الفيلسوف والفرّان

بسم الله الرحمن الرحيم
الفيلسوف والفرّان

لا تخفى على البصير أهميّة الإصلاح الفكريّ، من تشخيصٍ نقدٍ،
ومعالجةٍ وتخطيطٍ وتنظيرٍ، وضرورة رسم الصورة المستقبليّة
لمسيرة الأمّة، وهي في طريق تلمّسها سبل الخلاص، ولا يعاب على
أحدٍ أن يبدع في نظريّاته، وتخطيطه لمراقي الفلاح، ومعارج الأمم،
للتقدّم والرقيّ، فذلك كلّه مطلوب بإلحاح،
ولكنّه مطلوب بعد إدراك طبيعة عالم الأفكار والنظريّات، فهذا العالم
أسير لكثير من الطبائع والظروف المتعلّقة بالرجل المسمّى:
فيلسوف، أو منظّر، أو مفكّر أو داعية، فهو عالم يتّسم بالنخبويّة
والمثاليّة والتردّد والمراجعة والتغيير والتأثّر بأسبقيّات العقول، من
عقيدةٍ وبيئةٍ ودوافع شخصيّة ومطامع ذاتيّة، والأخطر من ذلك كلّه؛
هو عدم حساب الوقت، والتقليل من أهمّيّته، فترى من السهل أن
يلوح لك المنظر بالحاجة لعدّة أجيال لتطبيق نظريّته على الأرض،
فهو يحيلك إلى مكان مجهولٍ، بالنسبة إليك، وخالي المسؤوليّة
بالنسبة إليه، فهو بعد أجيال سيكون تحت التراب، بلا رقيب ولا
حسيب، في حال فشلت نظريّته، أو أنّها أرهقت معتنقيها.
نعم هنا تنقلب الفلسفة والحكمة إلى شيءٍ قريب من السفسطة، من
حيث نظرةِ الناس إليها، لا من حيث قيمتها الذاتيّة، ومن هنا تأتي
قابليّة أن يستسلم الناس للمشاريع المزجاة، والبرامج المقولبة
والجاهزة، ولو لم يقتنعوا بأهليّتها أو أحقيّتها،

2

ولكنّهم يرون ثمارها جنىً يتوقّعون قطافه ولو كحمرة على وجنات
التفّاح، وقد بدا صلاحه، فكيف ينتقل الفيلسوف من عزلته، ويقرّب
فكرته إلى سامعيه، ولا يضيع الحكمة في مستقبل الأضغاث، عندما
يدرك علاقة الناس بالخبز، فالناس ليست مستعدة – على ما فيها من
دوافع وبواعث، وما تواجه من تحديّات وعقبات، وما تتعرّض له
من ضغوط وفتن، وما تتشوّف له من رغبات وغنائم، وما تتوجّس
منه من مخاوف ومحاذير – ليست مستعدّة لأن تنتظر من الفيلسوف
أن يفرغ من النقد والتشخيص والمراجعة والتغيير، حتّى تنهل منه ما
تحتاج، ولكن هذه الشعوب تنتظر الفرّان كلّ يوم من أجل الحصول
على حقّ البقاء، ودوام الكفاح،
إنّ إدراك الفيلسوف لأهميّة العلاقة بين الإنسان والفرّان، وبين
الإنسان والضرورة، وأنّ الإنسان عنده جهاز حسّاس يوازن به بين
الأولويّات، عندها يدرك المنظّر كم هو بحاجة للنزول للهمّ اليوميّ،
ولو بجزءٍ من جهده، لأنّه إن لم يفعل فأوّل المتضرّرين هم أولئك
الذين يحرص بنظريّاته على إسعادهم، فهو بعزلته وعاجيّته
ونرجسيّته يزيد من توحّلهم وتعثّرهم واحتباسهم في دوّامة الرغيف،
منشغلين تماماً عن تبصّر النور في آخر النفق.
وهنا اسمحوا لي بالانتقال إلى الذين نحبّهم، ونختلف معهم من
المنظّرين للمشروع الإسلاميّ، أو الدعاة له، والذين وقعوا فيما وقع
به الفيلسوف المسكين من إحالة الناس إلى مجهول أو غائب، فعندما
ترى أقلام العمل الإسلاميّ دائماً مشغولة بالتنظير لدولةٍ تحكم
بالشريعة، ويتساوى فيها الناس أمام حكم الله، فيستبشرون بها الخير،
لعلّهم يتخلّصون من أوحال الاستبداد، ولكنّهم مع حبّهم وتشوّفهم
يحبّون تلمّس شيءٍ قريب ممّا يطمحون إليه، كقليلٍ من الكرامة

3

الآدميّة والحريّة السياسيّة، والرفاه الاقتصاديّ، ومأسسة الرقابة
والمسؤوليّة، ولكنّهم يفاجؤون بأنّ هذا قد لا يحصل بالقريب العاجل،
وإنّما قد يستلزم مثلاً انهيار النظام العالميّ، وسقوط الهيمنة الغربيّة،
حتّى تستطيع هذه الأمّة التعبير عن نفسها، هكذا قال لهم (أبو مصعب
السوريّ)، وربما يطلّ آخر فيقول: لا تصلح هذه الأمّة إلّا بما صلح
به أوّلها، وإنّما صلح أوّلها باتباع الهدي النبويّ الشريف، ولا عودة
للأمّة لما كانت عليه إلّا أن تكون على ما كان عليه محمّدٌ صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابه، ثمّ يشقّ طريقه محارباً البدع ومحيياً السنن،
وربّما يمضي عمره ويستفرغ قوّته، ولا يستطيع إقناع جيرانه إلا
بسيف من نجد، ومنهم من يقول: لا صلاح لهذه الأمّة إلا بوصل
القلب مع الجبّار، والتجرّد من الأغيار، والتحقّق بالصدق
والإخلاص، والبعد عن السياسيّة والأدناس، فيمضي العمر حبيس
الخلوة، ومنهم من ينتهض فيقول: لا عودة إلا بخلافة راشدة، وأمير
واحد من جاكرتا لطليطلة. ويمضي عمره ولا يجد إلا في بلاد الكفر
مأمنه، ونتابع مع هؤلاء الذين نحبّهم كيف يحيلون على المجهول،
ويرمون على المستقبل بلا أيّ محاولة للتفكير بحاجة الناس اليوميّة،
وربّما لا يسأل أحدهم نفسه عن همّ الناس، وكيف يدمى الحصان من
حديد السرج، بدون أن يشعر هذا الفارس المقبل على فتح روما، أو
ذلك الذي ينتظر تطهير الأرض من القبور المشرفة، أو ذلك الذي
وقذه الذكر عن التذكر.
في حين أنّه في الوقت نفسه يخرج على الناس كلّ يوم من يعدهم
بخبز الاستحقاق، بعد شهر وعام، ويرقم لهم إنجازات الأمن
والاقتصاد والتعليم، ويبسط أمامهم خارطة الحلول الناجزة والقريبة،
فينساق الناس له، مع علمهم بفساد طويّته، وسوء بطانته، أو حتّى

4

اختلاف دينه، وما ذاك إلا لأنّه عقلن لهم الطرح، وجعله قابلاً
للتداول والتفكير، وسهّل لهم – ولو على زيف – قيم التشارك والتعدّد،
فما وعدهم بروما، ولا منّاهم بخليفة، ولا تدخّل لهم في نمط، وإنّما
أشعرهم بضرورة أن يتوجّهوا لنافذة الفرن، من أجل الحصول على
الضرورة،
لا نريد ألا نحدّث الناس عن الجنّة، ولا نريد أن نتخلّى عن الدعوة،
ولا نريد أن نتهاون في العبادة، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولكنّا نريد أن
نفهم السّنن، وندرك سعة مساحة التأويل عند البشر، فإنّهم يؤوّلون
تقصيرهم في خدمة المبادئ بسهولة، مقابل خشيتهم من فوات
المصالح، فعلى من عقل مسافة ما بين الناس والمبدأ، وما بين الناس
والمصلحة، وما بين الناس والضرورة، وما تبيح من سعة التأويل أن
يأتي للناس من باب المصالح والبرامج، محتفظاً بدوافع الحماسة،
ومستعيناً بعدالة القضيّة في خدمة المبادئ، وعندما يرى الناس
المصالح المحسّنة، سيتسهلون الطاعة والصبر على ما تقتضيه
المواقف الأخلاقيّة المتطلّبة للبذل والإيثار.




إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة

بسم الله الرحمن الرحيم
إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة

هذه حقيقةٌ يعيشها المسلمون اليوم، بين نبلِ الشعارات، وصفاءِ
النيّات، وعظيم التضحيات من جانب، وبين الناتج المحدود،
والجدوى المختزلة لتلك التضحيّات، والعمل المضني، بعد عقودٍ من
الكفاح للإصلاح والتغيير.
فما من شكّ أنّ الإسلاميّين وهم روّاد المسلمين في الجهاد المسلّح، أو
السياسيّ أو الخيريّ، مافتؤا يجودون بالغالي والنفيس في سبيل
إزاحة صخرة الاستبداد عن صدورهم، وتخليص البلاد – بخاصّة
العربيّة منها – من حكم الأنظمة الاستبداديّة، والانقلابيّة والطائفيّة.
ولكن مع هذا كلّه لم يستطيعوا حتّى اليوم أن يقدّموا بشكل عمليّ
تطبيقيّ نظرتهم للإصلاح السياسيّ والإداريّ، ونستطيع أن نقول:
إنّهم لم يستطيعوا أن يستلموا السلطة بشكل فعليّ كامل، في بلدٍ من
البلدان حتّى الآن، إلّا إذا اعتبرنا أنّ حكومة العدالة والتنمية في تركيّا
من تيّار الإسلاميّين بمفهومه الشامل، قد قطعت خطوات بهذا الشأن.
طبعاً كلّ ما يمكن أن يقال عن مؤامرات وسحق وتنكيل وفظائع
المخابرات بالتيّارات الإسلاميّة موجود، ولكنّها أيضاً ليست هي
الأسباب الوحيدة لانتكاسات التيّار الإسلاميّ، لأنّ كلّ ضعف وهزيمة
تلامسها أسباب موضوعيّة، وأسباب ذاتيّة، أمّا الأسباب الموضوعيّة
فتكلّمنا عنها في مقالات سابقة، بل إنّ ثورات الربيع العربيّ هبّت من
أجل الإطاحة بهذه المنظومات الاستبداديّة الضاغطة،
وهنا سنتكلّم عن بعض الأسباب الداخليّة التي تقوم بتدمير التيّارات
الإسلاميّة من الداخل، ومنها الأسلمة المرهقة.

2

أمّا الإسلام فهو دين الله تعالى، الذي ارتضاه لعباده لهدايتهم، في
الحياة الخاصّة والعامّة، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من آدم عليه
السلام لخاتم النبيّين محمّد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)
وهذا الدين العظيم لم يكلّف اتباعه فوق طاقتهم، وترك لهم تقدير
الظروف التي يستطيعون التحرّك ضمنها، بأقلّ الخسائر، فقال لعبد
خائفٍ (وَلْيَتَلَطَّفْ)، وقال لأمّةٍ مضطّرةٍ منهم: (إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)
وخيّرهم في سياسة أمورهم، فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وجعل
القرآن مصدر إلهامٍ، لا مصدر شقاء،: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) ويسّر عليهم ممارسة الدين، فقال: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) وأناط التكليف الشرعيّ بالاستطاعة، فقال:
(فاتقوا الله ما استطعتم).
والإسلاميّون بالعموم، رغم أنّهم يصدرون عن مرجعيّة الوحي
المبارك، لا يلاحظ عليهم التروّي عند هذه القيم الهادية، وإنّما
تتعرّض لاختزال في معانيها، أو تحييد لآثارها، والاكتفاء بمنظومة
مقتبسة ومجتزأة من سياقها، وتحويلها لمشروع حزبيّ يسمّى:
مشروع تطبيق الشريعة. وهذا ما أسمّيه: (الأسلمة المرهقة)، فهو
محاولة للزجّ بالتصوّر الإسلاميّ بصيغة موحّدة، وغير قابلة للتدرّج
أو التجزئة، بدون النظر للظروف المحيطة، والشروط المناسبة.
فما من حركة مهما قلّ عدد شبابها، ولو كانوا عصبةً صغيرة،
فبمجرّد حصولهم على حزمة بنادق، وبعض صناديق الذخائر، إلا

3

طرحوا مشروع القتال من أجل تحكيم الشريعة، والتجارب المرّة
البارزة تغني عن تكرار ذكرها.
وما من حزب ينطلق للنضال السياسيّ، مهما قلّ مناصروه، أو
ضعفت إمكانيّاته، إلا وأوّل مشروع يطرحه هو: تطبيق الشريعة،
وتأتي هذه الهديّة الثمينة جاهزة، على طبق من ذهب للدولة العميقة،
فتطوف بها على المرأة، وتقول لها: أنت نصف المجتمع، وسيحرمك
الإسلاميّون من حقّك بالولاية.
وتطوف على الأقليّات وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم
عقد الذمّة. وتطوف على أصحاب المصالح الماليّة، وتقول لهم: إنّ
الإسلاميّين سيطبّقون عليكم عقوبة مانع الزكاة. وتطوف على
العلمانيّين وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم حدّ الردّة.
وهكذا… بشيطنة إعلاميّة بسيطة، تستطيع الدولة العميقة الالتفاف
على مشاعر الجماهير، وجذب الكتل الانتخابيّة لصالحها، هذا عدا
عن قيام أجهزة المخابرات التابعة لها بعمليّات تزوير الإرادة
الشعبيّة، هذا إذا كانت المعركة انتخابيّة، فما بالك إن كانت عسكريّة!
والسؤال المطروح: من الذي يلزم الإسلاميّين بهذا العناء الدائم؟ ومن
هو الذي كلّفهم بتطبيق الشريعة، وهم مستضعفون في الأرض،
وبالكاد يستطيعون التحصّل على حقّ الحياة أو الكلام؟ هذا عدا عن
الغموض والتردّد في طرح المشروع الإسلاميّ، بصفته مشروعاً
برامجيّاً قابلاً للتداول، وإنّما فقط حزمة من الشعارات الدينيّة التي لا
تنعكس في كثيرٍ من الأحيان، حتّى على سلوك حامليها، حامليها
المؤسّسين، فضلاً عن المدعوّين لحملها.
إنّ إصرار الإسلاميّين على تقديم التصور الإسلاميّ على أنَّها كتلة
واحدة غير قابلٍ للتجزئة، وإمّا أن يقبل المجتمع بها كلّها، أو يرفضها

4

كلّها، أرهق هذا الدمج عضد الجماعات الإسلاميّة، بل سرى ذلك
للحاضنة الشعبيّة التي طالما دفعت الضريبة من حسابها.
يقول الدكتور بشير نافع: (إنّ أسّ المشكلة في الحركيّة الإسلاميّة هي
إصرار الحركات الإسلاميّة على اقتباس صورة نمطيّة، تتصوّرها
في مخيّلتها، مرّت بمرحلة تاريخيّة سابقة، وتريد أن تعيدها مستبعدة
ما مرّ من تغيير هائل على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في العالم
الإسلاميّ، منذ ظهور التنظيمات القوميّة في القرن التاسع عشر)،
ا.ه.
وهذا ما نراه عندما تبني الحركة الإسلاميّة مشروعها، منطلقةً من
أنّها ستحصد التأييد الاجتماعيّ، باعتبار أنّ الشعوب مسلمة، ولكنّها
لا تقيس مدى هذا التأييد وجودته وصلابته، فلقد رأينا أنّ الكثير من
التأييد الإعلاميّ والجماهيريّ محكوم بالوقتيّة والمحدوديّة، سرعان
ما يرجع الناس لبيوتهم، تحت الاغترار بالوعود المزيّفة، أو وطأة
آلات القمع والتنكيل.
ومن هنا يقتضي الانتباه لضرورة عدم تحميل الحاضنة ما لا تتصوّر
تبعاته، وما لا تطيق تحمله، وخرط الناس المتديّنين بدلاً من ذلك،
مثل غيرهم في البرامج الانتخابيّة، والهموم السياسيّة، ومحاولة تنمية
وعيهم بعالم المشاريع، وليس الاقتصار فقط على عالم الأفكار
والدعوة.
إنّ الإسلام من عهد آدم عليه السلام، إلى عهد رسول الله عليه
الصلاة والسلام دين موحّد العمق الاعتقاديّ والقيميّ، لكنّه متنوّع
الشرائع والشعائر والأدوات، وبخاصّة في مجال التعاطي السياسيّ.

5

والذي يميل قلبي إليه في الأمر السياسيّ أنّ الإسلام لا يؤسّس لنظرة
مسبقة وجاهزة عن نظام الحكم وإدارة السلطة، وإنّما يدفع بقيمه
وأخلاقه لفعل الأصلح للبشريّة.
وأنّ الإسلام دين هداية وتوجيه، وليس دين مباشرة وتنفيذ، وأنّ
الاسلام إصلاحيّ اجتماعيّ، يراكم التجارب، ويعطي وزناً لأبعادها،
ومستوى نضجها، وليس سياسيّاً انقلابيّاً يفرض رؤيته الجاهزة.
إنّ مقاصد الإسلام ليس معنيّة أساساً بمزاحمة النظم البشريّة، ولكن
عندما يمتزج مع الواقع، فإنّما يفعل ذلك ضمن قواعد التعاقد أو
الاشتباك الممكنة، دون نظرة كاملة مسبقة، فعندما يقول المسيح عليه
السلام:( فردوا مال قيصر لقيصر) هي تعاط ضمن الممكن، وعندما
يقول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّيّ حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) في حكومة وثنيّة، هو تعاط ضمن الممكن، وعندما يقول
سليمان عليه السلام: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ
أَنتَ الْوَهَّابُ) هو تعاط ضمن الممكن، وكلّ هذا إسلام لاشكّ،
وبتوقيع أنبياء الله،
فالإسلام يشارك ويواجه وينازل، ويصبر ويؤسّس، ويقبل ويرفض،
مثله مثل غيره من الكتل البشريّة، دون أن يكون له مشروع مستقلّ،
وهذا دليل كمال، ويعني أنّه دين منفتح، لا يُكْره الناس على أسبقيّات
أو قبليّات، وإنّما يسير معهم وفق قواعد التغيير الاجتماعيّ الطبيعيّة.

انتهى




مشوشات حول الديمقراطيّة

بسم الله الرحمن الرحيم
مشوشات حول الديمقراطيّة

ليس المقصود بهذا المقال التزلّف للغرب، كما يشاع عند أيّ حديث عن
الديمقراطيّة.
ولكنّ المقصود هو إعادة النظر في طريقة تعاطينا النمطيّ المجتزأ مع
الأفكار والمنظومات السياسيّة ذات المنشأ الغربيّ، إن صحّ التعبير،
وبخاصّة بعد هذه الخسارات الكبرى التي نكبت بها الحركات الاسلاميّة، إن
كانت هذه النكبات لظروفٍ موضوعيّة، أو لعوامل ذاتيّة، وهي الأكثر
خطورة لتعقّد التحليل والعلاج.
ومن هذه العوامل الذاتيّة الإصرار على ضبابيّة المشروع السياسيّ
(الإسلاميّ)، وطرحه بطريقةٍ رماديّة وفق فقه الضرورات، وخوضه
بأدوات غير رقميّة، أو قابلة للقياس، ممّا يؤديّ إلى الشتات والتشظيّ،
وكثرة الانشقاق والتصدّع،
عندما نذكر كلمة (الديمقراطيّة) ليس حبّاً بهذا المصطلح المركّب، ولا بأصله
اليونانيّ، ولا بفلسفات لوك وروسو وهوبز..
نحن فقط ننظر إليه بصفته مدخلاً ممكناً للاختيار السياسيّ من غير وصاية
ولا إكراه، كحقٍّ سياسيّ لكلّ مواطن، في بلدٍ يريد أن ينهض بمنظومته
الاجتماعيّة ومسيرته التنمويّة، شفافيّة بالمال وسيادةٌ للقانون، وضمانٌ
للحرّيّات، وهذا لن يتمّ بدون تعاقدٍ اجتماعيّ على أساس المواطنة، كصيغةٍ
قانونيّة تكفل التساوي بالحقوق والواجبات…
نرضى أو لا نرضى… حقّ الاختلاف الفكريّ معتبر…
ولكن هذا هو الاستحقاق السياسيّ الذي طالما هربنا منه، بألفاظ التعميمات
واستنساخ تجارب التاريخ.
ومن مشوّشات الديمقراطيّة:

أوّلاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي دِين، وبالتالي ليس لمسلمٍ أن يترك دين
الإسلام، ويتّبع دين الديمقراطيّة، وبهذا اللفظ البسيط الكفاية لإخراج كمٍّ هائلٍ
من الأمّة من الإيمان إلى الكفر، بل وتكفير كلّ المشاركين السياسيّين في أيّ
عمليّة ديمقراطيّة في العالم، إذ إنّهم بهذا يشاركون في التبشير بدينٍ غير دين
الإسلام يسمّى (دين الديمقراطيّة).
ويكفي للردّ على هذا الكلام أنّ الديمقراطيّة لا تنتمي لدينٍ ولا لمذهب، ولا
تؤصل أساساً للعلاقة بين الإنسان ومعبوده، وليس في كلّ أدبيّاتها أيّ
محتوًى دينيّ، وإنّما هي مجموعة من العمليّات المنسجمة التي تهدف
لممارسة العمل السياسيّ في جوٍّ من الحرّيّة والرضا الشعبيّ، وهي تأخذ
الطابع الدينيّ في كلّ بلدٍ من دين أهل ذلك البلد، فهي بوذيّة عند البوذيّين،
ومسلمةٌ عند المسلمين، ومختلطةٌ عند الخلطاء.
ثانياً: يقولون إنّ الديمقراطيّة تتنافى مع تطبيق الشريعة؛ لأنّها تضع
الحاكميّة للشعب، وليس لله.
والجواب عن هذا: إنّ الحاكميّة شيء، وتطبيق الشريعة شيءٌ آخر،
فالحاكميّة هي وجوب رجوع المسلم للشريعة في أحواله كافّة، ولكنّه في
الوقت نفسه محكوم بظروف القدرة والاستطاعة، ومنها تطبيق الشريعة،
فقد لا يستطيع المسلمون في كلّ زمن أن يطبّقوا الشريعة، إمّا لضعفٍ أو
لعجزٍ، ولكنّ هذا لا يمنعهم من أن يمارسوا العمل السياسيّ، لتقليل المفاسد
والأخطاء، ومناهضة الظلم والاستبداد، وهم بغير الدخول في قواعد اللعبة
السياسيّة القائمة على الخيار الديمقراطيّ، لن يستطيعوا فعل ذلك.
ثالثاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي الحريّة المطلقة، وهي تبيح فعل جميع
المنكرات، بل وشرعنتها، وممكن أن يصوّت في الديمقراطيّة على أمور
تناقض صريح القرآن، وهذا الاعتراض أيضاً غير مسلّمٍ به، فالشعب
عندما يحكم نفسه بنفسه يحكم بما يؤمن به، وبالتالي فإنّه ما من حرّيّة
مفتوحة السقوف، يفعل الإنسان ما يشاء، حتّى في أعرق الديمقراطيّات
العالميّة، فالحريّة مقيّدة بالأعراف الدستوريّة وأسس الدولة والمجتمع،

وهويّة الشعب الذي انتخب هؤلاء النواب أنفسهم، فلا يمكن في بلد مثل
بريطانيا أن يتمّ احتقار سلطة الملكة، أو السخرية منها، ولا يمكن التصويت
على قتل إنسان خارج أسوار القضاء، ولا يمكن في دولة مثل الهند أن يتمّ
التصويت على ازدراء آلهة الهنود، التي يعبدونها، وكذلك الأمر في البلاد
الإسلاميّة، فكيف بمجتمع مسلم ينتخب معظم نوّابه من المسلمين، ثمّ
يتصوّر أن يصوّتوا على أمر يناقض الشريعة، فإن حصل ذلك فمردّه إلى
أمرين، أمّا الأوّل: أنّهم عاجزون، وقدّروا المصلحة في ذلك، وهم مبتعثو
الأمّة، والأقدر على تقدير الموقف.
والأمر الثاني: أنّهم ليسوا مؤتمنين على مصالح الأمّة ودينها ورسالتها،
وعلى الشعب الذي انتخبهم أن يعيد النظر في اختياراته، وأن يرقى بوعيه
السياسيّ ليختار أولي الأمر منه بما يحفظ رسالته.
رابعاً: يقولون إنّه لا ديمقراطيّة حقيقيّة، وإنّ المال والإعلام هو الذي يخدع
الشعوب، ويدفع بالفاسدين والمستبدّين، وشراء أصوات الفقراء أو
المنتفعين، وهذا أمر وارد، ولكنّ علاجه لا يكون بإلغاء الخيار
الديمقراطيّ، ولا الانسحاب منه، وإنّما بالسعي لتحسينه وضبطه بالقانون،
بحيث يؤتي ثمرته في تنظيم الاختيار السياسيّ بأقلّ الخسائر، والبشريّة
يوماً بعد يوم تحاول سنّ التشريعات الدائمة لإصلاح الخلل في النظام
الديمقراطيّ، ومنه لم تقتصر على الانتخابات الرئاسيّة، بل والبرلمانيّة ثمّ
النقابيّة ثمّ الانتخابات المحليّة والبلديّة، وذلك كلّه لتوسيع قاعدة المشاركة
الشعبيّة في صياغة الرأي العامّ.
تبقى الديمقراطيّة تجربة بشريّة حافلة بالعثرات والأخطاء، وتستحقّ النقد
والتصويب، مثلها مثل أيّ نظام سياسيّ بشريّ آخر، ولكنّ هذا التصويب
يكون متزامناً مع الممارسة للعمل السياسيّ، لأن السياسة في كلّ يومٍ لها
استحقاق جديد والناس لا ينتظرون حتّى ينتهي المفكّرون من التنظير
السياسيّ، أو يتوافقوا على مشروع جامع، بل يحتاجون القيادة الدائمة لهم،
التي هي رائدة العيش المشترك، ومحقّقة الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ،
والحارسة لمصالحهم من الضياع والفوضى.

حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام
12/2/2018




إسلاميّ وعلمانيّ في وجه الاستبداد

بسم الله الرحمن الرحيم
إسلاميّ وعلمانيّ في وجه الاستبداد

تنتمي هذه المقالة إلى (الجغرافيّة السياسيّة) ولا تنتمي إلى التحليل الفلسفيّ، ولذلك
لن نذهب إلى تأصيل (معنى إسلاميّ) أو (علمانيّ)، وإنّما سنستخدم المعنى الشائع
بين الناس.
فإذا قلنا: إنّ الإسلاميّ هو من يحمل تصوّراً شاملاً عن مشروع سياسيّ مستمدّ من
الشريعة الإسلاميّة، ديناً ودولة عقيدة وشريعة ومنهج حياة بمرجعيّة سماويّة.
وإذا قلنا إنّ العلمانيّ من يحمل تصوّراً أنّ الدولة يجب أن تكون حياديّة من جميع
الأديان، وتمشي بقانون وضعيّ بشريّ ومرجعيّة بشريّة
كيف لهؤلاء أن يكونوا سويّة في مكافحة الاستبداد؟.
لو افترضنا أنّ الإسلاميّ في الربيع العربيّ سيأتي ويحمل معه حمولته كاملة،
ليخوض بها معركة الحريّة، فسوف يفرّق أكثر ممّا يجمع، وسوف يضرّ أكثر ممّا
ينفع، لأسباب كثيرة منها:
أوّلاً: عدم وجود برنامج مكتوب ومتداول بين الأطياف الإسلاميّة، قابل للإقناع
السياسي لجماهير الربيع العربيّ، وإنّما هي في الغالب أدبيّات تنظيميّة، ونظرات
حزبيّة متفاوتة في التنظير، ومختلفة في التطبيق.
ثانياً : رغم اتساع جمهور الإسلاميّين، وقدرتهم على الحشد والتأثير، إلا أنّهم
يخسرون كثيراً من قوتهم في معارك جانبيّة بين: سلفّيّ وصوفيّ، وسنيّ وشيعيّ،
وتقليديّ وحركيّ .. ممّا يؤدّي لانقسام جمهورهم ودخولهم في صراعات بينيّة.
ثالثاً: الشعوب لا تنتظر الفلاسفة ريثما يفرغون من تنظيراتهم، لأنّها لا تنتهي،
والشعوب مشغولة بالهمّ اليوميّ الذي يتراكم عليها: من تضحيات، وفوات الأنفس،
وهلاك المصالح.. وهي تريد شيئاً ناجزاً، أكثر منه شيئاً صحيحاً إن كان بعيد المنال.
ولذلك ولأسباب أخرى عجزت القوى الإسلاميّة وخلال 80 عاماً تقريباً من
النضال، أن تقنع الجماهير بجاهزيّة مشروعها ونضوجه.
طبعاً ولاشك إنّ هناك أسباباً موضوعيّة: مثل القمع والتنكيل والاختراق… ولكن
تبقى هذه الأسباب مكمّلات للضعف، والشتات الداخليّ..
ولو افترضنا أنَّ الطرف الآخر العلمانيّ سيأتي بحمولته كاملة، ليخوض بها معركة
الحريّة من الاستبداد، فإنّه سيفرّق الصفوف أكثر ممّا يجمع، ويمزّق أكثر ممّا هو
ممزّق، وذلك لأسباب عديدةٍ أيضاً منها:

2

أولا : تجربة الأنظمة العسكريّة القمعيّة المريرة التي دفعت ببلادنا للتخلّف والدمار
والتبعيّة، التي حسبت بشكل أو بآخر على أنّها أنظمة علمانيّة تعادي هويّة الأمّة،
وتعمل على تغيير ثقافة الشعوب قهراً.
ثانياً: بقاء التوجّه العلمانيّ ضمن طبقة نخبويّة مثقّفة غير متجذّرة ضمن الجماهير،
ممّا يجعلها شبه معزولة، وتنسج حولها هواجس المؤامرات والتبعيّة للغرب،
ومعاداة الدين، بل أصبحت عند الكثير قرينة للإلحاد والانحراف الأخلاقيّ.
3-شأن العلمانيّين شأن الإسلاميّين، من حيث التفرّق، وعدم وضوح المشروع،
والدخول في صراعات وانشقاقات حزبيّة قوميّة ويساريّة، مع دخولهم مع
الإسلاميّين في جدلٍ واسع منع من التحالف والتآزر، وجعل الطرفين عرضة
للاستهداف والإقصاء، من قبل أركان النظام الاستبداديّ.
طبعاً سيجد كلا الفريقين الشهيّة الكافية للحوار والنقاش، بل وللصدام، ولكن ليس
هذا هو الحلّ، لشعوب مغلوبة مقصوفة مدمَّرة يسرح المستبدّ فيها طولاً وعرضاً،
كما قال الكواكبيّ: (المستبدّ يضغط على العقل، فيفسده، ويضغط على الدين، فيفسده،
ويضع كعب رجله في حلوق الملايين ليسكت أنينهم).
والحلّ يبدأ من صفقة وتعاقد سياسيّ واجتماعيّ عام بين المكوّنات الإسلاميّة، وبين
النخب العلمانيّة… أن يتنازل كلّ منهما عن بعض حمولته الفكريّة والسياسيّة لصالح
القاسم المشترك بين الناس، وللصالح العامّ الذي فيه مصلحة الشعب، فيجتمع
الفريقان على مواجهة الاستبداد، وحسم معركة الحريّة، وتحكيم الشعب من قرار
السياسة والأمن، وضمان حقّه في التمثيل السياسيّ لنفسه في دائرة القرار، ضمن
عمليّة سياسيّة، وانتخابات حرّة نزيهة، ترسم خارطة الأقليّة والأكثريّة السياسيّة، في
المجتمع، وبعدها يمكن أن تنطلق مسارات التعاون، بين المكوّنات في بناء وطن
واحد حرّ قويّ كريم.. يشعر جميع مواطنيه بالحقوقيّة والمواطنة، ذاتها دون إقصاء
أو تمييز…
فلا هو مقبول من الإسلاميّ أن ينظر للثورة على أنّها من نتاج مدرسته، فيقيم لجان
الاحتساب، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويفرض على النّاس نوعاً
معيّناً من التوجّه الفكريّ، أو الالتزام الدينيّ أو يتدخّل في حرّيات النّاس الخاصّة.
ولا هو مقبول من العلمانيّ أن يصادم هويّة المجتمع وثقافته، أو يستنسخ كلّ ما
ناسب شعوباً أخرى، ويجعلها من مسلّمات شعبه، ويحاول أن يفرض ذلك دستورياً
أو ما فوق دستوريّ.
إنّ عقد صفقة سياسيّة بين الإسلاميّين والعلمانيّين، على أن يتابعوا النضال ضدّ
الاستبداد حتّى إسقاطه، ومن ثمّ تحكيم الشعب من نفسه، وفق العمليّة الديمقراطيّة،

3

ليختار قانونه ودستوره وطريقة إدارة السلطات، هو الحلّ الممكن الذي يجمع بين
أطياف الثورة، ويقلّل ساحة الاختلاف، وما يتبقّى من أمور يقع فيها تفاوت وجهات
النظر، تحلّ في قبّة البرلمان، ولجان التشريع، والاستفتاء الشعبيّ وغيره من وسائل
الاختيار الحرّ، بلا وصاية ولا ضغط.
إنّ تمكين الاختيار السياسيّ والثقافيّ للمواطن، هو هدف مشترك بين التصوّر
الاسلاميّ الصحيح، وبين العلمانيّة الحقيقيّة، الذي يدعم وجود تعاقد سياسيّ طويل
الأمد، بين شعبٍ متصالح على القيم المشتركة.

حسن الدغيم
باحث
مؤسّسة رؤية للثقافة والإعلام

انتهى




عبوّات ناسفة بربطة عنق

بسم الله الرحمن الرحيم
عبوّات ناسفة بربطة عنق

لم يعد خافياً على منتسبي (الربيع العربيّ) خطورة التنظيمات
التكفيريّة التي هي أشبه ما تكون -أو هي حقيقةً- بالعبوّات الناسفة
التي انفجرت في وجه ثورة الحريّة والكرامة، فكانت الألغام التي
بترت أقدام الثائرين، والعصا الغليظة التي دقّتهم على جماجمهم
غدراً وبغياً، ومعلوم ماجرّ التنظيم الباطنيّ المسمّى (تنظيم الدولة)
على المنطقة من كوارث، ليس أقلَّها التدميرُ والتهجير، بل تتجاوز
لزرع الشكوك في قدرة وفعاليّة أيّ مشروع إسلاميّ مستقبليّ، لو لم
يحفظ من إسلاميّته إلا الاسم أو الشعار، وذلك لما ورَّثه هذا التنظيم
الضالّ في الفكر والسلوك لغيره من مكوّنات المجتمع المسلم،
ولكن الذي يخفى على كثيرٍ حتّى الآن أنّ هناك نوعاً من المفخّخات
والعبوّات التي ساهمت بتدمير ربيعنا العربيّ، ولكنّها لا تستخدم
السيفور ولا البارود، ولا الأحزمة والستر الناسفة، وإنّما ترتدي ثياب
المنظِّرين والمحلِّلين، ويحتلّون مساحة واسعة في فضائيّات تلفزيونيّة
كبرى، ولهم من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الألوف،
ويطرحون أنفسهم كشخصيّات متديّنة معتدلة مؤمنة بالحريّة
والكرامة، ومعارضة الأنظمة الاستبداديّة، ولكنّهم يمزُجون بذلك –
عن قصد واحتراف- السمَّ الناقع في ثنايا إطلالاتهم وحساباتهم،
بالدسم.
ما معنى أن يمضي المحلّل أياماً طويلة وهو يتغنّى بانتصاراتٍ
موهومة لتنظيم داعش في تدمر؟ بنفس اليوم الذي كان فيه تنظيم
داعش يحاصر مدينة مارع، ووصلت مفخّخاته لداخلها؟ بل وقتل

2

الثوّار خلاياه النائمة بين الأزقّة، وكادت أيقونة الشمال، ومدينة عبد
القادر الصالح تسقط مرّات عديدة ولا تسمع لهؤلاء همساً ولا حرفاً؟!
بمجرّد هجوم محسوب التوجّه والمسار، تشنّه داعش على مستودع
ذخيرة ضمن سياقٍ مألوف ومعروف، بات الصغير قبل الكبير
يعرفه، يخرج هؤلاء المحزّمون مهلّلين ومكبّرين بإنجازات دواعشهم
المسلّحين، طبعاً ولا يهمّهم استهداف الغلاة لمدنيّين هاربين من دير
الزّور، وقتلهم وحرقهم على يد جماعة البغداديّ، فالمهمّ عند الألغام
الملفوفة بربطة العنق، هو أن يمضي وقت البرنامج، وقد أفرغوا
سمومهم على الجيش الحرّ، وعلى الفصائل التي قاتلت داعش، وعلى
من اضطرتهم الأحوال وقسوة الحرب للتفاوض والمناورة مع
عدوّعم.
منذ أفغانستان وقف هؤلاء المثقّفون المفخّخون يطوفون حول
شخصيّة (ابن لادن)، وتزيّنونها، ويحلّلون أقوالها، وجعلوا منه منارة
أمام الشباب المرهق، على الرغم من أنّ هذا الإنسان لا يحظى بأيّ
ميزة إضافيّة، لا في فكرٍ ولا في منطقٍ، سوى أنّه ورث عن والده
أموالاً طائلة، كافية للإنفاق على متسوّلي الدينار والدرهم بمقالاتهم
ومقابلاتهم.
ثمّ تابعوا السيرة ذاتها مع تمجيد (القاعدة) وانتصاراتها على الشعوب
المسلمة، وضربها للمقاومة العراقيّة، وقتلها للشعب اليمنيّ،
وتدميرها للنسيج المجتمعيّ في الجزائر، وتحطيمها لأيّ محاولة
لنهوض الصومال، إلى أن حطّت بهم الرحال في الثورة السوريّة،
وانبرى الاعلاميّون الكبار ممجّدين فتوحات الفاتح الجولانيّ، وتشبيه
الغلاة بسيف الله المسلول، وصحابة رسول الله، وتسويغ أخطائهم،
وتعظيم خطايا غيرهم، وإظهارهم كأنّهم منارات السماء، وقناديل في

3

وسط الظلام، وهم يعلمون يقيناً أنّ الفاتح الجولانيّ الذي أمضى
سيرته في سوريّة في بيعةٍ، وحلّ وربطٍ، وفكّ وعقدٍ ونكث، مع
محضنه القاعديّ لم يفتح في سوريّة إلا قبراً لثوّارها، وسوقاً سوداء
لسلاح مجاهديها، وأكمل مهمّته بكلّ إخلاص، في وأد ثورة الكرامة
والحريّة، لصالح المصير الأسود، الذي اختتمت به كافّة ثورات
الحريّة، من تأهيل الأنظمة، وترسيخ المستبدّين.
إنّ من أهم وسائل تطويق الغلوّ والتطرّف ومحاربته، هو نزع ثوب
السندس المبهرج عن كومة الخناجر المسمومة، التي تنغرس في
صدور الشباب، ظنّاً منهم أنّهم وصلوا إلى الفردوس المفقود، ولا
يمكن هذا إلا بتقليم الأصابع التي تلمّع هذا الثوب وتبهرجه، وتزيّنه
للناظرين، وتعرية خطابهم، لاسيّما أنّ الشرائح العمريّة الصغيرة
ومن هم في سني المراهقة، لا يميّزون بين المنظر الحسن، والفكر
الرديء، ويظنّون أنّ أيّ مثقّف يجيد الكلامَ ورصفَ التغريدات هو
مرجعيّة فكريّة وقامة سامقة، ولا يدركون الأبعاد الاقتصاديّة
والسياسيّة، بل والاستخباراتيّة وراء هؤلاء الملبّسين على الناس.

انتهى




ربيع إيران المنتظر

ربيع إيران المنتظر 

بدأ ربيع إيران الأول  منذ زمن بعيد في بداية القرن العشرين بما عرف بالحركة الدستورية وتحويل إيران من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية ولكن الحروب العالمية حالت دون تمام إنجازات هذه الحركة حتى أواخر الأربعينيات وبعد خروج إيران من الحرب العالمية الثانية أسفرت مطالبٌ شعبية عن إجراء إنتخابات فاز بها الدكتور محمد مصدق (زعيم الحركة الوطنية الإيرانية ورئيس الوزراء الإيراني في أوائل الخمسينات) و وصل للسلطة و كان معروفاً  بنزاهته وإخلاصه للشعب الإيراني حيث سعى لوضع حد لسلطات الأسرة الحاكمة وتعميق الملكية الدستورية في البلاد واستقلال قرار الشعب الإيراني

ولكن ذلك لم يدم طويلاً حيث أطيح بحكومته في انقلاب 19 آب عام 1953 وعودة نظام الشاه محمد رضا بهلوي الديكتاتوري إلى السلطة وإزالة جميع مكتسبات الحكومة الديمقراطية ، واستمرفي الحكم بمساعدة جهاز الإستخبارات العسكرية السرية  المعروف ب (السافاك) والذي قامت بتدريبه وتجهيزه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية 

بعد إنقلاب 1953 وإزاحة مصدق عن الحكم بدأ الشعب الإيراني من جديد يفكر بالثورة على نظام الشاه والسافاك بسبب القمع والظلم والإضهاد والإرتهان الكامل للغرب 

وإيران كغيرها من الشعوب العربية والإسلامية تأثرت بموجة الصحوة الإسلامية بعد عام 1967 وإحتلال إسرائيل للقدس حيث زاد نشاط الجماعات الدينية في إيران وبروز صوت رجال الدين ومنهم الخميني في مدينة قم الإيرانية والذي كان من ضمن المعارضين لنظام الشاه البهلوي

وكان الفصيل الأبرز يومها هو منظمة مجاهدي خلق الإيرانية والتي تم قمعها بكل وحشية من قبل نظام الشاه في عام 1972 وإعدام قادتها باستثناء مسعود رجوي الذي أفرج عنه بعد عام 1979 ونجاح الثورة 

توسعت الإحتجاجات الشعبية في أواخر السبعينيات وكانت الثورة الإيرانية ثورةً شعبية تشبه لدرجة كبيرة الثورات العربية التي إندلعت بعد عام 2011 في أهدافها وبساطتها ومكوناتهاحيث شارك بها الإسلاميون والعلمانيون واليساريون وجميع فئات المجتمع ومثلت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية مثالاً وسطاً للشعب الإيراني بأرضيتها المتدينة وأهدافها السياسية المعاصرة في إقامة الدولة الديمقراطية 

بينما كان الخميني يحاول إجتذاب القوى المتدينة لصالح رجال الدين المؤمنين بنظرية ولاية الفقيه والتي تنص على إنه لابد من إقامة حكومة إسلامية يرأسها الفقيه الأكبر نيابة عن المهدي الغائب حسب الرواية الشيعية! ، 

إلا أنه وبنفس الوقت ولدهائه ونصائح المستشارين الغربيين له كان لايجهر بذلك حتى لايخسر تحالفاته الثورية مع العلمانيين واليساريين وحتى مع الإسلاميين المتنورين 

ويمكن أن نقول أن الثورة غنقسمت ىإلى مرحلتين 

المرحلة الاولى دامت تقريباً من منتصف 1977 إلى منتصف 1979، وشهدت تحالفاً مابين الليبراليين واليساريين والجماعات الدينية لإسقاط الشاه.

و المرحلة الثانية، غالباً ما تسمى (الثورة الإسلامية)، شهدت بروز( آيات الله) وتعزيز السلطة والقمع وتطهير المعارضة من كل منافس للخميني، 

وفي 16 كانون الثاني 1979 غادر الشاه إيران نزولاً عند طلب رئيس الوزراء شاهبور بختيار الذي أعلن حل الشرطة السرية المعروفة ب (السافاك)، وأفرج عن السجناء السياسيين، ووعد بانتخابات حرة وأمر الجيش بالسماح للمظاهرات الشعبية. وطلب من الخميني  تأسيس دولة مثل الفاتيكان في قم وتبقى طهران عاصمة للدولة الحديثة ، إلا أن الخميني  رفض طلبه وقام  بتسلم السلطة وقام بإزالة كل أعداءه أوحلفائه الذين باتوا عقبة أمامه وكل من يرفض تطبيق نظام ولاية الفقيه في جمهورية إسلامية يقودها بنفسه.

استخدم الخميني  أسلوب التكفير للتخلص مع معارضيه حيث كان يوجه تهمة حرب الحكومة الإسلامية لكل معارض له وأنه بذلك يحارب الإسلام كما أنه استخدم الحرب مع العراق ذريعة لقمع المجموعات المعارضة بما في ذلك التعذيب والسجن غير القانوني بتهمة الخيانة .

وهكذا استطاع الخميني خطف الربيع الإيراني من ثورة شعبية تطالب بالحقوق الإنسانية من العدالة والحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة إلى دولة كهنوتية تكفيرية تسعى لاسترجاع ثارات الماضي ونبش عوامل الهدم الثقافية للأمة في إيران ومحيطها العربي والإسلامي 

والآن وبعد أقل من 40 عاماً بقليل وبعد آلاف الكوارث التي أنزلها حزب الخميني على الشعب الإيراني من قتلٍ وتهجير وإفقار وزجه بحروب طائفية مقيتة في العراق وسوريا واليمن ولبنان 

هل سيعود الشعب الإيراني لربيعه الثاني في تخليص نفسه وشعوب المنطقة من أعتى أنظمة التاريخ غدراً وقهراً وباطنية وطائفية 

هذا ماستجيب عنه الأيام القادمة في شوارع إيران من جديد ولاسيما بعد الإستلهام الموفور من ثورات الربيع العربي 

  حسن الدغيم 

      باحث 

في مؤسسة رؤية 

للثقافة والإعلام 




تجريم الاستبداد

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستبداد منظومة متراكمة من السعي للسلطة عن طريق التغلّب، وإدارتها بطريقة التفرّد والاستحواذ، وقمع المخالف، والتنكيل به، والخوض في المقدّرات العامّة، مع التخطيط لتوريث هذه المنظومة للقريب والشبيه، في إصرار على خنق روح المساءلة والمحاسبة، وتعويم الفساد.

#حسن_الدغيم

الاستبداد لا يحتاج لشيطنة، لأنّه الشيطان نفسه، فما من فتنةٍ إلا قرع على طبولها، وما من رذيلةٍ إلا نفخ في مزاميرها، وهو الشجرة الخبيثة الحاوية بين أخاديد جذعها، صنوف الحيّات والعقارب، لتلدغ المستظلّين بظلٍّ من يحموم، لا بارد ولا آمن ولا كريم. 

#حسن_الدغيم

إنّ الجهد الفكريّ مطلوب بذله بإلحاح، لتجريم الاستبداد، وفضح منظوماته، وذلك للوصول إلى اعتبار الاستبداد -عند مختلف الشعوب- جريمة ً سياسيّة تستهدف الشرعيّة، وجريمة دينيّة تستهدف الشريعة، وجريمةً أخلاقيّة تستهدف قيم الحضارة والتقدّم، ويصير المستبدّ -أينما كان- عارياً من ثياب الخداع. #حسن_الدغيم

يجب الانتباه في أثناء مواجهة الاستبداد إلى أنّ هذا الداء يقبل التوارث بين الفاسدين، ولا يتأثّر باختلاف هويّاتهم، لأنّه مع قمع الرقيب، وتزييف الوعي يستطيع المستبدّ التغرير بأتباعه، وإيهامهم بأنّ وجوده مرتبط بمصلحتهم الدنيويّة والدينيّة، بل وبأنّه الأقدر على حراسة دينهم ودنياهم.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عدوان على مبادئ الدّين، فهو النسف العمليّ لمبدأ الشورى، فالشورى في أبسط صورها تضمن أن يعطي الناس رأيهم فيمن يحكمهم، ويرعى مصالحهم، وفيما يشاور الناس إن لم يؤخذ رأيهم في معقد القرار السياسيّ والعسكريّ والاجتماعيّ، وصورة الدولة ورمزها.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عدوان على تعاليم الرسل والنبوّات، ومادعت إليه من ردّ أمور الأمّة لقرارها (وأمرهم شورى بينهم)، ووجوب حفظ الأمانة بتولية القويّ الأمين: (إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين) وكيف تصحّ المشاورة (وشاورهم في الأمر) مع حاكم يبطش بالأرواح ويكتم الأنفاس.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على مقاصد الشريعة، وكليّات الملّة، لأنّه ميدان التفريط بكلّ فضيلة، وجالب كلّ دسيسة، وهو بعكس مقاصد التشريع القائمة على جلب المنافع ودرء المفاسد، فلا حياة للنفس مع حاكم لا حسيب عليه ولا حريّة ولا فكر، ولا مالٍ مأمون عليهِ، ولا عرض ٍ مصون.

#حسن _الدغيم 

الاستبداد عدوان على مكارم الأخلاق، ومنارات التقدّم والرفاه، فهو يقرب الفاسد الموالي، ويبعد الناقد الصادق، بل يستهدف حياتهم ويشيطنهم ليتفرّد بفضاء الآخرين، مع كهنته وسحرته، فيسود النفاق، وتشرعن التقيّة، ويكتم الشفوق رأيه في صدره، مخافة السيف والنطع.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على العلم، لأنّه لا يرى تشجيع العلوم، إلا تلك التي تزيد من تحكّمه بمصائر الشعوب، وزيادة حجم ترسانته العسكريّة، في الوقت الذي يسعى لتطويق العلوم والمعارف التي من شأنها تحصين الوعي، وتوسيع المدارك، وذلك خوفاً من أن تنكشف أوراقه وأباطيله.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عائق لحركة الفكر، لأنّ الفكر ينمو بالتقادح والتمازج، وفي الوقت الذي يقف فيه الاستبداد حائطاً صلداً ضدّ هذا التموّج، فإنّه يرسّخ للانطوائيّة والانغلاق، ويدجّن شعوباً عريضة كالقطعان السادرة، تآكلت إنسانيّتها، وقاربت العجماوات في جمودها. 

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على العقل محطِّ التكريم الإلهيّ، لأنّ المستبد يرى نفسه صاحب الأوليّة الحصريّة على العقول، فهو المؤمن والحريص الأعلم والأفضل، ولأنّه ليس بذاك.. فهو يعمد على طمس عقول غيره، بالترهيب والنكال والتشويه، حتّى يتفرّد أمام المنخدعين بسطوته، ويظهر لهم كحكيمٍ وقور.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عارٍ من كلّ فضيلة، لا يستطيع أن يغطّيَ شينه بمنجزات الوهم، أو الأمن المزعوم، ولذلك يلجأ لبعض الأقلام والعمائم التي تطيعه، وتسبّح بحمده، ويخلع عليهم من مال الرعيّة ما يشتري به ضمائرهم، وأمّا أولئك الذين لا يخشونه فلهم سياط القهر، وظلمات السجون.

#حسن_الدغيم

لا يورطنّ أحدٌ نفسه بشرعنة الاستبداد، بذريعة وجود مستبدّين عادلين مرّوا على حكم الناس، لأنّ القيم لا تبنى على الاستثناء، وعلى فرض أنّهم كانوا، فليس لأنّهم طلبوه، ورغبوا فيه، بل ربّما قصرت بهم أدوات الحكم، وحالت إكراهات الواقع عن بلوغ الأفضل. 

#حسن_الدغيم 

لا يزعمنّ أحدٌ من المستبدّين أو مروّجيهم أنّ أحداً ما مفوض بمصادرة رأي الناس في حكمهم، فالسلطة من حقّ الأمّة، تسندها بطريقة تراها الأقوم، ليصل قرارها إلى تشكيل منظومتها، وليس بيد أحد حقّ إلهيّ، أو نصّ نبويّ، أو أمر دينيّ، أو عقد لازم يخوّله تجاوز رأي الناس فيمن يحكمهم.

#حسن_الدغيم

مامن أحدٍ ذاق ويلات الاستبداد أكثر من أصحاب الفكر والدعوات، ورغم ذلك ينتهض دعاةٌ مساكين ومخلصون بسطاء، ليدافعوا وينافحوا عن منظومة الاستبداد، ويستدعوا لها ما يجمّلها من الروايات والاجتهادات، بحجّة الخوف على الدين، ونسوا بأنّ المستبد شرُّ من حمل الأمانة. 

#حسن_الدغيم

إنّ تطويق الاستبداد يبدأ من تجريمه، فمادام هناك من يسكّن ألم الناس منه، ويدعوهم للصبر عليه، ويصرف جهادهم عن إسقاطه، ويضعهم بين خيارات الفوضى، ونار الاستبداد، فإنَّ الاستبداد باق، والفوضى باقية، والظلم باق، وليست الحريّة عملة تدفع لشراء الأمن، أو حقّ الحياة.

#حسن_الدغيم

إنّ صرح الاستبداد يترنّح في اليوم الذي يصل الوعي بالناس أن يغضبوا من المستبدّ، ويجرّموه مثلما يجرّموا من يعتدي على أعراضهم، فإن كان السائل على عرض الفرد مجرماً، فالمستبدّ صال على أعراض ودماء ومقاصد أمّةٍ بأكملها، يخوض في مصيرها بما يشتهي. 

#حسن_الدغيم

إنّ الحريّة قيمة الإنسان، وجوهر تكليفه وتكريمه، وأساس لعيشه وكرامته، وهي ليست عوضاً يبذل للمستبدّ مقابل الأمن، أو العيش، أو سلامة البدن، بل الأمن والرعاية واجبة للمواطن، وهو بكامل حرّيّته لا يحدّ منها إلا بما يكفل مثلها للآخرين.

#حسن_الدغيم

إنّ نظام الاستبداد لا يعرف حسن النوايا، ولا يترك للطامحين في التغيير فرصةً لالتقاط أنفاسهم، ويبادرهم إن تركوه، لأنّه فاقد للشرعيّة، كمغتصبٍ لدرةٍ نفيسة، ويظنّ أنّ صاحبها مدركه لا محاله، فهو لا يسرقها فقط، وإنّما يحاول قتل صاحب الحقّ. 

#حسن_الدغيم

 إن حملت الثورة خطأ ًعابراً، ونزفاً مؤقّتاً، وفوات مهجٍ، وهلاكَ حاضرة، فإنّ الاستبداد خطيئة محيطة، وفتنة مستدامة، وعذابٌ واصب، يقطف الرؤوس انتقاء، ويخنق الأرواح تقسيطاً، وما يُضَنُّ به أن يدفع مع الحريّة جملةً، سيدفع أضعافه مع العبوديّة تفصيلاً.

#حسن_الدغيم

السلطةُ سيّدة الشهوات، وهي حسناء خادعة، من أجلها تسفك الدماء المعصومة، وتهتك الحرمات المصانة، وتنهب الأموال المحرزة، وعقلنة هذه الشهوة الجامحة مسؤوليّة الأمّة في أن تضع ضوابط إسنادها، وإدارتها بصناعة المؤسّسات لا بأمزجة المستبدّين.

#حسن_الدغيم.




ماذا يعني تجديد الخطاب الدينيّ

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا يعني تجديد الخطاب الدينيّ؟ 

إنّ كلمة تجديد (الخطاب الدينيّ) تحدث بشكلٍ فوريّ جدلاً واسعاً بين أطياف عدّة من المهتمّين بالفكر الدينيّ والفلسفيّ، ومن عدّة زوايا، فيراها المحافظون تفريطاً، ويراها السلفيّون ابتداعاً، ويراها التقليديّون استشراقاً واختراقاً، ويراها المجدّدون تنويراً، وتترافق الدعوات للتجديد بالتزامن مع التحوّلات السياسيّة والتاريخيّة الكبرى، مثل ظهور القوميّات، وولادة الدولة الوطنيّة، والانكسارات العسكريّة، أو تلك التي تحدث تحوّلات فكريّة وسياسيّة كحملة (نابليون) على مصر، أو إلغاء منصب الخلافة العثمانيّة 1924، أو نكسة عام 1967، وكذلك دمويّة الأنظمة الاستبداديّة وقمعها للربيع العربيّ. 

و تستند الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ على نقطتين، 

الأولى:  

أنّ الشعوب بغالبيّتها متديّنة، وتتوارث كمّاً متماسكاً من القيم الدينيّة التي تحمل الإجابات عن الأسئلة المصيريّة، وبالتالي عندما تجد هذه الشعوب مفارقة بين ما تعتقد، وبين ما يحدث، فتعود بالمراجعة لاعتقاداتها، و كون أكثر المؤمنين في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ينطلق إيمانهم من التسليم الكامل بعصمة النصّ الدينيّ عن الخطأ، فإنّهم يتّجهون بالتهمة للطبقة الناقلة، أو الفاهمة، أو المفسّرة للنصّ، ومن هنا تنشأ الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ من قبل المؤمنين.

النقطة الثانية الداعية للتجديد: 

لا تتناول الطبقة المبلّغة للدين، أو المفسّرة له، بل تدعو لتجديد الدّين نفسه، وهم على مراحل، فمنهم من يدعو لنزع القداسة عن النصّ نفسه، فلا ضير في تعريضه للنقد، ومنهم من يدعو لوضع النصّ في موضع تاريخيّ؛ كان له فيه دورٌ وانتهى، ومنهم من يدعو لقراءة معاصرة للنصّ.

وكلّ مرحلة من هذه المراحل تجدها تتحوّل بفعل السيلان الشبكيّ إلى تيّارات ومناهج متوالدة ومتناقضة، وكلٌّ يلقي بحمولته في الفضاء، ويتلقّفه الشباب التائه والمصدوم من مآلات الانكسارات العسكريّة أو السياسيّة، التي تحدث تغييراً جوهريّاً في عالم الأفكار والمشاريع والعلاقات. 

والتجديد ليس مفهوماً حادثاً، بل قد ورد (تجديد الدّين) في الحديث النبويّ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).

رواه أبو داود (رقم/4291) وصحّحه السخاويّ في “المقاصد الحسنة” (149)، والألبانيّ في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599). والخلاف في تفسير حديث التجديد واسع، فمن جعل المجدّد واحداً في كلّ مائة عام، ومن جعله جماعة، ومن جعله كلّ مائة عام حصراً، ومنهم من جعله في كلّ وقت، ويرجع للاطلاع على هذا الخلاف إلى كتب شرّاح الحديث، لأنّ الذي سنميل إليه من الحديث عن تجديد الدين، هو محاولة تنويريّة تلطيفيّة لهذا المصطلح الذي يثير المعارك الفكريّة الصاخبة، ويقسم الناس بين (تقليديّين وأحرار، وبين سلفيّين وحداثيّين، وبين متزمّتين ومتنوّرين)، وسأضع هذه الإشارات في نقاط متتعدّدة، وأجزم مُسبقاً بأنّها ليست كافية، ولكنّها قد تقدح المزيد من الأفكار في هذا الميدان البالغ الحساسيّة، ويمكن أن ألخّصها في الإشارات التالية: 

  • إنّ الدعوة لتجديد الخطاب الدينيّ ليست دعوة لترك النصوص الدينيّة ولا هجرانها، وليست لقراءتها بغير القواعد التفسيريّة المعتبرة باللسان العربيّ، كما أنّها ليست اتهاماً مسبقاً للنصّ نفسه، بأنّه المسؤول عن التخلّف أو الهزيمة أو سوء حال المسلمين، بل هي دعوة للتمييز بين النصّ المقول المعنى، والنصّ المتمحّض للتعبّد، مثال ذلك: النهي عن سفر المرأة وحدها بدون محرم، هل هو معقول المعنى؟

أي: هل هو معلّل بسلامتها وأمنها، فينتفي النهي حال ضمان الأمن والسلامة؟ أم هو عبادة لازمةٌ بكلّ حال؟ 

  •  الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّ الدينيّ الذي يعطي حكماً عامّاً أبديّاً مثل: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وبين النصّ الذي يعطي حكماً في حال معيّنة، وبسياقٍ معيّن مثل: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فهذا لا يعني أن يكون لعدد الشهور اعتبار في الهدن السياسيّة.
  • الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّيّ الدينيّ قطعيّ الثبوت والدلالة، وبين قطعيّ الثبوت، ظنّيّ الدلالة، وبين ظنّيّ الثبوت والدلالة، وكم بنيت أحكام قطعيّة على أصول تبيّن أنّها ظنّيّة.
  • الدعوة للتجديد تشمل ضرورة وضع تعريفات ضابطة للمصطلحات الشرعيّة والفقهيّة، بحيث تحدّ من تعميمها واشتمالها على مالا تشتمل عليه، فكم من المسلمين اليوم يمزج بين الحرام والمكروه، وبين المندوب والواجب، إن لم يكن في تأصيله ففي تطبيقه.
  • ومن التجديد تحليل مصدريّة الأحكام العمليّة لصاحب الرسالة  وعدم النظر لما صدر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بنظرة موحّدة دون التمييز بين ما صدر عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام من أفعال وأقوال، بعضها زمنيّ يخصّ عصره كحاكم للناس، وبعضها كقاضٍ بين الناس، وبعضها كرسول للعالمين، وبعضها كاجتهادٍ مرحليّ.
  •  الدعوة لتجديد الخطاب الديني تشمل الدعوة للتمييز عند تنزيل النصوص بين الواقعيّة والمثاليّة، وبين حال الاستضعاف وحال التمكين، وبين الاعتقاديّ المطلق والعمليّ المقيّد، وبين فقه النوازل وبين الفقه المستدام، وكم هو الفرق كبير  بين العمل السياسيّ القائم على التشاركيّة؛ من مناصفة وتدرّج، وتأثّر بظروف العصور المتغيّرة، وبين العمل الدعويّ القائم على منهجيّة الرسالة الإسلاميّة، في إصلاح الفرد والمجتمع، التي لا تقبل أنصافَ الحلول، بل كم وقعنا في غوائل التعصّب من مزجنا الدائم بين الإسلام ديناً، وبين الإسلاميين حملةً لهذا الدين، بل المزج بين الإسلامّيين قادةَ مشروع متصدّرين، وبين المسلمين الذين يشكّلون الأمّة كلّها. 
  • الدعوة للتجديد تعني منع المزج بين الوحيّ الإلهيّ، والتاريخ الإسلاميّ، فكم حسبت مواقف تاريخيّة كأنّها مصادر تشريعيّة،  فالضرورة قائمة للتمييز بين عصمةِ الوحي الإلهيّ، وبين إمكانيّة وقوع الخطأ بالتفسير البشريّ.
  • الدعوة للتجديد هي دعوة لأنسنة المسلمين، فالمسلمون مثل غيرهم تجري عليهم سنن الله في القوّة والضعف، والنصر والهزيمة، والاستخلاف والابتلاء، وقد يتعرّضون للنكبات والنكسات العسكريّة الكبرى، وليس لهم ميزة خاصّة تحصنّهم، أو خوارق تنجّيهم. 
  • هي دعوة للتمييز بين فقه الأولويّات، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وتأثير ذلك على الفتوى وإصدار الأحكام، ومدى علاقة ذلك بالواقع، ومناسبتها للظرف، ومقياس ما يترتّب على الإخلال بهذه الموازين، من مفاسد تعود على حملة الشرّيعة بالبوار.
  • هي دعوة للمرونة في التعاطي مع العمليّة السياسيّة، من انتخاب وترشيح وممارسة ومشاركة ومعارضة، وسلطة ضمن المتاح والممكن، حماية لمصالح الناس، وعدم الانزواء عن العمل السياسيّ، بسبب عدم إقامة نظام إسلاميّ مَرْضِيّ من قبل الإسلاميّين.
  • هي دعوة لعدم الانسحاب من مواجهة التحدّيات بإطلاق فتاوى التحريم فقط، بل بمنازلة التحدّيات، والتمييز بين ما ينفع وما يضرّ، وبين ما ينفع مع ضرر قليل، وبين ما يضرّ مع نفعٍ قليل، إذا لم يكد توجد وسيلة متمحّضة للصلاح، إلا شابها شيء ممّا ننكر، وبخاصّة قضايا الشأن العام.
  • هي دعوة لإحياء مقاصد الشريعة، ووضعها في زاوية التناول الأصليّ، وليس الثانويّ، التي بها يستبان النسق العامّ للتشريع الإسلاميّ، ومراد الله من عباده، وذلك ليستنير المجتهد في صناعة الفتوى، بمنارات الغايات، ولا ينغلق في التفصيلات،
  • هي دعوة لاعتبار أصليّة الخلاف الفقهيّ، وحتّى العقديّ على مستوى الفروع، وإنّ هذا الاختلاف ليس هو الحال الشاذّة، بل هو الأقرب لطبيعة التشريع الإسلاميّ، وبذلك تنتفي غوائل التعصّب المذهبيّ المقيت.
  • هي دعوة لإعادة اعتبار العقل ودوره في فهم النص الشرعيّ، وإنّ باب (الاجتهاد لأهله) لا يغلق، وإنّ العقل ليس حصراً على طائفة، حتّى يحيد بتحييدها، فالعقل أداة الاستنباط، وليس هو المعتزلة، كما لو غلا قوم بإمام، فإنّ هذا لا يعيبه.
  • الدعوة للتجديد هي أولويّة ماسّة، بخاصّة في قضايا الشأن العامّ، ونظام الحكم وسياسة الدولة، وإدارة السلطة والمعارضة، والجهاد وفق المنظومات المعاصرة، وما طرأ من تغييرٍ هائل، في بنية الدولة، وتركيبتها السياسيّة والاجتماعيّة.
  •  الدعوة للتجديد دعوة لإعادة النظر ببعض الأحكام الفقهيّة المعلّلة بظروفها الزمانيّة، كولاية المرأة في الشأن العامّ، وطريقة المشاركة السياسيّة مع المختلفين بالدين والمذهب، في بلادٍ لا تحكم كما نريد، ووفق ما نؤمن.
  • دعوى التجديد الدينيّ ليست لإقصائه، ولا لتمييع أحكامه، ولكنّها دعوة لتفعيل دوره، وتعزيز حضوره في حياة الأمّة من جديد، بعد أن تمّ قصر دوره على المسجد، بيد العسكر تارةً، وبسبب التحجّر الفقهيّ والتعصّب المذهبيّ، والاقتتال الطائفيّ تارة ً أخرى.
  • ودعوى التجديد ليست مفتوحة لكلّ أحد، بل هي متاحة لأهل التخصّص المباشر، أصحاب الكفاءة والقدرة على تقليب المسائل، وإعادة قراءة الأحكام الفقهيّة وتفسيرها، والاجتهاد في تنزيلها، مع فهم الواقع وفق فقه الأولويّات، والموازنات والمآلات.

  فإن لم ينهض لها العلماء المتخصّصون، العارفون بمقاصده وأصول التشريع، سينهض لها الهواة غير المتخصّصين، إمّا بحسن نيّة، وإمّا بسوء طويّة، ولا مناص حينها من الردّ عليهم، فالأولى من ذلك مبادرة أهل العلم.

حسن الدغيم 

رؤية للثقافة والإعلام.




القدس بين التحرير والارتزاق

بسم الله الرحمن الرحيم

القدس: بين التحرير والارتزاق

منذ إعلان دولة اسرائيل، هرعت الجيوش العربيّة لخوض معركة 1948 مع إسرائيل، والتيّ توّجت بنكبة 1948، واستقرّت بعدها الأوضاع على لاءات العرب، وخطب الملوك والزعماء، في الوقت الذيّ كانت فيه إسرائيل تزيد من حجم المكوّن اليهوديّ، وتستقدم الهجرات من شتّى أنحاء الأرض، حتّى أكملت احتلال القدس، عام 1967، وهزيمة الجيوش العربيّة، ومنذ ذلك الوقت والقدس ترزح تحت الاحتلال الإسرائيليّ المباشر، ولم يتغيّر شيء يذكر عند النظام العربيّ الرسميّ، إلا ما أضيف له بعد قيام ثورة الخمينيّ عام 1979، حيث زاد في أدبيّات المقاومة ضخاً متزايداً من الخطابات والشعارات التي تتوعّد بتدمير إسرائيل، وهزيمة أمريكا، ورفعت شعارات: (الموت لإسرائيل)، وتشكّلت: فيالق تحرير القدس، وجيوش الأقصى، وسمّي يوم القدس العالميّ، وشهر القدس، وأسبوع القدس، وصنعت باسمها الصواريخ، وطبعت باسمها الطوابع، وسُكّت بصورتها العملات، ورسمت قبّتها المذهّبة على شارات البلاد، ولكن على أرض الواقع شيء ما لم يتغيّر، فلا تزال القدس محتلّة، والشرطة الإسرائيليّة على مشارف أبواب الأقصى، وقطعان المستوطنين تداهم الحرم الشريف بين الفينة والأخرى، بمن فيهم جزّار (صبرا) و(شاتيلّا) المجرم (أرييل شارون) رئيس الوزراء الإسرائيليّ السابق …

لماذا لم تتحرّر القدس حتّى الآن؟

ليس لأنّ إسرائيل دولة قويّة، تملك ترسانة كبيرة من الأسلحة فقط، وليس فقط لأنّ إسرائيل تمتلك (جيش الدفاع الإسرائيليّ) الذي تصفه بأنّه: (الجيش الذي لا يقهر)، وليس لأنّ إسرائيل مدعومة غربيّاً، وأمريكيّاً على وجه الخصوص .. هذه الأسباب كلّها كانت في كلّ حرب، وفي كلّ زمان، ولم تمنع من التحرير، وإنّما تجعل ثمنه مُكلفاً فقط..

السبب الحقيقيّ في عدم تحرير القدس هو: الرغبة الحقيقيّة في بقائها محتلّة من قبل غرفة التجارة بالقدس، المشكّلة من منظومة الأنظمة الاستبداديّة والطائفيّة في المنطقة..

التجّار الذين فقدوا شرعيّتهم الشعبيّة في تولّيهم مقاليد الحكم في بلادهم، فبين من آل إليه الحكم في عقد زواج أبيه وأمّه، فلا لشعب رجع، ولا لشورى استشار، ولا انتظر أمّته يوماً بأن تقرّه، فضلاً عن أن تحاسبه، بل ويشعرها بفضله وكرمه أن تحمل عنها المسؤوليّات الصعاب، وقدّم نفسه للخدمة العامة.

وبين من قام بانقلاب عسكريّ، وجاء للسلطة على ظهر الدبابة، وقتل كلّ معارض، وخنق كلّ حرّ، وجعل البلاد مزرعة له، وورّثها لوريث قاصر، لا يرى (القدس) إلا في كتم أنفاس أطفال (الغوطة)، و(خان شيخون) المخنوقة بغاز (السارين)، ولا يراها إلا من خلال العظام البارزة من صدور أطفال (الرستن) و(دير الزور)، بل ويستعين برأس محور المقاومة والممانعة الملتحي بالزور، ليستقدم شبّيحته ويحاصر أبناء (القصير) و(مضايا) و(الزبدانيّ)، فيتضوّروا جوعاً، ويساوموهم على وطنهم، ويجبروهم على ترك بلادهم، ويتركوهم للشتات في الأرض.

وبين جيش لم تتحرّك جرّافاته منذ ثلاثين سنة باتجاه القدس، إلا عندما دعت لها الحاجة لسحق المدنيّين المحتجين في (ساحة رابعة)، مطالبين بعودة رئيسهم الشرعيّ.

هؤلاء بعض أعضاء غرفة التجارة الذين نعوّل عليهم في تحرير القدس… ولماذا يحرّرونها؟ هل من أحد يُتْلف رأسَ ماله وحصّالة رزقه؟!.. هؤلاء ستبقى القدس مصدراً لشرعنة حكمهم، من أجلها تصرف الموازنات الضخمة على وزارات الدفاع، بحجّة الأمن القوميّ، وتجيّش (فيالق القدس) لاحتلال (الرقّة) و(دير الزور)، وتحريرها من أهلها، بحجّة تنظيف طريق القدس، ومن أجل القدس تدمّر (سوريّة) وتغزوها عشرات الميلشيّات، التي تلطم على (الحسين) وتقتل آل (بيت محمّد) وتدّعي المظلوميّة، وترتكب أفظع صور الظلم بحقّ شعب خرج مثل كلّ شعوب العالم، بحثاً عن حقوقه الإنسانيّة…

كم ستكون الصدمة كبيرة لو وضعت صناديق الزجاج يوماً في (القدس)، وقيل لأهلها: من تختارون أن يحتلّ بلدكم؟… 

قائد فيلق القدس؟ أم زعيم حزب الله؟ أم قائد الجيش السوريّ؟ أم (حسن روحانيّ)؟ أم الجيش الإسرائيليّ … ماذا تتوقّعون النتيجة؟ بالتأكيد إنّ أهل القدس لن يختاروا محتلّاً على محتلّ، ولن يبيّضوا لإسرائيل صفحة، بحجّة جرائم (إيران)، ومع هذا أنا متأكّد أنّ الأوراق التي ستوضع في الصناديق ستكون بيضاء على أقل تقدير، فكيف سيقبل أهل القدس أن تغزوهم فيالق وجيوش قتلت شعوبها وسامتها سوء العذاب، وخنقت أطفالها بالغاز؟ وليس في سجلّاتها إلا المسالخ البشريّة، والبراميل المتفجّرة، وعمائم الموت للعرب والمسلمين، من نظام (الملالي) كبير القراصنة وشهبندر اللصوص…

القدس طاهرة لا تقبل إلا طاهراً، وجميلة لا تريد أن يجوس في ساحتها السفّاحون، 

بل يبدأ طريق القدس حقيقةً من تطهير البلاد من أنظمة العمالة والاستبداد والطائفيّة، التي تمنع الشعوب من التعبير عن وجودها ومصيرها، في دائرة التأثير السياسيّ.

انتهى




الفرار من الجغرافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الفرار من الجغرافية

تحت وطأة الصدمات الكبرى، والهجمات المتلاحقة، يلوح خيار الانسحاب من المشهد، والتحيّز لفئةٍ مناصرة، أو التحرّف لخطّةٍ بديلة، ولكن يبقى هذا مفهوماً ضمن الظروف المعتبرة، والأماكن المجاورة لشنّ الهجوم المعاكس، ولا يقبل بتغيير الأرض، والتسليم بالواقع المرّ، قبل استنفاد جميع الوسائل الممكنة.

تذكّرت هذا العنوان من حالنا السوريّة عند مناقشة مآلات الثورة السوريّة، والمشاريع المطروحة من الصفّ الثوريّ الإسلاميّ، بداية من الخلافة إلى الدولة، إلى الإمارة، ثمّ الجبهة، ثمّ تتصاغر الطموحات تحت ضربات العدوّ برّاً وبحراً وجوّاً، حرباً وكيداً، وعندها تبدأ تنبعث ظاهرة المراجعات والتأمّلات، ووضع الخطط البديلة، وهذا طبيعيّ لو كان في نفس حدود الحدث، ولكنّها للأسف تعود للماضي السحيق، أو تستشرف مستقبلاً متخيّلاً، لا معطيات له في الواقع المنظور.

وهذه الطروحات تأتي في مقابلة أفكارٍ أو منظورات سياسيّة، أكثر قرباً من الإقناع والمعقوليّة كالتشاركيّة والمواطنة والديمقراطيّة، وطبعاً هذا كلّه بعد الأمل في حسم معركة الحريّة.

سنتعمّق قليلاً لنقول إنّ أحد أكبر مشكلاتنا في مواجهة التحديات هي الفرار من الجغرافية الحاكمة والواقعة، إلى التاريخ الحالم، أو المستقبل المنتظر، ولك أن تتأمّل النكبات التي نتعرّض لها، وبخاصّةٍ العسكريّة منها، وضحاياها من النساء والبنين والمخطوفين، وما لا يستطيع القلب تحمّله، وما يرافق ذلك من دعاوى تظنّها نظريّات علميّة أو فكريّة، لكثرة حبكها وصياغتها وأدلّتها، بل ومشابهتها للواقع، وذكرها للأماكن، ولكنّها في الحقيقة ليست سوى آهات نفسيّة، وجمر الباطن يظهر دخاناً على السطح.

فمثلاً بعد إنهاء العمل بنظام الخلافة، والذي تزامن مع وقوع غالب الدول العربيّة والإسلاميّة تحت وطأة الاستعمار، كان الفرار من الجغرافية إلى التاريخ، وبدلاً من مواجهة التحدّيات الماثلة أمامنا، من احتلالٍ وفرقةٍ، وظهور النزعات القوميّة والوطنيّة، صارت الدعاوى تنادي باستعادة الخلافة كحلٍّ وحيدٍ وفوريّ لتخلّف المسلمين، وإعادتهم سادة للعالم، بل ونشأت أحزاب وحركات بنت المشروع الأساس على فكرة عودة الخلافة، كحزب التحرير، وأنّها بعودتها سينتهي الاستعمار والاستغلال والفرقة، وسينسى الناس عصبيّتهم وقبليّتهم، وهذا التصوّر غيرُ سديد، فلقد كانت الخلافة وكان في كثير ٍ من أحيانها يغزو أرضها المستعمرون، ويعتدي على حصونها ومقدّساتها ورعاياها كلّ غازٍ ومنتهب، ولم تستطع الخلافة على تاريخها الطويل من حلّ مشكلة العصبيّة القبليّة بين القيسيّة واليمانية، أو العرب والفرس، فضلاً أن تحلّ العصبيّات المناطقيّة والوطنيّة.

والفرار من النوع الآخر للمستقبل بدلاً من الماضي، يشبه فرار الشيعة في القرن الهجريّ الأول والثاني، بعد هزيمتهم أمام الحكم الأمويّ والعباسيّ، وعدم استطاعتهم تأسيس دولة، أو انتزاع السلطة ففرّوا للمستقبل ينتظرُون خروج ( المهديّ المنتظر من ولد فاطمة)، ليملأ الدنيا عدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ولايزالون ليومنا هذا ينتظرون ذلك الغائب في السرداب ليخرج ويسلّمهم السلطة.

ولكن هذا الفرار ليس مقتصراً عليهم، بل كثير من منظّرينا ومفكّرينا ما إن يبادر للكلام عن أيّ مشروع سياسيّ، يخفّف حال الاشتباك التي نعيشها، ويحاول تطويق سعار الطائفيّة والاحتراب، بمشروع سياسيّ تعاقديّ بين الصفّ المعارض على أقلّ تقدير، إلا ويندفع الطرف الحالم بطريقة غريبة، إمّا إلى الماضي ليأتي بحمولة عودة الخلافة وتفاصيلها الزمنيّة، وإمّا أنْ يفرّ للمستقبل ليبشّر بفردوس موعود، يرعى فيه الذئب مع الغنم.

وإذا ما دخلت معه في عمق الأجوبة عن الاستحقاق السياسيّ الواقع، والجغرافية التي لا ترحم وتنتظر من الشعب المنكوب الجواب المؤقّت باليوم والشهر، ونظرتنا للحكم والدستور، وطبيعة المشاركة السياسيّة والمواطنة والديمقراطيّة وغيرها من قضايا العصر، اختزل لك هذا كلّه بأنّه عندنا؛ أي الإسلاميّين، نظام إسلاميّ ومشروع متكامل، وبدأ يحدّثك عن قدرة أهل الحلّ والعقد على إعادة نظام الخلافة من جديد، أو بناء الدولة الإسلاميّة على الأقلّ، طبعاً بتراكيب عموميّة تستشعر وأنت تسمعها أنّ سوريّة والعراق ليس فيها إلا مجموعة من القبائل الصالحة المطيعة لله ورسوله، وتنتظر فقط الإشارة للاجتماع على دولة إسلاميّة، وأنّها ليست مجمعاً لعشرات الطوائف الإثنيّة والعرقيّة والمذهبيّة الممتنعة بشوكة السلاح، والتحالفات الدوليّة مع الدول العظمى، التي تتّخذ منها بوابات للتدخّل في مصيرنا.

وعندما يطول الحديث، وتفشل النظريّات، وينخفض منسوب المدّ والاندفاع الأيديولوجيّ، يقوم الطرف الحالم بالفرار إلى المستقبل الموعود، أمام الصابرين، وأنّ الشّام محفوظة ومكفولة ولن تضيع أبداً.

نحن هنا لا نريد الدخول في معركة السَّنَدِ والمتن، ولا بعلم الرجال والآثار.. ولكنّنا نريد الاعتبار بأمر القرآن (فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي: قيسوا الأحداث ببعضها، ونحن مثلنا مثل غيرنا، جرى علينا ما جرى على شعوبٍ كثيرةٍ، واجهت التحدّيات، كالألمان والفرنسيّين واليابانيّين والأمريكان، وكلّ هذه الشعوب تعرّضت إمّا لاحتلال أو استبداد أو احتراب، واستطاعت بمواجهة التحديّات، وصياغة نظريّات العقد السياسيّ والاجتماعيّ والوصول لانتظام القضاء، ودسترة الدولة، والقضاء على التمييز، ولو بشكل نسبيّ، وتقرير حقوق المواطنة، والتشاركيّة والديمقراطيّة، استطاعوا أن يعبروا مأزق التناحر والتخلّف، وصاروا في مصافّ التنمية والرفاه، بدون أن يعيدوا سلطة الكنيسة، ولا حكم الامبراطور، ولا الممالك التي لا تغرب عنها الشمس، ولم ينتظروا مخلّصهم المنتظر…

طبعاً لكلّ شعبٍ ثقافته وخصوصيّته.. ولكن هذا الذي وصلوا إليه هو تراكم خبرات البشر، والحضارات الإنسانيّة ونموّ الوعي السياسيّ والاجتماعيّ، الذي ضيّق على نظم الاحتكار والتوارث لصالح نظم التعاقد والتدوال، ونحن شعب نعتزّ ونفتخر بالقيم الإسلاميّة الرفيعة، فيجب أن نختصر الكثير من الطريق الذي سلكوه، بفضل المخزون القيميّ المتوافر بين أيدينا، لا أن نشوّشه بنظريّات الفرار من الزحف، إلى صناعة فردوسٍ موهومٍ نخدّر به أعصابنا المرهقة. 

حسن الدغيم 

باحث في مؤسّسة رؤية 

للثقافة والإعلام 

بتاريخ 31/1/2018