الهجرة النيوية وصناعة الأمل

ثلاث محطات على طريق الهجرة النبوية المباركة كانت قد بلغت من الخطورة
حدّها الأقصى، المحطّة الأولى كانت في ذلك البيت المتواضع الذي أحاطت به
سيوف القبائل، ولم يكن في داخله إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن
عمه الفتى المضحّي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبالمنظور المادّي
كانت فرص النجاة معدومة، بيد أن النبيّ خرج من بينهم دون أن يشعر به
أحد، ولم ينتبهوا إلا على خيبتهم وخيبة من أرسلهم، ولم ينج النبيّ فقط بل
نجا علي أيضا الذي كان قد نام بفراش النبي ليوهمهم أنه هو النبي وأنه ما
زال تحت أنظارهم! ففوجئوا به، لكن الله صرفهم عنه ولم يدر في خلدهم
التفكير بالانتقام منه وهو بين أيديهم وتحت سيوفهم!
أما المحطّة الثانية فكانت في ذلك الغار المختبئ بين تلك الجبال، حيث بقي
النبي وصاحبه الصدّيق ثلاثة أيام، ليس لهما من حارس إلا عناية الله، وقد
وصلت خيول المشركين بالفعل إلى هذا الغار، رغم كل الاحتياطات، حتى قال
أبو بكر -رضي الله عنه-: (لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا)، لم ينظر أحد إلى
قدميه، ولم يجرّب أحدهم الدخول في الغار ولو على سبيل الفضول بعد أن
بذلوا كل ذلك الجهد، وجابوا كل تلك المسافات! 
المحطة الثالثة كانت في تلك الوهاد المكشوفة والفضاء المفتوح لكل ناظر
وسامع، حيث انطلقا من الغار مع دليلهما باتجاه المدينة، وقد كانت قريش قد
رصدت مائة من الإبل لمن يأتي بهما، وهو عرض مغر -لا شك- فاندفعت
الخيول والسيوف كلّ صوب، مع وجود الوقت الكافي للبحث، فالمسافة بين
الغار والمدينة كانت تستغرق أياما عديدة، وكان من بين هؤلاء اللاهثين وراء
الجائزة سراقة بن مالك، الذي تمكن بالفعل من الوصول إليهما حتى كان
يسمع صوت النبي الكريم وهو يقرأ القرآن ولا يلتفت لا إلى سراقة ولا إلى
غيره، بينما كان الصدّيق يكثر الالتفات خوفا على رسول الله، ولم يبق بينهما
وبين الموت غيلة على يد سراقة إلا ذلك القدر الخفي الذي كان يرافقهما من
بداية الرحلة حتى نهايتها، والذي حوّل سراقة من مشرك حريص على قتلهما
إلى مؤمن مدافع عنهما وحارس لهما!
في تلك المحطات المتوالية والمتقاربة غابت كل الأسباب المادّية، فقد فضّل

2

الرسول -صلى الله عليه وسلّم- أن يؤمّن هجرة أصحابه أولا، فهاجروا جميعا
إلا أبا بكر وعليا وبعض المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة، فلم يكن معه
في تلك الرحلة عمه الحمزة ولا خاله سعد ولا عمر بن الخطاب ذاك الذي
تهابه قريش، ولا أولئك الشباب الذين يفدونه بأرواحهم كزيد وجعفر ومصعب
وعمار وبلال وصهيب، كلهم قد هاجروا، إلى الحبشة أولا ثم إلى يثرب! إنها
الحالة التي لا تحيط بوصفها الكلمات، لكن كلمات الوحي خلّدتها (ثاني اثنين
إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).
اليوم ونحن نستذكر تلك السيرة العطرة بمناسبة العام الهجري الجديد، نرى
أن الفتن قد أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم، وأن (المجتمع الدولي) قد
أسلمنا لسيوف الحقد وسكاكين الغدر، حتى تجمّعت الأحزاب علينا رغم ما
بينها من تناقض وخلاف، وأصبحت صاد الصهيونية وصاد الصليبية وصاد
الصفوية كأنها صاد واحدة، وكلهم يرموننا عن قوس واحدة، ونحن في
المقابل لسنا صفا واحدا، ولا جسدا واحدا، بل لكل وجهته، ومصلحته، وولاؤه
وبراؤه.
بدأت عواصمنا تتساقط، وحصوننا تتهاوى، وتلفتنا يمنة ويسرة فلم نجد حليفا
ولا مناصرا، واكتشفنا فجأة أن فرقنا الفنّية والرياضية وجيوش المسارح
والملاعب التي بذلنا لها أموالنا وأوقاتنا وعواطفنا لا تستطيع اليوم أن تدفع
عنا شيئا، وقد كان يكفينا بعض ذلك لمحاصرة الحوثي في صعدة، وحسن
نصر الله في الضاحية، والتعجيل بإسقاط بشّار ومحاصرة التغول الإيراني في
العراق، وكان أيضا بإمكاننا معالجة الفكر التكفيري وأدواته الإجرامية بأقل
الكلفة، لكن أولوياتنا لم تكن كذلك!
اليوم ما زالت أمامنا فرصة أو أكثر لكسر الطوق وفرض الحل الذي نريد، ما
زالت عندنا الموارد البشرية والاقتصادية الضخمة، وعندنا الإحساس بالخطر،
والاستعداد للتضحية.
إننا لسنا اثنين في غار، بل نحن أمة تمتد من المحيط إلى المحيط، ولسنا
جياعا نطلب اللبن من شاة أم معبد، بل نحن نمتلك النيل ودجلة والفرات
ونمتلك شطر ثروة العالم من النفط والغاز والمعادن الثمينة.

3

إن كل الذي نحتاجه اليوم أن نقولها بصدق كما قالها معلّمنا وأسوتنا الأول (لا
تحزن إن الله معنا)، فالله هو رب السموات والأرض ومن فيهن وهو الخالق
لكل شيء والذي بيده ملكوت كل شيء، والله لم يتنازل عن سلطانه هذا
لأوباما ولا لبوتن ولا لأحد من هؤلاء الصغار الذين يظنون أنفسهم كبارا. إن
كل الذي نحتاجه أن نرتقي بأنفسنا إلى مستوى التحدي، فطالما أنه استهداف
واضح للأمة إذاً فلنواجهه باسم الأمة وبروح الأمة، لنخرج من خنادقنا
الضيقة المحكومة بالجنسيات وجوازات السفر والشعارات والرايات إلى
الميدان الأوسع الذي نلتقي فيه كما نلتقي في صفوف الصلاة وعلى صعيد
عرفات، لنخرج من الأحزاب الإسلامية إلى الإسلامية، ومن فصائل الثورة إلى
الثورة، ومن جماعة النور إلى النور، ومن الإخوان المسلمين إلى المسلمين،
لنكن جميعا في الصفّ الذي يريده الله، وتحت الراية التي يريدها الله، فإذا
أردنا أن يكون الله معنا فلنكن نحن أولا مع الله.




السواك نموذجاً لإشكالية التعامل مع التراث

قبل أيام جمعتنا ندوة علمية تحدَّث فيها أحد الأساتذة الفضلاء، وكانت عبارة
عن تطواف في تاريخنا الإسلامي بمسحة إيمانية ووعظية ظاهرة، وكانت
الفكرة المحورية التي يدور حولها المتحدث أن أجدادنا أنجزوا ما أنجزوا من
فتوحات وانتصارات بسبب تمسكهم بالدين، وبالمقابل فكل الهزائم والمحن
التي تحيط بنا اليوم سببُها البعد عن الدين، ثم راح يسرد من أوراقه ومن
ذاكرته الثرية عددا ليس قليلا من الحوادث والقصص، كان منها ما نسبه إلى
الصحابة -رضي الله عنهم – أنهم في إحدى المعارك قد أبطأ عليهم النصر،
فحثهم قائدهم على التدقيق في سلوكهم وعباداتهم إذ ربما أغفلوا سُنة من
السنن، وحينما نظروا في أنفسهم وجدوا أنهم قد نسوا سُنة السواك فبادروا
إليها، فلما رآهم العدو هربوا جميعا من دون قتال، ظنا أن المسلمين يحدُّون
أسنانهم لأكلهم! ثم راح يؤكد أننا – نحن المسلمين – لا ننتصر بالعدة ولا
بالعدد، إنما ننتصر بالله.
حينما نعرض هذا الكلام على بساط النقد، فإننا في الحقيقة لا ننقد هذا الكلام
بنفسه، وإنما ننقد هذه الظاهرة الطاغية في خطابنا الديني، فأستاذنا الفاضل –
جزاه الله خيرا – إنما هو ابن هذه البيئة التي ألِفت مثل هذا الخطاب حتى
أصبح جزءا من ثقافتها السائدة، فأنت تسمع مثل هذه القصة على منابر
الجمعة وفي مجالس الوعظ وبرامج التواصل وغيرها.
بدايةً، يمكننا الجزم بأن هذه القصة لا أصل لها، فهي باطلة من حيث السند
والمصدر، أما مضمونها فهو متهافت دينيا وعلميا وواقعيا، ومجرد التصديق
بها يعني أن هناك مشكلة كبيرة في عقل المسلم المعاصر من حيث قدرته على
التعاطي مع الأخبار والروايات التاريخية.
من الناحية الدينية، لا أدري إلى أين سنصل بتفكيرنا حينما نعتقد أن الله
يحجب نصره عن المسلمين إذا هم قصروا في مستحَب من المستحبَّات؟ مع
أن تعريف المستحب أو المندوب أو السُّنة أو النافلة – وكلها بمعنى متقارب –
: ما يُثَاب المسلم على فعله ولا يُعاقَب على تركه، فكيف يعاقب الله المسلمين
هذا العقاب ويؤخر عنهم النصر لتركهم نافلة من هذه النوافل؟ مع أن السواك
خاصةً قد توسع فيه علماؤنا، فهو يحصل عندهم بكل ما ينظف الفم ولو

2

بالإصبع الخشنة، كذا نص الإمام النووي وغيره، لكن الأهم من هذا: هل فعلاً
كانت كل الانتصارات الإسلامية خالية من الذنوب والمظالم مما هو معهود في
السلوك البشري؟ وهل العصمة مطلوبة من المسلمين لتحقيق النصر؟ ثم ألا
يرسخ مثل هذا الخطاب حالة اليأس والإحباط؟ إذ إن أكثر الدعاة تفاؤلا لا
يستطيع أن يتخيل مجرد خيال أن حال الأمة سيتحسن بالمستوى الذي تنشده
هذه القصة حتى بالنسبة لمجتمع الدعاة والمشايخ أنفسهم فضلا عن غيرهم.
أما ذلك الجيش الذي يفر من السواك ولا يفر من الرماح، ويخاف من العض
أكثر من السيف! فلا أدري أي جيش هذا؟ وأما قصة أن أسنان البشر تُحَد كما
تُحَد السكاكين لتكون أقدر على العض، فهذه لا تحتاج إلى تعليق، لكنها مؤشر
واضح على غياب الحس النقدي لدى القارئ، ولدى السامع أيضا. إن الخطاب
الديني ينطلق أساسا من عقيدة غيبية، لكن تصورات المتدينين عن علاقة
الغيب بعالم الشهادة ليست واضحة ولا تضبطها منهجية متفق عليها، إضافة
لاختلاط هذه الدائرة بالروايات والقصص والأساطير التي تحل لدى بعضهم
محل العقائد كما في قصة السواك مثلا.
كنت قد سمعت عن أحد الخطباء أنه حذر المصلين من دخول سبعة آلاف جني
يهودي أرسلتهم إسرائيل لتخريب عقول المسلمين بالمس ونحوه! ذهبت إليه
وسألته عن مصدر هذا الخبر؟! فأكد لي أنه سمعه عن شيخ ثقة كان يعالج
ممسوسا فنطق الجني على لسانه وأخبره بذلك، وأن هذا الجني واحد من
السبعة آلاف!
تصديق الشيخ بمثل هذا لا شك أنه مبني على مقدمات منها أنه يرى الجني
ولو كان يهوديا مصدرا موثوقا للمعلومات الغيبية! وأن الجن باستطاعتهم
التحكم بعقول البشر والعبث بها متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ومن ثم لا بد من
فتح مراكز لبث (الوعي الجني) على غرار الوعي السياسي والاقتصادي..إلخ
ثم فتح (عيادات جنية) لمعالجة آلاف البشر من ضحايا الغزو الجني، ولك أن
تتصور حال الناس في مثل هذه الفوضى العقلية والنفسية، ومدى اختلاط
الحق بالباطل، والناصح بالنصاب، والمعلومة الصحيحة بالخرافة..إلخ ثم ما

3

ردود فعل الآخرين من غير المتدينين الذين يرون أن كل هذه الفوضى كانت
بسبب الدين أو التدين؟
المشكلة لا تقف عند هذا، فهناك فوضى أخرى وخراب ودمار امتزجت أيضا
بالخطاب الديني، حيث تصدت مثل هذه العقول للشأن العام، وصار الناس
يسمعون فتاوى وبيانات ومواقف لا يمكن فهمها، وعلى سبيل المثال: تسمع
لأحدهم وهو يهدد أميركا وروسيا والصين والعالم كله، بل ويدعو إلى قلع
الأنظمة الحاكمة لأن (الكفر ملة واحدة)، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا
سألته عن عدته؟ قال: نحن لا نقاتل بعدد ولا بعتاد وإنما نقاتل بالله وننتصر
بالله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وما المانع أن الله ينصرنا على أميركا أو
الروس ولو بعود سواك أو حفنة من تراب؟ وربما يستدل هنا بقوله تعالى:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لأنه يفهمها قانونا إلهيا وليست خارقة
خاصة.
في مقابل هذا تجد من يفتي بالاستسلام التام، لأن هذه إرادة الله و(كيفما
تكونوا يولَّ عليكم) و(أن الكفار هم كلاب الله يسلطهم على عباده حينما
يغفلون عن طاعته) فالتغيير إنما يكون بإصلاح النفوس حتى تتأهل لرحمة الله
التي ستغير لنا كل شيء.
إن هذه لم تعد مواعظ مجردة، بل هي مشاريع وفصائل وجماعات، وقد انبنت
عليها مواقف خطيرة تتعلق بحياة الناس وأمنهم واستقرارهم، ومن ثم فإننا
أمام نتائج قد تكون أخطر وأكبر بكثير مما نتصور.
إننا بحاجة إلى إحياء المنهج الإسلامي الأصيل -وهو منهج السلف الصالح-
لتصفية العقيدة الثابتة في الوحي حصرا عن كل تلك الروايات والحكايات
المنسوبة إلى الجن أو إلى الإنس، ثم التمييز بين النظام الكوني الثابت الذي
ألزمنا الله به وبين الخوارق التي لا يمكن اعتمادها ولا القياس عليها لأنها من
صنع الله وليست من صنع البشر.




إلحاد في المريخ

ليس في المريخ إلحاد، غير أن للعنوان قصة تحكي تاريخاً من الصراع بين الإيمان والإلحاد،
والذي بدأت بوادر عودته اليوم بأشكال مختلفة.
قبل بضعة عقود كان الفكر الإلحادي يكتسح المنطقة بحماس غير مسبوق ولا معهود، وكان
الحزب الشيوعي ذو التكوين الشمولي والعالمي يحقق مكاسبه في أكثر من دولة عربية وإسلامية.
كان الشباب الشيوعي يملأ الساحات والمقاهي والمنتديات العامة بالمجادلات والنقاشات التي لا
تهدأ أبداً، وكانوا أكثر نهماً للقراءة والتثقّف من باقي الأحزاب، وأذكر بهذا الصدد ذلك الشاب
الذي كان يحمل شهادة الماجستير في الاقتصاد الشيوعي من إحدى الجامعات الروسية كيف كان
يأتينا إلى كليّة الشريعة في جامعة بغداد ليفتح مواضيع متنوعة للنقاش، ثم يصر بعض الأيام على
توصيلنا بسيارته «الفولفو» إلى مدينة الفلوجة ليكسب مزيداً من الحوار ثم يرجع لبيته في بغداد،
بمسافة 120 كم تقريباً، كانت لحيته كثة وطويلة تشبه لحية ماركس، وكان يصر هو وأهل بيته
على تحمل الملاحقات الأمنية في أيام خلافهم الحاد مع حزب البعث، التي تصل إلى الاعتقال
والتعذيب الشديد، بحسب روايات متعددة منه ومن بعض أقربائه.
أذكر مرّة وهو يحدّثنا عن ضرورة «تفتيت الثروة» تناولت معه أنصبة الزكاة ومقاديرها في
الشريعة الإسلامية، وكيف أن الإسلام مثلا جعل نصاب النقد عشرين مثقالا من الذهب، بينما
جعل نصاب البقر ثلاثين بقرة، وأن معدل زكاة الغنم إذا كثرت %1 بينما زكاة النقود 5/2%
مهما كثرت، توقف كثيراً ثم قال: هذه حسبة معقدة تساهم في التنمية والحد من ادخار النقد، لكن
كيف لي أن أصدّق أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الذي علمكم هذه الحسبة؟! 
لقد كانت تلك النقاشات حافزاً كبيراً للتزوّد العلمي والفكري المستمر، وأنا هنا أعترف بفضل
صديقي «قحطان» في إذكاء هذه الروح، رغم بون الخلاف بيننا في كل شيء.
في مشهد آخر يعبّر عن عمق التحدّي وطبيعته يقف أستاذنا أبو القيم الكبيسي في حوار مع عتاة
الشيوعية، وهو أحد أبرز مشايخ السلفية (الوهّابية) ومع هذا كان أول من درّسنا المنطق! وكان
يستخدمه ببراعة في حواراته كلها، ليقول لهم أمام الملأ: بمناسبة غزو السوفيت للفضاء، ما
قولكم لو أن المركبة السوفيتية حطت على المريخ، فاجتمع أهل المريخ عليها، فقال الشيوعيون
منهم: هذه المركبة لم نشاهد صانعها ومن أطلقها إلى كوكبنا، فإذن ليس هناك إلا الصدفة! بينما
قال المسلمون منهم: نعم إننا لم نشاهد صانعها لكن العقل يجزم بوجوده، إذ لكل مصنوع صانع؟
أذكر أيضاً المناقشات العلمية الواسعة التي كان يجريها معهم شيخنا الوافد إلينا من مصر الشيخ
محمود غريب -رحمه الله- الذي كان يسمّي نفسه «عاشق بغداد» الذي كان يردد: إني أجد متعة
في النقاش مع شباب العراق لا أجدها مع غيرهم.
أتذكر ذلك التاريخ وأنا أرى موجة جديدة من الإلحاد، في العراق خاصة وفي المنطقة بشكل عام،
إلحاد لا يستند إلى فلسفة، ولا إلى فكر، إلحاد ساذج وأبله، يهتم بالأشخاص والأحداث أكثر من
اهتمامه بالأفكار، وعسى أن تكون لنا وقفة مع هذا الإلحاد الجديد

2

السمة الغالبة في (الإلحاد الجديد) في نسخته العربية على الأقل أنه إلحاد ذو طبيعة احتجاجية،
بمعنى أنه أشبه بردود فعل ساذجة على الخطاب الديني المعاصر الذي فقد الكثير من هيبته
وقابليته للإقناع.
وبتحليل علمي وموضوعي لهذه الظاهرة لا بد من الاعتراف بالحقيقة المرّة؛ أن الخطاب الديني
يمثّل اليوم أحد أهم التحدّيات التي تواجه الدين نفسه، ومن ذلك مثلا إظهار الدين بشكل أو بآخر
كعنوان لشقاء البشريّة ومعاناتها، فثقافة (ثارات الحسين) و (إدارة التوحّش) وهما الحالتان الأبرز
في مجموع القوى المتديّنة في المنطقة جعلت الإلحاد كأنه قارب النجاة لكثير من الشباب الشيعي
والسنّي على السواء، والصورة الكليّة التي تنطبع في ذهن الشاب عن الدين إنما يأخذها من
هؤلاء، خاصة مع مباركة المراجع الشيعية للميليشيات، وخفوت صوت العلماء السنّة تجاه
الممارسات الداعشية، لكن الذي فات على هؤلاء الشباب أن التاريخ الدموي للإلحاد ليس بأقل من
هذا، بل إن بعض المصادر أوصلت عدد ضحايا الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين إلى خمسين
مليونا! ما يجعله متفوقا بكثير حتى على الزعيم النازي هتلر.
المناطق التي سلمت إلى حدّ ما من داعش وماعش كانت التجارب (الإسلامية) المرتبكة والفاشلة
كفيلة بأن تفسح المجال للنزعات الإلحاديّة وبمستوى لا يقل عن الحالة الأولى، فبعد مرور قرابة
القرن على مقولة (الحل الإسلامي) لم يسمع الناس جوابا واضحا عن سرّ تراجع هذه المقولة
سوى الإحالة إلى مقولات غيبيّة أخرى مثل: (سنّة الله في التمحيص) و (إذا أحب الله عبدا
ابتلاه)، دون أن يقرأ هؤلاء الشباب تحليلا علميا واقعيا يمكن الاستناد إليه أو الانطلاق منه.
هناك أيضا الخطاب الوعظي الذي يتلقاه الناس من على المنابر، وهو خطاب مكرّر ومملول وذو
طبيعة عاطفية، وكثيرا ما يعتمد على مزاج الواعظ، فإن راق أدخل الناس الجنّة، وإن تعكّر
أدخلهم النار، وقد حدثني أستاذ جامعي معروف أنه طاف مع أولاده في يوم واحد على أكثر من
مسجد لصلاة الجمعة ثم رجع دون صلاة! ويقول: لم أعد أحتمل سماع هؤلاء! وقد رأيت كثيرا
من المصلّين يبحث عن الخطبة الأقصر (تسقيطا للفرض) كما يقال، لأن المصلّي لم يعد ينتظر
من الخطيب حلا لمشكلته، أو تحليلا لواقعه، أو جوابا عن تساؤلاته.
إن هذه الظواهر ينبغي أن نعترف بها لهؤلاء الشباب قبل فتح أي نقاش معهم، فربما رجعوا بهذه
المصارحة قبل الدخول في النقاش أصلا، وما زلت أذكر تلك الأخت الفاضلة التي اتصلت عليّ
وقالت: إن لديها أسئلة إلحاديّة وهي تخشى من طرحها، فرحّبت بها، ثم شجعتها بقوة أن تأخذ
راحتها في الحوار، وكانت النتيجة أنها اكتفت بهذه المقدّمات وقالت: شكرا لك يا دكتور لقد أعدت
لي الثقة بديني! ومثل هذه حالات كثيرة تؤكّد أن هذا الإلحاد إلحاد نفسيّ، بعيد إلى حد كبير عن
المقولات الفلسفية التي كان يستند إليها الإلحاد القديم.
إن المدخل الأساس لحماية مجتمعاتنا وشبابنا تكمن في إصلاح وضعنا الداخلي ومراجعة خطابنا
الديني بشكل خاص، والكف عن سياسة التبرير التي نمارسها لأخطائنا، والتعامل المحترم مع
هؤلاء الشباب مهما اختلفنا معهم




التجربة الإسلامية المغربية

أكتب هذه المقالة من مدينة مراكش في زيارتي الثالثة للمملكة المغربية، والتي حاولت فيها أن
أستمع لشهادات مختلفة عن التجربة الإسلامية في هذا البلد العريق والمتميّز بثقافته الجامعة بين
أصالة (أمير المؤمنين) وحداثة (النظام الديمقراطي)، مع مسحة حضاريّة ملموسة في السلوك
والتعامل اليومي ومفردات التعبير البياني والعمراني.
في لقاءات وجولات متنوعة اكتشفت حجم تشوّق (المغاربة) لأخبار أشقّائهم (المشارقة)
وتواصلهم مع كلّ المتغيّرات والأحداث والمفاجآت التي تعصف بهم، شعب مثقّف ومطّلع،
ويحمل قدرا كبيرا من الوفاء، لقد كانوا يسألونني في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان عن
أستاذنا الدكتور محسن عبدالحميد لأنه كان يدرّس عندهم قبل عقود من الزمن! تذكرت حينها
كلمة كان يرددها الدكتور محسن: (لما ذهبت إلى المغرب كنت أحدث نفسي هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في بغداد، ثم لما عدت من المغرب حدثت نفسي: هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في الرباط؟)!
في زيارة سابقة دعانا الأستاذ الكبير عبدالكريم الخطيب -رحمه الله- وهو أحد أعلام المغرب،
دعانا إلى بيته للغداء، وسألني كثيرا عن العراق وقطر ثمّ قال لي مازحا: أقول لك معلومة لا
تقلها لأحد! إني عراقي، كيف يا شيخنا؟ قال: (نعم مرّت بنا ظروف سياسيّة وأمنية قاسية فلجأت
إلى العراق فأكرمونا غاية الإكرام، وقالوا: هل تأمر بشيء؟ قلت: أحتاج وثيقة أتنقل بها، قال
فأحضروا لي جواز سفر، وما زلت محتفظا به)، وقد فاتني أن أسأله في أي عهد كان ذاك، لكن
الظاهر أنه يتكلم عن فترة انخراطه في جيش التحرير المغربي أواسط الخمسينيات.
في تلك الزيارة أيضا شهدت احتفالية كبيرة في ملعب واسع ضمّ آلاف المشاركين، تنازل فيها
الخطيب عن قيادة (العدالة والتنمية) وتم انتخاب الأستاذ سعد الدين العثماني أمينا عاما، ومعه
أسماء ووجوه قيادية جديدة، وقد رأيت كيف يقوم الذين لم تتح لهم فرصة الفوز بتهنئة الفائزين
بروح أخوية وأجواء أسريّة مريحة وغير متكلّفة، حتى أنك لا تستطيع تمييز الفائز عن غيره،
وقد أتيحت لي حينها فرصة التحدث عن الوضع العراقي، وكان هناك مجموعة من الشباب
يستوقفونني ليهتفوا بكلمات (العراق) (بغداد) (الفلوجة) بأهازيج حماسيّة لم أتمكن من حفظها،
وكان العلَم العراقي يغطي مساحة واسعة من المدرّجات ويتنقل فوق رؤوس الجماهير.
تمعنت كثيرا في العنوان (العدالة والتنمية) وفي (المصباح) بشكله التراثي الموضوع دائما جنب
العنوان كشعار للحزب، وتذكرت العدالة والتنمية التركي ومصباحه كذلك، وحين سألتهم عن سرّ
هذا التوافق أكّدوا لي أنّ الأتراك هم الذين اقتبسوا من المغاربة الاسم والمصباح مع تحديث بشكل
المصباح فقط! ولا شك أن هذا يعني الكثير، فالتجربة المغربية كأنّها أصبحت مثالا يحتذى، وهذا
بحدّ ذاته يدعو للتأمل والدراسة.
إن التجربة المغربية لا تنحصر بالعدالة والتنمية، فهناك لافتات قويّة ومؤثّرة اتخذت طابع التربية
والدعوة والتعليم الشرعي ولها من العمق والتأثير في هذه المجالات ما للعدالة والتنمية في المجال
السياسي.
إن أهم ما يميّز التجربة المغربية هو ديناميكيّتها العالية، وقدرتها على التغيّر والتطوّر ومراجعة

2

الأخطاء وإعادة الحسابات على مختلف الصُّعُد، ويكفي هنا أن أضرب مثالا واحدا: سنة 1979
كان هناك تجمّع لدعم الجهاد الأفغاني، فتقدّم الصفوف رجل أخذته الغيرة وأصرّ أن تكون له
كلمة، وحين أتيح له ذلك أخذ يهتف بالمحتشدين: (إن تحرير أفغانستان يبدأ بتحرير الرباط من
الطواغيت)، ما سبّب حرجا للمنظمين وللمسؤولين أيضا، هذا الرجل أصبح اليوم رئيسا للحكومة
في ظل العرش الملكي، وهو الذي يقول اليوم: (إن المغرب يجدد التأكيد على التزامه المتواصل
بتعاون دولي متضامن لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وإن ظاهرة الإرهاب التي لا
يمكن ربطها بدين معيّن تستدعي نبذ كل أشكال التطرف والعنف من خلال نشر مبادئ الاعتدال
والتسامح والانفتاح وهو ما فتئ يقوم به أمير المؤمنين).
في ثقافتنا (المشرقية) يرجعون هذا التبدّل -في الأغلب- إلى عوامل سلبية كالانتهازية والمزاجية
وضعف المبادئ والانحراف عن الجادّة، أما (المغاربة) فقد أحبّوه في الحالتين، ورأوا فيه عنصر
الصدق، فهو يتكلّم بما يمليه عليه ضميره وما يتوصّل إليه اجتهاده، ولا يمنعه قول سابق حشد له
العباد أن يغيّره بقول لاحق ولو كان فيه خسارة الجمهور، لكن الجمهور المغربي مختلف إلى حدّ
ما عن جمهورنا، فالثبات عندهم في غير الثوابت والضروريّات القطعية هو نوع من الجهل
والجمود والتعصّب المقيت، وأن التغيّر هو علامة الصدق والموضوعية و (التكوين المستمر)،
فالمعيار ليس النوايا والقصود الخفيّة ولا السير على (مثبّت السرعة)، بل قراءة الوقائع
والمستجدات والمآلات والاحتمالات، والمراجعة الجادّة للتجارب والمواقف والأفكار، وعبقريّة
المفكر مهما كانت فإنها ستعزله عن المجتمع الذي لا يتمكن من مواكبة كل هذه الحيثيات، إلا إذا
غلبت على المجتمع نزعة التقليد الأعمى كحال الشيعة مع مرجعياتهم.
في هذا السياق أيضا يذكر الدكتور أحمد الريسوني كيف أنه ومجموعة من الشباب كانوا يعملون
مع جماعة الدعوة والتبليغ، وفي الوقت ذاته كانوا يقرؤون كتب الإخوان المسلمين ويعجبون
بأدبياتهم حتى أنه حفظ (معالم في الطريق) عن ظهر قلب، ولذلك أطلق عليهم اسم (التبليغ
مودرن)، وفي ذلك الوقت أيضا كانوا مهتمين بطروحات الداعية الكبير الشيخ عبدالسلام ياسين
حتى أنهم استنسخوا له خطابا موجّها إلى الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- ووزّعوه لما
فيه من شدّة بلغت حدّ (الإزعاج والاستفزاز)، وحين يتذكّر الريسوني تلك المرحلة يقول: (إنها
مرحلة الإعجاب بالبطولات والأعمال الجريئة)، وبعد هذا أبحر الريسوني في (فقه المقاصد) ثم
في (فقه التقريب والتغليب)، ومع كل هذه التغيّرات اللافتة والارتباطات المتنوعة بقي الريسوني
كما بقي عبدالإله بنكيران وسعد الدين العثماني والمقرئ الإدريسي أبو زيد وعبدالسلام بلاجي
وغيرهم الكثير في قلب الحاضنة الجماهيرية، وهذا دليل يضاف إلى وعي هذه الحاضنة،
وتطلّعها هي أيضا للتغيير والتكوين المستمر، ونبذها للجمود والانغلاق والتعصّب المقيت بكل
أشكاله.
يلخّص الأستاذ سعد الدين العثماني -وهو الذي قاد العدالة والتنمية بعد الخطيب ثم تسنّم وزارة
الخارجية المغربية- رؤيته الكلّية التي أسهمت في نقل الحركة إلى أفقها الأوسع على الصعيدين

3

الفكري والتنظيمي: (كنت وقتها أرى أن هناك مفاهيم وسلوكيّات لدى الإسلاميين تحتاج إلى هزّة
عنيفة لتتغيّر وتتكيّف مع متطلبات الرؤية الإسلامية المستنيرة).
على الصعيد الفكري أذكر أننا اشتركنا في مؤتمر (فقه الدولة) المنعقد في اسطنبول العام الماضي
وقد طرح العثماني أفكارا في غاية القوّة والجرأة، وكان أحد الإخوان العراقيين حاضرا فالتفت
إلى إخوانه وطمأنهم أن هذه الكلمات إنما هي (تقية سياسية)! لم يستطع الرجل وهو أخ كريم
ومميّز بين أقرانه أن يستوعب هذه الهزّة إلا على أنها تقية! مع أن الدكتور العثماني قد أحدث هذه
الهزّة منذ سنين، وكتاباته في هذا موثقة ومنشورة قبل مشاركته الوزارية، وهذا مثال للتفاوت بين
الثقافتين المشرقية والمغربية.
في الجانب التنظيمي يكفي أن نقرأ هذه الاقتباسات التي حاول العثماني فيها مبكّرا أن يسقط
مفهوم (القائد الأسطورة) والمحور (الذي يدور عليه كل شيء) والذي هو (فوق المراجعة والنقد)
والذي (يملك وحده حق النظر للحركة وتقويم خطّها وإصدار الاجتهادات والفتاوى) (ولذلك كانت
قناعتي أن هذا العطب فضلا عن كونه من مخلفات عصور الانحطاط فإن من شأنه… أن يشلّ
طاقات إسلامية كثيرة ويمنع قيام عمل إسلامي حقيقي)!
العثماني هنا أذكره كنموذج فقط، وإلا فإن هذه المقولات لو كانت له وحده لكانت كفيلة بعزله
وإخراجه من الحركة، لكنه الوعي العام داخل الحركة وداخل المجتمع أيضا، وخطاب العثماني
هذا تبنّاه وهو جندي وتبناه وهو قائد، تبنّاه ونشره على الملأ ليقرأه القريب والبعيد والصديق
والعدو، وقد كان في هذا تمتين لبناء الصف الداخلي وتعزيز لمكانة الحركة في المجتمع، بخلاف
الحركات الأخرى التي ما زالت تتخوّف من الوضوح والنقد والمراجعة والتي ما زالت تعاني
بسبب هذا وغيره من عزلة اجتماعية وانشقاقات ومشاكل داخلية.
لقد انطلق المغاربة من مقولة تأصيلية كبيرة (أن كل شيء ما عدا الكتاب والسنّة قابل أن يحرق
ويراجع وينسخ ويلغى ويعدّل) وهذه ليست صرخة واعظ بل هي منهجية عميقة ودقيقة، يقول
الدكتور الريسوني شارحا لها ومبينا أسباب فرقة المسلمين وضعف القابلية على الانسجام
والتوحّد: (لأن كثيرا من الجماعات الإسلامية تلتقي وتفترق على غير الكتاب والسنّة… على
المواقف الآنية والاجتهادات الفكرية والسياسيّة… كانت الاجتهادات والأفكار الخاصة فيما قبل
هي التي توحّد أو تفرّق، وكان الشعار هو: قل لي ما موقفك من النظام أو من الانتخابات أقل لك
هل يمكن أن أسير معك أو لا)، وفي هذا يسجل الأستاذ محمد الحمداوي شهادته التاريخية: (كنا
نتحفّظ على كل شيء، فلم نكن نقبل أن نسمع مسألة الانفتاح على الشيخ المكي الناصري أو
العلماء الرسميين، بل لم نكن نتقبل أن يتحدّث عن هؤلاء بكلام إيجابي، ولم نكن نتقبل أن يلتقي
عبدالإله بنكيران برئيس المجلس العلمي.. ولم يتمكن الإخوة من التخلّص من هذا التحفّظ حتى
سنة 1984) وهكذا يستمر التشخيص الدقيق على هدي الوحي كتابا وسنّة، فالمقبول ما يقبله
الوحي، والمرفوض ما يرفضه الوحي أيضا، والولاء لكل مسلم مقبول في دائرة الإسلام بغض
النظر عن موقفه من الجماعة أو موقف الجماعة منه، وهذا هو الذي استقرّت عليه الحركة
تأصيليا وتطبيقيا، يقول المقرئ الإدريسي أبوزيد: (العلاقة الأخوية هي فوق العلاقة التنظيمية) و

4

(أننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين) وهذه نتيجة لمراجعات فكرية عميقة وجريئة
(وكنا نعيش حالة من الالتباس بسبب الفكر التنظيمي الذي تأثرنا به من الإخوان المسلمين؛ أننا
ننشئ الجماعة الإسلامية على هدي الجماعة الإسلامية الأولى، فلم يكن عندنا تكفير صريح
للمجتمع ولكننا ضمنيا كنا نرى نوعا من الطهرانية الداخلية في مقابل حالة الانحراف الخارجية)
ثم يقول: (وهذا قد وقانا من شرور التكفير والمفاصلة والانعزالية والمنابذة والسرية).
إن تلك المراجعات الفكرية التأصيلية قد قادت بالفعل إلى الوضوح في كل شيء ونبذ السرّية،
يقول الأستاذ الحمداوي أيضا: (تأكّدنا أن السرية ليست هي التي تحمي العمل وتحصّنه، بل
العكس، يمكن أن تأتي عليه من القواعد وتهدّه)، ومن لطائف ما يذكره الحمداوي بهذا الصدد أنهم
استفادوا من تجارب إخوانهم المشارقة، لكنها -على ما يبدو من السياق- استفادة على سبيل
الاتعاظ لا الإعجاب (خاصة التجارب التي اصطدمت مع الأنظمة) على حد تعبيره.
وكما تحرر المغاربة من ثقافة الانغلاق ومن دهاليز العمل السرّي تحرّروا كذلك من ربقة العمل
المركزي، وهي العقدة الأشد على ما يبدو؛ حيث استغرق العمل عليها من 1994 حتى سنة
2006، بحسب شهادة الحمداوي، وهذا الوقت الطويل لم يكن بسبب المنافسات أو الإشكالات
التنظيمية بل لأنه (لا تتوفر الكفاءات البشرية لتطبيق اللامركزية)، وهذا يؤكّد أن تلك المراجعات
كانت بمستوى المسؤولية العملية وليست فكرة طارئة أو شهوة نقدية جامحة.
لقد تزامن كل هذا مع مراجعات جريئة لبعض المفاهيم الدينيّة القاصرة، يقول العثماني: (قطعنا
أشواطا في التأصيل لمفهوم السياسة الشرعية وتصحيح ومراجعة جملة من المفاهيم غير
الصحيحة، ومن ذلك مسألة الولاء… التي جعلها كثيرون متكأ لإدانة أي خطوة يتعاون فيها دعاة
الإسلام مع غيرهم… والتي تؤدي إلى معاداة الواقع أو الانعزال عنه).
أما انعتاقهم الواعي من أي صيغة تنظيمية نحو (التنظيم الدولي) فقد وفّر لهم حماية داخلية عن
أي مصادمة أو إشكالية غير محسوبة، كما وفّر لهم غطاء قانونيا سليما، هذا على مستوى
التنظيم، أما على مستوى الوعي والفكر والتواصل مع هموم الأمة، فلا شك أنهم بالأساس
ينطلقون من ثقافة الأمة وهويتها وعقيدتها.
إن هذه الإطلالة السريعة على ضفاف الأطلسي لن تعطي الصورة الكاملة عن ذلك المحيط
الزاخر، بل هي تحفيز للعاملين هنا من كل اللافتات أن يتواصلوا مع هذه التجربة المتميّزة،
والتي وقاها الله من أدواء الانغلاق والانشقاق والتطرف، وكانت كذلك سببا في حماية بلادها من
موجات الفوضى والعبث التي تعصف بأغلب بلدان المنطقة.




العلاقة الخفية بين إيران والقاعدة

ربما تفاجأ الكثيرون بتصريحات أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم الدولة
الإسلامية في العراق والشام المعروفة بداعش، والتي جاءت بعنوان (عذراً أمير
القاعدة)، والتي اعترف فيها صراحة بأنه ودولته كانا ملتزمين بتوجيهات شيوخ
القاعدة القاضية بعدم التعرض لإيران ومصالحها، وبذلك (نَعِم الروافض في إيران
بالأمن والأمان) على حدّ تعبيره! بمبرر (الحفاظ على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها
في إيران)، أما مبرر هذا الالتزام فهو (للحفاظ على وحدة المجاهدين)! و(احترام
شيوخ الجهاد وما لهم من فضل وسبق). لقد نجح العدناني في كشف السر والإجابة
الصريحة عن السؤال المكرر: لماذا ضربت القاعدة السعودية واليمن ومصر والأردن
وتركيا وغيرها، بينما بقيت إيران سالمة مسلّمة! رغم حدّة الخلاف الديني والفكري
بين الطرفين؟! جاءت تصريحات العدناني هذه ردّاً على دعوات شيخ القاعدة أيمن
الظواهري لأمير (الدولة الإسلامية) أبي بكر البغدادي بضرورة العودة إلى بيت
الطاعة، وترك سوريا للسوريين أو لجبهة النصرة التي أعلنت فك ارتباطها بالدولة
ومبايعتها للظواهري، مما يعني في النهاية أن الخرق قد اتسع بين (دولة البغدادي)
و(قاعدة الظواهري) إلى حدّ كشف الخفايا والأسرار الخطيرة والتي قد تدين الطرفين
بمستوى واحد، فالعدناني الذي أراد إحراج الظواهري بهذه التصريحات قد أدان نفسه
أيضا ومن ناحيتين؛ الأولى: أنه أثبت -من حيث لم يشعر- صدق دعاوى الظواهري
بوجود بيعة ملزمة في عنق الدولة للقاعدة، وهذا ما تنكره الدولة بعد خلافها الحاد
مع النصرة، وإلا فما معنى هذا الالتزام المستمر بتوجيهات القاعدة في قضية يرى
العدناني أنها مدانة وأنها ألبستهم تهمة العمالة لإيران! أما الثانية: فإقراره صراحة
بأنه قد وفّر الأمن والأمان لمن يعتقد أنهم لا يستحقون ذلك، بل لمن لا يتردد في
وصف من يشتبه بالتقرب منهم بالردة والعمالة، وربما أقام الحدّ عليهم بقطع
الرؤوس وهدم البيوت! الخطير في خطاب العدناني هو اعترافه بوجود مصالح
وخطوط إمداد للقاعدة في إيران! وهو اعتراف مبتور ويخفي وراءه ملفات قد تتفتح
في يوم ما على يد منشقّ آخر، فخطوط الإمداد لا يمكن أن تكون هبة إيرانية أو صدقة
لوجه الله. الحقيقة أن هناك من سبق العدناني ومن قيادات عريقة ومتقدمة جدا لا
يصل إليها العدناني ولا أميره البغدادي، من بينهم المفتي الأول للقاعدة سيد إمام

2

الشريف والذي كشف عبر وسائل الإعلام عن (اتفاق زاهدان) المدينة الإيرانية
المعروفة والتي تم فيها الاتفاق بين مسؤولي اللجنة الشرعية في القاعدة وبين
المخابرات الإيرانية! وهذا ما أكّده أبو حفص الموريتاني المفتي الثاني للقاعدة، وأكده
أيضا أبو جندل الحارس الشخصي لأسامة بن لادن والذي قال بالنص: (إن القاعدة
تقيم علاقة مع الحكومة الإيرانية لأن عدوهما واحد وهو الولايات المتحدة الأميركية).
ومن الغرائب التي كشفها الشريف أن الكتاب الذي أصّل للكثير من أعمال القاعدة
وهو (إدارة التوحش) قد ألفه الشيخ محمد خليل الحكايمة القيادي والمنظّر المعروف
في القاعدة، والذي كان في الوقت نفسه يعمل في (إذاعة طهران)! للمراجعة
http://www.youtube.com/watch?v=3J2NPC48pK8
ولقد بات من المسلمات أن أغلب قيادات القاعدة قد أقامت في إيران وبشكل رسمي
خاصة بعد سقوط حكومة طالبان، من بينهم أعضاء في مجلس شورى التنظيم، إضافة
إلى عدد من أفراد عائلة ابن لادن (إحدى زوجاته وبعض بناته وابنه سعد)، وكذلك
صهره القيادي البارز سليمان أبو الغيث، والذي ألقي القبض عليه في الأردن بعد
خروجه من إيران في ظروف غامضة! وكذلك أبو حفص الموريتاني وأبو الخير
المصري وغيرهم، وكلهم من الصفوف القيادية الأولى، وقد بات من المؤكد أيضا أن
الزرقاوي قد دخل العراق قادما من إيران، فإيران أصبحت ملاذا آمنا للقاعدة وجسرا
لعبورهم (من وإلى). وأذكّر هنا بقصة ابنة أسامة بن لادن والتي لجأت قبل أعوام إلى
سفارة المملكة العربية السعودية في طهران طالبة السماح لها بالسفر إلى السعودية
أو إلى أية دولة عربية، وقد نقلت الجزيرة وغيرها من الفضائيات والوكالات العالمية
هذا الخبر دون متابعة النتائج. إن أخطر ما جاء في اعترافات الشريف والموريتاني:
أن التنظيم بعد أحداث 11/9 وسقوط حكومة طالبان قد أصبح ورقة تفاوضية رابحة
بيد الإيرانيين، في علاقاتهم مع الأميركيين ومباحثات الملف النووي، وكذلك في
تهديدهم للدول العربية. في العراق هناك حالة شاذّة تتجاوز الاتفاقات السياسية أو
الأمنية، وقد سجّلها باعتراض شديد قاضي (الدولة) السابق محمد الثبيتي المعروف
بأبي سليمان العتيبي في رسالته لشيوخ القاعدة في (خراسان) والتي جاء فيها
انتقاده لعقيدة أبي حمزة المهاجر بالنص: (ولقد صرح لي أكثر من مرة بعد مناقشته

3

في مثل هذه الأمور بقوله: ما بقي شيء على ظهور المهدي حتى إنه أمر بعض
الإخوة بأن يصنعوا له منبراً ليرتقيه المهدي في المسجد الأقصى)، وقد أكّد لي أحد
شيوخ الفلوجة المعروفين أنه رأى صورة هذا المنبر عند المهاجر وكان يحملها في
جيبه! يذكر أن الثبيتي أو العتيبي هذا هو من قام بنفسه بإحراق ثلاثة من شباب
السنّة في محافظة صلاح الدين وهم أحياء بتهمة الردّة! بحسب اعترافه، والشريط
المصوّر والمنشور يثبت ذلك بالصوت والصورة! إن الواجب الديني والأخلاقي على
من بقي من قيادات القاعدة بعد خروج الشريف والموريتاني واعتقال الآخرين أو
قتلهم أن يكشفوا للأمة حقيقة تلك الاتفاقات أو تلك الخروقات، أما الاختباء خلف
ضرب عوام الشيعة في الأسواق والحسينيات والمآتم فقد أصبح أوهن من ورقة
التوت، بعدما ما تبين أن هذه العمليات كانت ضمن مخطط إيران لاستيعاب (الشيعة
العرب) وعزلهم عن محيطهم القومي، بل وتأليبهم ضد هذا المحيط. إن الكارثة التي
لا يختلف عليها اثنان أن مشروع الثورة السورية قد تراجع كثيرا بسبب سلوك
القاعدة (داعش) ومحاربتها علنا لكل فصائل الثورة، وهذا الشيء نفسه قد حصل مع
المقاومة العراقية، فلا يكاد يوجد فصيل واحد إلا وتعرّض للأذى والحرب من قبل
(الدولة) في حين لم تسجل أية حالة احتراب بين أي فصيل وفصيل آخر مهما كانت
الخلافات السياسية أو الثقافية، وهذا بحق مفخرة من مفاخر المقاومة العراقية
وشقيقتها الثورة السورية، والتي أثبتت الأيام نزاهتهما وبعدهما عن أية علاقة كتلك
التي يتحدث عنها الشريف والموريتاني والعدناني رغم ما تشيعه عنهما أبواق
(داعش) كجزء من (جهادها الإعلامي)! أما ثورة الأنبار وعلاقتها بهذا الملف فهي
بحاجة إلى وقفة خاصة، وهناك معلومات واستنتاجات في غاية الخطورة، ربما
ستكشفها الأيام القادمة والنتائج التي سيلمسها الناس على الأرض. إنه لمن المؤسف
أن تتمكن إيران من تجنيد شباب العرب ضدّ العرب بأنظمتهم وثوراتهم وعلمائهم
ومثقفيهم، وفي الوقت ذاته تحمي أرضها وشعبها ومصالحها، ثم بعد ذلك تطلب من
العالم معاقبة العرب على سوء تربيتهم لأبنائهم! وأخيرا تفاوض الغرب على مفاعلها
النووي ومصالحها الاقتصادية مقابل قدرتها على ضبط (الإرهاب) وكبح جماحه
وتقديم المعلومات الكافية عنه! ووفق هذه المعادلة المعقّدة لا ندري أنلوم الأنظمة

4

العربية وأجهزتها العاجزة والكسيحة، أم نلوم الشعوب التي ما زالت تحكمها العاطفة
ويغيب عنها الوعي بحالها وحال العالم من حولها.




التاريخ والتجديد

التاريخ والتجديد الدكتور عبد الكريم بكار
مقال مدقق
من المشهور بين الناس أننا نقرأ التاريخ من أجل الاستفادة من عظاته ودروسه، وحتى نتمكن من
مقارنة أحوالنا بأحوال من سبقنا؛ فنزداد بصيرة وخبرة بما يجب أن نفعله، وبما يجب أن نتركه،
وهذا المشهور لا شكّ في صحته، وإن كان من يستفيد من عبر التاريخ دائمًا قلة؛ لكن هناك لفهم
التاريخ ووعي معطياته فوائد أخرى مهمة، في مسائل التربية والإبداع، والتجديد، واستشراف
المستقبل، والتعمق في فهم العلوم..

ولعلي أشير إلى شيء من هذا عبر الملحوظات الآتية:

  • الأمم العظيمة تستخدم التاريخ أداةً للتوجيه وأداةً للتربية؛ إذ تتخذ من إنجازات الآباء والأجداد،
    ومن سير العظماء – محفِّزات على السموِّ والعطاء والاستقامة، وهذا – إذا سلم من المبالغة والتهويل
    والقراءة المنحازة – يُعدُّ شيئًا مفيدًا وجيدًا.

المربون والمعلمون والدعاة يختلفون اختلافًا واسعًا في توظيف ما يُعد مصلحة معرفية وأخلاقية،
فمنهم من يستخدم تلك الحصيلة للبرهنة على فضل السلف وانحطاط الخلف! ومنهم من يستخدمها
من أجل تعليم الناشئة الإذعان للمجتمع والتكيف مع الظروف الحاضرة، وقليلون أولئك الذين
يوظفون المستخلَصات التاريخية في إيقاظ الوعي، وتدعيم الحس النقدي، والحفز على الوصول إلى
شيء جديد، وسبب ضآلة هذا النوع من التربية والتعليم يعود إلى أننا حين نقرأ التاريخ لا نتوقع منه
أن يساعدنا في فهم واقعنا وتطوير هذا الواقع.

إن الكثير من شبابنا منغمسون في تلبية الرغبات الآنية، أو غارقون في هموم تأمين الحاجات
الضرورية، والبعض الآخر منهم حائر في أمره ومستقبله! ومن مهام التاريخ حين يُدرّس بطريقة
صحيحة أن يساعد الناشئة على الانفصال عن الواقع، وأن ينقذهم من الضياع في معطياته.

إن التاريخ يدرس الآن على أنه سلسلة أحداث التاريخ عبر سرد متماسك، يربط المعاصرين
بأسلافهم، ويسلط الضوء على سلسلة التطورات الإيجابية والسلبية التي صنعت الفرق بين مرحلة
ومرحلة، وبين جيل وجيل، وهذا يتطلب أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه، وأن نثير الأسئلة حول
أسباب وقائعه وأحداثه، ونبحث عن العلل والمقدمات والجذور، ونكتشف سنن الله – جل وعلا – في

الاجتماع البشري، ونجلو طبيعة النفس البشرية في إقبالها وإدبارها، إن التاريخ حين يُدرس بهذه
الطريقة، يحسّن مستوى البصيرة لدى المتعلمين، ويمكنهم من امتلاك الأدوات التي ينقدون بها
الواقع الذي يعيشون فيه عوضًا عن أن ينجرفوا مع تياراته العاتية من غير أي قدرة على التأبّي
والممانعة.

إن نقد الواقع يساعدنا على بلورة ملامح الهوية التي تميّزنا عن غيرنا، كما أنه يفتح السبيل أمام
تطوير هذا الواقع وإخراجه من سياق التداعيات والتحوّلات العمياء التي تصنعها العولمة بإمكاناتها
الهائلة.

  • إن الهم الذي يسيطر على المدارس والجامعات اليوم هو إعداد خرّيجيها لسوق العمل؛ أي
    مساعدتهم على أن يكرّسوا عقولهم وطاقاتهم، وأن يكيّفوا اتجاهاتهم وميولهم مع ما يساعدهم على
    كسب لقمة العيش، أو بعبارة أخرى: تعدُّهم لأن يكونوا مسمارًا صالحًا في الآلة الكبرى التي يديرها
    رجال المال والأعمال، وهذا الاتجاه في التعليم مطلوب وإيجابي، لكن ينبغي أن نكون على وعي
    بالتأثيرات الجانبية السيئة لهذا التوجيه في التعليم وفي إعداد الناشئة للحياة.

إننا حين نعدّ الأجيال للتكيف مع سوق العمل، عن طريق تلقينهم معلومات تجعل منهم أشخاصًا
تقنيين تنفيذيين كما يجري الآن – فإننا نجعل منهم أشخاصًا عاجزين عن المساهمة في إيقاف
التدهور الذي تتعرض له مجتمعاتهم.

إن التطور الاجتماعي يتم بطريقة غير واعية، ومن مهام المثقفين – على اختلاف درجاتهم – أن
يساعدوا الأمة على تجاوز الأزمات الكبرى التي تتعرض لها من خلال تراكم الأخطاء والخطايا
الصغيرة والكبيرة للأجيال المتعاقبة، ولا يستطيع المثقفون والمتعلمون عامة القيام بهذا الدور إلا إذا
تلقّوا العلم على أنه تحرير وعتق من الاستكانة للقوى الغاشمة، ومن التقليد الأعمى للآباء والأجداد،
وإلا إذا تلقّوه على أنه وسيلة للتكيف مع الواقع، ووسيلة لترشيده وتحسينه أيضًا، ومما يساعد في
بلوغ هذا العمل على إضفاء الطابع الأخلاقي والإنساني على المعرفة والتقنية، فالعلم للعمل ولخدمة
الناس ونصحهم وتصحيح أوضاعهم. يجب أن نعلم الناشئة الدور التاريخي الذي قام به العلم في بناء
الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية، إضافةً إلى توضيح دور العلم في تكوين الرجال العظام على
امتداد التاريخ الإسلامي، يجب أن يطلع الناشئة على تاريخ الحركات الإصلاحية الكبرى، وعلى
العوامل والأسباب التي تساعد على نشوء الأفكار العظيمة ذات الطبيعة الاختراقية إذا ما كنا نريد
للتاريخ وللعلم أن يساهما في تجديد الأمة ودفعها نحو الأمام.

  • في بنائنا المعرفي ثغرات واضحة، لا تخطئها عين الناقد، وتلك الثغرات كثيرة، ولعل من أهمها:
    إهمال تاريخ العلوم، وإهمال اكتشاف مقاصد التشريع، إضافةً إلى التقصير الظاهر في التعرف على
    سنن الله تعالى في الخلق، والتقصير في معرفة طبائع الأشياء، ولا سيما الطبيعة البشرية.

إن العلوم الإنسانية والعلوم البحتة كذلك تُقدَّم للناشئة مبتورةً من بُعْدِها التاريخي؛ فتبدو وكأنها
تكونت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن؛ حيث لا يعرف الدارسون تاريخ نشوئها ولا
الأطوار التي مرت بها، كما لا يعرفون شيئًا ذا قيمة عن العلماء الكبار الذين تركوا بصماتهم عليها،
ولهذا فإنك لا تشعر أن ما نقدمه في المدارس والجامعات يبني عقولاً منهجية، أو يبني شخصيات
تتمتع بالاستقلال الفكري والمعرفي، وما ذلك إلا بسبب شعورهم بضآلة ما يتلقونه وغموضه.

إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفهم أي علم على نحو عميق، إلا إذا فهمنا تاريخه وخارطة تكوينه
وتحوّلاته، ومن المؤسف أننا لا نبذل جهدًا يذكر في شرح كيفية تحدُّر الجديد من القديم، وليس لدينا
أي جامعة أو كلية أو معهد يقدم شيئًا متميزًا في تاريخ أي علم من العلوم!

إن التجديد المعرفي والاجتماعي سيكون صعبًا من غير الاطلاع على الأطوار السابقة لعلومنا
وأوضاعنا، إننا من خلال قراءة تاريخ العلوم نتعرف على بواعث الاجتهاد وبيئاته والعقبات التي
تواجهه، كما أننا ننمي لدينا حاسة المقارنة، ونكتسب المزيد من المرونة الذهنية، والمزيد من القدرة
على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وقد صدق من قال:”إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى
الماضي”؛ إذ تمكّننا معرفة الماضي من اكتشاف السنن التي تجسد العلاقة بين ما فات وبين ما هو
آت، ومن خلال هذا وذاك نكتشف آفاقًا جديدة للتطوير، ونفتح حقولاً جديدة للممارسة، وقد آن
الأوان للعمل على استدراك بعض ما فات، والعمل على توظيف التاريخ في تغيير نوعية الحياة
لمئات الملايين من المسلمين.




الثورة السورية وفشل النخب

يبدو أن نجاح الفرد السوري وفشل من يتصدون لقيادته، من الأمور التي يشهد التاريخ
بتكرارها؛ ولا تشكل الثورةالسورية المجيدة أي استثناء في هذا.
إن ما قدمه السوريون من تضحيات وما تحملوه من أذى من أجل كرامتهم وحريتهم يشكل
نبراسا للأجيال القادمة على امتداد العالم!
لكن من المؤسف جداً أنه لا يكافئ ذلك سوى فشل القيادات التي تصدت لقيادة الثورة مع
استثناء القليل منهم!
حين يفشل من يُظن أنهم قادة في تحديد أولويات المرحلة فهذا لا يعني شيئاً سوى النزاع
والضياع والمزيد من الاستنزاف
للثورة والبلد عامة.
أستطيع القول في هذا السياق إن للثورة أولويتين اثنتين: الخلاص من النظام المجرم بوصفه
شرطا لإقامة نظام حكم تعددي صالح و الحفاظ على وحدة البلاد.
كلا الأولويتين يحتاج إلى توافق وطني بين قيادات الثورة و نخبها.
التوافق يقوم على الرضا بالحد الأدنى من المطالب لكل فريق لأنه لا يمكن أن نلتقي في
وسط الطريق إلا بهذا.
المشكل هو تمترس نسبة لا يستهان بها من الإسلاميين والعلمانيين حول مطالب هي موضع
نزاع شديد بين الفريقين.
سورية أشبه ببناء كبير وهو مملوك لكل أبنائه بالتساوي ولا بد من الاتفاق بين الملاك على
طريقة صيانته وحمايته وسبل الانتفاع به…
إن لكل واحد من ساكني ذلك العقار أن يقوم بما يحلو له داخل بيته ولكن بشرط عدم إيذاء
جيرانه وإيذاء المظهر العام لذلك المبنى.
إن اختلاف النخب الثورية حول شكل الدولة ودستورها قد أخر سقوط النظام المجرم وزاد
في معاناة السوريين إلى الحد الأقصى وما كان لذلك أن يحدث لولا تجاهل الروح الأولى
للثورة وهي روح وطنية بامتياز .
الثورة قامت من أجل الحرية والعدالة والكرامة وضدالظلم والفساد والاستبداد
لا أكثر ولا أقل.
الثورة لم تنطلق لتاسيس دولة الشريعة مع أن كل مطالبها شرعية إسلامية ولم تنطلق لتشيّد
صرحا للعلمانية أو الإلحاد وإن كان من حق الجميع أن يعبر عن آرائه وأفكاره في إطار
الدستور وما يتم على هامشه من توافقات.

البساط الوطني وحده هو الذي يتسع لنا جميعا ولا بديل عنه وقد آن لنا أن نؤجل الكثير من
اختلافاتنا حتى نحقق أولويات الثورة وبعدها يمكن أن نختلف كما يختلف كل سياسيي
العالم.
إني أناشد كل من يشعر بآلام تشرد السوريين في الأرض أن يعملوا على بلورة ما يكفي من
المفاهيم المشتركة بين القيادات الثورية قبل ضياع كل شيء لصالح القتلة والمجرمين.




فيّ النقد الذاتيّ للثورة السوريّة

فيّ النقد الذاتيّ للثورة السوريّة

الثورة، هي نوع من انفجار النظام السياسيّ القائم، حين يفقد شرعيّته
وصلاحيّته، بسبب ما يرتكبه من فضائح وجرائم تفوق طاقة
المواطنين على التحمّل.
نحن نعرف أنّ الثورة السوريّة، قامت في سياق الربيع العربيّ، حيث
أشاع التونسيّون في أرجاء العالم العربيّ الأمل بالخلاص من النظم
المستبدة والطاغية، ونحن نعرف كذلك أنّ السّوريّين كانوا قبل الربيع
العربيّ في حال من اليأس التامّ من أيّ خلاص، أو تغيير لما خبروه
من بطش آل الأسد، وتمسّكهم بالسلطة، ولهذا فإنّ انطلاق الشرارة
الأولى للثورة السوريّة في (18/3/2011) كان تعبيراً عن شجاعة
السّوريّين وحبّهم للتحرّر، كما أنّه يشكّل في حدّ ذاته نوعاً من
النصر، حيث تمّ خلال الشهور الأولى للثورة تهشيم ثقة النظام
بنفسه، وتهشيم فبضته الأمنيّة أيضاً.
إنّ انطلاق الثورة -بقطع النظر عن أيّ اعتبار- يعبّر عن درجة من
النضج الفكريّ والشعوريّ والأخلاقيّ لدى السّوريّين على طريق
الخلاص من الاستعباد والفساد، وهذا النضج غير قابل للتراجع مهما
كانت الأمور التي ستفضي إليها الثورة.
يعلّمنا تاريخ الثورات أنّه لا وجود لنصف ثورة، فالثوّار الذين لا
يمضون بثورتهم حتّى النهاية، يسلّمون رقابهم للطغاة حتّى ينصبوا
لهم أعواد المشانق، وهذا كان واضحاً غاية الوضوح لدى الشعب
السوريّ، وهو في الحقيقة سرّ التضحيات الهائلة التي قدّمها الشعب
الثائر، حيث كان الخلاص من النظام المجرم هو المسوّغ لكلّ أشكال
البذل المذهل الذي رآه العالم دون كلل ولا مِنَّة على أحد.

2

قامت الثورة في سوريّة، ولدينا سذاجة كسذاجة الأطفال، حيث كنّا
نظنّ أنّ العالم بأسره لن يكون له أيّ موقف، إلا المؤازرة والمساندة
لثورات تنادي بقيم يدندن حولها الإعلام العالميّ في الليل والنهار:
قيم الحرّيّة والعدالة والكرامة، ونصرة المظلوم، وحقّ الشعوب في
اختيار من يحكمها…
كنّا نظنّ أنّ العالم ليس له باطن وظاهر، وأنّ حكوماته تؤمن بنفس
القيم التي تؤمن بها الشعوب، وهذا الظنّ هو سبب النشوة العارمة
التي كنّا نشعر بها من بداية الثورة، حتّى آخر عام 2012، لكنّ ذلك
كلّه انتهى حين ظهرت الأمور على حقيقتها، مع الأسف الشديد!
المراجعة النقديّة مهمّة جدّاً للحفاظ على أهداف الثورة وأخلاقيّاتها،
والحفاظ على مساندة الحاضنة الشعبيّة لها، كما أنّها مهمّة من أجل
الحفاظ على سمعة الثورة، وتضامن شعوب العالم معها.
إنّ غياب النقد عن أنشطة ثوريّة كأنشطة الثورة السوريّة لا يعني
شيئاً سوى الضياع، أو غياب الشعور بالمسؤوليّة، وأنا أؤمن مع هذا
بأنّ النقد الذاتيّ يحتاج إلى مراعاة بعض الحساسيّات والتوازنات،
ومراعاة ما تبقّى من إجماع وتوافق ثوريّ، لكن لا يجوز أن تبلغ
المراعاة المطلوبة حدّ طمس الحقائق والمواقف، وتغييب الشفافيّة…
في اعتقادي أن تراجع جماعة، أو فصيل عسكريّ، أو حزب
سياسيّ، عن بعض المواقف الخاطئة، لا يُنهي المشكلة، فنحن نتكلّم
عن تاريخ ثوريّ، حيث خرَّبت المنطلقات والمواقف الخاطئة جزءاً
من البناء الوطنيّ المنشود، وحيث تضرّر آلاف الناس الأبرياء من
ذلك، ولهذا فإنّ التوبة قد ترفع المسؤوليّة الشرعيّة في الآخرة عن
ذنب من الذنوب، أمّا على المستوى التاريخيّ، فقد حدث مالا يمكن

3

محوه، أو تلافي آثاره، وماذا نصنع لأيتام عشرة آلاف شخص مدنيّ
قُتلوا خلال مجابهات ومناوشات بين أطراف ثوريّة عتيدة؟!
ليس في المدارس والجامعات مواد دراسيّة تعلّم الشباب كيفيّة القيام
بثورة ناجحة، ولهذا فإنّ وجود الأخطاء في الثورات بوصفها تجارب
شعبيّة جديدة وهائلة، أمر طبيعيّ للغاية، لكنّ الشيء غير الطبيعيّ
هو الاستمرار في الخطأ، وتكراره!.
الحال السوريّة حال متطوّرة، واللاعبون في ساحاتها من دوليّين
وإقليميّين كثيرون، ولهذا فنحن في حاجة إلى إعادة بناء الوعي
الثوريّ، وتجديده باستمرار، حيث يتطلّب الوضع (الجيوسياسيّ)
الشديد التعقيد لبلدنا التعاملَ مع المعطيات الجديدة بذكاء وتفتّح ذهنيّ،
إلى جانب الإصرار على بلوغ الثورة لأهدافها النهائيّة، مهما طال
الأمد.
لعلّي بعد هذه المقدمة ألقي الضوء على بعض أوجاع الثورة
السوريّة، وبعض ما يجب القيام به للخلاص منها:
أوّلاً – الروح الأولى للثورة: يمكنني القول بثقة: إنّ جميع ثورات
الربيع العربيّ، كانت لأسباب ودوافع موحّدة، وكان لها بالتالي طبيعة
ومبادئ ومطالب موحَّدة، حيث لا يخفى أنّ الاستبداد والفساد،
والإخفاق في إدارة الشأن العامّ، وتهميش المعارضين، والتعذيب في
السجون، وسوء التعامل مع المستجدّات المعاصرة، وأموراً أخرى
من هذا القبيل، أدّت إلى بحث الشعوب العربيّة عن طريق للخلاص،
فعثرت على التظاهر والاحتجاج والاعتصام، والعمل على كسر هيبة
النظم الحاكمة، بوصفها بداية الطريق.

4

وقد عبّرت الشعارات الثوريّة بوضوح عن جوهر هذه الثورات،
فهي لم تقم من أجل رغيف الخبز، ولا من أجل عدم تطبيق الشريعة،
ولا للخلاص من الدستور، أو الوزير الفلانيّ… فحسب، فهذه مطالب
صغيرة في نظر الشعوب الثائرة.
إنّ الروح الأولى للثورة السوريّة عبَّرت بوضوح عن ضرورة
الحفاظ على وحدة البلاد، شعباً وأرضاً، وإسقاط النظام القائم بكلّ
رموزه ومراكز قوّته ومقولاته، كما عبّرت عن حرصها على
السلميّة، وبناء دولة تقوم على مبادئ العدالة والحرّيّة والكرامة
والتداول النزيه والشفّاف للسلطة.
الروح الأولى للثورة، كانت شديدة التوق إلى العيش في بلد ينعم
بالأمن والرخاء والاستقرار، على غرار ما هو موجود في الدول
المتقدّمة.
هذه القيم والمعاني بكلّ تجسيداتها وتعبيراتها، أغرت الجماهير
العريضة بالخروج إلى الشوارع بمئات الألوف، ومن كلّ أطياف
المجتمع السوريّ ومكوّناته، فالمآسي التي أوجدها النظام المجرم
عبر ما يقارب خمسة عقود، كانت عامّة وشاملة، وإن كان للسُنَّة
النصيب الأكبر منها.
نبل المطالب الثوريّة ولّد مواقف في الشهامة والتضحية والتكاتف…
يمكن وصفها بأنّها تاريخيّة واستثنائيّة، حيث تبلورت ذات سوريّة
عظيمة ورائعة – وربّما المرّة الأولى في تاريخ سوريّة – وعلى هذا
النحو من العمق والشمول، وهذا كلّه جعل العالم يشيد بالشعب
السوريّ وعطائه وقدرته على البذل والتضحيّة، من أجل القيم
والمبادئ التي يؤمن بها.

5

ثانياً – عسكرة الثورة:
1- لم يكن السوريّون يوماً مغرمين بالعنف وسفك الدماء، ولم يفوّتوا
فرصة للتعبير عن مطالبهم بالإصلاح بشكل سلميّ إلا استغلّوها،
ولكن النظام أحسَّ بخطر يهدّد وجوده، بعد أن رأى المظاهرات
الحاشدة تجتاح المدن السوريّة، فقابلها بالعنف الجسديّ، مستخدماً
شبّيحته في البداية من بعض موظّفي الدولة، وبدأ باستخدام
الرصاص الحيّ، وقتلِ المتظاهرين بشكل تدريجيّ منذ الأسبوع
الثالث للثورة.
نعم قد استطاع النظام السوريّ المجرم استدراج الثورة السلميّة إلى
التسلّح والعسكرة استدراجاً، بسبب القتل، والاعتقال التعسفيّ،
والتعذيب، وانتهاك الأعراض.
قد كانت بداية التسلّح من أجل الدفاع عن النفس، ومن أجل حماية
المتظاهرين، ولكن بما أنّه ليس هناك خطّ فاصل بين الدفاع
والهجوم، فقد صار لدى الثوّار كتائب مسلّحة تباغت جيش النظام،
وتهاجمه حين تتاح لها الفرصة…
إنّ العسكرة كانت في الحقيقة نقطة انتصار للنظام على الثورة، بل
كانت نقطة تحوّل في تاريخ الثورة، حيث صار الرهان على الأعمال
العسكريّة عوضاً عن التظاهر والاحتجاج المدنيّ، إذ يصعب الجمع
بين القتال والتظاهر، وهذا أدّى إلى انسحاب أعداد كبيرة من الثائرين
من النشاط الثوريّ، وتقلّص الحاضنة الشعبيّة للثورة.
لم يمض وقت طويل على تحوّل الثورة من سلميّة، إلى مسلّحة، حتّى
أخذت الكتائب والفصائل العسكريّة بالتشكّل، وبدأ جيش النظام
بالتفكّك من خلال انشقاق الآلاف من الضبّاط والجنود، لكن مع

6

الأسف لم يصبح للثورة جيش واحد تقوده قيادة عسكريّة واحدة، وما
سمّي بقيادة الجيش الحرّ كانت شكليّة جدّاً.
يمكن أن نعدّد من سلبيّات عسكرة الثورة الآتي:
1- خسارة تعاطف الكثير من الناس مع الثورة، في الدّاخل والخارج،
لأنّ الناس يتعاطفون مع الأطفال والنساء والمدنيّين العزّل، وليس
مع المقاتلين الذين صاروا بعد عسكرة الثورة هم الواجهة البارزة
للثوّار.
2- ظلّت معظم كتائب الجيش الحرّ في قراها وأحيائها، والقليل منها
استطاع بناء معسكرات خارج المدن والقرى، وهذا أدّى إلى
مشكلات جمّة، منها تهجير الأهالي، وهدم المساكن والبنية
التحتيّة، وكان ذلك مسوّغاً عند النظام والعالم، فهو لا يهدم المدن،
وإنّما يقاتل إرهابيّين احتلّوا تلك المدن، وطردوا أهلها منها، على
حدّ زعمه طبعاً.
3- تشكّل خلال سنة من عسكرة الثورة جيوش من المقاتلين، حيث
وصل تعدادها قرابة مئة وخمسين ألفاً في بعض المراحل، هذه
الأعداد الهائلة المدافعة عن المدن والبلدات المحرّرة، تحتاج إلى
طعام ولباس وعتاد وذخيرة ووقود للتحرّك، وقد بذل كثير من
السّوريّين أموالهم في هذا الشأن، لكن اتّساع الحاجات جعل
الجيش الحرّ وكلّ الكتائب العاملة على الساحة السوريّة تحت
رحمة المانحين، من دول وجماعات وأفراد، وهذا جعل سير
العمليّات العسكريّة، لا يخضع في بعض الأحيان لمصلحة الثورة،
وإنّما لرغبات ومصالح الداعمين!.
4- لم تتمكّن كتائب الجيش الحرّ من تشكيل قيادة موحّدة، ولم تستطع
تكوين قوّة مركزيّة متحرّكة لمناصرة الجبهات الضعيفة، وهذا
شجّع النظام على أن يعيد السيطرة على المناطق المحرّرة الواحدة

7

تلو الأخرى، وخلال عمليّات الكرّ والفرّ، والتحرير، وإعادة
السيطرة كانت هناك الهجرات المتعدّدة للأهالي، والمزيد من
الهدم للمساكن والمرافق.
5- عدم وجود قيادة موحّدة، وعدم وجود شرطة عسكريّة قادرة على
ضبط سلوك العسكريّين، بالإضافة إلى وجود تنافس شديد على
موارد شحيحة، ووجود أسباب أخرى..، إنّ ذلك كلّه أدّى إلى
الاقتتال بين الكثير من الفصائل الثوريّة، وقد خسرنا بالفعل ألوف
الرجال في خضمّ النزاعات المسلّحة البينيّة، ممّا أوهن الثقة لدى
القريب والبعيد في قدرة الجيش الحرّ والكتائب الإسلاميّة على
ضبط الأمن العام للبلاد، في حال سقوط النظام القاتل.
6- لعلّ من أخطر ما تسبّبت به عسكرة الثورة، اجتذاب عناصر من
خارج سوريّة إلى المشاركة في القتال، حيث إنّ النشاط المدنيّ
يظلّ دائماً محلّيّاً، لكن القتال قادر دائماً على استقدام عناصر
شبابيّة تملك الغيرة والحماسة وحبّ التضحيّة، مع القليل من
الوعي بمآلات الأمور، وهذا ما حدث في أفغانستان والشيشان
والبوسنة وغيرها.
إنّ الشباب القادم من خارج الحدود قد حسم أمره، فهو جاء لإعلاء
كلمة الله تعالى، ونصرة إخوانه، وسيكون مستغرباً من شيء اسمه
مفاوضات أو تسويات أو مقاربات سياسيّة، فهو قام للنصر البيّن أو
الشهادة الكريمة، وليس لأيّ شيء آخر.
الخلاصة التي ننتهي إليها هي: أنّ العسكرة هي إحدى المصائب
الكبرى التي حلّت بالثورة، مع التسليم بأنّ النظام هو من ألجأ الثوّار
إليها، وهو من يتحمّل الكثير من عواقبها، لكنّ النظام لا يتورّع عن
استخدام أيّ أداة من أجل هزيمة الثورة والبقاء في الحكم؛ والحرب
خدعة.

8

إنّ العسكرة وإن كانت بشكل من الأشكال ردّاً على ضعف الأداء
السياسيّ، إلّا أنّها جعلت الكلمة للقوّة، وليس لصوابيّة الثورة
ومشروعيّتها، وهذا من الناحية الرمزيّة والشعوريّة مؤذٍ للمعاني التي
كانت سبباً في انطلاق الثورة!.
ثالثاً – شخصيّة سوريّة ممزّقة:
لولا وجود قدر هائل من الغيرة والشجاعة والحماسة، لما أمكن
للثورة السوريّة أن تتفجّر، وأعتقد أنّ هذا ليس موضع جدل، لكنّنا
نقول من وجه آخر: إنّ الذين يقتَلون ويعذَّبون وينهَبون،
ويغتصَبون… إنّ هؤلاء أيضاً سوريّون، وكثير منهم يفعلون ذلك بدم
بارد، وهدوء تام، وكأنهم من طينة أخرى غير طينة أولئك الذين
عرَّضوا حياتهم للمخاطر من أجل سوريّة حرّة كريمة وقويّة، فهل
نحن أمام شعبين؟، أم أمام حالة يصعب توصيفها؟
الحقيقة المؤلمة هي أنّه ليس هناك (هُويّة) على درجة كافية من
الوضوح، يمكن أن نسمّيها الهويّة السوريّة، كما أنّه ليس هناك
شخصيّة سوريّة، أو شعب سوريّ واضح القسمات، وإنّما لدينا
مجموعات وجماعات عرقيّة وإثنيّة ودينيّة ومذهبيّة.. تعيش على
أرض واحدة، اسمها (سوريّة) وهذا يعود إلى أنّ سوريّة، ظلّت نحواً
من أربعمائة سنة جزءاً من الدولة العثمانيّة، ومن ثمّ فليس لدى
السّوريّين أمجاد وبطولات وطنيّة، تشكّل عمقاً تاريخيّاً لهم، كما أنّ
التنوّع الموجود في سوريّة يحتاج إلى إدارة بالغة الدقّة والحذر، وقد
قام حكم آل الأسد على سياسات ترسِّخ الطائفيّة، وتثير مشاعر
غضب بعض السّوريّين تجاه بعضهم الآخر، كما أنّ أدبيّات (القوميّة
العربيّة) دقّت إسفيناً بين العرب والأكراد في سوريّة على نحو

9

أساسيّ، ولهذا فإنّنا نستطيع القول: إنّ الـ (أنا الاجتماعيّة العليا)،
والتي تشكّل محور الهويّة وعمقها الدلاليّ، مفقودة في سوريّة إلى حدّ
بعيد، إنّ الهويّة تقوم على الشعور بالوحدة والانتماء والتكامل، كما
أنّها تقوم على مشاعر الابتهاج والفخر، حين يحقّق واحد من أبناء
الشعب أو الوطن إنجازاً عظيماً، وتقوم كذلك على الاستنفار
المشترك لدى جميع المواطنين، حين يتعرّض جزء من الوطن
للتهديد أو الاحتلال، أو يتعرّض لزلزال أو إعصار، إنّه إحساس
الجسد الواحد بكلّ عضو من أعضائه، هذا كلّه في سوريّة ضعيف،
وقد يكون في بعض مفرداته مفقوداً مع الأسف الشديد!.
هذا الوهن في الهويّة والشخصيّة السوريّة، قد تسبّب في تأخير نجاح
الثورة، وفي سهولة افتراء المكوّنات بعضها على بعض، على نحو
فظيع!.
رابعاً – ثورة من غير قيادة:
هذه أكبر ثغرة في الثورة السوريّة، حيث إنّ ما يقرب من نصف
قرن من الحكم الاستبداديّ الظالم ألجأ كلّ الإصلاحيّين والناشطين
السياسيّين إلى الاختباء والتخفّي، ولهذا فإنّ الثورة التي انطلقت
بمبادرة شعبيّة خالصة، وجدت نفسها بعد مدّة في حاجة إلى قيادة
سياسيّة تتولّى تدبير شؤون الأراضي المحرّرة، وتوجيه النشاط
العسكريّ والتفاوضيّ..
لكنّ الثوّار لم يجدوا الشخصيّة التي تتمتّع بما يكفي من الرمزيّة
والجاذبيّة المحبوبة، والخبرة لقيادة الثورة – أو هكذا ظنّوا – والنتيجة
مؤلمة للغاية، وهي جسم ثوريّ كبير ومتنوّع يمثّله أمام الدول التي
تعترف به ائتلافٌ يعكس إلى حدّ ما التنوّع الثوريّ، لكن دون أن

10

يتمكّن من قيادة الثورة، في الداخل، أو السيطرة على الأنشطة
العسكريّة، كي تكون داعمة للقرارات السياسيّة، وضامنة لإجبار
النظام على الاستجابة لها.
قد كانت لدى الثورة فرصة عظيمة لتشكيل قيادة ثوريّة وازنة، حين
تمّ تشكيل (المجلس الوطنيّ) في 2/10 / 2011حيث اعترفت به
معظم حكومات العالم، لكن المجلس الوطنيّ لم يتمكن من القيام
بالمهمّات المنتظرة منه، وتمّ التحوّل عنه في 11/11/ 2012 إلى
(الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة) ولكنّ الائتلاف الوطنيّ
تعرّض للمشكلات التي تعرَّض لها المجلس الوطنيّ نفسها، حيث
العجز عن بلورة قيادة فعّالة وموضع ثقة لدى الثوّار.
إنّ ضعف التواصل بالداخل، والخضوع للدول الداعمة للثورة،
عاملان أساسيّان في عدم بروز قيادة ثوريّة جامعة وفاعلة، ولا
ننسى ما فعلته (أدلجة الثورة) من سهولة تخوين كثير من الناشطين
الثوريّين للقيادات السياسيّة، واتّهامها بالوقوع في أحضان الدول
والاستجابة لمطالبها بعيداً عن الاحتياجات الحقيقيّة للثورة.
قد حصلت خلال السنوات الخمس الأخيرة محاولات كثيرة لإبراز
قيادة موحّدة للثورة، لكن دون جدوى، وهذا شيء مؤسف ومحزن
للغاية، وهو من أهمّ أسباب تعثّر الثورة، وعدم تمكّنها من بلوغ
أهدافها المأمولة!.

5- أدلجة الثورة:

11

المقصود بالأدلجة هنا: مجموعة الاجتهادات التي يتوصّل إليها
المنظّرون لتيّار أو مذهب أو اتجاه… حيث يقومون بمنحها درجة من
القطع واليقين، تجعل من يقرؤها، أو يسمعها يظنّ أنّها من القطعيّات
والأصول المتّفق عليها.
الأدلجة قد تقوم على أساس دينيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ أو قوميّ…
إنّ المقصود الأساسيّ بالأدلجة هو: تحفيز الناس على الانخراط في
تيّار أو مذهب … معيّن، وجذب المزيد من الأتباع، ولهذا يمكنني
القول: إنّ كلّ أدلجة تقوم على عنصرين أساسيّين:
الأوّل هو: تحويل أفكار ومفاهيم ظنّيّة واجتهاديّة إلى قطعيّات،
تتعالى على النقاش.
الثاني: دعاية مكثّفة ومبالغ فيها، لتلك الأفكار والمفاهيم، بعيداً عن
العقلانيّة والموضوعيّة.
الثورة السوريّة والأدلجة:
1- إنّ الثورة السوريّة حين انطلقت، كانت في أمسّ الحاجة إلى
الإجماع الشعبيّ، أو أكبر قدر منه، وذلك حتّى تواجه القوّة
الباطشة للنظام المجرم وتحصل على دعم دوليّ وإقليميّ واضح،
ولهذا فإنّ الذين أشعلوا فتيل الثورة، كانوا يطالبون في البداية
بالتغيير والإصلاح، وليس بإسقاط النظام، لأنّه في ظنّهم أقرب
إلى الإمكان، ولما يئسوا من ذلك صاروا إلى المطالبة بإسقاط
النظام، بوصفه شرطاً لقيام دولة الحريّة والكرامة والعدالة، وهذا
تفكير صحيح، وقد استطاعت الثورة فعلاً أن تجذب إليها – بنسب
متفاوتة – من المكونات الدينيّة والعرقيّة كلّها… لأنّ ظلم النظام

12

كان عامّاً وشاملاً للجميع دون استثناء، وإن كان أهل السُّنّة –
والملتزمون منهم بخاصة – في بؤرة عدوان النظام وتجاوزاته.
إذن النَّفَس الأوّل للثورة لم يكن إسلاميّاً، ولم يرفع شعارات إسلاميّة،
وإن كانت مطالب الثوّار الأولى إسلاميّة بامتياز، والمطالبة بها
مشكورة مأجورة.
2- من المهمّ جدّاً أن ندرك أنّ المنازع والاتجاهات والتفصيلات هي
أوسع بكثير ممّا تتسع له ثورة شعب متنوّع الأعراق والمذاهب..
وأوسع ممّا يتّسع له أيّ نظام سياسيّ، فالأديولوجيا بوصفها
معتقدات اجتهاديّة تقسّم ولا تجمع، بل هي تقسّم المقسّم، وتجزّئ
المجزّأ، وقد رأينا اختلافات شديدة أدّت إلى سفك الدماء بين
فصائل عسكريّة تنتمي إلى تكوين أيديولوجيّ واحد، ولهذا فإنّ
ثورات العالم الناجحة كلّها، ركّزت على الحقوق والأهداف
المشتركة للشعب، أي على ما هو موضع إجماع واتفاق.
3- إنّ أدلجة الثورة أدت في الحقيقة إلى خسارة الأساس الفكريّ
للثورة، لأن الأهداف تتحوّل مع تحوّل الأسس والمنطلقات، وحين
نقول: إنّ الثورة علمانيّة، أو إسلاميّة، أو قوميّة، فهذا يعني أنّها
ترمي إلى تأسيس نظام علمانيّ…أو قوميّ أودينيّ.. وهذا إن راق
لمكوّن من مكوّنات البلد، فإنّه لا يروق لمكوّنات أخرى، وهذا ما
حدث فعلاً، ثمّ إنّ الذين يتعاطفون معنا من الإقليم أو العالم، هل
سيراهنون على نجاح ثورة كرديّة أو عربيّة أو إسلاميّة…؟!
إنّنا من خلال أدلجة الثورة، نرسل للعالم رسائل مضطّربة، ونقول
له: إنّ البديل عن سوريّة الموحّدة التي يتحدّث عنها النظام في حال
نجاح الثورة، هو دول عقائديّة، وشركاء متشاكسون، يصعب الوثوق
بهم وبإدارتهم لهذه المنطقة الحسّاسة من العالم، ولهذا انفضّ عنّا
القريب والبعيد، وتركنا، نقارع النظام من غير مخالب ولا أنياب!.

13

4- أدلجة بعض الإسلاميّين للثورة جاءتنا بشيء خطير هو النفخ في
(الطائفيّة) وعلينا في البداية القول:
لا شكّ في أنّ النظام طائفيّ بامتياز، وقد اعتمد على طائفته في
ضمان استمرار الحكم، من خلال الهيمنة شبه الكاملة على الجيش
والأمن، لكنّ النظام لم يتحدّث عن الطائفيّة، ولا أطلق شعارات
طائفيّة، بل هو على العكس من ذلك؛ إذ إنّه لا يتحدّث إلا عن الوطن
والمواطنين، لكنّ الذين أدلجوا الثورة لم يكونوا كذلك، فهم أطلقوا
عبارات التكفير على جيش النظام، وطالما وصفوه بأنّه نصيريّ
كافر- مع أن أغلبيته سنّيّة – وجعلوا مقاومة إيران، ومنع نشرها
للتشيّع هدفاً من أهداف الثورة، كما أنّ أدلجة الثورة جعلت كلّ الثوّار
من غير السُّنّة، والثوّار السنيّين غير الملتزمين كلّهم موضع شكّ في
ولائهم للثورة، وصلاحيّتهم لمناصرتها.
إنّ هذا كله أباح لمن يريد الصيد في الماء العكر أن يقول: هذه ليست
بثورة وطنيّة تنشد العدالة والكرامة، وإنّما هي فصل من فصول
الصراع بين السّنّة والشيعة، أو بين السُّنّة والفرق الباطنيّة، وهذا مؤذٍ
جدّاً للثورة، حيث يتمّ طمس مركز الصراع بين الثوّار والنظام، كما
أنّه يشوّش على مطالب الثورة وأهدافها الكبرى.
إنّ النظام مسرور جدّاً لهياج وحش الطائفيّة، وقد أسهم في ذلك
بطرق مختلفة، حيث يمكنه الادعاء في أيّ وقت بأنّه بنزعته القوميّة
والعلمانيّة يوقف الاقتتال الطائفيّ في سوريّة!.
5- تديّن السّوريّين عامّتهم هو تديّن معتدل وسطيّ، حيث تركت
المدرسة الفقهيّة الشاميّة المتسامحة بصماتها على معظم الشباب

14

الملتزم، وهي تؤمن بالتفاوض الاجتماعيّ وتنزع نحو التوافق
الوطنيّ على نحو عام، لكن الذين أدلجوا الثورة من الإسلاميّين لم
يكونوا كذلك، إنّهم في الحقيقة أقرب إلى فكر الخوارج، والذي
يتمثّل في توجهات داعش والقاعدة، وقد كان لامتناع العديد منهم
عن رفع علم الثورة تأثير سيّئ للغاية، وحين تمكّن بعضهم من
حكم بعض المناطق أظهروا من الغلظة والقسوة في التعامل مع
المواطنين، ما يتنافى كلّيّاً مع سماحة الإسلام، ومع روح ثورة
جاءت لتكريم الإنسان وتحريره!
إنّ الأدلجة فتحت الباب فعلاً لتحرّك عناصر محسوبة على الثورة،
لكنّ سلوكيّاتها، تنافي روحها ومنطلقاتها وأهدافها!
6- لعب المال السياسيّ دوراً سيّئاً في أدلجة الثورة، والحقيقة أنّ
العلاقة بين المؤدلجين والداعمين علاقة جدليّة، فقد حدث أن أعلن
بعض الإسلاميّين الذين ينتمون إلى اتجاه معيّن (هو غالباً الاتجاه
السلفيّ) عن تشكيل فصيل مقاتل، فسارع إلى دعمه بعض
أصحاب رؤوس الأموال، ممّن يثقون بقائد الفصيل أو توجّهه،
وحدث كذلك أن اشترط بعض الداعمين تشكيل فصيل عسكريّ
يحمل اسماً معيّناً ويقوده شخص أو أشخاص من التوجّه ذاته الذي
يثق به الداعم، ومعظم هذا كان في الحقيقة من المؤيّدين
والداعمين الشعبيّين للثورة، وقد كان لبعض الدول الداعمة أيضاً
شيء من هذا، بل إنّ تنظيماً كالقاعدة تلقّى دعماً ليس باليسير من
بعض الدول ممّا أسهم في زيادة الأدلجة.
المال الذي بُذل في العسكرة أدّى إلى أن يكون لدينا مئات الفصائل
العسكريّة التي يرأسها مدنيّون، ليس لديهم خبرة عسكريّة كافية،
وأدّى كذلك إلى عزل مئات الضبّاط الأحرار الذين انشقّوا عن النظام
عن ساحات المعارك، حيث تمّ رفضهم بسبب نقص في التزامهم، أو

15

أنّهم رفضوا أن يكونوا تحت إمرة مدنيّين لا يملكون أيّ مؤهّلات
قياديّة.
إنّ إقصاء الضباط الأحرار عن قيادة الفصائل، أدّى إلى وقوع
أخطاء فادحة تسبّبت في قتل الألوف من شباب الكتائب المسلّحة،
وهذا كلّه من آثار أدلجة الثورة، مع الأسف الشديد!.
7- لم تكن أدلجة الثورة من نصيب الإسلاميّين وحدهم، فقد ساهم
كتاب ذوو نزعة علمانيّة في ذلك، من خلال الكثير من المقالات
والتصريحات التي تنظّر لدولة علمانيّة، بل صار هناك حديث عن
المثليّة، وتغيير قانون الأحوال الشخصيّة، لصالح المساواة
المطلقة للمرأة بالرجل، وأمور أخرى مما يثير حفيظة الشارع
الثوريّ والحاضنة الشعبيّة.
إنّ ممّا لا يخفى أنّ أهل السنّة في سوريّة هم الجسم الأساسيّ في
الثورة، وهم أكثر من ضحّى، وبذل، والملتزمون منهم بخاصّة
يشكّلون العمود الفقريّ للكتائب المسلّحة، وهم في سوريّة وغيرها
المصدر الأساسيّ لتمويل الثورة على المستوى الشعبيّ، ومن ثمّ فإنّ
الحديث عن دولة علمانيّة يستفزّهم، بل يهينهم، مع العلم بأنّ معظم
الناس لا يفرّقون بين العلمانيّة والإلحاد، بل إنّ منهم من لا يفرّق بين
الديمقراطيّة والكفر.
خلاصة القول هي: أنّ الأدلجة على أيّ وجه كان، مازالت هي
الخنجر المسموم الذي طُعنت به الثورة، وإنّ العودة إلى
البساط الوطنيّ، والإرادة الثوريّة الشعبيّة، هي الحلّ الوحيد
لذلك.

16
الثورة السوريّة وآفاق المستقبل:
أنا أؤمن بقوّة أنّ هناك دائماً فرصةً ما للتغيير والنجاح والخلاص؛
والله تعالى يقول: (( فإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً )) لكن
بشرط؛ أن نمتلك من الإدارة والشجاعة ما يمكِّننا من تسمية مشكلاتنا
بأسمائها وتوصيفها بما هي عليه فعلاً، وقد حاولت في الصفحات
السابقة القيام بشيء من ذلك على أنّني لم أقل ما يجب أن يقال كلّه.
أعتقد أنّ سبع سنوات عجاف من عمر الثورة قد أوجدت قدراً من
الوعي بمستقبل الثورة، واشتراطات نجاحها، وأعتقد أنّ مئات
الألوف من السّوريّين الداعمين للثورة، يتشوّقون إلى يوم الخلاص
من النظام القاتل، وإقامة دولة الحريّة والعدالة، وهذا يدفعنا جميعاً
إلى تلمّس آفاق جديدة لنجاح الثورة:
1- لدينا اتجاهان مدمّران في سوريّة:
الاتجاه الأول هو ذلك الاتجاه العابر للوطن والوطنيّة، إنّه ذلك
الاتجاه الذي يتجاهل ظروف البلد ومكوّناته وجغرافيّته وهمومه،
ويتّجه إلى الحلم ببناء كيان إسلاميّ عالميّ، كالخلافة مثلاً، أو دولة
الإسلام العابرة للأقطار…
إنّ من يفكّر بهذه الطريقة غارق في الأوهام اليوم لأنّه يحلم بإقامة
إمبراطوريّة في زمان الدولة القطريّة، والتحالفات الإقليميّة، والأهمّ
من هذا أنّ المنتسبين إلى هذا الاتجاه لا يستطيعون التفاعل مع القوى
الثوريّة على الأرض، من أجل ولادة سوريّة الجديدة، لأنّ هذا
باختصار لا يشكّل أحد همومهم ومشاغلهم!.

17

الثاني كيانات وأطياف ومكوّنات ما دون وطنيّة، إنّها ذات نزعات
مناطقيّة وعشائريّة ومذهبيّة….حيث الاهتمام والتفكير بدوائر ضيّقة،
ومرتدّة إلى ما قبل الدولة الحديثة.
إنّ دمج هذين الاتجاهين في المشروع الوطنيّ أو تجاوزهما عند
الضرورة، يشكّل شرطاً لولادة سوريّة الجديدة، القويّة والموحَّدة.
2- شهدت وتشهد الثورة انسحابات متتابعة من أنشطتها السياسيّة
والإعلاميّة والعسكريّة والحقوقيّة، وهذه الانسحابات تكون في
العادة، إمّا في اتجاه العزلة، وإمّا في اتجاه الأعمال الإغاثيّة
والتعليميّة والإنسانيّة عامّة، وهذه الانسحابات متوقّعة، وذلك
بسبب طول العهد والأمد، وبسبب اهتراء الأطر الثوريّة الجامعة
على الصعيد السياسيّ والعسكريّ، على نحو خاص حيث التنازع
والاختلاف والتشرذم في أسوأ الأشكال والصور!
كثيرون جدّاً الذين ينادون بإصدار وثيقة جامعة للثورة، وتشكيل
قيادة موحّدة لها، وأكثر من كتب في هذا هم المنتمون للتيّار
العلمانيّ والديمقراطيّ، ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التنظير
والتحفيز، وظلّت المبادرات العمليّة للوصول إلى ذلك قليلة،
والتفاعل معها ضعيفاً، وربّما أدّى الإخفاق المتكرّر في ذلك إلى
القنوط، والحقيقة أنّ معظم المبادرات لإيجاد قيادة موحّدة للثورة
كان يجمع بينها انخفاض درجة اهتمام وإصرار الذين أطلقوها،
وقصر نفَسهم في العمل، وإلا فليس هناك شيء مستحيل.
3- بدأت الثورة السوريّة بثقة عالية جدّاً بالنفس، ومع هذا فقد كانت
طلبات الثوّار الأوائل عقلانيّة وطنيّة، وكانت تتمحور حول
العدالة والحريّة والكرامة، ونبذ الطائفيّة، وإعلاء شأن سوريّة
الواحدة القويّة، ثمّ جاء من يزيد عليها مطالب جديدة، من نحو

18

كون سوريّة فيدراليّة أو علمانيّة أو إسلاميّة، وهناك من يريد
إقامة دولة الخلافة فيها، والانطلاق نحو تحرير القدس وفلسطين،
وهناك وهناك…
هذا كلّه أوجد انقسامات داخليّة كبيرة في صفوف الثوّار، وخوَّف
الإقليم وإسرائيل والعالم من مآلات سقوط بشار الأسد، وصيرورة
السلطة إلى هؤلاء الطارئين على النظام العربيّ والإقليميّ والعالميّ.
لا بدّ من العودة إلى الأهداف والمبادئ الأولى للثورة، واختصارها
إلى ثلاثة أو أربعة، وأعتقد أنّ أهدافاً مثل الحرّيّة والعدالة، وتساوي
السوريّين أمام القانون كافية لتوضيح هويّة الثورة، وكافية لتوجيه
الثائرين، وجمع كلمتهم.
4- من المهمّ هنا أن نعي أنّ مشكلتنا الأساسيّة لم تعد مع نظام مجرم
قاتل، بل مع قوى محتلّة اتخذت من سوريّة مسرحاً لاختبار
أسلحتها، ونشر أيدولوجيّاتها، وتأكيد هيمنتها على نحو ما تفعله
إيران وروسيا وإسرائيل، وصار الدم السوريّ خارج كلّ
الحسابات بعد أن تفاهمت الدول الكبرى مع بعضها، وبعد أن
سحبت معظم الدول الإقليميّة يدها من القضيّة السوريّة.
هذا يوجب أن نعلنها ثورةً للتحرّر من النظام الذي لا يستحي من
إعلان التبعيّة الكاملة لإيران وروسيا، وثورةً للتحرّر الوطنيّ من
الاحتلال الخارجيّ.
هذه الوضعيّة تمنحنا الفرصة لحمل نفس الروح، ونفس المعاني التي
حملها آباؤنا، حين احتشدوا لطرد الفرنسيّين من بلادنا.
5- إنّ إبعاد الأدلجة عن مسار الثورة، لا يعني نسيان القيم الكبرى
التي يجب أن نلتفّ حولها، حيث إن الهويّة السوريّة – على

19

وهنها – متشبّعة بالكثير من القيم العظيمة التي كانت بمثابة
الضمير للعيش المشترك عبر القرون، ويقف على رأس تلك القيم
قيم الرحمة، والدفاع عن المظلوم، ونصرة الضعيف، والإحسان
إلى الجار، واحترام كبار السنّ، وتقدير التضحية، ورعاية اليتيم،
وحسن العهد، والوفاء لتراث الآباء والأجداد، وتفهّم مدلولات
ورمزيّات التنوّع الثقافيّ والعرقيّ والدينيّ…
هذه القيم قيم إنسانيّة وإسلاميّة وعربيّة ووطنيّة بامتياز، وهي تشكّل
صمّام أمان، حين يشتدّ الصراع العرقيّ والطائفيّ في أيّ بلد من
البلدان.
إنّ استحضار هذه القيم لا يكون عبر الشعارات، ولكن عبر الممارسة
والسلوك اليوميّ، لكلّ أولئك المهتمين بمستقبل سوريّة الموحَّدة
والقويّة.
6- ذكرت من قبل ضعف حضور الهويّة، أو الوطنيّة السوريّة في
وجدان السوريّين، وهذا سببه بشكل أساسيّ التاريخ.
بعض السّوريّين ينظر إلى سوريّة على أنّها إحدى الدول العربيّة،
وهي في نظر بعضهم جزء من الأرض التاريخيّة للشعب
الكرديّ، أو هي ولاية من ولايات الخلافة العثمانيّة، وسوريّة لدى
كثيرين ليست سوى كيان وجِد نتيجة مؤامرة حيكت قبل مئة عام!
إنّها أشبه بالوطن المؤقّت أو العابر، ومن هنا فإنّ على السّوريّين ألّا
يعوّلوا كثيراً على التاريخ، في بلورة هويّتهم، أو بناء مشروعهم
الوطنيّ، وعليهم أن يقفوا أمام أنفسهم ليكتشفوا أهدافهم المشتركة،
وأهمّها أن لهم مصلحة عظمى بأن يعيشوا مواطنين أحراراً على
أرضهم، دون شعور بآلام الغربة والتشرّد، وآلام اللجوء وامتنان
الآخرين بالإيواء والمساعدة، أي أن يتخيّلوا الكوارث التي يسبّبها

20

الاقتتال والاحتراب والتمزّق والكوارث التي يسبّبها التظالم والفساد
والاستبداد.
لا شكّ مع هذا في أنّ لدى السّوريّين عقائد ورمزيّات ومفاهيم غير
ملموسة، وعادات وتقاليد كثيرة مشتركة، تساعد كثيراً في بناء
هويّتهم الوطنيّة، وإطلاق مشروعهم الوطنيّ، والأمر يحتاج إلى
تغيير في بنية التفكير، وإلى خطاب جديد يقوم على تكريس الحرّيّة
والعدالة وكرامة الإنسان، وتفهّم الخصوصيّات العقديّة والعرقيّة،
وفوق ذلك كلّه سيادة القانون، وتساوي جميع المواطنين أمامه.
7- تحتاج سوريّة المستقبل من جميع أبنائها أن يتشبّعوا بثقافة
الاعتراف بالذنب، حيث إنّ ما ارتكبه النظام وشبّيحته والموالون
له، من جرائم ضدّ السّوريّين فظيع جداً، بل لا يوجد من الكلمات
ما يعبّر عنه، كما أنّ الفصائل والكيانات الثوريّة، وقعت في
بعض الأخطاء التي أضرّت بالناس، وأضرّت بالثورة.
إنّ أيّ مرحلة جديدة تبدأ بعد زوال النظام الأسديّ المجرم، لا بدّ
أن يكون فيها اعتراف واضح بما تمّ ارتكابه من أخطاء، وإذا
كانت محاكم العدالة الانتقاليّة ستحاسب كبار المجرمين فقط،
فهناك عشرات الألوف الذين يحتاجون إلى الإقرار والاعتراف
بما سبّبوه من أذيّة لغيرهم، وهذا الاعتراف، له العديد من الفوائد،
أوّلها هو إيقاف ادّعاء الصواب فيما قام به المذنب، وإيقاف
التمادي في الخطأ، ومنها تطييب نفوس الذين آذتهم الأخطاء
المرتكبة، ومنها التخفيف من عمليّات الثأر والانتقام، التي قد
تستمرّ سنوات أو عقوداً، حتّى بعد بداية عهد جديد، ومنها فتح
الطريق لتكريم وتعويض المجنيّ عليهم…

21

الدول التي جرت فيها نزاعات داخليّة كلّها، بدأت مراحلها الجديدة
بالاعتراف والاعتذار، حيث لا تتصوّر بدايات حقيقيّة من
غيرهما.
لفلفة الأمور، وطمس معالم مرحلة من أقسى المراحل التي يمكن
لبشر أن يمرّ بها، لن تسهم في المسح على الجراح، ولن تساعد
في المضيّ نحو العافية والشفاء.
8- مارس النظام الأسديّ، بدعم من حزب البعث، سياسات الإقصاء
والتهميش للمعارضين، ولم يكن العقاب الظالم ليقتصر على من
يجهر بسياسات أو آراء معارضة، وإنّما يتعدّاه إلى أهل بيته
وأقربائه، وأحياناً الأصدقاء والمعارف والزوّار (قانون 49
القاضي بإعدام كلّ من ينتسب للإخوان المسلمين أحد الشواهد)
كما أنّ النظام ترك القوّة الخشنة بأيدي طائفته وحكراً عليها،
وجعل الهيمنة لها على مفاصل الدولة كلّها ومؤسّساتها، وهكذا لم
يكن الإقصاء على الصعيد الرسميّ أو الاجتماعيّ فقط، وإنّما امتدّ
إلى جميع جوانب الحياة على ما يعرفه جميع السوريّين، وبما أنّ
الثورة انفجرت لقطع كلّ الأوضاع البائسة التي أوجدها النظام
المجرم، فإنّ السّوريّين يحتاجون إلى ثقافة جديدة بديلة عن ثقافة
التخوين والتهميش والتحيّز، ثقافة تقوم على التفهّم والاندماج،
والتسامح والإحسان.
إنّ لتأليف القلوب سهماً في الزكاة، وإنّ صدقة التطوّع تعطى للمسلم
وغير المسلم، وقد أُمرنا بالإحسان إلى الجار، بقطع النظر عن ديانته
ومعتقده وتوجّهه السياسيّ، وإنّ العمل الخيريّ يستطيع أن يعبر كلّ
الانقسامات العقديّة والاجتماعيّة، لصالح الحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ
المشترك، وهو أداة مجرّبة لتقريب القلوب من بعضها، ولبناء الثّقة

22

الاجتماعيّة، ونحن في حاجة ماسّة إليه، عند إعادة بناء سوريّة التي
نتطلّع إليها.
على مستوى المهمّات والمسؤوليّات والمناصب، نحن نحتاج حتّى
نتخلّص من الإقصاء، إلى اعتماد معياري الكفاءة والأمانة، على حدّ
قول ابنة شعيب: ((يا أبتِ استأجره إنّ خير من استأجرتَ القويُّ
الأمينُ)) (1) القصص 26.
نعم سمتان فقط: الكفاءة والقدرة على القيام بمهمّات المنصب،
وإنجاح العمل، ونظافة اليد واستقامة السيرة الماليّة.
أمّا السلوك الشخصيّ لمن يلي منصباً من المناصب، فلا شكّ في أنّ
الجميع يفضّلون الأشخاص الأكثر نقاء، والأكثر تمثيلاً للقيم العليا
التي نؤمن بها، لكنّنا لن نحصل على هذا في كلّ وقت، ولهذا فلا بدّ
من غضّ الطرف عن السلوك الشخصيّ للمسؤول، ما دام في إطار
القانون، فسوريّة بلد متنوّع ولا بدّ لتنوّعه من أن يظهر في سلوك
أبنائه.
نحن ننادي بوحدة سوريّة، ولكن هذه الوحدة، تظلّ باهتة وهشّة من
غير وحدة شعبها، ووحدةُ شعبها تحتاج إلى جهود مضنية من أجل
إرساء ثقافة معايشة جديدة.
9- نحن نشهد اليوم ظروفاً في منتهى القسوة، حيث إنّ دخول
الطيران الروسيّ في الصراع المسلّح مع النظام، قد قلب
المعادلات كلّها، فهو يكسر ظهر المقاتلين عن طريق قصف
عنيف لهم، ولأهلهم من المدنيّين، وللبنى التحتيّة أيضاً، وعلى
رأسها المدارس والمشافي، إنّ هذا الذي جرى ويجري قد جعل

23

رقعة الأرض التي يسيطر عليها الثوّار تنكمش إلى حدّ بعيد، وقد
أخذ اليأس يدبّ في قلوب الجميع…
في حال كهذه، حيث التراجع على الصعيد العسكريّ، ينفتح أفق
العمل السياسيّ والإعلاميّ والحقوقيّ من جديد، وهذا يتطلّب
الانتقال من حال الشرذمة على مستوى القيادة السياسيّة والفصائل
العسكريّة، إلى وضعيّة التوحّد والتعاضد.
قد يكون ما نحتاجه اليوم عاجلاً هو (مرجعيّة سياسيّة) تتكوّن من
40 إلى 50 شخصاً من القيادات الثوريّة، وإنّ واجب هذه
المرجعيّة هو أوّلاً الحفاظ على مبادئ الثورة وأهدافها من
الانتهاك الذي تتعرّض له عبر مسارات الأستانة وجنيف، وعبر
المصالحات التي تتمّ في مناطق التصعيد، كما أنّ على المرجعيّة
السياسيّة تمثيل الثورة في المحافل الدوليّة، وإعادة الثقة للناس،
بإمكانيّة النصر والتحرّر، وهناك في الحقيقة مطالبات كثيرة بهذا
لكنّ المشكل دائماً في المبادرة، وفي من يعلّق الجرس!.
إنّ في إمكان المجلس الإسلاميّ السوريّ – وهو مجلس وطنيّ
ثوريّ أيضاً- مع بعض الشخصيّات المرموقة من المعارضة،
إطلاق مبادرة لتشكيل تلك المرجعيّة، وإمكانيّة النجاح متوفّرة، إذا
ما تمّ أخذ الملاحظات التي أشرت إليها بعين الاعتبار.
إنّ علينا أن ننظر إلى مرحلتنا هذه على أنّها مرحلة للعطاء غير
المشروط، كما أنّ علينا أن نكفّ عن النظر إلى سوريّة المستقبل
على أنّها (غنيمة) كلّ طيف ومكوّن يريد الاستحواذ على أكبر
قدر منها.

24

إنّ الوصول إلى حالة وطنيّة نصف مُرضيّة، أقلّ ضرراً من
التشرّد في الأرض، من غير وطن ولا هويّة، لكنّنا مع هذا نصرّ
على أنّ سقوط النظام القاتل يشكّل البداية لكلّ تحوّل إصلاحيّ في
سوريّة الحرّة القويّة.
د.عبد الكريم بكّار
25/7/2018




تخفيف الصراع السنيّ الشيعي

بسم الله الرحمن الرحيم
تخفيف الصراع السنيّ الشيعي

الخلاف السنيّ الشيعيّ قديم وعميق ومتوسّع، عقديّ وتاريخيّ
وجغرافيّ وقوميّ وسياسيّ، يلبس من كلّ مرحلة من ثيابها ما
يناسبها.
ولكنّ المتدبّر في تاريخ وعنف هذا الصراع، يجد مركزيّة
السلطة واضحة في مخيّلة المتصارعين، بل نستطيع أن نقول:
إنّ السيوف التي سلّت ما سلّت للخلاف الفقهيّ ولا العقديّ،
وإنّما لحسم ملفّ السلطة، ويمكن القول إنّ هذا ليس حديثاً، بل
من بواكير الافتراق التاريخيّ بين السُّنَّة والشيعة، بعد معركة
كربلاء، التي لم تنقض حمولتها بعد.
ولقد اختلفت الأساليب، ومن الطرفين، أيّ التعاطي مع هذا
الصراع، فظنّ قوم أنَّ التقريب بين المذاهب هو الحلّ، فانشؤوا
لذلك مجمّعات التقريب، وولائم العمائم، ومؤتمرات العلماء
التي لم تؤدّ إلا إلى زيادة في التباعد والتباغض، حتّى إنّ
تنظيماً بروتوكوليّاً مثل الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، لم
يستطع أن يدير وجود الشيعة مع السُّنَّة في تنظيم تشريفيّ أكثر
منه تنفيذيّ، وظنّ قوم أنّ الدعوة والتبشير هي الحلّ، فصار
كلٌّ منهم يجنّد دعاته لإقناع الآخر، والمحصّلة هي: سُنيّ يتشيّع
من أجل الطعام هنا، وشيعيّ يتسنّن على قناة فضائيّة هناك،
دون حصول تغييرات حقيقيّة على مستوى البنيّة الصلبة.
وظنّ قوم أنّ الحرب هي الحلّ، ولكنّ السُّنَّة والشيعة ليسوا
وحدهم في العالم، فاستلم إدارة الحرب الغرب، الذي ليس من
مصلحته حسم الصراع، وبالتالي فهو يدعم السُّنَّة بشرط ألا

2

ينتصروا، ويدعم توغّل الشيعة بشرط: ألا يتمكّنوا بالكليّة، حتّى
تبقى إمكانيّة التدخّل في مصير الأمّة واسعة الأبواب.
لن أستطيع في مقالتي هذه تلمّس العلاج، ولكن أزعم أنّ
التحليل الجيّد للصراع يدفعنا لتخفيف وطأة الصراع.
الصراع في كلّ الدنيا، – وليس عند السّنّة والشيعة فحسب- هو
صراع مصالح ونفوذ واستحواذ على السلطة والمقدّرات، هذا
هو الهدف الحقيقيّ لأيّ صراع، ويأتي في المرتبة الثانية
الصراع الدينيّ، وهو على أهميّته.. يشكّل الخطّ الداعم
والحاشد والمشرعن للحرب، ومن الخطأ عند حلحلة الصراع
أن نتّجه للخطّ الداعم والحاشد، ونقدّم علاجه على الخطّ
المنشئ والباعث المؤسس على الصراع،
وفي حال السُّنَّة والشيعة وخلافهم التاريخيّ على السلطة
والسيطرة، فما قام خليفة إلا وانتصب له إمام ينازعه،
ويستدعي كلّ فريقٍ ما يمكنه من الأدلّة النقليّة والعقليّة، على
شرعيّته السياسيّة بتصدّر المسلمين.
والغريب أنَّ القرون تطاولت، ولمّا يحسم أحدهما ملفّ
الشرعيّة إلا بالسيف في مناطق سيطرته.
إنّ تخفيف الصراع بين السُّنَّة والشيعة يبدأ من عقلنة مسألة
السلطة، وإبعادها عن النظرة المذهبيّة أو الدينيّة المسبقة،
فالسلطة ليست لسنيّ ولا لشيعيّ، وليس لأحد أو عند أحد نصّ
من الله ورسوله على ولايته على الناس، وإنّما السلطة حقّ
الأمّة، تسندها بالرضا لمن تشاء من أبنائها.

3

طالما أنَّ هناك شيعيّاً ينظر ويرقب في حكومته الانحياز على
أساس مذهبيّ، فستبقى عيونه على خراسان، ينتظر خروج
الرّايات السود على يد كسرى جديد، سواء كان كسرى هذا
سنيّاً كأبي أم شيعيّاً كإسماعيل الصفويّ، أم باطنيّاً كالحسن بن
الصباح أم ظاهريّاً كالخمينيّ.
وما قلناه عن الشيعيّ وارد، في حقّ السًّنيّ، وأمّا إذا وجد كلّ
منهما نفسه أمام حكومة حياديّة وظيفيّة، تحفظ أمنه، وتسعى
بهمّه، وتكفل له حقوقه، دون النظر إلى دينه أو مذهبه، فلا شكّ
أنّ مناعته ستزداد ضدّ دعوات التمذهب المسلّح والصراع
الطائفيّ.
ثمّ عند بسط أجواء الحريّة ودولة القانون، والمساواة بين
الناس، يمكن أن يكون العمل على ملفّ الصراع الثاني
(العقديّ)، ولكن بلا سيوف ولا دماء، وإنّما يوضع بزاويته
الصحيحة والمناسبة.
إنّ السماح للقوى المجتمعيّة بالتعبير عن نفسها، والحديث عن
نسبتها، في دائرة القرار العامّ، من خلال عمليّة انتخابيّة حرّة
ونزيهة، تسمح بوصول الممثّلين الحقيقيّين لأيّ مجتمع لدائرة
السلطة، هو الحلّ الأمثل والأنجع لإدارة الخلاف على السلطة،
وهذا ما سلكته الدول المتحاربة تاريخيّاً ومذهبيّاً في الغرب،
حتّى ملّت من الصراع، فلجأت إلى تمكين المنظومة
الاجتماعيّة في التعبير عن نفسها في تشكيل السلطة، فانتهت
حروب المائة عام، والثلاثين عام، وسبعة الأعوام، وبدأت
مسيرة الاتحاد الأوربيّ والولايات المتّحدة وغيرها.

4

إنّ إرساء قيم المواطنة والتعدديّة والتشاركيّة، والحريّة، وسيادة
القانون، وحرّيّة الاختيار السياسيّ والثقافيّ، وتمكين الشعب
من حقّه في السلطة، هو الآليّة الممكنة والقابلة للقياس، التي
تكفل دفع أكبر قدر من الهواجس، وتحقيق أكبر قدر من
الرغبات للأمّة الإسلاميّة، بشقّيها السنيّ والشيعيّ.
حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام.




إسلاميّو العرب بين البرامجيّة والشعاراتيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

إسلاميّو العرب بين البرامجيّة والشعاراتيّة

بشكل شبه دائم نلتقي بوجوه العمل الإسلاميّ، من العالم العربيّ،
بخاصّة بعد مطاردة الثورة المضادّة لهم، واضطرارهم للهجرة إلى
تركيّا، أو أولئك الذين نرصد أفكارهم وتنظيرهم على مواقع
التواصل الاجتماعيّ، ولا يخفى كم لهؤلاء من فضلٍ وسابقة في
بذلهم الكثير من جهودهم ومقدراتهم، بل ومن حياتهم وأمنهم في
سبيل تخليص مجتمعاتهم من غوائل المستبدّين والانقلابيّين
والطائفيّين، مع ما تكبر فيهم من همّة وتفانٍ وقدرة على الحشد
والتأثير، ورغبة في البذل والتضحية، بقدر ما ترى عند الكثير من
نمطيّة مكرّر،ة وأفكارٍ معلّبة كانت سبباً ذاتيّاً في إرهاقهم، وتعطيل
مشاريعهم في بلادهم، عدا عن الأسباب الموضوعيّة الكثيرة التي تقع
على عاتق المستبدّين والظالمين وأجهزتهم المخابراتيّة.
ومثال على ما ترى فيهم، هذا التناقض بين إعجابهم الكبير، وتأييدهم
المنقطع النظير، للتجربة التركيّة ورائدها حزب العدالة والتنمية،
وكيف أنّ الإسلاميّين العرب في غاية الانسجام مع مشروعه، بل
ربّما يعتبرونه من ثمرات تنظير أجدادهم، ويستعدّ الكثير منهم
لخدمته والتشبيك معه، وهذا كلّه مرحّب به، ويدعو للتفاؤل، ولكنّك
في الوقت نفسه تسمع منهم – عندما يتحدّثون عن بلادهم في سوريّة
أو العراق أو مصر أو اليمن أو ليبيا أو الخليج – فيكادون يجمعون
على أنّ التجربة الديمقراطيّة والبرامجيّة التي أوصلت العدالة
والتنمية للحكم في تركيّا غير صالحة لبلادنا، بل لا بدّ من طرح
مختلف في البلاد العربيّة، لا بدّ من التنصيص على إسلاميّة

2

المشاريع الحزبيّة والإصرار على دسترة مصدريّة التشريع، وأنّ
لبلادنا خصوصيّة لا تقبل التجربة الديمقراطيّة، ولا بدّ من التفريق
بين الديمقراطيّة من حيث هي فلسفة، وبين الديمقراطيّة من حيث هي
أداة، ولحين أن تفرّق بين ما هو فلسفة وما هو أداة، يكون اللصّ قد
حاز الخزينة، ونصب سوراً حول المنطقة الخضراء، واجتذب
الأغلبيّة الصامتة، وأدخلنا في معارك التخوم.
لك أن تعجب من هذا عجباً لا ينقضي: ما هو حلال في تركيّا
وماليزيا، هو حرام علينا، وما نهض بالسويد وبلجيكا، نكص بنا، وما
جاز لأردوغان ومهاتير، حرّم علينا.
لماذا تمجّد البرامجيّة في تركيّا وماليزيا؟ وتمجّد الشعاراتيّة عند
العرب؟ لماذا يحوز الإسلاميّون في تركيّا وماليزيا على دعمنا، رغم
أنّهم لم يرفعوا شعاراً دينيّاً، ولا هويّاتياً واحداً، أو لم يتمركزوا
حوله؟ لماذا نصرّ على خوض معركة الشريعة والهويّة والحسبة،
دفعة واحدة في مصر وسوريّة وبلاد العرب؟
لماذا نشعر بغاية الانسجام مع ما تمنحه الحرّيّات العامّة والخاصّة
من الأجواء المتحرّرة والشهوات المباحة، تحت طائلة فقه
الضرورات الخاصّة، وهو مشروع ولاشكّ، وتمنع الأمّة المعذّبة من
تراخيص الضرورة، رغم أنّ الضرورة في حقّ الأمّة آكد، بل
الحاجة في حقّ الأمّة تنزل منزلة الضرورة؟
سأمرّ بكم على نصّ مقتبس من برنامج (حزب العدالة والتنمية) في
تركيّا، وانظروا إلى روح البرامجيّة:

3

( لن يعجز شعبنا – مادام الحلّ في يده – كما قال أتاتورك الكبير: “إنّ
القوّة التي ستنقذ الأمّة هي أبداً ودائماً عزيمة الأمّة وإصرارها”.
إنّ حزبنا الذي هو صنيعة الشعب، ولسان حاله، سيقوم بإعادة
ترسيخ الشعور بالثقة لدى المجتمع، وإكساب المواطنين الثقة في
المستقبل، والشعور بتقدير واحترام المجتمع لهم.
ولدينا مفهوم جديد للإدارة؛ ييسّر ولا يعسّر، ويحتضن ولا يطرد،
ويوحّد ولا يفرّق، ويحمي الضعفاء المظلومين من الأقوياء الجائرين،
ومن أجل تحقيقه سيقوم الحزب بما يلي:
• إرساء مفاهيم تستند على الحقوق والحرّيّات، وفق المعايير
العالميّة، في جميع المجالات.
• حلّ المشكلات المزمنة، التي تواجهها تركيّا حلّاً جذريّاً.
• تحويل بلدنا إلى بلد مستديم الإنتاج والنموّ، من خلال توظيف
الموارد البشريّة والطبيعيّة المعطّلة منذ سنوات.
• القضاء على الفجوة في توزيع الدخل، وبهذه الكيفيّة يتمّ رفع
مستوى الرفاهية لجميع أفراد شعبنا.
• تحقيق التعاون الوظيفيّ في المجتمع من خلال إشراك المواطنين
ومنظمات المجتمع المدنيّ في الإدارة العامّة.
• نشر مفهوم الشفافيّة التامّة والمساءلة في كلّ مجال من مجالات
الحياة العامّة.

4

• تقديم برنامج سياسيّ عصريّ، وعقلانيّ واقعيّ، وقابل للتنفيذ،
في مجالات مثل: الاقتصاد والسياسة الخارجيّة والثقافة والفنّ،
والتعليم والصحّة والزراعة وتربية الحيوان.
ولدينا اعتقاد راسخ بأنّ هذا البرنامج قادر على حلّ مشكلات تركيّا،
وفتح آفاق التقدّم أمامها.
إنّ أهم خاصيّة لهذا البرنامج تتمثّل في قراءته للحاضر قراءة
صحيحة، واستشرافه المستقبل. ونأمل أن يكون هذا البرنامج الذي
نقدّمه لشعبنا بمثابة نقطة انطلاق جديدة لتركيّا.
وبعون الله سيصبح كلّ شيء بنا وبكم أفضل حالًا).
انتهى الاقتباس، ولقد رأينا سعياً لتحقيق مطالب بشريّة يطلبها كلّ
البشر، ويسعى لنيلها كلّ إنسان، لم يتحدّثوا عن تطبيق الشريعة، ولا
عن فتح روما، ولا عن تخمير النساء، ولا عن ملاحقة الخمر، ولا
عن تنميط المجتمع، كلّ ما في الأمر أنّهم سمحوا لهذا المجتمع أن
يتحدّث عن نفسه، ولا شكّ أنّه سيتحدّث بما يؤمن به، وبما تربّى
عليه.
ماذا لو حاولت كإسلاميّ أن تكتب مثل هذا الكلام في دستور حزب
إسلاميّ في بلاد العرب، سيحدث لك ما حدث للغنّوشي والترابيّ،
من تهم التمييع والتضييع والتلاعب بالهويّة والثوابت، ومحاباة
للعلمانيّة والحداثة، فكيف إذا أردت أن تكتب (أتاتورك الكبير)!
سيقولون لك: وهل قدّمنا ملايين الشهداء حتّى نعود إلى ما قبل مائة
عام؟.

5

ونقول: وهل قدّمنا ملايين الشهداء لنبقى في التخوم، ويستفرد المستبدّ
بمفاصل الأمن والقرار السياديّ في منطقته الخضراء، مستغلّاً
تخوّف من لم يفهمنا، أو من يتخوف منّا، فاستمالهم لطاعته، وخوّفهم
على أمنهم من سيفنا، وعلى حرّيّتهم من مشروعنا؟.
إنّ الشعارات جميلة، والاندفاع الروحيّ خلّاق، ولكنّه مؤقّت
ومكلف، ومن الخطأ بناء المشاريع السياسيّة المستدامة على وهج
السطع العاطفيّ، أو الوهج الإيديولوجيّ، لأنّه سرعان ما يخبو بفعل
الزمن، من فقد المؤسّسين، وسيطرة النفعيّين، وكلفة الاستمرار،
وتحفّز الأعداء، واستمالة الرماديّين لبريق المصالح.

انتهى