهاز يقذف عشرات الألاف من الصحف والمنشورات فوق المناطق المستهدفة، وأضفت هوليود على صناعة الفيلم الموَّجه لدعم المجهود الحربي، وتقوية الجبهة الداخلية، الكثيرَ من الضخامة الإنتاجية والجودة.
واستمر الاستخدام الفعَّال للغاية للإعلام سياسيًا بعد الحرب في واجهة الخطر الأحمر؛ الذي استُعمل كذريعة لمواجهة المعارضين السياسيين على تنوعهم، وامتلأت الصحافة والسينما والتلفزيون الأمريكي بمواد دعائية، تحذِّر من العناصر الهدّامة والطابور الخامس بدعمٍ سرِّيّ من المخابرات، ثم أصبح علنيًا عندما أصبحت المبالغ أكبر من حيز السِّرية، فحملة الرئيس ترومان ضد الشيوعية (١٩٥١) حصلت على ميزانية رسمية من الكونجرس بمقدار ١٢١ مليون دولار. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد من الممكن بقاء ـ أجهزة كمكتب الخدمات الاستراتيجية الأميركي؛ الذي خصص للعمليات القذرة، والتخلص من مصادر القلق ـ بعيدًا عن الطرق القانونية سواء الداخلية، أو قوانين الحرب، فألغاه الرئيس ترومان معلقًا: أنه لا يريد في وقت السلم شيئًا يشبه الجسابوا الألماني. ولكن مع وضوح الخطر الشيوعي، والتوسع السريع للاتحاد السوفيتي ونفوذه، كانت خطة المواجهة على محورين:
اقتصادي: تمثل في مشروع مارشال بدعم الاقتصاديات في أوربا الغربية، خاصةً المهددة بالسقوط في يد الأحزاب الشيوعية، كاليونان، ثم برنامج النقطة الرابعة، الذي ربط التعاون الاقتصادي بالدخول تحت مظلة الامم المتحدة، وقبول الديمقراطية لتحقيق السلم.
ومحور ثقافي: تولته المخابرات الأمريكية سي اي ايه منذ إنشائها (١٩٤٧)، واعتمد على ترويج الثقافة الرأسمالية، ومكافحة الشيوعية، ورسم صورةً مشرِقةً لطريقة الحياة الأمريكية، واستخدمت لتحقيق مسعاها مجهوداتِ أعدادٍ غفيرة من المثقفين والفنانين، سواء في داخل أمريكا لكشف المتعاطفين مع الشيوعين وفضحهم، أو في خارجها، و كوّنت منظمة الحرية الثقافية، التي أصدرت أكثر من عشرين مجلة، ونشرت فروعها في ٣٥ دولة حول العالم، بخلاف التدخل العميق بطرقٍ متعددةٍ في الكثير من المنارات الثقافية.
ولم يكن جهاز المخابرات السوفيتي (الكي جي بي) بأقلَّ كلفة بحال، وبدأوا مبكرين مدركين أهمية القوة الدعائية والإعلامية في الغزو الثقافي، فبينما كانت برلين مدينة محطمة يفتش ساكنوها البؤساء عن حطب للتدفئة، ويتنازلون عن الكثير من أجل رغيف الخبز في نهاية الحرب أنشأ الروس مركزاً ثقافيًا، ينضح بالفخامة، في الجزء الذي يسيطرون عليه من المدينة، واستخدموا المجلس الأعلى للعلوم والفنون والمهن، كقاعدة لإطلاق الطلعات الثقافية على العالم، ولم يسلم منها حتى أميركا، والتبدل واضح في تعامل الصحافة الأمريكية والبريطانية مع روسيا أثناء الحرب، حيث كانت صورة السوفييت دومًا طيبة، ويغضُّ الطَّرف عما لا يفيد التحالف ذكره، وبعدها حيث اكتشفت الفظائع التي ارتكبها السوفييت فجأةً، وتحول ستالين من رجل عجوز حكيم إلى سفاح مهووس، ولا يخلو الأمر من بعضِ فكاهةٍ؛ فكتاب كويستلر المعادي للشيوعية
بعنوان: (الظلام وقت الظهيرة)، كانت الخارجية البريطانية تشتري عشرات الآلاف من نسخه؛ لتوزيعها، بينما كان الحزب الشيوعي الفرنسي يحاول شراء كافة نسخ الكتاب بأوامر من موسكو لإتلافها ومنع انتشاره، فحقق كويستلر أرباحًا كبيرة لم يكن ليتوقعها.
وعندما أقيم مؤتمر(والدروف)، الذي كان ظاهره التواصل الثقافي بين الاتحاد السوفيتي وأميركا، كانت المخابرات الأمريكية تحاول استخدامه لزيادة حالة الخوف من انتشار الشيوعية ضمانةً لتعاون أكبر من المثقفين وجرهم للمنافسة، بينما استغل (الكي جي بي) المؤتمر في إثارة هلع الأمريكيين، وإشعارهم بأن الشيوعية تنتصر، وتغزوهم في عقر دارهم، فحوصر المؤتمر بتظاهرات معارضة، وأقيمت صلوات جماعية للدعاء للروس بالهداية، وكان تأثير هذا على المواطن العادي أكثر سلبًا مما كان يتوقع الأمريكان.
وشاع الدعم بالجوائز الأدبية، والتلميع الإعلامي للمثقفين والأدباء والفنانين المتفاهمين، وإقصاء هؤلاء الخارجين عن النَّصِّ سواء بشكل مباشر، أو من خلال دوائر ضغط ثقافية، وتكتلات إعلامية، واستمر الدعم المخابراتي الأمريكي (المنظور) إلى نهاية الحرب الباردة.
إن نفس الأمر اليوم يتكرر في دعم الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص للدعاية الإعلامية السوداء لداعش والقاعدة، التي كانت تحرص أمريكا على إيصالها للشعب الأمريكي لخلق حالة من الرعب والخوف من الإسلام السياسي، حتى أنَّ الأمريكان مارسوا الضغط على قناة الجزيرة لتدخل في نفس الأوركسترا، وكان الاستثمار في تقبّل الشعوب الغربية لأي خطوة للتدخل العسكري في المنطقة، والتغاضي عن الانقلابات العسكرية؛ للإطاحة بالإسلام السياسي حين أوصلته الديمقراطية إلى السلطة في بعض البلدان.
وفي تصوير الحرب في سورية أنَّها حربٌ بين نظام استبدادي، وحركات إرهابية مما يعفي الحكومات الغربية من المسؤولية الأخلاقية أمام شعوبها تجاه مواجهة النظام السوري، ووضع الحدِّ لانتهاكات حقوق الإنسان.
وإن كان هذا في الأمور السياسية، ففي المسائل الاقتصادية أعمقُ بكثير؛ فالموضةُ التي انتقلت من حيز الملابس والإكسسوارات لتشملَ الأجهزة الكهربية والالكترونية والسيارات.. الخ
والانتشارُ السريع لسلع بعينها، والنمو المضطرد لشركات وانهيار غيرها، عادةً ما يكون مرتبطًا بالدعاية إيجابيةً كانت أو سلبيةً، والتي واقعها المتصارع في حالة الشركات العملاقة أكثر شراسة مما يظهر للعيان.
تأثير جماعات الضغط:
يختلف تأثير جماعة الضغط من حالة لأخرى حسب عوامل متعددة:
١ -مشروعية وجودها، فإن كان القانون لا يسمح بوجودها تنظيميًا يصعب عليها أداء عملها.
٢ -نوعية القضايا التي تتبنها، ومدى القَبول الشعبي لها.
٣ -قوتها التنظيمية ومواردها المالية وحجم العضوية فيها ونوعية الأعضاء.
لأنّ اعتمادَ مثل هذه الجماعات غالباً ما يكون على العدد النوعي، وليس الكمي.
ولهذا لا توجد لها قاعدة ثابتة، ويصعب أخذ موقفٍ إيجابي أو سلبي منها بشكل عام، وإنما تدرس كل حالة من حالاتها على انفراد. ()
لكن حتى نعرف كيف تؤثر جماعات الضغط السياسي، لا بد لنا أنْ نحدد الدائرة والميدان الذي يجب أن تتحرك فيه، وتتقدم منه إلى التأثير والضغط على السلطة والدولة العميقة، وهذا ما سنشرحه في نظرية الكتل والأوزان.
نظرية الكتل والأوزان في اختراق الدولة العميقة والتأثير على السلطة:
هذا النموذج أمامنا يمثل تقاطع دوائر ثلاثة فينتج من هذا التقاطع المنطقة الرابعة في الوسط وهي موضوع كلامنا منطقة ربط المصالح:
النظام السياسي نعرّفه: هو من يحتكر القوة والسلطة التنفيذية والتشريعية، والنظامُ يتشكل عادةً من السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، ومن ضمنها السلطة الدينية، والإعلامية، والثقافية كأدواتٍ ناعمةٍ في التأثير.
المعارضة: هي الأحزاب والجماعات والأفراد المتضررة من النظام السياسي، يتواجد في منطقة المعارضة؛ لأنه متضرر من النظام، وهذه عادةً ما تقتصر أدوات قوتها على الأدوات الناعمة من الإعلام، والتأثير الثقافي والاقتصادي.
المولاة هي المجموعات المنتفعة والمستفيدة من تواجد النظام السياسي، والتي تدفع بقوة للمحافظة عليها، وحمايته من الانهيار. عادةً يكونون من (التجار المشايخ أعيان البلد الطبقة الأرستقراطية).
أخطر المناطق منطقةً هي منطقةُ تقاطع المصالح، تاريخاً كان يسيطر عليها الأقليات خصوصاً اليهود في العالم، الأقباط في مصر، المسيحين والعلويون في سورية، وهي المنطقة التي توازن المصالح السياسية والاقتصادية بين الدوائر الثلاثة (السلطة، المعارضة، المولاة)، والاقتصادية بين مكونات الدولة، بحيث تضمن عملية الاستقرار للنظام.
هذه المنطقة تستفيد من العلمية الديمقراطية في كل دول العالم، خصوصاً في النظام الرئاسي البرلماني، وتستطيع تحقيق التوازن بين الكتل، وهي القادرة على الحشد المالي والإعلامي وراء من تريد إيصاله للسلطة، ضمن تحالفات واتفاقات توازن المصالح لكل الكتل؛ لضمان الاستقرار وعدم طغيان كتلة على أخرى؛ لما يسببه ذلك من الانفجار وانعدام الاستقرار، الذي يتسبب بالإضرار بمصالح الجميع.
لذلك فأيَّ محاولةٍ للوصول إلى السطلة اعتماداً على الأكثرية العددية فقط ستبوء بالفشل عند التصادم مع هذه الأقلية النوعية.
فلو كانت كتلة المعارضة 50 مليون نسمة، والمولاة 60 مليون نسمة، وعدد منطقة تقاطع المصالح 5 مليون نسمة، هذه الخمس ملايين تعادل قوةَ كتلتي المولاة والمعارضة؛ لأنها عدد نوعي ومؤثر ونافذ، بينما أكثرية المعارضة هي أكثرية غير نوعية، هي أكثرية عددية قد تكون عبئاً على حاملها.
لذلك تضطر المولاة أن تتوجه لكسب هذه المنطقة، وتتوجه كتلة المعارضة أيضاً لكسب هذه المنطقة لمصلحتها كذلك، مما يسمح لهذه الفئة أن تساوم الجميع في بازر سياسي صريح، ومما يسمح لمنطقة تقاطع المصالح أن تحقق موازنة بين هذه الكتل، فتسيطر وتحتوي من خلالها كتلتي المعارضة والمولاة، ضمن اللعبة الديمقراطية وتقاسم النفوذ.
لنرى حجم قوة هذه الفئة نأتي لأي دولة مثلاً:
لو عندنا دولة عدد سكانها عشرة ملايين، ودخلها الاقتصادي يساوي 200 مليوناً.
لو أردنا تقسيم الثروة:
عدد المتضررين من المعارضين للنظام مثلاً 8 ملايين، وتكون حصتهم من الكتلة المالية 20 مليوناً فيكون نصيب الفرد 2.5 دولا للفرد الواحد.
نأتي لمنطقة تقاطع المصالح وليكن عددهم نصف مليوناً مثلاً فيكون نصيب الفرد فيها 160 دولاراً للفرد.
نأتي لمنطقة المولاة وليكن عددهم مليوناً ونصفَ مليونٍ فيكون نصيب الفرد الواحد 66 دولاراً للفرد الواحد.
هذا التفاوت بين عدد السكان، وتقاسم الثروة هو العامل الأخطر في تفجير الثورات عندما يقع فيه الاختلال بشكل كبير.
ويحقق الاستقرار السياسي عندما يكون أقرب للعدالة والتوازن، وهذا ما تقوم به جماعات الضغط السياسي.
هذه المنطقة من أخطر المناطق؛ حيث أنها تتضخم في حالة الفوضى من خلال تحريك الشارع ضد السلطة، وفي حالة الاستقرار من خلال تأثيرها على السلطة من قنوات نفوذها على المؤسسات.
وهي منطقة الاختراق لمن يريد الإمساك بالسلطة، والتموضع في الدولة العميقة التي تتحكم بخيوط اللعبة السياسية.
لكنَّ الذي يحصل أنّ النظام دائماً بحاجة لمعارضة، وغالباً ما يعمل على صناعتها بنفسه حتى يتمكن من ضبط التوازن في الدولة بين هذه الكتل.
وعندما يقوم النظام بمسح المعارضة، أو القضاء عليها ستتضخم منطقة ترابط المصالح، وتزاد مكاسبها المادية على حساب مكاسب وثروات منطقة المعارضة، مما يؤدي إلى حالة الانفجار والثورة الشعبية تحت ضغط الظروف الاقتصادية، كما حدث في سورية ومصر عندما تضخمت الأقليات النافذة على المعارضة، وضغطت على المتضررين من النظام إلى درجة لا تُحتمل،
ففي هذه الحالة التي تغيب فيها المعارضة أن الذي يحصل تضخمٌ في منطقة المصالح مما يضغط على منطقة المعارضة، والذي يؤدي غالباً إلى تفجر الثورات.
نأتي لمثال تركيا:
الحركة الإسلامية كانت تتمركز في منطقة المعارضة، وكانت مسؤولية الدعوة والعمل الخيري ترهق جماعة أر دوغان وأربكان.
وكانت الحركة الإسلامية تتحرك من منطقة المعارضة إلى السلطة، وفي كل مرة تقوم منطقة ربط المصالح (الدولة العميقة) بالانقلاب عليهم لإعادة موازنة المصالح مع الكتل الأخرى.
استطاع أردوغان من خلال تكتيك جديد الانتقالَ من منطقة المعارضة إلى التحالف مع جماعة فتح الله كلن القابعة والمتمركز في منطقة تقاطع المصالح ما يسمى (الدولة العميقة)، وتحركوا تحت غطائه في منطقة ترابط المصالح، وصار لديهم معلومات ومعرفة كبيرة على المجموعات التي ترابط بين المصالح، وانتقلوا من هذه المنطقة ـ الأخطر في أي نظام في العالم ـ إلى رأس السلطة.
هكذا استطاع العدالة والتنمية الوصول إلى السلطة من منطقة ترابط المصالح، دون أنْ يُعَرِّض الشعب التركي للمواجهة المباشرة مع القوى النافذة، كما حصل في مصر وسورية واليمن.
لذلك سعى أردوغان أن يكون منصب الرئاسة تنفيذي ومنتخب من الشعب مباشرةً؛ لتحييد منطقة تقاطع المصالح، وإلغاء أي تأثير لها على السلطة، وصار بذلك ممسكاً بها من خلا ل تواصله مع الأقليات من أكراد، وعلويين، وأحزاب قومية، من أصحاب المصالح الاقتصادية، ومن خلال مؤسستي الجيش والمخابرات بعد أن تم كسب مؤسسة القضاء.
وعندما حاول من تبقى في منطقة ترابط المصالح أن يحرك الجيش للانقلاب على حكومة
أردوغان فشل الانقلاب؛ لأن العدالة والتنمية صار ممسكاً بحجم كبير من القوى النافذة في منطقة المصالح وصارت متحالفةً معه.
واستغل أردوغان هذا الانقلاب ليكمل تنظيف من تبقى من جماعات الضغط والمصالح بما بات يعرف بالكيان الموازي.
التدرج الذي سلكه العدالة والتنمية
نأتي إلى تونس: حيث استطاعت حركة النهضة الوصولَ إلى السلطة، لكنها لم تستطع أن تحكم رغم فوزها بالأكثرية.
ويقول راشد الغنوشي في هذه القضية:
(عندما أخذنا معظم السلطة أخذناها على قراءة خاطئة، على أساس أننا أخذنا الأغلبية، دون أن نتنبه لميزان النخبة، الذي نحن ضعفاء فيه). مما حملهم على أخذ خطوات إلى الخلف، وتقاسم السلطة مع الأخرين، ولم يتورطوا بالانفراد بالسلطة بسبب حجم التحديات التي كانت تنتظرهم
في مصر: الذين انتخبوا الرئيس مرسي 51% أغلبية عددية لكنها فارغة من ميزان القوة، والذين عارضوه 49% مليئة بالقوة الصلبة (المال، الإعلام، القضاء الشرطة، الجيش، الاقتصاد، الفن، أصحاب المصالح والنفوذ …إلخ) ورغم ذلك اتجه الإسلاميون إلى الاستئثار بالسلطة وهنا كانت القاتلة بالنسبة لهم.
لذلك حتى نفهم أي دولة ونظامها، لابد من وضع هذه التقاطعات، والبحث عن الجماعات التي تتموقع في منطقة الاختراق.
عددهم البشري، وكم الثروة التي يمتلكونها حتى تستطيع الاختراق من منطقة المعارضة إلى منطقة ربط المصالح.
طبعاً لا يوجد طريقة واحدة لاختراق هذه المنطقة؛ لأنها غالباً تفرض على المعارضة طريقةً ما للتعامل معها.
لكن من خلال دراسة الثغرات المتاحة، ممكن يتم الاختراق والتعامل من خلال تحالف أو تفكيك أو محاصرة أو مواجهة
في بلد مثل مصر مثلا يتعايش الأقباط في منطقة ربط المصالح ويسيطرون على الاقتصاد والإعلام والقوة الناعمة.
في سوريا تكون حلف من الرأسمالية السنية مع المتنفذين مع الطائفة العلوية تحت سيطرة النظام العسكري الأمني وتقاسموا هذه المنطقة ولا يزالون.
في الكويت الشيعة يتمركزون بثقلهم الاقتصادي وتحالفاتهم الخفية في منطقة ربط المصالح الحيوية
اليهود في العالم اليوم يمارسون دور قوي في صناعة اللوبيات الضاغطة لذلك حتى في تقاطع مصالح الدول بين بعضها البعض وفي كتل النظام الدولي تتموقع إسرائيل في منطقة ترابط المصالح العالمية وتدير السياسات الدولية من موقعها المهم والحساس.
لذلك يتوجب على الجماعات التي تريد أن تتعامل في الفكر والتخطيط الاستراتيجي، من التعرف على الكتل والأوزان السياسية، والموازنة بينها، والبحث عن ثغرات هذه الكتل لاختراقها.
فالإسلاميون رغم كثرتهم العددية لكنهم ظلوا فقراء من حيث القوةُ الصلبةُ، فقراءُ في النخب، وأهم من ذلك الجهل غير المبرر بطبيعة معادلة الصراع وشبكة تلاقي المصالح لإصرارهم على المنطلقات الأيديولوجيا في إدارة الصراع ، ولذلك لم يأخذوا وقتهم في التغلغل في المفاصل الصلبة، وأثرت عليهم ثقافة اعتزال المجتمعات الجاهلية التي روج لها سيد قطب، وعندما خرجوا من السجون، وعادوا من المهجر واختارتهم الناس بالعواطف لم يحسنوا إدارة الحكم واكتفوا برفع القيم فقط ، وكيف لهم أن يحكموا بهذا الغثاء العاطفي، وأن يواجهوا نخب الدول العميقة والثورة المضادة و التي في أيديها كل شيء من أسباب النفوذ ؟
لذلك بقيت معظم معاركهم للمحافظة على الوجود، وليس للتجديد والتطوير والإبداع والاختراق وتثبيت الأقدام على الأرض الصلبة بدلا من الغوص في كثبان الرمل، وبقوا في مواقع الدفاع وتلقي اللكمات ولم ينتقلوا إلى الهجوم والابتدار .
الانعتاق من ثقل الأيديولوجيا
في مرحلة عدم تكافؤ القوّة العسكريّة، تلجأ التنظيمات المسلّحة إلى ما يسمى (حرب العصابات)، التي تعتمد على الكمين المحكم والغارة الخاطفة، والانسحاب السريع، تتحرّك في الأرض دونما الاحتفاظ بها، لتفرض قواعد جديدة في الحرب، تحقّق النكاية في العدوّ، وتخلق ظروفاً تتيح حالاً من التوازن الآنيّ، والاستمرار في المواجهة.
وهذا النوع من الحروب يمكن أن ينتقل إلى ساحة العمل السياسيّ، والحرب الفكريّة التي لا تسمع فيها دويّ القنابل، ولا صليل السيوف، إنها الحرب الناعمة التي تستهدف الثقافة والهويّة.
إنّ الدخول في حرب معلنة مع المصطلحات السياسيّة الوافدة، سيكشف الكثير من أوراق المسلمين، في عصر الاستضعاف، وسيهدر كثيراً من الأوقات والجهود في تحطيم مسمّيات، وإثبات أخرى، وسيؤدي إلى الغرق في حمأة الجدل المستعر إلى ما لانهاية.
لذلك كان علينا أن نتعامل مع هذه المصطلحات من خلال إفراغها من مضمونها المتناقض مع قطعيّات ثقافتنا، والعمل على إعادة تعبئتها بمضامين من ثقافتنا، أو الاختباء وراءها للوصول إلى المبتغى.
وهكذا تكون الاستراتيجيّة الناجعة، لأجل سرعة الدخول في حيّز التنفيذ للمشروع، ولا نراوح في معوقات الفكر والمصطلحات المحتملة، فإنّ الجماعات الإسلاميّة غدت بارعة في السباحة في محيط الأفكار والأيديولوجيّة، والغرق في شواطئ المشاريع…
نمثّل هنا ـ ولا نحصرـ في قضيّة الخطاب الوطنيّ، وقضيّة الهويّة والديمقراطيّة، والخطاب الإنساني في النضال السياسي، الذي يركز على قيم العدل والحرية وحقوق الإنسان، والذي تأبه كثير من الجماعات الإسلاميّة وتحاربه بحجة عالميّة الإسلام والمسلمون أخوة، وبحجة البعد العقدي لمفهوم الحاكميّة، وبحجّة: الشريعة هي الحلّ. ولكنّ التجارب والواقع يقول: إنّنا لم نحافظ على الوطن، ولا الأرض، ولا حقّقنا عالميّة الإسلام، ولا حاكميّة الشريعة، ولا أقمنا خلافة الله على أرضه، وفي كلّ مرّة نكرّر المراجعة في الوسيلة التطبيقيّة، بعد أن أعطينا للنظريّة العصمة والقطعيّة، وصار الحوم حول نقدها من ارتكاب المحرّمات الذي يتعرّض فاعله للتجريم.
لا يمكن أن نتصور تعارضاً بين الإسلام كهويّة، وبين الوطن كظرف مكانيّ يجمع الأمّة، وينفذ عليه مشروعها الحضاريّ، كما لا يمكن أن نخلط بين الديمقراطيّة كآليّة، وبين الشريعة كغاية، ولا يمكننا التنكّر للبعد الإنسانيّ الذي تتضمّنه الرسالة الخالدة.
إنّ غياب الخطاب الوطنيّ والإنسانيّ، والتقوقع في الخطاب العقديّ الأيديولوجي، والتنكّر للحلّ الديمقراطيّ كان من شأنه أن يجعل الأقليّاتِ، والبؤرَ الطائفيّة المحقنة بثقافة المظلومية تنقلب كقوّة مضافة للنظام أو محايدة، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تحييد أكبر عدد من الخصوم المحتملين، وكسب أكبر عدد من الحلفاء المفيدين. وكان خطأ التقدير مردّه إلى التعامل معهم كطوائف أقلية، وحقيقة الأمر أنها طوائف ممتنعة بدول عظمى، أخذت حمايتها على عاتقها، بينما تحوّل السنة الثوريون إلى أقلية، بعد أن انحاز أكثر من نصفهم للنظام رغبة أو رهبة، وهكذا خسرنا الأقليات ولم نكسب الأكثرية.
إنّ إيلاء الاهتمام للبعد الوطنيّ والإنسانيّ، والخيارَ الديمقراطيّ، والحريّات العامّة ليس قضيّة تعلّق بـ (سايكس – بيكو)، أو التنازل والتمييع، كما يحبّ بعضهم أن يصوّر الأمر، وإنّما هي مسألة من مقاصد الشريعة…
وهنا نقف على تقرير وقع عليه الشيخ (محمد الحسن الددو) كتبه هنري كسنجري وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق عن الجماعات الإسلاميّة يقول فيه: يقول (هنري كسنجري) وزير الخارجيّة الأمريكيّة الأسبق في دراسته للجماعات الإسلاميّة، وهو يتحدّث عن خطر الجماعات الإسلاميّة كما ينقل عنه العلامة (محمد الحسن ولد الددو) ():
[النظام العالميّ الجديد لا يقف في وجهه إلا الإسلام، فعلينا دراسة ظاهرة الإسلام، وبدراستنا للإسلام يتبيّن لنا أنّه يقسّم إلى حطب وشرارة، أمّا الحطب فهم الشعوب الإسلاميّة الساكنة، وأمّا الشرارة فهي الحركات الإسلاميّة العاملة للإسلام، التي تحاول إشعال الحطب، ومهمّتنا الأولى بشكل أساسيّ هي إبعاد الشرارة عن الحطب، والحيلولة دون الاتصال بينها، لتكون الشعوب بعيدة عن معركة الحركات الإسلاميّة.
والمهمّة الثانية: معرفة مسطرة الخطورة بين أنواع الشرارات، والمسافة التي تبتعد وتقترب فيها من الشعوب، وعلينا العمل لتبقى هذه الشرارات في صراع مع بعضها، فنستعين ببعضها على بعضها.
وبنظرنا إلى الشرارات وجدناها تقسم إلى خمس درجات من مستويات الخطورة:
1-أقلّها خطورة:
الجماعات التي تهتم بالعقيدة، فهي وإنْ كانت تشكل خطراً علينا. ولكن يمكن الاستفادة منها لأنّهم يكفّرون جمهور المجتمع، ولكثرة وسهولة خلافاتهم وانقسامهم.
2-وبعدهم في الخطورة:
الذين يهتمون بالجانب الخلقيّ والقيم، مثل جماعة التبليغ والجماعات الصوفيّة، وهؤلاء لا شكّ فيهم خطورة، لأنّهم يحملون قيماً مشتركة، والنظام العالمي ليس له قيم مشتركة، فالقيم الغربيّة مختلفة عن القيم الصينيّة، عن اليابانيّة، وهؤلاء يمكن الاستفادة منهم لأنهم يتولّون قيادة المجتمع، ويحيدون عن الصراع معنا، ويحشرونها في زاوية ضيّقة.
3-والمستوى الثالث في الخطورة:
عند الجماعات التي تهتمّ بالثقافة والبحث، فيحقّقون الكتب وينشرون المخطوطات، وهؤلاء -لا شكّ-فيهم خطورة عظيمة لأنّهم يعملون على إحياء الوعي عند المسلمين، فيعلمون أنَّ لهم أمجاداً فيطالبون بإعادة أمجادهم، ولكنّ خطورتهم أقلّ.
4-المستوى الرابع في الخطورة:
هم الذين يهتمّون بالجانب القتالي في الإسلام، الجماعات الجهاديّة، وهؤلاء –لا شك-فيهم خطورة، ولكنّهم يبنون تنظيما محكماً في ثلاث سنوات، ويهدمونه بمغامرة خلال ثلاث دقائق.
5-أمّا المستوى الخامس من الخطورة:
وهم الأخطر على الإطلاق الذين يأخذون بالإسلام على شموليّته، ويغطّون كلَّ الجوانب، إذا رفعنا أيّ شعار رفعوه معنا، فإنْ قلنا: حقوق الإنسان. قالوا: نعم لحقوق الإنسان. ولكن بمفهومهم لا بمفهومنا، وإنْ قلنا: الديمقراطيّة. قالوا: نعم. ولكن بمفهومهم، فإذا رفعنا أيّ شعار رفعوه معنا، وجيّروه لصالحهم، وهؤلاء خطورتهم تكمن في أمرين اثنين:
أ -صعوبة كشفهم، وسهولة تغلغلهم فينا، فربّما يكون الذين يعدّون الدراسات في الكونغرس منهم.
ب -أنهم وجدوا شكلاً وتصوّراً لشكل الدولة، والمستقبل الذي يريدون فهو جاهز لديهم.
كما لا بدّ لنا من الالتفاف على كثير من المصطلحات الحياديّة التي تقبل الأسلمة والعلمنة بآن واحد؛ كالوطنيّة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة والدعوات القوميّة والديمقراطيّة، لتأطيرها ضمن الحدود الشرعيّة، وهي التي عناها العلماء بقولهم: لا مشاحة في الاصطلاح، والعبرة بالمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ولا يجب أنْ نجد غضاضة في رفعها كشعارات إنسانيّة، وربّما نضطرّ أن نلتف حتّى على المصطلحات المتخاصمة معنا، ونعمل على تطويعها وتفريغها وتفكيكها إلى ما هو مقبول منها، وما هو مرفوض، لنحسن مواجهتها بأيسر السبل. وهذا ما فعله الدكتور (عبد الوهاب المسيري) ()رحمه الله في مصطلح العلمانيّة، عندما فكّكه الى عوامله الأوليّة، ودرس تطوّره البنيويّ، وميّز بين العلمانيّة الكليّة التي تريد الهيمنة على الحياة، وبين العلمانيّة الجزئيّة تطالب بتحييد الملعب السياسي عن الدين.
لكننا بحاجة أوّلاً إلى إعادة النظر في فقهنا السياسيّ المرهق، وما اكتنفه من خلل في بعض مفاهيمه، كمفهوم البيعة، وغموض بعض المفاهيم، كمفهوم: أهل الحلّ والعقد. وتشريعٍ لبعض الممارسات المنافية للقيم السياسيّة في الإسلام، كفقه التغلب وتعطيل بعضها كمبدأ الشورى.
ولا بدّ من ضبط مساحة الثابت والمتغيّرات في الشريعة الإسلاميّة، فإنَّ كثيراً ممّا نحسبه من ثوابت الشريعة، هو في حقيقته اجتهاد من الفقهاء، أدخل في مساحة الثوابت، نتيجة لظروف سياسيّة.
كما لا بدّ من التمييز بين التعبديّ والعاديّ، وما هو من الأحكام داخل في نطاق التعبّد، الذي يتوجّب اتّباعه، أم هو من سبيل العاديّ الذي يجوز فيه الابتداع.
كما يتوجّب علينا أن نعيد غربلة التراث الفقهيّ، والسياسيّ منه بشكل خاصّ، والفصل بين ما جاء في سياق تاريخيّ خاصّ، له ظروفه، وحيثيّاته، وبين أنْ نجعل من هذا التاريخ ديناً متّبعاً.
بهذه المراجعة الضروريّة، والغربلة الدقيقة لمخزون التراث، نستطيع أن نهيئ الأرضيّة المناسبة لانطلاقةٍ جديدة، لنتجاوز دائرة الجدل الأيديولوجيّ، إلى دائرة الفعل والتنفيذ والمشاريع بعيداً عن دعاوى نسف التراث أو الجمود عليه.
فلسفة جديدة للصراع:
من الإشكالات التي وقعت فيها الحركة الإسلاميّة عموماً، – والتيار الجهاديّ خصوصاً والسلفيّ بشكل أعمّ – الإغراقُ في تحليل الأحداث، والوقائع التي تجري من حولنا وفق النظريّة العقديّة، أو التفسير العقديّ للصراع، ومن هنا تَمَّ تفسير أحداث العقدين الأخيرين ضمن دائرة الحرب على الإسلام، أو الحرب الكبرى وبداية الملاحم… تَسْتَلْهِمُ الحركة الإسلاميّة ذلك من مضمون قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتَهم)، ومضمون قوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)… ونحو ذلك من الآيات والأحاديث.
هذا فيما يتعلّق بـ (التفسير العقديّ)، وأمّا ما يتعلّق بـ (إدارة الصراع)، فلا شكّ أنّ الصراعَ قاعدةٌ تاريخيّة مُطَّرِدَة، وسنّة من سنن التدافع التي تعيشها الأفراد، والمجتمعات والدول والحضارات، لا يحتاج إثباتها إلى أكثر من قراءة التاريخ ومراقبة الأحداث…
والحقيقة أنّ أسباب الصراع أعمق وأكثر وأبعد من أن تنحصر في الأسباب العقديّة فقط، واستبعاد الكثير من الأسباب المتداخلة والمعقّدة والعميقة التي تتخفّى كثيراً بغطاء المعتقد.
هنا لا بدّ لنا من وقفة مع أهمّ مفاتيح الصراع بين الدول:
صراع العقيدة: وهو ما يعبّر عنه في المصطلحات المعاصرة بـ (الصراعات الإيديولوجيّة) وينشأ عن تعارض القيم والمعتقدات والمذاهب الدينيّة والمنظومات الفكريّة، وتُعَدُّ العقيدة العنصرَ الأهم في الصراعات الحَادَّة؛ لأنّها المُشَغِّل الأساسي للقوة الكامنة عند الإنسان، مع ما لها من القدرة على تعبئة الجماهير وحشد الطاقات للمواجهة.
صراع الهويّة: وهو ما يعبّر عنه في المصطلحات المعاصرة بـ (الصراعات العنصريّة)، وصراع الهويّة أَعَمُّ وأوسع من صراع العقيدة؛ إذ تدخل فيه صراعات الأجناس والأعراق واللّغات والعادات، والتي تُعَدُّ إلى جانب العقيدة أهم المُعَرِّفات التي تُعَرَّف بها الأمم.
صراع الأرض: وهو ما يُبحث ضمن ما يسمّى في المصطلحات المعاصرة بـ (الجغرافية السياسيّة أو السياسة الطبيعيّة، والتي يُسأل عنها بـ: ما هو مدى تأثير الظروف الطبيعيّة من البرّ والبحر؟ ونحو ذلك على الصراعات الدوليّة والتفاعلات السياسيّة.
صراع الثروة: وغالباً ما ينشأ عن وَفْرَة الثروات والموارد الطبيعيّة، كالمياه والنفط والغاز والثروات المعدنيّة…الخ عند أحد أطراف الصراع، ويزداد هذا الصراع شراسة كلّما كان الطرفُ المقابل أكثرَ شُحَّا في الموارد الطبيعيّة.
صراع الهيمنة والنفوذ: وغالباً ما ينشأ بين الدول الكبرى التي حقّقت تقدّماً تكنولوجيّاً عالميّاً، ويكون بدافع السيطرة على المواقع الاستراتيجيّة في العالم، كالممرّات المائيّة، والمضائق، والبحيرات، والجزر الواقعة في البحار والمحيطات؛ وذلك بهدف تأمين حريّة التبادل التجاريّ بين الدول، وضمان حركة الملاحة البحريّة العالميّة.
لا شكّ أنّنا أمام معركة كبيرة وسريعة التَّغَيُّر على جميع المستويات: الخطط والأحلاف والأطراف، ومن هنا لا بدَّ للنخب أن تقوم بالبحث عن طرق وأدوات جديدة غير تقليديّة في إدارة المعركة، ولننظر إلى الآخرين، ومنهم بعض حلفائنا القريبين جداً إلينا، لنرى كيف يبحثون عن طرق غير تقليديّة، أو طرق جديدة للخروج من المأزق.
ليس بالضرورة أن تكون ابتكاراتُنا مطابقةً تماماً لابتكاراتهم، لكن لا بُدَّ من فعل شيء جديد غيرِ تقليديّ، وأمّا أن نبقى على حالنا بعد خمس سنوات، ندير معركتنا بنفس الأساليب والأدوات، هذا يعني أنّنا لن نحرز أيّ تقدم، بل أخشى أنّنا نسير باتجاه الهاوية.
ولا شكَّ أنّ الدِّيْنَ حاضرٌ في جميع معارك المنطقة، لكنّ السؤال الأهم الذي ينبغي أن نجيب عنه، والذي يختصر علينا الكثير من الوقت: هل الدين حاضر في معارك المنطقة كأداة أم كسبب؟ هل هو الذريعة أم هو المقصد؟..
علينا أن نعيد النظر في فسلفة الصراع، ونحذر من حصره دائماً بين كفر وإيمان، فهذا من شأنه أن يفقدنا التأييد والتعاطف العالميّ، ويجعله ينظر للمعركة على أنّها حرب دينيّة وطائفيّة، والعالم لا يزال يشمئزّ من الحروب الدينيّة، يجب أن نوصل رسالتنا، وهي أنّنا نخوض حرب ظالم ومظلوم، معركة حريّة واستبداد، معركة الإنسانيّة ضد أعدائها.
لا بدّ لهذه الثقافة أن تتحوّل إلى تيّار يخرج من عبء الأيديولوجيّة وضيقها، إلى فضاء الفاعليّة السياسيّة، في فهم خارطة المصالح.
وهذا الأمر سيكون مفيداً لنا في الجبهة الداخليّة، من خلال تحشيد الطوائف والأقلّيات المتوجسة من التيّار الإسلاميّ، والأغلبيّة السنيّة المحايدة وراء مطالب معركتنا الإنسانيّة، بدل أن يبقوا خزان إمداد للطغاة، من خلال ابتزازهم في قضيّة الأقليّات.
وعلى الجبهة الخارجيّة سيكون لهذا الخطاب والمشروع أثرُه في حصد تأييد شعوب العالم، التي ستضغط على دولها لتأييد مطالبنا الإنسانيّة المقنعة.
من الصراع السطحي إلى الصراع في العمق:
من بداهة القول إنّه ليس بإمكان أيّ ثورة أن تنجح وتصل إلى أهدافها أو بعضها، بدون رؤية واضحة، وخطّة مدروسة، وتنظيم محكم وتوجيه دائم، كما أنّ الثورة التي لا تتضمّن تلك العناصر، مآلها الفوضى والتخبّط، ثمَّ الفشل.
ومن المُسلّم به أنّ أيّ ثورة شعبيّة هي مظنّة العفويّة والفوضى وعدم التنظيم، وإنّ عمليّة التنظيم غالباً ما تكون مرافقة لمسيرة الانطلاق، إلى أن تبلغ الثورة رشدها، ويبلغ التنظيم كماله بالسويّة والمعيّة المرافقة لمسيرتها.
لقد كان المشترك الرئيسيّ لجميع ثورات الربيع العربيّ مبدأين واضحين مع بداية انطلاقتها:
1-إسقاط أنظمة الفساد والاستبداد.
2-وإعادة بناء العقد السياسيّ على قواعد من الحريّة والديمقراطيّة.
وهذا ما يجب أن تبقى القوى الثوريّة حريصة وثابتة عليه، مهما حاول بعضهم أن يَحْرِف بوصلتها باتجاه أهداف لم يتحقّق لها الحشد الجماهيريّ، أو لا تلبي تطلعات الشعوب الثائرة.
وكانت المظاهرات السلميّة هي الأسلوب المعتمد لهذه الجماهير، وما كان حمل السلاح إلا استثناءً لردّ الصيال، وحماية النفس.
وقد حرص النظام العربيّ القمعيّ على نقل الثورات من ميدان الصراع السلميّ والجماهير الخاسر بالنسبة إليه، إلى ميدان الصراع المسلح لينتقل إلى معادلة في الصراع يكون التفوّق فيها لصالحه، هذا من حيث الأسلوبُ…
أمّا من حيث الغايةُ والأهدافُ، فقد عمل النظام العربيّ القمعيّ على ضرب فلسفة الربيع العربيّ، ونقلها من ثورة كرامة وحريّة ومطالب إنسانيّة…إلى ثورة دينيّة إسلاميّة، ليتم عزله، وليرعب العالم منها، ثمَّ لينفرد بتصفيتها دون نكير…
لذلك كان الحرص على أن تبقى الثورة سلميّةَ الأسلوب إلا ما دعاه الاستثناء لذلك من حمل السلاح.
والحريّة وإسقاط الاستبداد، غايةٌ من أهمّ عوامل دفع عجلة الثورة واستمرارها، وبلوغ غاياتها، ومنتهى طموحها.
وبين هذه الخطوط العريضة لابدّ أن ننتبه إلى بعض الفروع التفصيليّة:
وهي أنّ أسلوب القمع الوحشيّ مهما تسبّب في خسائر وضحايا من شباب الثورة، لكنّه في نفس الوقت يقوم بدور الشحن النفسيّ والعاطفيّ، الذي يشكّل طاقات اندفاع جديدة لمتابعة الثورة والنضال، ولن يتسبّب في كسر إرادة الشعب الثائر بشكل من الأشكال.
لا بدّ أن ندرك أنّ الثورات تتشكّل من موجات مدٍّ وجزرٍ، وأنّ انحسار الموجة الأولى لأيّ ثورة، لا تعني بالضرورة نهاية هذه الثورة إلى الأبد، بل بالعكس تماماً فهي تشير إلى أنّ موجةً أكثرَ إعصاراً تتشكّل من جديد، لتضرب صخور الاستبداد ضربةً أكثر قوّة على مبدأ القوس والوتر، الذي يشتدّ إلى الوراء ليكون أكثر مضاء في إصابة الهدف.
لقد برهنت الثورات العربيّة على أنّ قابليّة معظم الشعوب العربيّة للتعايش مع الأنظمة الاستبداديّة، التي ذاقت منها الأمرّين قد نفدت، أو إنها في طريقها للنفاد، وأنّ حلفاء الثورة المضادّة والدولة العميقة بدأوا ينفضّون من حولها، بعد فشلها في تعويض الشعوب عمّا فقدته من حرية وعيش كريم.
إنّ نخبة الثورة المضادّة ليس لها امتداد اجتماعيّ، وهذا سيُسهل علينا المهمّة من خلال التترّس بالمجتمعات، بدلاً من التمايز عنها، وإنْ استطاعت أن تخطف جزءاً من الحاضنة الشعبية تحت تأثير الضخ الإعلامي، فإنّ الدجل والمخدر الإعلامي سينتهي ويكشفه بؤس الواقع.
لقد كانت معركة الحريّة وما زالت، هي معركة المجتمعات، وليست معركة النخبة وحدها، وإنّ قوى الثورة المضادّة سيفرحون عندما تتحوّل المعركة بينهم وبين نخبة الربيع العربيّ بعد تحييد المجتمعات الثوريّة، فإنّ ذلك سيسهّل عليهم المهمّة في القضاء على طليعة الثورة، والالتفاف على المجتمع.
وهذا يوجب علينا الدفع بالشخصيّات المجتمعيّة المحايدة إلى واجهة المعركة، الأمر الذي سيفشّل أيّ عمليّة استقطاب حاد تسعى له قوى الثورة المضادّة لبدء عمليّة الإجهاز على الثورة والتفرّد بها.
إنّ القيادة المشيخيّة والعسكريّة المفتقرة للأهلية جرّت المصائب على الثورات، بسب ضيق الأفق المعرفيّ لفلسفة نجاح الثورات، وفهم حاجات المجتمعات الثائرة، وتقدير طاقات تحمّلها، وفهم المسارات والتحالفات والعلاقات المحليّة والدوليّة، التي تسهم في انتصار أو انكسار الثورة.
إنّ القيادة العسكريّة والمشيخيّة قد تسهم في تحشيد الشارع، وقد تضرب أروع الأمثلة في البطولات الأسطوريّة، لكنّها تجهل معادلة نجاح الثورة، وتغيب عنها كثير من المعلومات المهمة، لذلك كان لا بدّ من وضع دفّة القيادة الثوريّة في يد المفكّرين، الذين يحسنون توجيه دفة الثورة إلى شاطئ الحريّة.
وللثورة المضادة وجهان، كما للثورة وجهان، وجه مؤسّساتي، ووجه نفسيّ. الوجه المؤسّساتي يتعلّق بامتلاك مؤسّسات حاكمة أو مؤثّرة في المجتمع، بينما يتعلّق الجانب النفسيّ بالصراع على التوقّعات والآمال والرؤيّة والعادات والروح والثقافة التي أنشأت الثورة أو برزت من خلالها، وإنّ الصراع العميق مع الثورة المضادّة يقتضي الغوص في تفكيك الثقافة والرؤية والأهداف والنفسيّة التي تسهم في التحشيد وراء مؤسّسات الثورة المضادّة.
على الطليعة الثوريّة ألا تنخدع بالشرعيّة الشعبيّة وحدها من دون سند من القوة الخشنة، وأنها بمجرّد امتلكت الشارع، وحقّقت الأغلبيّة الانتخابيّة والبرلمانيّة، فإنّها أصبحت قادرة على فعل أيّ شيء، بل لا بدّ من عمليّة موازنة اجتماعيّة وسياسيّة بين القوى النافذة والمؤثّرة، حتّى لا يتمّ استقطاب هذه القوى السائلة والمؤثّرة إلى صفوف الثورة المضادّة بعد أن تشعر بالإقصاء من ثورة الحرّيّة.
يجب أن تعيَ الثورة التفريقَ والتمييز بين مرحلتين مِفْصَلِيَّتَين في الثورات، مرحلةِ التحرير والمقاومة والكفاح، ومرحلةِ القطاف والحصد السياسيّ، فليس كلّ يد تحرّر تستطيع أن تبني، وليس كلّ من شهدت بشجاعته الميادين والساحات، يستحقّ أن يكون من حكماء السياسة والقيادة، وإنّ البندقيّة الرعناء التي لا تخضع لحكمة السياسة لا يمكن أن تحرّر، وإنّ أكبر المصيبة في الثورات أن يتصدّر العسكر والمشايخ إلى الجلوس على طاولة السياسة والتفاوض، وأن يأخذ الشباب الشجعان مكان الحكماء الخبراء.
إنّ من أهم أسباب نجاح السياسي الثائر في بلوغ أهداف الثورة التي يمثلها هو القدرة على ضبط وتحريك القوة المسلحة والمخالب الحادة على الأرض التي يمثلها، بحيث يكون القرار العسكري منصاعاً بشكل تام للقرار السياسي، عند ذلك يستطيع السياسي رفع سقف مطالبه، وتزداد قدرته على تحريك الأوراق السياسية الضاغطة على الخصوم والمناورة بها.
إنّ توهم القوة العسكرية وجود قوة سياسية تريد سرقة مكاسبها، سيدفعها إلى اقتحام ميدان العلاقات السياسية مع ما تعانيه من نقص الأهلية السياسية والخبرة في فهم خارطة مصالح العالم، مما سيوقعها في أجندة الخارج والأسر للداعم، بعد هذا الانفصام النَّكِد بين أولي الأيدي والأبصار، أو سيجعل القرار السياسي مرتهن للعمامة المؤدلجة، والبندقية المرتهنة للداعم، فالسياسي يعبّر عن مطلب ممكن، وليس عن أُمْنيةٍ وهدفٍ بعيدٍ يُعبر عنه المُنظِّر الأيديولوجي، والبندقية تعبر عن من يمدها بالذخيرة، فنقدم بذلك أفضل ما يتمناه العدو ثورة مشتتة.
علينا أن ندرك أنّ الصراع على سطح السلطة السياسيّة في الملعب الديموقراطيّ، هو ظاهر المعركة، وأنّ معركتنا الأساسيّة ستكون في عالم الأفكار والعلاقات الاجتماعيّة، التي تشكّل القاعدة المعرفيّة والمعنويّة لأيّ نظام سياسيّ، وهذا سيتطلب غرس المزيد من الأفكار الثوريّة التحريريّة ومناهضة الاستبداد السياسيّ وترسيخ ذلك كثقافة مجتمعيّة، وقيم تجعل من المجتمع الكتلة الحرجة التي ستصمد في مواجهة الثورة المضادّة.
وهذا يتطلب منّا التحضير الجيّد لأدوات المواجهة، في المعركة العميقة القادمة من منصات إعلاميّة وأفكار تنويريّة وتعليم هادف وإعادة تشكيل الأواصر الاجتماعيّة من جديد، وهذا يحتّم على الحركة الإسلاميّة أن تعيد تعريف ذاتها، بأنّها حركة إصلاحيّة، غايتها المجتمع، وليست مجرّد حركة سياسيّة غايتها السلطة…
ولقد تدحرجت الحركة الإسلاميّة من كونها مشروع نهضة وإصلاح، محوره الإنسان، ووسيلته التنظيم، إلى دَرْكِ مشروعِ سلطة محوره التنظيم ووسيلته الانسان.
ولم تدرك أنّ الصراع على الحكم واحتكاره صراع وجوديّ مزمن ومدمّر، يتمخّض عن حلقة مفرغة من الانقلابات والمواجهات، والسلطة لا يمكن أن تتحوّل إلى وسيلة للنهوض بعد أن تصبح غاية بحدّ ذاتها، إنْ لم يفرزها حراك اجتماعي يتجاوز الصحوة العاطفيّة إلى النهضة العقلانيّة “.
التداخل المحلي والإقليمي والدولي يفترض علينا أنْ نبحث عن تحالفات ندية ومتوازنة مع الدول الداعمة للثورة وفق تقاطع المصالح الحيوية للأطراف، والحذرِ من تحول الثورة إلى قوة تمارس حروبَ الوكالة وتمارس دوراً وظيفياً بديلاً عما كانت تؤديه الدول المستبدة الوظيفية لقاء استدامتها على رأس السلطة.
يقول مالك بن نبي في (كتاب: بين الرشاد والتيه، ص 14): فالثورة لا تُرتَجل، إنها اطراد طويل يحتوي ما قبل الثورة والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيها بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيها نمواً عضوياً وتطوراً تاريخياً مستمراً، وإذا حدث خلّل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.
ويتكلم عن الثورة المضادة فيقول: وقد تخرج هذه الثورة المضادة من بين صفوف الثورة نفسها، فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية، والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أنّ مجتمعاً ما وبمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً في داخله، حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات تتبعاً لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب تتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك “.
كما أن الثورة المضادة قد تتولد من داخل الثورة ونشهد من صفوف الثورة نوعا من الردة الثورية، فربما نشهد أن الثورة بكل مبادئها وقيمها تعاود الانفجار من داخل صفوف الثورة المضادة ومن قلب نظم الفساد والاستبداد.
وهذا يحملنا على مداومة الانتباه، فإنّ ثورةً ما مطالبةٌ بإصلاح نفسها ومسارها وتفقّد مكوناتها؛ حتى لا تتحول إلى حاضنة تنمو فيها مجهضات الثورة.
وفي ثورات الربيع العربي تشكلت الثورة المضادة بشكل رئيسي من فلول الأنظمة الساقطة، بينما في الثورة السورية بدأت تتشكل الثورة المضادة من داخل الثورة نفسها حينما غابت عنّا القدرة على التمييز بينهما؛ بسبب الخلل الفكري الذي جعل أهداف الثورة تختلط وتتشابه على الكثيرين، فَحَكَمْنَا بالثورية لكل من يقاتل النظام، ولكن لم ننتبه إلى الأهداف التي يحملها ما بعد إسقاط النظام، وهل هي في مقدور الثورة؟ وهل هي تعبّر عما خرج أصحاب الصيحة الأولى من أجله، والذي يتمثل في الحرية وإسقاط النظام، ثم لتتحول ثورتنا إلى ثورة لمحاربة الديمقراطية وخيار الشعب، وهو الهدف الذي يلتقي البعض فيه مع النظام تماماً، لكنْ تختلف الدوافع عند كل منها.
عندما تبدأ الثورة في إنجاز مشروعها السياسي، عليها أن تدرك أنّ أي مشروع لا يملك شبكةَ أمان، وليس لديه نظامُ حماية من الاختراق والركوب والاستغلال والانحراف، فهو عبارةٌ عن انتحار مجاني يحرق الأوراق ويزيد من قوة العدو، ويحتاج إلى حصانة فكرية حتى لا ينفجر من الداخل، ويحتاج إلى حصانة مادية حتى لا يضرب من الخارج، ويحتاج إلى حصانة أخلاقية أولاً وأخيراً فمتانة الأسوار لا تغني من دخول العدو؛ إذا كان الحارس فاقداً للضمير غيرَ مؤمن بالقضية، لذلك كان امتلاك أدوات حماية المشروع المادية والمعنوية أهم من امتلاك وسائل انجازه فالإنجاز سهل، ولكن الحفاظ عليه هو التحدي الأصعب من عدو الداخل والخارج.
البعض قد يمْهَرُ في إيجاد نظام حماية لكنه فاقدُ الفاعلية والفائدة؛ لأنّ من شروط فاعلية نظام الحماية هو استيعاب قوة الأخطار المحتملة، فليس لِسَدٍّ يرتفع لعشرة أمتار أن يمنع طوفاناً من سيلٍ يرتفع لعشرين متراً.
التوصيات
إنّ محركات الثورة المضادة تتحرك من غرفة عمليات واحدة تتجاوز حدود الإقليم إلى اللاعبين الدوليين، بينما تتحرك الثورة بعشوائية وقطرية وكأنّها جُزُر منعزلة عن بعضها، مما يحتم علينا التعامل مع ثورات الربيع العربي كحركة واحدة، تنطلق من أهداف وغاية ووسائل مشتركة.
لا بدّ من ضبط الخطاب الإعلامي الثوري، وعدم الانجرار إلى المستنقع الذي تريد الأنظمة والثورات المضادة جرَّنَا إليه؛ ليتحول إلى خطاب فئوي، ولنحرص على الخطاب الوطني الجامع، والتركيز على الجوانب المشرقة فيها، وعدم التركيز على الجانب المأساوي فيها.
الحذر من الدخول في مستنقع المسألة الطائفية التي تشكل طوق النجاة للأنظمة الاستبدادية، والتي يحرص على تفجيرها كلما تهدد سلطانه للزوال.
الحذر من السير فقط في مسار الخطاب السياسي وأدبيات الحرية والديمقراطية، دون إدراكٍ مستوعبٍ لشبكة المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المؤثرة على مواقف الدول المؤثرة على مسار ثورات الحرية والكرامة، في الداخل والخارج.
لا بدّ من تعديد مصادر الدعم اللوجستي بما يضمن استمرار الزخم الثوري، والتحرز من تحوّل الثورة إلى حربِ وكالة، تُحرَّك بمسارات العصا والجزرة التي يرسمها الداعم المستغِل.
الحذر من التسليم بداعية انتصار الثورة المضادة والدول العميقة المحركة لها، فإنّ هذا النوع من الخطاب هو نوع من الخديعة التي يُراد إلقاء الثورة بها لتعزيز الهزيمة النفسية التي ما تلبث أن تتحول إلى هزيمة واقعية.
ضرورة تضافر جميع مؤسسات المجتمع، بدءاً من الوسط الديني؛ من أجل ترسيخ قيم المواطنة في نفوس الشباب، من خلال تطبيق مجموعة من الأساليب تُسْفِر في النهاية عن تكوين شعوبٍ منتميةٍ وممارسةٍ لحقوقها ومسئولياتها تجاه وطنها وثورتها.
ضرورة تضمين برامج إعداد نُخَب وكوادر سياسية من دماء جديدة، وإعادة البناء المفاهيم للوعي السياسي، وكذا ضرورة عقد دورات تدريبية وتأهيلية لهم بهدف إكسابهم مضامين الوعي السياسي.
التأكيد الدائم على الطبيعة السلمية للثورة، فإنّ مدنية الثورات وسلميّتها تفسران كثيراً من جوانب نجاحها، ولقد وُفرت لها، على الأقل، النصابُ الشعبي والجماهيري الذي لا غنى لثورةٍ في التاريخ عنه، ورفعت شعور التردد لدى المترددين في الانخراط في مجرى عملية التغيير، بعد أن اطمأنوا إلى أنهم يشتركون في ثورة متحضرة نظيفة، لا عنف فيها ولا مغامرات. ثم إنّ تمسكها بسلميّتها أعجزَ الأنظمةَ عن مواجهتها بعنف منفلت من أي ضابط، ووضع إرادة القوة والبطش لدى تلك الأنظمة في حال شديدة من الحرج، بل هو ألحق بجبروتها هزيمة أخلاقية مروعة.
مراعاة التطور التاريخي لمسار الثورة لاختيار الخطاب السياسي المناسب، فمرحلة الحراك السلمي تختلف عن مرحلة الحراك المسلح، ومختلفةٌ عن مرحلة الاحتلال، ومعركة التحرير مختلفة عن مرحلة البناء بعد التحرير وسقوط النظام.
الحذر من الطرح الأيديولوجي الذي يُسهم في زعزعة وحدة الثورة، وإشعال الصراع البيني في صفوف الثورة، وانفضاض الحلفاء الداخليين والخارجيين عن تأييدها ومناصرتها، وتحويل الثورة من حقل سياسي وحلف أخلاقي إلى حقل دعوي أيديولوجي.
الحرص على رفعِ قيمةٍ محوريةٍ جاذبةٍ لشركاء الثورة ومطمئنة للداعمين لها، مثل قيمة الحرية والعدل والكرامة، والبُعد عن الخطاب الطائفي الفئوي.
لا بدّ من العمل على إبراز رموز وقيادات ثورية ذات وعي السياسي وبُعد وطني.
ولا يوجد في هذا العالم ثورة ناجحة بدون عقول مدبرة لها، ولا يمكنك أن تتصور جيشًاً يحارب بدون قيادة ملهمةٍ له تحفزه وتنسق حركاته، فلا نتوقع أن تنجح ثورة بدون رمز أو قائد كمانديلا وبيغوفيتش.
لا بدّ من بناء قاعدةِ الإمداد والتحكم التي تمثل الدولة العميقة للثورة في مواجهة الدولة العميقة للثورة المضادة، ولا بدّ من إخفائها عن ضربات الدولة العميقة التي تستهدف قنوات الإمداد الثوري، وتجفيف منابعها وروافدها من أجل حصارها وخنقها.
إنّ القيادة الثورية هي من تستطيع تحقيق الأهداف، ولو بالحد الأدنى، في ظرف زمني يسبق المرحلة التي سيتوقف فيها الوهج العاطفي الدافع ووقود التضحيات عن دفع عجلة المشروع الثوري، وإلا فإنها ستضطر بعد رفع سقف الأهداف إلى الدخول في تنازلات بالجملة، ويخرج الزمام من يدها وتتحول إلى حركة منفعلة بالمحيط.
الخاتمة والنتائج
لم تكن الدولة العميقة عميقةً إلا بمقدر سطحيّتنا في المواجهة، وفهم الصراع في جذوره وعمقه وأطرافه المحليّة والدوليّة والإقليميّة، فلقد كانت الدولة العميقة والدولة الظاهرة دولةً واحدة متعدّدة الأجزاء، ومتنوعة الأدوار، لكنّ ضعف الإدراك السياسي لدينا، أو محاولة الترويض لها جعلنا نركّز على جزئها الظاهر في المقاومة والثورة، وهذا ما يلزمنا بإعادة رسم حدود وأدوات المواجهة المستقبليّة مع فلول ومكونات الثورة المضادّة ودولتها العميقة بمواجهة صفريّة قادمة، فلا صلح مع الاستبداد، ولا التقاء معه. ونصفُ ثورة أخطر علينا ألف مرّة من لا ثورة، لأنها ستكون انتحاراً محقّقاً نساق بعده إلى مقاصل الطغاة ومعتقلاتهم.
إنّ العطل والخلل السياسيّ في مواجهة الثورة المضادّة عندنا، غائر في عمق البنية الاجتماعيّة ومنظومة الأفكار والقيم التي نحملها ونتحرّك بها، وندعو إليها…
ومنذ قرون يستفحل هذا المرض فينا، على شكل وثنيّة سياسيّة، تقدّس الفرد الحاكم بأمره، أو إقطاع سياسي يحتكر السلطة، ويسعى لتأبيدها، أو استبداد سياسيّ يهدر كرامة الإنسان، ويتحالف مع رأس المال والمشيخة الرسميّة، أو بدويّةٍ سياسيّة تدير الدولة بعقليّة شيخ القبيلة، أو توظيف سياسي للدين على شكل ثيوقراطيّة متطرّفة تقيّدنا بمنظومة من المحرّمات السياسيّة التي تجعل من عمليّة التغيير للفساد السياسيّ أمراً متعذّراً، وترسخ التجهيل السياسيّ الذي يخلق في مجتمعاتنا ثقافة القطيع بدلاً من ثقافة الحرية.
لذلك لا تستطيع مثل هذه البنية الاجتماعية المعطوبة أن تنتج عقداً سياسيّاً حرّاً راشداً، بمجرّد ثورةٍ شعبيّةٍ عاطفيّةٍ لا تتجاوز حالة الانفعال العاطفيّ إلى حالة الفعل العقلانيّ في إعادة تشكيل العقد الاجتماعي وفق منهج يعكس الرشد السياسيّ للمجتمع، ويتعافى من أمراضه السياسيّة المستعصية من ثقل الموروث.
لقد كان الربيع العربيّ هو ميدان الصراع الاجتماعيّ، قبل أن يكون صراعاً سياسيّاً، وهو في عمقه وصميمه صراعٌ فكريّ، بين من يطلب البراء من علّة الاستبداد التي تأكله، وتأكل أمّته، وتمنعها نهضتها، وبين من يتمسّك بالعلّة التي يأكل منها ويعتاش عليها، بين من يوازن نعمة الأمان بنقمة الفوضى، وبين من يوازن نقمة الطغيان بنعمة الحرّيّة، بين من يخضع لثقافة الموروث في قبول حكم الظلمة وبين من يرفض هذا التَرِثَ الذي يُشرْعِنُ حكمَ المستبدين.
لقد أخطأتِ الحركة الإسلاميّة قراءة مشهد الربيع العربيّ، إذ حسبته حصاد نهاية مسيرتها النضاليّة، والحصاد طبعاً هو الوصول للتربّع على كرسيّ السلطة، لنيل ثمن تضحياتها منفردةً عن رفقاء الثورة.
والحقيقة أنّه كانت البداية لأمر آخر لا علاقة لها به، وهو أنّ الشعوب تحركت لإنهاء حال الاستبداد والقهر، وليس لتتوّج أيّ جماعة على سدّة الحكم، إذ أنّها لم تكن تملك أيّ تصوّر عن مرحلة ما بعد الثورة وسقوط الطغيان.
لذلك كان على الحركة الإسلاميّة ألا تزايد في خوفها غيرِ المبرّر على الهويّة؛ لتستحضر معركته عند كلّ ثورة ضدّ الظلم والطغيان، ممّا يؤدّي إلى ارتباك المشهد، وتشتّت الطاقات، وتشاحن الصفوف، وتعيد تأهيل الاستبداد من جديد، فمعركة الهويّة ساحته ميادين الدعوة، وليست في ميادين الحريّة التي غايتها تحرير إرادة الشعوب، وثورة المبادئ هي ثورة النخبة، وثورة المطالب هي ثورة الجماهير، ولا يمكن أن تنتصر ثورة المبادئ بدون ثورة المطالب، لذلك علينا إعادة قراءة مشهد الربيع العربيّ بتأنٍّ ووعي، ولنعلم أنّ الشعوب هي الأكثر ائتماناً على الهويّة والثقافة، من النخب السياسيّة، التي تجعل منها متاريس وجسوراً للسلطة…
سبعٌ من السنين العجاف تمرّ من عمر الربيع العربيّ ولا يزال الصراع بين بقايا المؤمنين بربيع الحريّة، وعبيد الطغاة، والثورة المضادّة على أشدّه، ونستطيع أن نؤكّد بنظرة شموليّة أنّ الربيع العربيّ لا يزال في زخمه، يقاوم ويقارع الطغاة بدون وهن أو فتور، وأنّ الثورة المضادّة قد رمت بكل سحرها لتقهر عصا (موسى)، ومازالت العصا تلْقَف ما يأفكون، وإنّ خزّان الطاقة الثوريّة لا يزال يتجدّد وقوده من مظالم الاستبداد والقمع، وإنّ مبرّرات الثورة مازالت حاضرة دافعة، وإنّ كنانة الثورة المضادّة قد نفدت، وهي ترمي بآخر سهامها في نحر الربيع العربيّ دون جدوى.
لا يجوز بحال من الأحوال أن نحبس أنفسنا في عمر زمني للثورة نقرّر في حدوده مقدار نجاحها، أو فشلها، فالثورة جولات وموجات، وخسارة الجولة الأولى لا يعني انتهاء المواجهة، وتكسّر الموجة الأولى لا يعنى أنّ صخرة الاستبداد ستبقى جاثمة على ساحل الحريّة أمام الموجة الثانية، فإنّ أعاصير الثورة مازالت تهب على قلوب الأحرار والثائرين، لتزْكي أرواحهم من جديد، ولنا في تاريخ الثورات مُعتبر، فقد امتدت أعمار الثورات في الدول الأوربيّة عشرات السنوات، وفي النهاية وصلت لغايتها وأهدافها ونالت الشعوب حريتها…
وإنّ المقاريض الفكرية من وسائل الثورة المضادة التي اختبأت وراء ثورتنا لتؤدلجها بإيديولوجيا الغلوّ والتطرّف؛ هي حال طارئة على ثورات الحريّة والكرامة وسيلفظها المجتمع، وستكافحها المناعة الثوريّة المتناميّة من طول الصراع والخبرة الثوريّة المكتسبة، ولن تدوم، ولن يكون لها مستقبل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهي في الأصل صناعة استخباراتيّة جاءت لتؤدّي دوراً وظيفيّاً يبرّر قمع الثورة بحجّة مكافحة الإرهاب وتعيد تأهيل الأنظمة الاستبدادية من جديد.
شكلت القوى الإسلامية الممنهجة ثلاث طعنات نجلاء في خاصرة الثورة، ناهيك أنها شكلت حاضنة للغلو والتكفير الذي مهّد للصراع الثوري الثوري:
أولاً -انحرفت بها عن الأهداف التي انطلقت الثورة منها في إسقاط الاستبداد، وإعادة التعاقد السياسي وفق الاختيار الحر للشعب بدون إكراه دولي أو محلي إلى أهداف أيديولوجية تتراوح من مشروع أمة إلى الخلافة الراشدة إلى الدولة الإسلامية فصوّرت الثورة أنها حرب طائفية.
ثانياً -خرجت بالثورة من محيطها القطري إلى الجغرافية العابرة للحدود، حتى صار اسم سورية من العورة المغلظة التي يجب سترها بمسمى الشام، وعليه تراوحت أسماء الجماعات الاسلامية بين تحرير الشام وأحرار الشام والجبهة الشامية وجيش الإسلام وغيرها، ولم يبق لسورية منهم نصيب فصورت الثورة أنها مشروع تصدير.
ثالثاً -التحجير في وسائل نصرة الثورة، فصدرت الفتاوى في تحريم الدعم الخارجي، ومقاطعة المؤتمرات الدولية كجنيف، وإسقاط المؤسسات الثورية كالأركان والحكومة وغيرها، وخطف الصحفيين الأجانب، فصوّرت الثورة بالحركة الفاقد للتصور السياسي.
لذلك علينا أن نقوم بخطوات إصلاحية مهمة في إعادة تدبيب سهم الاتجاه نحو أهداف الثورة، وإعادتها إلى حيزها الوطني، والتعاطي مع كل الوسائل المتاحة في انتصارها وبلوغ أهدافها.
علينا ونحن نتابع مسيرة الربيع العربي أن ندرس خارطة المصالح الدولية من جديد، ونراعي هذه المصالح التي هي قدر تؤثر على مواقف العالم من ثوراتنا، فإنّ الذي لا يبصر الخارطة السياسية لشبكة المصالح العالمية أشبه بالعسكري الذي يجهل خارطة الأرض التي يحارب عليها سرعان ما تنفجر به الألغام.
نحتاج إلى صياغة خطاب إعلامي جديد يحشد شعوب العالم الحرة وراء مطالبنا، ويقنعها بعدالة قضيتنا، ويكشف المجهولية عن رواية ثورتنا، وأنها فعلاً ثورة في سبيل الكرامة والحرية، وليست حرباً طائفية أو حرباً أهلية أو حرباً بين أنظمة شرعية وإرهاب.
إنّ الدكاكين الإعلامية الفصائلية فشلت فشلاً ذريعاً في التعبير عن رسالة الثورة السورية ونبل غايتها وتوصيل رسالتها للعالم، ومثلت حالة ما يشبه شاعر القبيلة الذي حصر همه في الذب عن عشيرته، والتغني ببطولاتها إلى درجة المبالغة والتصنع، وهجاء العشائر الأخرى، والطعن في أحسابها وشرفها، بينما نجح النظام في اختراق الثورة بمئات الآلاف من المواقع والصفحات ـ التي تقمصت الزي الإسلامي ـ وأسماء وهمية، وراحت تُسقط كل أعلام الثورة وقادتها، ولأننا مدمنون على تتبع العورات، والشغف بأخبار الفضائح ولو كانت ظنية، فقد نجح النظام بتفريغ الثورة من أي شخصية أو مؤسسة تنال ثقة المجموع الثوري لتبقى الثورة بلا رأس.
إنّ المنهزمين والمتساقطين على طريق الحريّة والثورة، الذين يقولون لنا في كلّ جولة: إنّا لمُدْرَكون. ربما يستطيعون أن يعودوا لتقبيل أحذيّة الطغاة أو ينحازوا إلى طريق السلامة، لكنْ لا يمكنهم أن يقنعونا أبداً أن نوقع على شهادة وفاة الربيع العربيّ العظيم، أو أن نعلن نهاية الثورة، قبل إزاحة الطغاة، وبناء صرح الحرّيّة الأبديّ.
إنّ في النشء جيلاً جديداً يتشكّل، يعيد تفسير كلّ الأشياء من جديد، يعيد تفسير الجمال: بأنّه لوحة تبرز جمال الحريّة، ويعيد تفسير الدّين: بأنّه حرب على الطغاة، ورسالة للحريّة، ويرى القبح بأنّه حرب الطغاة على الحرّيّة، وتطربه الموسيقا عندما تكون نغمة الثورة، تنفث في ناي الحرّيّة، ويستنشق أطيب العطور من شذا الحرّيّة، ويرى في شعاع الشمس بعض أطياف الحرّيّة، ويرى في ضوء القمر قنديلاً يضيء درب الحريّة، ويرى في الموت لذّةَ وصال مع وجه الحرّيّة السرمديّ.
وما دام هناك قلم يرسم لوحة الحريّة، وطفل يهتف للحرّيّة، وأم تنجب جيل الحريّة، ومجاهد يقبض على الزناد من أجل الحريّة، وشهيد يزفّ إلى الخلود في سبيل الحريّة، وتاريخ يكتب هذه الرّحلة بين بداية الحياة، وبداية الخلود فإنّ الثورة مستمرّة، وإنّ دول الباطل العميقة التي قامت على دماء الأحرار وأشلائهم ستنهار فوق سدنتها، لتكون للمستبدين من بعدها آية شاهدة على حتميّة مصارع الطغاة.
فهرس المراجع
1 – مفهوم الدولة العميقة: مقال للكاتب محمد طه.
2-التفسير العقدي للصراع: مقال للباحث السوري: ماهر علوش منشور في موقع إدراك.
3- الثورة ضدّ الثورة والشارع ضد الشعب والثورة المضادة /بحث للدكتور عزمي بشارة: صادر عن المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسيّة
4- مآلات الثورات الشعبيّة وخلفيات الثورة المضادة قراءة موضوعيّة وعقديّة: الدكتور أكرم حجازي
5- الثورة المضادة فعل إنساني غير مخصب: بحث الأستاذ محمد طلابي
6-عن الثورة والثورة المضادة مقال للكاتب الفلسطيني: سلامة كيلة. من موقع الجزيرة نت
7- الثورة المضادة.. عبرة الماضي للحاضر مقال محمد بن المختار الشنقيطي أستاذ الأخلاق السياسيّة بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر من موقع الجزيرة نت
8- كيف تنتصر الثورات المضادة؟ 6 خطوات تشرح لك / الكاتب المصري عبد الرحمن ناصر من موقع ساسة بوست
9- من يدير العالم؟ (ما هو النظام العالمي الجديد ؟) الكاتب المصري عبد الرحمن ناصر من موقع ساسة بوست
10- ذباب الثورة المضادة –- أبو يعرب المرزوقي من الصفحة الشخصيّة
11-الربيع العربي: الواقع والآفاق رؤية استشرافيّة إعداد: عمرو دراج. المعهد المصري للدارسات الاستراتيجيّة
12-النظام العالمي القديم والنظام العالمي الجديد للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي طباعة دار نهضة مصر
13-فخّ العولمة الاعتداء على الديمقراطيّة والرفاهيّة. مجلة عالم المعرفة تأليف: هانس بيترمارتين
14-منظومة الدولة العميقة في ظلّ الربيع العربيّ. مقال على الجزيرة نت يحيى اليحياوي كاتب وأكاديمي مغربي
15-الاستبداد ووعي الاحتياط بشير نافع موقع عربي 21
16 -أردوغان بين (الدولة العميقة) و(الدولة الموازية) مركز أبحاث الجزيرة الكاتب بشير عبد الفتاح ، أكاديمي وباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجية