هل في القرآن كلّ العلوم؟

كثيراً ما نسمع من بعض الفضلاء أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، فهو نظام شامل، وهذا حقّ لا ريب فيه، ونسمع أنّ كلّ شيء مذكورٌ في القرآن الكريم، ففيه علم الأوّلين والآخرين، وفيه علوم الدنيا والدين كلّها، الأنظمة والأفكار والحلول كلّها، وقد ورد عن بعض السلف مثل هذا الكلام، ويستشهدون بمثل قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}، (وَنزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (وتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) (اليوم أكملت لكم دينكم)، رغم أن الآية الأولى -والتي يستشهدون بها أكثر من غيرها- فسّرها كثير من المحقّقين بأمّ الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سيحصل في الدنيا(1)، وعلى القول بأنّها القرآن الكريم فإنّ هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى: ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ(2)، وهذا المعنى هو الذي يجب المصير إليه في تفسير هذا المبدأ العامّ، وهو أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، التي تدلّ عليه الأدلّة السابقة وغيرها، أي جاء بآيات وأحاديث تفي بحاجة توجيه الناس، ومن هذه الأحكام مبادئُ عامّة تصلح قواعد وأصولاً نستقي منها الفروع والتطبيقات المتجدّدة عبر تطوّر الحياة واتّساعها، وإلّا لما اضطررنا لمصادر تشريعيّة غير الكتاب والسنّة، لذلك قال علماء الأصول: “لمّا كانت النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية، كان لا بدّ من القياس وغيره من الأدلّة التي نحتاجها للحكم على المستجدّات غير المنصوصة”، فالمصدر الأصليّ في التشريع الإسلاميّ هو القرآن الكريم، وهو أرشدنا للرجوع للسنّة، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، والكتاب والسنّة أرشدانا للعقل السليم، والعقل مسترشداً بالكتاب والسنّة دلّنا على كون القياس الصحيح طريقةً سليمةً لاستنباط الأحكام والإرشادات الشرعيّة، وكذلك اعتبار المصلحة التي لم يُنْهَ عنها، واستصحاب البراءة الأصليّة، ومنع وسائل ومداخل المنهيّات بسدّ ذرائعها، واعتماد الأعراف الصالحة.. وهكذا اكتشفنا أنّ القرآن الكريم دلّنا على منابع وقواعد للمعرفة الصالحة من خارجه، تعتمد اجتهاد الإنسان، أي الجانب البشريّ من التشريع، ومن حكمة الله تعالى أنّه جاء بتعاليم مفصّلة لما كان ثابتاً كالعقيدة والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث.. وجاء بمبادئ وقواعد عامّة للمتغّيرات كالمعاملات الماليّة وأحكام الحرب والسلم، والعلاقات الدوليّة وأحكام الإدارة السياسيّة والإرشادات الاجتماعيّة.

فالجانب البشريّ في تقدير التشريعات والأحكام الإسلاميّة المتغيّرة كبير، طبعاً مع مراعاة القواعد والمبادئ العامّة التي شرعها الشارع الحكيم، وبلزوم مراعاة هذه المبادئ الربّانيّة من قِبَل المشرّع من البشر يختلف التشريع الوضعيّ عن التشريع الإسلاميّ.

لكنّ بعض الخطابات الإسلاميّة توهم الناس أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، فيهما تفاصيل كلّ شيء، وبخاصّة في سياق الوعظ ومدحِ الشرع الإسلاميّ!

 وهذا من العبث المنهجيّ، فقد أنتج هذا الخطاب عندنا أناساً يشترطون النصّ من الكتاب والسنّة على كلّ جزئيّة في حياتنا.

 وليت الأمر اقتصر على الجوانب التشريعيّة، لكنّ الأمر انتقل للعلوم التطبيقيّة والعلوم الإنسانيّة، وحتّى للآليات والأدوات والوسائل والنظم والإداريّات، وتفاصيل النظام السياسيّ والنظام الاقتصاديّ والأنظمة الاجتماعيّة، وتفاصيل القوانين والأنظمة الإداريّة، والعلوم الطبيعيّة والكونيّة التجريبيّة، فوجدنا علماء يبحثون عن تفاصيل هذه الأمور كلّها في نصوص الكتاب والسنّة!

طبعاً لا يعني هذا تجاوز تعاليم الكتاب والسنّة، بل الذي ننكره تقاعس عقل المسلم عن الاجتهاد البشريّ في إيجاد تفاصيل وحلول لكيفيّة تسخير الكون، واختراع نظم إداريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وتقنيّة واكتشاف العلوم التجريبيّة وتطويرها لحياتهم الدنيويّة والمعاشيّة، امتثالاً لقوله ☺ (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).

طبعاً هذه العقليّة أدّت بهم إلى عدم العثور على تفاصيل تلك النظم والآليات في الكتاب والسنّة، فرجعوا للحلول الإسلاميّة المحليّة -رغم قدمها- حيث رجعوا للجهد البشريّ للمسلمين في العصور السابقة، الذين عاشوا في ظلال تعاليم الإسلام -بحسب اعتقاد من أخذوا عنهم- وتبنوا آراءهم وحلولهم وتطبيقاتهم وآلياتهم التي وصلوا إليها.

 وهنا لا نقول: إنّ كلّ تراث أمّتنا العلميّ والعمرانيّ والثقافيّ متخلّف ولا يناسب عصرنا!

 بل نقول: فيها ما يناسب عصرنا، وفيها ما تجاوزه العصر، ولم يعد صالحاً، فحياتهم كانت أبسط، وواقعنا الجديد معقّد يحتاج حلولاً جديدة تناسبه.

فكان اتجاههم ماضَويّاً ينظر في تراثنا العلميّ والحضاريّ يريد تكراره، بما أنّه منضبط بالكتاب والسنّة (بحسب تصوّرهم)!

 وبالمقابل ظهر سلوك آخر رافض للحلول المستوردة (الغربيّة) ولو كانت عصريّة متقدّمة، وصالحة للاقتباس!

والحقيقة أنّ حلولنا الإسلاميّة –تاريخيّاً- كان كثير منها اقتباساً من الحضارات المعاصرة للدولة الإسلاميّة فاقتبسنا في العصور الإسلاميّة الأولى من فارس والروم كثيراً من الأنظمة والحلول، فما المانع أن نقتبس من الغرب والشرق ما توصلّوا إليه من علوم إنسانيّة وتطبيقيّة وأدوات ووسائل ونظم وحلول ناجحة؟! فهي تجارب بشريّة نأخذ ما يناسبنا منها، ونترك ما لا يتلاءم مع واقعنا واحتياجاتنا ومع مبادئنا وديننا.

بل سأذهب لأبعد من ذلك وأقول: حتّى ما نخافه من القيم والمبادئ العليا، نحن نتشارك معهم في كثير من مبادئهم وقيمهم، (كالصدق والأمانة واحترام الوعد والوفاء بالعهد والمواثيق، وكرامة الإنسان والمحافظة على حقوقه..) فقد اهتمّوا وسلّطوا الضوء على كثير من القيم والمبادئ التيّ كانت ضامرة –نسبيّاً- في عموم البشريّة في العصور السابقة، كالحرّيّات والعدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة وتفاصيل حقوق الإنسان وقيم التسامح والتعايش والسلم الأهليّ..

فالحلّ ليس بتكرار التجربة الإسلاميّة التاريخيّة بحذافيرها، ولا باستنساخ التجربة الغربيّة بكلّ تفاصيلها، بل بأخذ الصالح من التجربة الإسلاميّة التاريخيّة والتجربة الغربيّة المعاصرة، بما لا يتعارض مع قيمنا وتعاليم ديننا.

نحن بتكاسلنا عن النظر والبحث والتفكير والاعتماد على الجهد البشريّ، والنظر في الآفاق والأنفس، واستبدال ذلك بطلب تفاصيل ذلك من نصوص الكتاب والسنّة اللذين يرشداننا للنظر خارجهما عبر الأمر بالتفكّر والتدبّر والبحث والاجتهاد والتجربة والمشاهدة والاعتبار.

نحن نمشي بعكس المطلوب، فالمطلوب البحث خارج الكتاب والسنّة لتدبير شؤون حياتنا والنظر في الكتاب والسنّة للتوجيه والإرشاد والالتزام في شؤون حياتنا.

فعمارة الأرض مهمّة بشريّة بحتة، وعملها كله خارج الكتاب والسنَّة، ووضع القيم العليا  والأخلاق الفاضلة والأحكام الملزمة موجود في الكتاب والسنَّة.

فالأمور الدنيويّة الأصل فيها الإبداع البشريّ، مع الاتباع للتوجيه الربّانيّ.

فعمارة الدنيا تحتاج بحثاً (خارجيّاً) خارج الكتاب والسنّة، أما تعاليم الإسلام وأحكامه وإرشاداته فتحتاج بحثاً (داخليّاً) للكتاب والسنّة.

وعندها سنكتشف أنّ الكتاب والسنّة يأمراننا بالاتجاه خارجهما لعمارة الأرض، والالتزام بهما في السلوك والأخلاق والعقيدة.

يروي الشيخ الشعراويّ في تفسيره أنّه “سُئل الإمامُ محمّد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في إرْدَبّ الدقيق(3)؟.

 فقال: انتظروا.

واستدعى خبّازاً وسأله: كم رغيفاً في إردبّ القمح؟

فقال له: كذا رغيفاً. فقالوا له: أنت تقول إنّه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]”

ها هو القرآن الكريم يرشدنا للمتخصّصين في كلّ علم.

لكنّ حال بعض المنتكسين كالطالب الكسول الذي يعلّمه أستاذه تفاصيل علم ما في كتاب جامع لمسائل وقواعد ذلك العلم، في الكتاب القواعد التي يحتاجها كلّها في هذا التخصّص العلميّ، ثم يكلّفه ببحث التخرّج، وهو بحث تطبيقيّ يقوم به التلميذ وحده، فيأتي التلميذ ولم ينجز بحث التخرّج، متعلّلاً بأنّه نظر في الكتاب الذي أعطاه إيّاه أستاذه لعلّه يجد فيه بحثه المطلوب وحلول مشاكل البحث،  فلم يجدها، فيوبّخه أستاذه ويقول له: لن تتمكن من هذا العلم هذا حتّى تستطيع بنفسك تطبيق قواعده ومبادئه في تطبيقات جديدة ليست موجودة في الكتاب.

وبعضنا كهذا التلميذ الكسول، يريد علوم الكون كلّه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة!

كالقاعد عن الجهاد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)) ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)) 

فالكتاب والسنّة للهداية وليس موسوعة علميّة تجد فيها الاكتشافات والاختراعات العلميّة.

فلإنسان دور أساس في فهم تعاليم القرآن، واكتشاف علوم الأكوان.

ورد في بعض الآثار “ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه” قال العلماء في بعض تأويلاته أي: عندما يخالف القارئ تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته!

فالقرآن الكريم يدفع بنا للانطلاق خارجه، والنظر في الآفاق والأنفس، ونحن نعود وننكفئ عليه مخالفين أمرَه!!

____________________

1) ينظر: تفسير الطبريّ، وتفسير الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطيّ، عند تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]

2) اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ، 8/128

3) مكيال قديم يسع 24 صاعاً أي ما يساوي 60 كيلو غرام تقريباً.




مدرسة المسيري وأسئلة الواقع

ما زال كثير من نخبنا العربية من الإسلاميين المنحدرين من خلفية يسارية أو من التوجه الإسلامي الصرف، مولعون بنقد الحداثة أو الرأسمالية أو (الحضارة الغربية) بين قوسين، وهو ترف فكري لم يعد له كبير فائدة في أيامنا، لأن هذا الخطاب استفرغ أغراضَه وأدّى دورَه، فلم تعد الأكثرية مبهورة بالغرب كما كانت في بداية القرن الماضي، فالكتابات الإسلامية في بداية القرن الماضي كانت دواء لتخفيف حالة الانبهار بالغرب أمام تخلّف دولنا، لكن هل من الصواب الاستمرار بهذه الاستراتيجية (التركيز على نقد الحداثة) إلى ما لا نهاية؟ أما آن لنا أن ننتقل إلى خطوة ثانية؟

 لأن الحداثة ليست منتجاً غربياً خالصاً، فالإنسانية كلها ساهمت بصناعتها، وإن كان للغربيين نصيب الأسد! إلا أن ذلك لا يلغي مساهمات بقية العقول (التي لطالما بكينا هجرتها)، هاجرت وساهمت في نهضة الدول المتقدمة وما تزال تساهم، فالدول المتقدمة هيّأت بيئة حاضنة للتطور.

 والنقد للحداثة كان أعمقه وأقواه من كتّاب غربيين أصلاً، إما ينقدون بدافع النقد الذاتي بهدف تطوير وتصحيح ما يرونه من أخطاء، وإما انطلاقاً من مخالفة إيديولوجية للفكر السائد كيساريي الغرب مثل: نعوم تشومسكي وغيره، ومثل عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عندنا.

وما نخبنا أو أكثرهم إلا مترجمون لهذه الانتقادات، ونقد الحضارة الغربية في كثير منه نوعٌ من التعويض عن مركّب النقص عندنا!

وبين قوسين: فإن أفضل من نقد الرأسمالية هو ماركس في كتابه: (رأس المال) لذلك يطرب الإسلاميون لنقد اليساريين للرأسمالية الغربية، وبالمقابل يرفضون الشيوعية والاشتراكية، ويقولون: عندنا نظرية ونظام اقتصادي خاص.. يجب أن نستخرجه.. ونحن ننتظر إخراج هذا النظام الفريد! فتجد كتابات جاءت بالنظرية الرأسمالية أو الاقتصاد الحر ووضعت له طربوشاً إسلامياً. 

وكتابات أخرى جاءت بالنظرية الاشتراكية ووضعت لها طربوشاً إسلامياً أيام ازدهارها، وكتابات أخرى تلفق بينها..

ولعلّ الصواب مع الفريق الثالث، فالحل مركّب بين النظريتين، فالأصل اقتصاد حر مع مراعاة حقوق الضعفاء وضمانها بتدخّل الدولة الذي يقيّد طمع وجشع الأقوياء ويحمي الضعفاء.

الاعتراف بدلاً من الهجاء:

المطلوب الاعتراف بجوانب القصور والتخلّف في بلادنا وجوانب الإشراق والإحسان في ديارنا، وبالمقابل الاعتراف بتطورهم عنا في كثير من المجالات وافتقارهم وانحرافهم في جوانب أخرى.

بدلاً من أن ننهال عليهم نقداً وذماً دون إنصاف، فلا نحن استفدنا من تجاربهم فيما أجادوا فيه، ولا طوّرنا أنفسَنا فيما قصّرنا فيه، كقول ذلك الأعرابي: (أوسعتهم شتماً ومضوا بالإبل)، فالهجاء لا يغيّر من الواقع شيئاً.

حالنا كالمدير الذي تراجعت شركته الكبيرة، فجمع تقاريراً عن أخطاء وعثرات الشركات الناجحة المنافسة التي تفوّقت على أرض الواقع وحققت النجاحات، واجتمع مع موظّفيه وبدأ يذكر لهم عيوب وسلبيات الشركات المنافسة، ليستعيدوا الثقة بشركتهم ويحتقروا المنافسين!

 هل هذا المدير يحسن لشركته وموظفيه؟ أم أنه يخدع نفسَه وأتباعَه؟

 إنّ الرائدَ ينبغي ألا يكذبَ أهلَه، فعلى المدير أن يعترف بتراجعهم أولاً ثم يبحث عن أسباب الفشل ويعالجها، ويبحث عن عوامل نجاح الآخرين فيستفيد منها، ويخطط للنهوض مرة أخرى، ويشجّع موظفيه ويثير فيهم الحماسة، ويقنعهم بإمكانية استئناف النجاح والعودة، إنْ استفادوا من خطط المنافسين، فأخذوا المناسب منها وطوّروا أساليب ووسائل أخرى، حتى تنهض الشركة مرة أخرى وتحقّق نجاحات جديدة، وتصل لدرجة المنافسة لغيرها بإذن الله تعالى.

 وهذا يحتاج جهداً ووقتاً واهتماماً كبيراً، لكننا نستسهل الأمور، ونكتفي بهجاء الآخرين، وكأنّ الهجاء سيعيد لنا الماضي الجميل! هيهات هيهات!

إنّ إدمان ذمّ الحداثة ومنتجاتها له أثرٌ سلبي على الأمم المتخلّفة، وهو أنه يمنعها من مصدر هام من مصادر المعرفة ألا وهو الاستفادة من التجارب والخبرات البشرية المتطوّرة.

الاستفادة من الآخرين:

 قديماً قال إمبراطور صيني: “النجاح يبدأ بالتقليد الأعمى، ثم بالتقليد المبصِر، ثم يأتي الإبداع”.

 ونحن بما توفّر في عصرنا من علوم ووعي ووسائل نقل للمعلومات لا ننادي بالتقليد الأعمى، بل (بالتقليد المبصِر) بداية، التقليد الذي يفهم ويميّز ويختار من وسائل وأدوات وعلوم وأفكار الأمم المتقدمة (التجارب البشرية) ما يناسبنا، التقليد الذي يعدّل ويطوّر ما لا يناسبنا.

 وحتى نطمئن فإنّ التعديل سيحصل -لا محالة- فعندما نكتفي باستيراد الأشياء الجاهزة فقط، سنقع (بالتقليد الأعمى)، لكننا ننادي (بالتقليد المبصِر) ولا يحصل ذلك إلا إنْ بدأنا ننتج ما نحتاجه بما يناسبنا.

الاختلافات بين الشعوب: 

ومما يجدر التأكيد عليه أنّ المواصفات الخاصة بنا ليست فروقات جذرية بكلّ شيء، بل الإنسانية تشترك بأكثر من 80 % من الحاجات والقيم والعادات والأفكار، وتختلف ببعض الأشياء التي تتأثّر بثقافتهم وبيئتهم.

 وهذه الاختلافات ليست كلها بسبب الدين، بل كثير منها يرجع للعرف ولتأثير البيئة والتجارب التاريخية للأمم، وهذه الأشياء المحلية ليست ملزمة لنا كما لا يخفى، ولتوضيح الأمر أكثر أقول: الإسلام جاء بقيم عامة وأحكام ثابتة لكل زمان ومكان، ولم يأت ليعمّم عادات وتقاليد بيئة على بقية البيئات، فالذي تأثّر به المسلمون في كل الكرة الأرضية (من تعاليم الإسلام)، والقاسم المشترك (من تعاليم الإسلام) بينهم في كل الأرض هو الذي يمثّل جوهر الدين، وما يختلف به المسلمون من عادات وتقاليد وغيرها، فهذا ليس من الدين في شيء، فمشروعنا الإسلامي ليس تعميم العادات والتقاليد العربية على البشرية!

 ولنضرب مثالاً يزيد توضيح الفكرة: اللباس له أشكال وألوان في العالم الإسلامي، والقاسم المشترك بينها هو ستر العورة وهذا هو أهم الواجبات إسلامياً (ستر العورة)، أما ما اختلفت فيه البيئات من أشكال وألوان الألبسة فكلّها مباحة، وهي راجعة لتأثير بيئة تلك المناطق وأعرافهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهو أمر متسامح فيه ما لم يكن فيه محرم (كلباس الحرير للرجال) فأهم شيء في اللباس هو ستر العورة.

 ومثلها البيوت، فبيوت المسلمين في كل العالم مختلفة اختلافاً عظيماً، وذلك حسب بيئة تلك البلاد ومناخهم والموادّ المتوفّرة عندهم وأذواقهم، فلم يُلزمهم الإسلام بنمط معين أو شكل خاص؟!!

فلم يأتِ الإسلام بأشكال خاصة لبناء البيوت، وإنما جاء بتعاليم عامة كأن تحفظ حقّ جارك، ولا تعتدي عليه ببناء بيتك، ولا تبني على أرض ليست ملكك، أما ستر العورة فليس شرطاً أن يحققّ البيتُ ذلك، فستر العورة يتحقق باللباس، فلا يشترط في البيت أن يستر العورة! 

فلو افترضنا أنّ إنساناً سكن بيتاً له سقفٌ وليس له جدران، لجاز له ذلك، ويجب عليه ستر عورته باللباس أو الغطاء..

 حتى المساجد ليس لها مواصفات خاصّة، فالمهم أن يكون هناك مكان يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم واجتماعاتهم ودروسهم وخطبهم، ورحم الله الخليفة الزاهد عمر رضي الله عنه، قال يوصي من يريد بناء مسجد: (أكنّ الناس ولا تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس) أي أظلّ الناس ولا تزيّن المسجد بالألوان الصفراء والحمراء وغيرها فتشغل الناس وتفتنهم، والفاروق عمر رضي الله عنه هو نفسه عندما زار بلاد الشام وهمّ بالإنكار على المسؤولين للتفاخر بأبنية المساجد، أقنعه المسؤول هناك أنّ الناس في بلاد الشام يرون عظمة الكنائس فيريد ألا يظهر الإسلامُ ضعيفاً، فسكتَ الفاروق!

يمكن أن نقول إنّ تعاليم الإسلام تظهر على أبنية المسلمين بتجنّب الصليب والتماثيل لذات الأرواح، وتعتمد بدلاً عنها الزخرفة النباتية والهندسية.. متأثرين بتعاليم الإسلام التي تحرّم ذلك، وهذا أمر طبيعي، لكن لو جاء قوم كالفُرس وتفننوا بالفسيفساء في مساجدهم هل نقول لهم: عليكم التزام نمط آخر في أبنيتكم وزخرفتكم؟!!

فكلّ بيئة تبني كما هي أنماط أبنية بلادهم مراعين ظروفهم البيئية، ومواد بنائهم الأساسية، وذوقهم العام، وقد فعلها المسلمون تلقائياً دون وجود لأحكام فقهية متنطّعة أو مبالغة تتدخّل بشكل البيت وصفاته! 

والذي يهمنا هنا البيوت الحديثة هل هي منافية للإسلام؟!! أو هل هناك مدينة إسلامية وبيوت إسلامية وبنايات إسلامية كما يروّج بعض المثقفين؟

أعتقد أن الإسلام لا يتدخّل بهذه التفاصيل، بل يقول لك: اجتهد واختر البيت والنمط الذي يحلو لك فهذا داخل تحت المباحات.

والمسلم الحريص سيضع وحده السواتر والستائر التي تحفظ عليه ستر العورات، كما أنه سيراعي ذلك بالتصميم والتخطيط، حتى يرتاح من ستر العورة باللباس والأغطية، ولأن فطرة الإنسان أنه يحب أن يأوي إلى بيت يحميه من الحر والبرد ويحجبه عن أعين الناس، ويحقّق له الخصوصية.

بعض الأطروحات المتشنّجة من منتجات الحداثة ومفرزاتها توهمك أنّ: الإسلام معادلة كيميائية صعبة التطبيق، بل مستحيلة، لأنّ قيم الحداثة مغروسة في كيمياء منتجاتها، وتحتاج أن تعيد تذويب المنتجات وأن تشكّلها من جديد كما تملي عليك الفلسفة الإسلامية –بزعمهم-، وعليك أن تكون حذراً فلعلّ (جُزَيْئاً) هرب منك من قيم الغرب -المتسربة في منتجاته- ولم تستطع تفكيكه وإبعاده؟!!

بينما الأمر أسهل من ذلك وأهون، وقد استفاد الصحابة الكرام من كلّ الحضارات دون شعور بالدونية أو الانبهار.

كما أنّ المسلمين الجدد لم يهدموا بيوتهم ليبنوا بيوتاً إسلامية!

الدوّامة:

هذه الأطروحات تدخلنا في دوامةً لا مخرج منها، و(تضع العِصِيَّ في العجلات) كما يقال، فندخل في مأزق لا مخرج منه، فلا نستطيع التقدّم ولا التأخّر.

المشكلة في هذه الأطروحات أنك تطالبهم بحلّ، فيقولون لك: تعايش مع الواقع فلا بدّ أن نجد حلاً.. وما زلنا ننتظر الحل، وتمضي الحياة قدماً وتتلبّس بمنتجات الحداثة أكثر وأكثر، وهم ينقدون دون حلول واقعية عملية!

المتغيرات والثوابت:

الحقيقة أنّ إسلامنا جاء بقيم وأحكام تفصيلية ثابتة فيما شأنه الثبات كالأحكام التي تتعلق بالأفراد كالعقائد والتصورات والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث، وجاء بتعاليم وأحكام عامة مرنة فيما شأنه التطوّر والتغيّر كقضايا الشأن العام كالنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والسياسي، وترك للبشر أن يطوّروا أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لأنفسهم مراعين تعاليم وأحكام دينهم العامة في ذلك الشأن.

أما في مجال الوسائل والأدوات والأنظمة فالباب مفتوح على المصراعين للاقتباس والاستفادة من تجارب البشر وعلومهم واختراعاهم بما هو مباح، لأن الأصل في كل ذلك الإباحة حتى يأتي (أمر أو نهي) فيتحوّل المأمور به إلى مندوب أو واجب، ويتحوّل المنهي عنه إلى مكروه أو حرام، حسب درجة الأمر أو النهي وضرورتهما.

وهذه الأوامر والنواهي هي التي تعطينا هويتنا و(بصمتنا الخاصة)، فنجري التعديلات على منتجات الحداثة، بأن نطالب بمواصفات خاصّة بنا، قبل استيراد شيء من منتجات الحداثة أو بعد استيراده (إنْ لم ننتبه لما لا يناسبنا) لو ظهرت لنا سلبياته فيما بعد!

وهذا حاصل بطبيعة الحال فحتى لو استوردنا شيئاً يخالف هويتنا وذوقنا فقانون السوق الطبيعي في (العرض والطلب) سيجعل غالبية المستهلكين الذين يراعون هوية مجتمعاتهم يُقْبِلون على نوع يراعي هويتهم، وتكسد سُوْقُ النوع الذي لا يراعي هويتهم، وبالتالي سيضطر التجار والصنّاع لترك ما لا يراعي بيئتنا والإتيان بما يراعيها..

فالموضوع ليس (مفاصلة) مع منتجات الآخرين بل إصلاح طبيعي متدرّج لمنتجات الحداثة، وتأقلم مع بعضها أيضاً، فالحضارات تتفاعل وتتناقح. 

الحداثة والفطرة:

حتى تكون دعوةُ الإخوة -الذين يحذّرون من منتجات الحداثة الغربية المتلوثة بالقيم المخالفة للإسلام- واقعيةً عملية مفيدة ندعوهم لذكر المحذورات وتحديدها وليقدّموا حلولاً واقعية، حتى نراعيها في إنتاجنا واستيرادنا (في الحسيّات والمعنويات والأنظمة) ولا يطلقوا الكلام إطلاقاً.

 كما نطالبهم بأن يكونوا واقعيين موضوعيين منصِفين في تقييم سلبيات الحداثة فكثير مما يذكرونه من عيوب موجود في مجتمعاتنا الشرقية وفي منتجاتنا القديمة والحديثة، فكثير من عيوبنا الاجتماعية والخلقية والسلوكية كانت موجوداً قبل هذه المنتجات الغربية، فلا ننظر لسلبياتها فقط بل لإيجابياتها أيضاً.

فعندما ينقدون حبّ المال وتكديسه وتحقيق الأرباح ومحاولة تقليل أجور العمال ورفع الأسعار، ومثل هذه المعاني هذا ليس خاصاً (بالرأسمالية الغربية) بل هذا في فطرة الإنسان منذ فجر التاريخ.

الواقع غلّاب:

وأهم نقطة هنا هي أن أسئلةَ الواقع ملحّةٌ، ولا تحتمل التأجيل أكثر، يا نخبنا العزيزة: أعطونا حلولاً عملية تفصيلية!

 لكن كثيراً منهم مشغولون بنقد الحداثة ومنتجاتها المادية الغربية كنظام الديمقراطي السياسي، والتوحّش الرأسمالي الاقتصادي، والقيم الليبرالية الثقافية..

ونحن نقول: ربما كان نقدكم صحيحاً في بعض جوانبه، لكن ما الحل الذي نطبّقه في واقعنا وبيوتنا ومؤسساتنا؟

بل ما الحل لبلداننا التي قمنا فيها بثورات، ما الحل غير (الديمقراطية السياسية)، و(الحرية الاقتصادية) الذي تتدخل فيه الدولة لحفظ حقوق المستضعفين، و(الحرية الاجتماعية) المسؤولة بما لا يؤذي الآخرين؟!

ما الحل العملي بغير ذلك؟

وهنا يقول بعضهم: لسنا نحن من ينقد الحضارة الغربية بل الغربيون أنفسهم ينقدونها، ونقول لهم: 

الغربيون حينما ينقدون منتجات حضارتهم كالذي سكن بيتاً فارهاً في مجمع سكني راقٍ ثم طلبتْ منه الشركة العقارية التي نفّذت بناء المجمع السكني ملأ (استمارة للشكاوى) بقصد التطوير، فجلس يتأمل أشهراً ويجمع الملاحظات والعيوب التي يراها ثم -بعد أشهر- قدّمها لإدارة المجمّع.

فجاء رجل مقاول غشّاش يبني البيوت بمواصفات رديئة سيئة في أحياء عشوائية، وصوّر ورقة الشكوى بما حوته من الملاحظات السلبية لذلك المجمع الراقي، وجمع السكان من الفقراء والمساكين في العشوائيات التي بناها، وبدأ يقرأ عليهم الملاحظات، ويقول لهم: هذه المجمعات التي أنتم مفتونون بها اقرؤوا بماذا يصفها أصحابُها؟!!

أشعر أننا في بلادنا العربية المتخلّفة مثل أولئك الفقراء والمساكين.. وبعض نخبنا يذكرون لنا عيوب الحضارة الغربية وسلبياتها!

المشكلة أن كلّ الأمم عرفت الطريق وهو التنافس الحضاري والعلمي والتقني وعرفوا مضمار السباق ودخلوه وهم يتنافسون في التحديث والتطوير والاختراعات، ونحن مازلنا نتناقش هل هذا هو الطريق أم لا؟

الطريق واضح وسنن التطور واحدة فالنهضة العمرانية المادية واحدة عند كل الشعوب وهذه لا هوية لها فهي وسائل حيادية، أما الهويات (ديناً ولغةً وتاريخاً وعادات وتقاليد) فلكل أمة هويتها.

انظر إلى اليابان أتت بمناهج الحضارة الغربية، وحافظت على هويتها الحضارية، وقامت بنهضتها ونجحت، وانظر إلى ماليزيا وكلمة زعيم نهضتها مهاتير محمد التي لخّص فيها منهجهم: (عندما أردنا الصلاة اتجهنا صوب مكة وعندما أردنا بناء البلاد اتجهنا صوب اليابان”

وانظر إلى تركيا وكيف وضع حزب العدالة والتنمية الحاكم هدفاً وهو دخول الاتحاد الأوربي ليستوردوا المعايير الأوربية الدنيوية وينهضوا بها مادياً وعمرانياً، وبالمقابل كيف دعموا التوجّه الإسلامي في تركيا كهوية ودين وتاريخ، وحققوا نهضتهم.

وعلى كل حال نحن لو حسمنا أمرنا وقرّرنا الدخول في هذا السباق فلن نجد الطريق معبّداً بل المضمار مزدحم والتنافس شديد.

ستزول الفروق:

وبما أنّ البشرية تشترك بالفطرة الإنسانية الواحدة، وغالبهم عندهم إرث من النبوات التي ما خلا منها بشر: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، والبشر يشتركون بأكثر من 80 % من القيم والأخلاق، فأظنّ أنّ الزمان قد تقارب وبخاصة في زمن وسائل التواصل والمواصلات، وتفجّر المعلومات، وأنّ إمكانية حوار الحضارات وتفاعلها الإيجابي واقتباس البشرية تجارب بعضها أصبح أسهل مما نعتقد، وبخاصة في ثورات الترجمة الفورية التي نشهدها، وهذا سيسهّل عملية الاقتباس والاستفادة وسيجعل الحدود المادية بين الدول لا أثر لها تقريباً، فالعلوم والمعلومات ستسيل بين الناس ولن يحجزَها شيءٌ، وهذا سيُسرّع عملية التصفية والاقتباس من الأفكار والاختراعات وأن النتيجة أن البشرية ستشترك بـ80 % (أو أقل أو أكثر) من العادات والتقاليد والأفكار والمخترعات، وسيبقى لكل قوم بصمتهم الخاصة التي لن تتجاوز 20 % (تقريباً) من حياتهم وتلك 20% ستكون انعكاساً لثقافتهم وبيئتهم.

وهذا التفاعل والاقتباس نلاحظه عند الأشخاص دائمي السفر تجد حياتهم خليطاً من العادات والآلات المختلفة لأنه يقتبس من كل قوم ما راقه.

والآن في عصر التواصل أصبح الجميع يسافر، فبدلاً من أن تسافر لتشاهد وتجرّب أصبحت منتجات الأرض وشعوبها وعاداتهم تأتي إليك عبر المعلومات وبالصوت والصورة.

والجدير بالتذكير هنا أنّ التقوقع على النفس والخوف على الهوية الذاتية ليس هماً ننفرد به نحن المسلمين، بل كل الأمم عندها هذا الهاجس، لكن وسائل التواصل والإعلام وثورة المواصلات والاتصالات بما تهدمه من أسوار العزلة بين الأمم، ستجعل البشر يتبعون الأصلح لهم والأكثر فائدة والأجدى وسيجعلهم يتجاوزون كثيراً من هذه المخاوف والهواجس وسيكون ضغط الحياة العملية الواقعية أقوى من الجميع، وسينحاز الناس إلى مصالحهم وإلى الأنفع لهم، وإن كان البعض سيجامل الداعين للتقوقع على الذات، فذلك بقلوبهم فقط وواقعهم مع الحداثة، وسيبقى المنادون بمقاطعة الحداثة كالـ(الفلكلور الشعبي) القديم، هم في وادٍ، والناس في واد آخر.

وهذا ينبغي ألا يخيفنا فديننا فيه مؤهّلات قابلة للبقاء والانتشار إذا أحسنّا فهمه وتطبيقه والاستفادة منه لأنفسنا أولاً، فعندما يصلحنا لن يتوانى الكثيرون عن اعتناقه، لكن لو بقينا لا نحسن التعامل مع ديننا فسنكون أكبر الصادّين عنه (ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا).




لماذا يخافون الجهرَ بآرائهم التجديدية؟

جراحة في الأعماق

المقدمة

جمعنا من عدة أيام مجلس مع أحد رموز الحركة والفكر الإسلامي ودار الحديث بمواضيع متعددة، وكان يصرّح بآراء جريئة ومفيدة للساحة لكنها تخالف السائد المعهود، فقلتُ له: سيدي لماذا لا تعلن ذلك؟ قال: أنا أقولها هنا وأنا خائف! 

حتى عبارة: (عنده أفكار خاصة) تعدّ في كثير من الأوساط، كلمة جَرْح، لا وصف مدح، في حقّ العلماء وطلاب العلم، وكأنّ الواجب أن نكون نسخاً كربونية عن بعضنا بعضاً!!

مع أن العقلاء يبحثون عن الأفكار الجديدة، أي المختلفة عما يعرفونه، لأنّ وجهة النظر الجديدة ربما كانت أفضل وأعمق وأصحّ من الأفكار التي نشؤوا عليها!

حتى مصطلح (طالب علم) هل هو طالب لنفس المعلومات التي نشأ عليها؟ أم يطلب المعلومات الجديدة؟!

ظاهرة كتم الآراء قديمة معروفة:

ظاهرة كتم الآراء المخالفة ظاهرة مكرّرة في كل زمان ومكان وعلى أعلى المستويات، فالفلاسفة القدماء وكبار المفكرين في أوربا لطاما تعرّضوا للنقد المؤلم والاعتقال وإحراق الكتب والطرد وحتى الإعدام في عصورهم المظلمة.

وفي تاريخنا حرق الكتب والمؤلفات كان حاضراً وإن كان بنسبة أقل.

ها هو الإمام ابن تيمية رحمه الله يموت في السجن بسبب آرائه التي خالف فيها الرأي السائد، بوشاية من علماء زمانه!!

فحرية التفكير والتعبير تحدٍ كبير يقف في وجه كتم الآراء، وسيستمر التدافع بين الانفتاح والانغلاق مادامت السماوات والأرض.

وهنا يأتي سؤال: إذا كان الأمر قديماً وسيبقى فما الداعي لإثارة الموضوع إذن؟

الجواب:

نحن الآن في عصر السرعة والمعلومات، والحياة تتطور بسرعة شديدة فكل يوم اختراعات وتطورات، والواقع تغيّر كثيراً فينبغي ان نتسلّح بآليات مرنة في التعامل مع المعلومات، وديناميكية سريعة في تطوير الأفكار والتمحيص فيها، وهذا يتطلب جواً منفتحاً لطرح الأفكار ومناقشتها، أما التحفّظ والانغلاق سيجعلنا خارجنا المعادلة تماماً.

فعصرنا تغيّر عن العصور السابقة، ولم تعد تنفع كثير من الأقوال القديمة، ولو بقينا نتهيّب الاجتهاد، فسينحسرُ الإسلام عن حياة الناس رويداً رويداً، وسيبقى كعقائد وتصوّرات ذهنية، وعبادات فردية طقوسية!

ولو نوينا التفاعل والانفتاح فنحتاج إلى سرعة مذهلة للمواكبة في هذا المضمار، فكيف ونحن ما زلنا مُعْرِضِين وخائفين ومنكرين على من يقتحم المضمار؟!

فتطوّر الوسائل والآليات والمخترعات المادية والمعنوية تحتاج جواً علمياً منفتحاً على كلّ رأي جديد نافع.

وأسارع فأقول: مقالي هذا للصادقين المتخصّصين الراغبين بالإصلاح، وليس للمبتدئين، ولا لمن يريدون الإفساد باسم التجديد، وعلى كل حال فالمفسدون لا ينتظرون تشجيعاً من أحد ففسادهم يملأ الآفاق، كلامي هنا للراسخين من المتخصّصين فلولا تقصيرُهم لما تجرأ غيرُهم على الإقدام.

لذلك سأذكر في هذا المقال أسباب الخوف من الجهر بالآراء، وأناقشها حتى نكون واعين بهذه البواعث، فليست كلها مخاوف مشروعة..

فما هي أسباب عدم الجهر بالآراء الخاصة؟!

نستطيع تقسيم الأسباب التي تجعل الناس لا يجهرون بآرائهم الخاصة إلى سبعة أسباب رئيسة، يندرج غيرها تحتها.

وحتى نكون منصفين ليست كلّ الأسباب سيئة، لذلك سنبدأ بالبواعث والأسباب الخيّرة ثم أتبعها بغيرها:

أولاً: أسباب دينية:

الخوف من الخطأ والضلال:

فالكثيرون يخافون الخطأ وتبعاته كاتباع الناس لهم في تلك الآراء، فيحملون أوزارهم، لذلك لا يتكلمون بآرائهم الخاصة خشية أن تكون خاطئة، وبالتالي الخوف من شقّ الصفّ والفتنة.

الخوف من تبعات بعض الرخص الشرعية:

المقصود بالرخصة هنا: الرأي الفقهي الذي فيه تيسير على الناس، وليس المقصود الرخصة الخاصة بحالات السفر أو المرض أو الضرورة أو غيرها فقط!

هناك طلاب علم وعلماء يتبنون آراء (غير مشهورة) فيها ترخيص وتخفيف في مسائل فقهية، وهم أنفسهم يفعلون تلك الرّخَص، ولا يفتون بها غيرَهم، وربما كانت تلك الرخص فيها فسحة وسهولة بأمر عمّت به البلوى، بل عامة الناس يتجنّبونها ويعتقدون أنّ فعلَهم لتلك الرخصة أمرٌ محرّم، ولو اضطر العاميُّ وارتكب ذلك المحظور (برأيه) يعذّبه ضميره، ويشعر بالذنب الذي قد يؤدّي لأن يعتقد في نفسه أنه مرتكب لمحرم، وبعيد عن الله تعالى! وربما أدّى به ذلك أن يترك واجباتٍ ويرتكب محرماتٍ أخرى، فهو الغريق فما خوفه من البلل؟!!

ورغم ذلك، لا ينشر طلاب العلم تلك الرخص، بين عامة الناس لحجج وأعذار متعددة، كأن يقول طالب العلم في نفسه: أنا أتحمّل مسؤولية نفسي أمام الله تعالى 

لكن لن أتحمّل مسؤولية غيري!

أنا لن أتوسّع بالترخّص وربما توسّع هذا العاميّ!

أنا أعرف ضوابط ومحددات هذه الرخصة، بينما العاميّ ربما لا يعرفها أو يهملها ولا يراعيها أو ينساها!!

ويُقال لهؤلاء: كثيرة هي أحكام الدين التي لها ضوابط، فلماذا نعلمهم تلك الأحكام المفصّلة، ولا نرشدهم لهذه الرخص؟! ثم لماذا نظنّ أننا نراعي الضوابط ولا نتوسع، ونظن بالناس السوء وأنهم سيتوسّعوا؟!

اعتقاد أفضلية أقوال السابقين:

 لأنهم الأفهم والأعلم والأتقى والأورع لأنهم الأقرب من عصر التشريع، وبالتالي لا يجوز أن نخالف أقوال السلف، فأين نحن وأين هم؟! ويمكن تسمية ذلك الخضوع لسلطة القديم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)

وهنا ينبغي الانتباه إلى أنّ أفضلية أقوال السابقين ليست على إطلاقها، فاجتهادهم أَوْلى لزمانهم، واجتهاد علماء العصور التي تليها أقوى لزمانهم، فعلماء كل عصر أدرى بظروف وملابسات زمانهم.

عدم الخضوع للواقع المنحرِف:

فمع اعترافهم بتغيّر الواقع إلا أنهم يرون أنّ الحل ليس بالخضوع للواقع بل بتغييره، فواجب الدعاة والعلماء والجماعات الإسلامية تغيير الواقع حتى يتوافق مع أقوال العلماء القدماء، وعدم البحث عن اجتهادات جديدة تناسب الواقع وترقّعه.

وهذا الكلام ابتداء صحيح، لكن ليست كلّ التغيرات كانت للأسوأ بل كثير منها كان للأفضل، كانتشار الوعي والعلم والنظافة والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم ومظاهر التحضّر، ثم إنّ كثيراً من التغيرات كان باتجاه التعقيد كالعقود والمعاملات، وأحياناً باتجاه التبسيط، وكل ذلك لا علاقة له بالخير أو الشر، فهنا ينبغي إيجاد أقوال تراعي هذه التطورات، ولا نقصد التسامح مع الفساد والانحرافات، والخضوع لها.

ثانياً الأسباب المنهجية المعرفية:

 التربية العلمية على التقليد في البيئات المتخلّفة:

 فمهمة طالب العلم حفظ الكتب المقرّرة، والتفنن بنشرها والدفاع عنها، في مثل هذه البيئة ينعدم الشك المنهجي ونفقد التشجيع على البحث عن السؤال المعرفي الذي يعيش طالب العلم ليحلّ هذا السؤال، ويبلور إجابات علمية عليه، وكلما أنهى الجواب عن سؤال بحث عن غيره من الأسئلة.

في مثل تلك الأجواء تنشأ العقول البسيطة التي تكتفي بما تتشرّبه من أفكار سائدة في المجتمع، فيعتقدون أنّ هذا هو الحقّ وكل ما خالفه خطأ وضلال، فلا يخطر ببالهم أن يبحثوا عن أفكار أخرى أصلاً!

فالمنهجية العلمية التي تُنتجها بيئةُ التقليد تعتمد الاعتكاف والانكفاء على علوم السابقين تحقيقاً وجمعاً وتلخيصاً وحفظاً ونشراً، والقياس على أقوالهم (في أحسن الأحوال)، فأكبر همّ طالب العلم الحفظ والتكرار لعلوم السابقين، وهي كتب لا تنتهي، فهم في دوّامة (كثرة المصنّفات) كيف سيخرجون منها!! هي أشبه بالسجن المؤبّد مع الاشغال الشاقّة (في الدول المتخلّفة) فلا ينتهي السجين من حفر حفرة، حتى يردموها ويشغلوه بغيرها وهكذا..

 بدلاً من أن يُوجّه الطالب للنقد والتطوير والبناء العلمي المتطوّر، فاللاحق يبني على السابق، وهكذا يتكامل الصّرح المعرفي ويتطوّر بشكل مستمر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها! (وحتى عندها أُمِرْنا أن نستمر بعمارة الأرض ولو لم نشاهد الثمار).

الفكر الأيديولوجي:

الفكر الإيديولوجي وأقصد به: منظومة الأفكار والمعتقدات والفلسفات التي يعتنقها فرد أو جماعة تفسّر بها الواقع وأحياناً تقدّم طريقة لتغيير الواقع المنحرِف للحالة المثالية التي تتخيلها.

المشكلة بهذه النظرة أنها تقدّم تصورات غير قابل للنقد أو التطوير، وتعتبر كل فكرةٍ مخالفةٍ شبهةً ينبغي الردّ عليها وضلال ينبغي محاربته، أما عندما تكون الإيديولوجية مفتوحة ومرنة أي تقدّم معلومات مبدئية وقابلة للنقد والتطوير فعندها لا تشكّل مشكلة؛ لأنها تبقى مفتوحة وقابلة للتطوير عبر الاجتهاد البشري.

فمن يتبنى إحدى الإيديولوجيات يحصر فكره في نشرها والدفاع عنها، لا في نقدها وتطويرها.

الخوف من الحيرة العلمية:

 كثيراً ما يبتعد الشخص بنفسه عن النقد والتفكير بالجديد، خوفاً من التفكير والقلق الفكري، والشكّ المعرفي، والركون إلى راحة البال والسكون والطمأنينة المزيّفة.

فالانتماء لمدرسة فكرية وتبنّي كلّ آرائها يعطي المنتسِب لها طمأنينة مباشرة، وراحة من عناء التفكير والمقارنة والترجيح، لكنها طمأنينة العاميّ الذي تبنّى الفكر الذي نشأ عليه وركن إليه، وليست طمأنينة العالم الذي وصل للحقيقة بعد رحلة علمية شاقة، فالبون بينهما شاسع، وصدق الله العظيم القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)

ثالثاً: أسباب علمية: 

عدم معرفة أدوات الاجتهاد والتجديد:

 وعدم التمييز بين الثوابت والمتغيّرات بين المبادئ والوسائل، بين الأهداف والأدوات، وعدم معرفة ما فيه مرونة ويمكن تغييره، وما فيه صلابة ولا يجوز العبث به، فيظن أنّ كلّ شيء ثوابت لا يجوز تغييرها أو التفكير في ذلك أصلاً.

تهيّب مخالفة المألوف العلميّ:

عدم الثقة بالنفس وما يمكن تسميته: (الجبن العلمي) وعدم الجرأة على اقتحام المشكلات العلمية أو الإشكالات المعرفية، أو مخالفة السائد المحفوظ.

الخوف من مخالفة غالبية العلماء:

واعتقاد أنّ الحقّ دائماً مع الجماعة الأكثر عدداً من العلماء مع أنّ الحقّ مع الأقوى حجة ودليلاً وليس مع الأكثر عدداً وأعزّ نفراً، فكم خالف عالم محقق من علمائنا الغالبية، وكان الراجح مع الفرد.

الخوف من عدم نضوج الرأي علمياً:

فالإتيان برأي علمي جديد أو يخالف المألوف يشعر معه صاحبه بأنه يحتاج تريّثاً وتأكّداً ومراجعة، وهذا حقّ لا ريب فيه، فالحقّ غالباً مع غالبية المتخصّصين، لكن هذا ليس قاعدة مطّردة، فإذا ظهر للمتخصّص رأيٌ فيه إشراق علمي جديد، عليه أن يتأكّد بمزيد بحث واستشارة للمتخصّصين، فمخالفة الجمهور ليست ممنوعة، لكنها ليست سهلة بنفس الوقت.

 لكن المبالغة والإحجام عن الصدع بالرأي العلمي الجديد الذي استفرغ به الباحث وُسْعه، ولم يألُ فيه جهداً، والامتناع عن نشره خوفاً من الخطأ أو تبكيت الآخرين وإنكارهم، هنا ينقلب التريّث والحذر العلمي المحمود إلى جبنٍ مذموم، كما أنّ الإقدام المفرِط تهوّر، فالتريّث المفرِط جبنٌ، والشجاعة العلمية وسط بينهما.

رابعاً: أسباب اجتماعية:

الخوف من تشويه السمعة والتسقيط الاجتماعي:

والخوف من طعن الزملاء والأساتذة والأقران الذين كثيراً ما يُظهرون الغيرة الدينية والحرص العلميّ، ويكتمون داء الحسد ومشاعر الغَيرة الشخصية، بل ربما يلتبس على الحاسدين أنفسِهم ذلك فلا ينتبهون أنهم شامتون متشفّون بمن كانوا يحسدونه دون شعور منهم!

وهذا الطعن يستتبع انفضاض الطلاب والأتباع والمحِبون، وبالتالي انقطاع العطايا والهدايا.

الخوف من الطرد من الجماعة:

أو الفصل أو العزل من الجماعة أو الحزب أو المؤسسة التعليمية أو انفضاض الأتباع عنه، أو التحذير منه ومن القراءة أو الاستماع له.

بل بعضهم ينتسب لجماعة وينافح عن أفكارها ومواقفها بحقّ وبباطل كالمحامي، لما تعطيه تلك الجماعة له من مكانة ومكاسِب وأتباع، وأسوأ شيء ألا يكون المرء واعياً بذلك، فيظن نفسَه المناضل، ولو فتّش في أعماق نفسِه لوجد النوايا المدخولة.

الخوف من الإعلام:

 وجمع الآراء الخاصة التي كثيراً ما تُسمى الشذوذات والأخطاء والضلالات، ونشرها.

الخوف من إنكار العوام:

 فلربما يتقبّل العلماء الراسخون بعض الأقوال الجديدة، فيأتي بعض السفهاء من الغوغاء فيظنون أنفسَهم أنهم رعاة الأصالة وحماة الحقيقة، فينكرون ما لا ينكره العلماء الراسخون، ويُزكي نارَ الفتنة بعضُ أنصاف العلماء!

بل كثيراً ما ينتهي الخلاف الفكري إلى تحريش العامة على المخالِف فيؤول الأمر إلى الاعتداء الجسدي أو القتل الذي يتقرّب به القاتل إلى الله بذلك!

خامساً: أسباب نفسية وتربوية:

إيثار الهدوء وعدم إثارة الإشكالات:

فمن يتصف بنقص الشجاعة وضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس، والجبن العلمي لن يملك الجرأة على مخالفة الآخرين، فالكثيرون يخافون من إثارة غضب الآخرين والجدل والنقاش والاعتراضات والتساؤلات، ويحبون أن يعيشوا مسالمين للجميع، سواء كان هذا طبعاً شخصياً أو صفة مكتسبة عبر التربية والتلقين فالنتيجة واحدة، وهذا في الميدان العلمي مضرٌ بالعلم ونموه وتطوّره.

الخوف من حظوظ النفس:

وهو سبب ديني نفسي ونقصد به الخوف من شهوة النفس بطلب الشهرة والتميّز عبر الشذوذ والمخالفة للفتِ الانتباه والأنظار، (فالنقد يعطي صاحبه تميّزاً وتفوّقاً مباشراً على المنقود)، وهذا التخوّف حقّ، ينبغي أن ينتبه له كل إنسان، فحظوظ النفس كثيرة ومتنوعة، وقد يخالط الحقّ حظٌ للنفس، حتى بالأعمال الصالحة كالصدقة والتعليم والجهاد في سبيل الله، كما ورد في الحديث أنّ أول ما تُسعَّر النار بهم لسوء نياتهم (نسأل الله السلامة)، وحتى مجابهة الحكّام الظلمة وقول كلمة الحقّ، قد يكون فيها حظّ نفس مثل المجاهد، ليُقال: (شجاع) وقد قِيل فيحبط ثوابُ عمله يوم القيامة.

 لكن هنا ينبغي أن ننتبه إلى أنّ هذا الأمر قلبيّ لا يعلمه -على وجه اليقين- إلا الله تعالى، وعلى كل امرئ أن ينتبه لنفسه، (بل الإنسانُ على نفسِه بصيرة) ولا نرمي به غيرَنا، فليس كلّ مخالف للسائد مُحِبٌ للتميّز والظهور.

 فكثيراً ما تكون ضريبة الجهر بهذه الآراء تفوق حظوظ النفس، فالإنسان يحتاج مخالفة لنفسه التي تُؤثر السلامة حتى يصدع بآرائه التي قد تُلحق به أذى طول عمره، كما أنّ خوف هذا الحظّ النفسي (حبّ الظهور) ينبغي ألا يمنعنا عن قول ما ترجّح عندنا من آراء.

سادساً: أسباب اقتصادية:

الخوف من الحصار الاقتصادي والتضييق في الوظائف:

 فيُعزَل الخطيب والمدرّس والكاتب والمحاضِر ويُمنع من نشر فكره المضلّل براي مخالفيه، وهذا شائع مشاهَد، ولعله من أخطر الأسباب وأقواها في كبت الآراء.

عدم وجود منصة يصرّحون فيها بآرائهم:

وذلك قبل انتشار الناس في أرض الله الواسعة، وفي بلادٍ هامشُ الحرية فيها واسع، وقبل ظهور (وسائل الإعلام الاجتماعي)، وهذه ترجمة أدقّ من (وسائل التواصل الاجتماعي)، لمصطلح: (سوشال ميديا)، كان أصحاب الآراء الخاصة، يكادون لا يجدون من ينشر فكرهم من إعلام مقروء أو مسموع أو مرئي.

أما الآن فميدان النشر واسع، لذلك بدأنا نرى ونسمع ونقرأ آراء جديدة وبكثافة فريدة، وهذا لا يخيفنا، بل يدعو للتفاؤل على المدى البعيد فالعاقبة للتقوى، بشرط العمل والاجتهاد والتطوير في خطابنا الإسلامي (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

سابعاً: أسباب سياسية:

الخوف من السلطة السياسية، فلو خالف العالِمُ توجّهات السلطة السياسية ربما تعرّض للتضييق والاعتداء، وأحياناً كانت الدولة تتبنى آراء دينية أو سياسية أو اقتصادية وتُلزم الناس بها، وتعتبر من يخالف ذلك مخالفاً للدولة، وتُنزل بهم أشدّ أنواع العذاب، بل كثيراً ما كان السياسيون لا يتدخَّلون بآراء العلماء، لكن العلماء أنفسهم يشون ببعضهم، ويستعدون السياسيين على مَنْ يخالفهم في الآراء الدينية، كالآراء العقدية أو الفقهية، ناهيك عن مخالفة سياسات الدولة ونقد تصرفات الحكّام وكبار المسؤولين!!

وقد أخّرت الأسباب السياسية، لأنه السبب الأول المتبادَر للأذهان حينما نناقش موضوع كتم الآراء، مع أنّ الواقع أنّ أسباباً كثيرة غيره ينبغي معالجتها والانتباه لها، ولا علاقة لها بالسياسية.

الحل: الشجاعة بإبداء الرأي مع الضوابط التالية:

1 -ينبغي أن يتصدّر للاجتهاد المتخصّصون وننزل آراء غير المتخصّصين منزلة فكرة تحتاج عرضاً على المتخصصين وتأكّداً من صوابها، فلا نردها مباشرة لأنها صدرت عن غير متخصّص، فغير المتخصّصين يفكرون خارج الصندوق، كما يقال.

2- عدم التسرّع بنشر الآراء قبل استفراغ الجهد إلى حد الوصول إلى رأي يغلب على الظنّ رجحانه، ويطمئن له الباحث إلى حدٍ ما، أقول (إلى حد ما) لأنّ الآراء الجديدة يصعب الاطمئنان لها قبل عرضها على المتخصّصين وإقرارها.

3- عدم تجاوز الثوابت، وبالمقابل عدم توسيع الثوابت، فكما هناك من يتجاوز الثوابت والقطعيات فهناك أيضاً من يتوسّع بالثوابت والقطعيات ويُدخل فيها متغيراتٍ وظنيات.

4- الحذر من اتباع الهوى والكِبر عند ظهور الحقّ مع من يخالفكم، فعلى من يخوض بالعلوم أن يكون رائده الحقّ يدور معه أينما دار.

بعد ما مضى:

– واقعنا يحتاج علماء فدائيون يخاطرون بكلّ ما سبق من المخاوف، ويجهرون بآرائهم دون وَجَل أو خَوْف إلا من الله تعالى.

علينا أن نعلّم الناس أنّ هذه العلوم والأفكار ما هي إلا رأي واجتهاد بشريّ، وليست وحياً معصوماً!

– وديننا يشجّع على الاجتهاد ووعد نبينا ﷺ من اجتهد فأخطأ فله أجر، فإنْ أصاب فله أجران!

– فاجهر برأيك فلن تضل الأمة لو قلتَ شيئاً خاطئاً، فالأمة معصومة من التلبّس بخطأ يعمّها، ولا تبالغ بمكانتك ولا تظننّ أنّ الأمة كلّها ستتبع رأيك بمجرد نشرك له، فلا تخشوا الخطأ فلن يستمر في الأمة، وستنبذه بتوفيق الله تعالى، ولن يبقى إلا ما كان صواباً إن شاء الله، ولو كان رأيك (صواباً أو خطأ)، كيف ستتأكّد من ذلك دون نشره وتعريضه لنار النقد والتمحيص؟

– بما أنّ الاجتهاد بشري فسيعتريه القصور والضعف والخطأ و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، لذلك سيثيب الله تعالى من يأخذ بتلك الأقوال الخاطئة لأنّ نية المقلّد أنه يريد اتباع الحقّ والرأي الأقرب لرضا الله تعالى.

الذي ننادي به هو الانفتاح المنضبط وعدم ردّ كل فكرة تخالف ما ألفناه.

ورائدنا قوله تعالى: ((إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))




دور المشاريع الفكرية في نهضة الأمة

كيف تساهم المشاريع الفكرية في نهضة الأمة؟

يوم الخميس 11 يوليو 2019م استضافت صفحة عمران على فيس بوك الدكتور حذيفة عكاش
مدير مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام (يمكنكم متابعة تسجيل اللقاء من هنا) للحديث عن المشاريع
الفكرية وكيف تساهم في النهضة؟
تعاني الأمة الإسلامية من مشاكل في عدة جوانب منها الفكر، ويسعدنا استضافة الدكتور حذيفة
عكاش متخصص في الفكر الإسلامي وبفضل من الله هو مؤسس لرؤية للثقافة والإعلام وهي
مؤسسة فكرية إعلامية تُعنى بتحرير المعارف الإسلامية وتمكينها كثقافةٍ معيشة تحفظ هوية الأمة
وسلامة الوطن، وهذه المؤسسة تحت إشراف الدكتور عبد الكريم بكار.
جمهور عمران متحمس للقاء والاستمتاع بالحوار معك ضيفنا المتميز، نحن سعداءٌ جدا
باستضافتك لتحدثنا عن المشاريع الفكرية وكيفية مساهمتها في نهضة الأمة. 
نبدأ لقاءنا بالتعريف بحضرتك إلى جمهور عمران، من هو الدكتور حذيفة عكاش؟ من مواليد
سوريا (حمص) 1978، بذلك نحن نتحدث عن دكتور شاب خاض عدّة تجارب، كانت بدايته مع
ثانوية شرعية تابعة لوزارة الأوقاف السورية من 1996، تحصل على بكالوريوس شريعة
إسلامية من كلية الشريعة في 2000، ومن ثم ماجستير شريعة إسلامية قسم الفقه المُقارن الذي
هو تخصص فقه الإعلام بعنوان: الضوابط الشرعية للإعلام المرئي في جامعة طرابلس 2014،
تحصل على دكتوراه شريعة إسلامية في نفس التخصص “قسم الفقه المقارن وفقه الإعلام
بعنوان: الأخبار في وسائل الإعلام أحكامها وضوابطها الشرعية” من جامعة أم درمان الإسلامية
بالسودان سّنة 2017 ، و حاليا ضيفنا مدرس بجامعة طرابلس وفي أكاديمية “باشاك شاهير” 
بجامعة اليرموك، وأيضا جامعة رُشد مدرسًا لمادة الفكر الإسلامي ومادة الدعوة والإعلام، ومن
الجميل أيضاً أنّ ضيفنا مدير عام مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام، أهلا بك نترك لك المجال الآن. 
 
بارك الله فيكم وجزاك الله خيرًا أستاذ عبد الله، أشكر جمهور عمران، وأشكر الدكتور طارق
السويدان الذي طالما تعلمنا منه مباشرةً أو من خلال ما قدمه لنا عبر التلفزيون والإعلام،
والمشروع الرائد مشروع عمران هذا المشروع الجميل الذي يحول طموح الشباب وحماسهم إلى
مشاريع، لطالما قال لنا الدكتور عبد الكريم بكار أنّ الآن زمن المشاريع، أما زمن الجماعات
الإسلامية كان في الحقبة الماضية، الآن زمن الشباب، زمن المشاريع، زمن المؤسسات
المتخصصة، وهذا هو مشروع عمران، مشروع المشاريع، والمشروع الذي يُشرف على
مشاريع الشباب.
 بالنسبة لموضوعنا اليوم “المدارس الفكرية وأثر الفكر في نهضة الأمة”، فكما تعلمون إخواني
وأخواتي العالم كله منقسم، ونظّر مالك بن نبي رحمه الله لمعادلة الحضارة والتي تضم: التراب
ويقصد به: الأشياء والآلات والموارد الأولية، ثانياً: الإنسان وثالثًا: الوقت.
وأهم عنصر من هذه العناصر هو الإنسان وأهم شيء في الإنسان فكره، وتأتي أهمية الفكر في
أنه يُؤثر في سلوك الإنسان وفي مشاعره وفي علاقات الإنسان وقراراته، ونحن في مؤسسة
رؤية لاحظنا أن الذي يتغير فكره يتغير وعظه، تتغير قراراته وآرائه، وحتى المشاريع تتغير

عندما يتغير فكر الإنسان، حتى اختياراته الفقهية والوعظية تتغير، كل هذا يتبع الفكرة التي
يحملها الإنسان.
 حسناً، لو رجعنا الآن إلى المدارس الفكرية المتواجدة في الساحة نجد عندنا المشروع القومي،
المشروع العلماني، المشروع التغريبي، المشروع الليبرالي، المشروع اليساري والمشروع
الإسلامي، كلها أفكار وأيديولوجيات يتبناها الإنسان وينشط فيها. 
من المعروف أن المشروع القومي استنفذ أغراضه، فبقينا فترة طويلة من الزمن ونحن نحلم
بالقومية العربية ووحدتها، لم يحققوا قومية ولا وحدة ولم يحققوا استقلالا حتى! فأصبحت الدول
التي تدعي القومية تبعية هنا وهناك. 
يتسم المشروع الحداثي غالبًا بالحداثة الغربية، فهل تعتبر الأفكار النهضوية التي قامت عليها
نهضة الغرب كلها أفكارًا ظلامية ينبغي تجاوزها ؟
هذا أكبر جدل سائد في الساحة الآن، كذلك الصراع بين الفكرة الإسلامية والتراث الإسلامي
وبين الفكرة التقليدية، الحقيقة أن الأفكار التراثية لا يمكن أن نتجاوزها كلها، فتراثنا يحتوي كنوز
ما زالت لم تستنفذ أغراضها، أي أنّها ما زالت صالحة الى الآن،
ما هو التراث؟ هو فهم أجدادنا وعلمائنا عبر التاريخ لمرجعية الكتاب والسنة وإسقاط هذا الفهم
عبر الواقع.
هل نستطيع الآن تجاوز كل هذا الفهم؟ طبعاً لا، فيوجد في التراث أفكار صالحة حتى الآن،
الأفكار التغريبية والأفكار الحداثية هل كلها أيضاً رجسٌ من عمل الشيطان كي نتجنبه؟
هناك استقطاب حاد حالياً بين الأفكار التغريبية والأفكار الإسلامية، والذي نعتقده أن في الأفكار
الإسلامية أفكار لا تزال تصلح في أيامنا هذه، وفيها أفكار تجاوزها الزمن لأن الواقع تغير،
المفكر الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله تعالى يعبر عن هذا بأن أسباب النزول تغيّرت بمعنى
الواقع، فبما أنّ الواقع تغيّر ينبغي أن يكون هناك اجتهادات جديدة، هذا من حيث التراث، أما من
حيث الأفكار الحداثية، فكثير منها أيضاً صالح.
مشكلتنا إخواني الكرام وأخواتي الكريمات أنّ عندنا عقلية أبيض أو أسود، أي إما نقبل كل شيء
أو نرفض كل شيء! فنأتي إلى التراث نقول: “كل شيء موجود في تراثنا، لكن نحن ضعاف لم
نطلع عليه”، هذا الكلام صواب وخطأ في نفس الوقت، في تراثنا الأفكار الكثيرة التي ما زالت
صالحة، لكن فيه اجتهادات غير صالحة، بسبب أن الواقع الذي نتجت عنه  اختلف.
الأفكار الحداثية الآن هل كلها صالح لنا؟ المشترك الإنساني بيننا وبين الغرب ما زال صالحًا،
يعني ليست كل الأفكار الغربية أفكار مادية إلحادية فهناك مشترك إنساني، على هذا المستوى
هناك الكثير من الأفكار الحداثية الغربية صالحة عندنا، كما تُوجد أفكار حداثية غربية تناسب
بيئتهم فقط، إذن الخلطة ليست إما أبيضا أو أسودا، الخلطة المطلوبة أننا نحتاج أشياء من تراثنا
وأخرى من الحداثة الغربية كونها تجربة بشرية.
    الفكر إخواني وأخواتي خطير جداً، لأن من الفكر تأتي الأيديولوجيات، ما هي الأيديولوجيات؟
هي مجموعة من الأفكار، والقوانين، والتصورات، التي تصف الواقع أولاً ثم توجِد مجموعة من

الأفكار التي تُصلِح هذا الواقع، بناءً على صورة ذهنية مثالية سنصل إليها، إذن الأيديولوجية لها
ثلاثة أقسام :
1- وصف للواقع.
2- إيجاد حلول لهذا الواقع. 
3- الوصول إلى صورة متخيلة في الذهن “الواقع المثالي”
من هنا أتت خطورة الأفكار، وبشأن الأفكار وتأثيرها على الحضارة والواقع والنهضة لدينا
موضوع (الهوية الخاصة) التي تحدثنا عنها، الفرق بيننا وبين الغرب أو بين أي جهة هي هويتنا
الخاصة، إلى أي مدى هذه الهوية الخاصة؟ وإلى أي مدى هناك مشترك إنساني؟ هذا مجال
اجتهاد. 
 إخواني هناك الآن صراع فكري في الساحة بين الأفكار التي تحدثنا عنها، وحتى بين الأفكار
الإسلامية بأطيافها، عندنا تيار صوفي  كبير يُراد له الآن أن ينشط من قِبَل بعض المؤسسات
والدول التي وقفت بكل أسف مع الثورات المضادة، ولجأت إلى أخذ النموذج الصوفي كبديل
وكإرواء للنازع الديني.
لكن أي نموذج صوفي يريدونه؟ هل النموذج الصوفي المُشرق الذي تبناه عمر المختار؟ هل
النموذج الصوفي الذي تبنته بعض حركات التحرر، بعض الحركات التي كانت تقف مع الشعوب
وإرادتها؟ الصوفية التي تنكر المنكر؟ الصوفية الحيوية أم الصوفية السكونية التي تخضع
للاستبداد؟ لا، هم  يريدون نشر التصوف الذي يخضع للاستبداد، التصوف السكوني الذي يبارك
أفعال الحُكام مهما فعلوا! 
تم الآن استدعاء السلفية أيضًا، المتمثّلة بالجامية والتي تحارب الإسلام الحركي، لا يريدون
إسلاماً فاعلاً، لا يريدون إسلاماً حاضراً في المشهد، لا يريدون إسلاماً يُنكر المنكر ويأمر
بالمعروف، لذلك يُحارب الإسلام الحركي.
بالإسلام الحركي التقليدي الذي نشأنا عليه في الحركة الأم حركة الإخوان المسلمين،  والذي
ننادي به هو أخذ منهج الإمام البنا رحمه الله، هذا المنهج الشمولي، المنهج الحركي، المنهج
الفاعل، المنهج المعاصر.
هذه المنهجيات نأخذها من الإمام البنا ولا نجمُد على اجتهاداته رحمه الله، فقد قدّم اجتهادات في
زمانه ومضى على تأسيس الحركة الآن حوالي مائة سنة يعني (قرن كامل)، ولو كان الإمام البنا
رحمه الله في زماننا هذا لجدّد في كثير من الأفكار، والمتابع لكتابات الإمام البنا رحمه الله تعالى
يجد التطوّر الفكري بين المؤتمر والمؤتمر، كان يأتي بأفكار جديدة، كان رجلاً ديناميكياً، رجلاً
عبقرياً، رجلاً يراعي الواقع، فلو كان في زماننا هل كان سيتبنى نفس الأدبيات؟
الذي نعتقده أنه كان سيطوّر، لأنّ الواقع اختلف فعندما نشأ الإمام البنا رحمه الله نشأ في بيئة
تحت نظام ملكي، تحت احتلال وهوية مهددة بالانهيار، سمعت مرة الشيخ عبد الله عزام رحمه
الله تعالى في إحدى محاضراته المسجّلة يقول: “الإمام البنا جاء في وقت كان المسلم يستحي من
إسلامه”، الآن اختلف الأمر بفضل الله تعالى، يعني سؤال الهوية انتهينا منه الآن، نحن دخلنا الآن
في سؤال النهضة.

 عندنا صراع آخر مع مشروع الإسلام الجهادي، ونحن في سوريا صُدمنا بهذا المشروع، فقد كنا
في أول بداياته متعاطفين معه، لكن اكتشفنا أنّ هذا المشروع هو للأسف خنجر لكنْ في في بطون
المسلمين، هو مخلب لكنْ في رقاب المسلمين، انقلبت الكثير من الحركات الجهادية وكفّرت
المسلمين، عندنا أزمة مع (مدرسة الغضب) كما يسميها أستاذنا الدكتور جاسم سلطان، (مدرسة
القتال) كما يسميها أيضا الدكتور القرضاوي حفظه الله تعالى، فنحن الآن أمام صراع أفكار، حتى
أُلخص الموضوع وأنهي ما أريد قوله سأُقسّم مراحل الصراع الفكري إلى أربعة مراحل: 
1- مرحلة الانبعاث.
2- مرحلة المراجعة.
3- مرحلة الاستقرار.
4- مرحلة الازدهار.
أعتقد أن هذه المراحل تنطبق على كل أمة، مرحلة (الانبعاث العاطفي) حيث تشعر أمة من الأمم
أنها متخلّفة وتريد الحراك والتقدّم، ويظهر المجتهدون والمفكرون، وتنشأ جماعات وتنشأ
التجارب، المفكّر يقول رأيه في الإصلاح، يجمع حوله بعض المفكرين، يغلُب على هذه المرحلة
العاطفة والاندفاع، أعتقد والله أعلم أننا انتهينا من هذه المرحلة.
المائة سنة الماضية كلها مرحلة انبعاث وأفكار ومشاريع وتجارب وحركات، فكل فكرة تمّ
تجريبها تقريباً، وأعتقد أننا الآن في بداية المرحلة الثانية وهي (مرحلة المراجعة)، الآن هناك
مراجعات كبيرة في كل المدارس، لكن هذه المراجعات تختلف من مجموعة إلى مجموعة ومن
فرد إلى فرد ومن جماعة إلى جماعة، نحن في (مؤسسة رؤية للفكر) نُسرِّع من هذه المراجعات،
يعني المراجعات ستحصل بنا ومن غيرنا، نستضيف المفكرين، وأصحاب التجارب لكي يرووا
لنا مراجعاتهم وآخر أفكارهم وتجاربهم.
هذه (مرحلة المراجعة) المرحلة الثانية التي يغلب عليها العقل والنقد، فيها قسوة شديدة، إذ من
الصعب جدًا على جماعة نشأت على فكرة، وضحّت من أجلها وقدّمت الشهداء والاعتقالات،
وقدّمت الذين أُعدموا والذين استُشهدوا، من الصعب أن تقول لها: منهجك يحتاج إلى مراجعة،
صعب عليها أن تُسلّم بأنها مخطئة!
لهذا نحن الآن نعيش في المرحلة الثانية مرحلة استقطاب فكري شديد، حُرّاس الأفكار القديمة
يدافعون عن أفكارهم وتجاربهم، والشباب الصاعد الذي يفكّر بالتغيير والمراجعة ينقد بشدة.. لهذا
الآن نحن نشهد (زلازل) منها ظاهرة الإلحاد التي تعتبر طبيعية، نظراً للانتقال من  مرحلة
عاطفية إلى مرحلة عقلانية، النسخة الإسلامية تحتاج إلى مراجعة وإلى تغيير حتى تُقنع شباب
القرن الواحد والعشرين!
 المرحلة الثانية يتم فيها البحث عن الأداة الذهبية، عن الأفكار الصالحة للعبور إلى العصر
الجديد، عندما نكتشف هذه الأفكار وتُعمّم وتتبناها مجموعة، نسميها (الكتلة الحرجة)، وهي
مجموعة لا يمكن تجاوزها، تؤثّر في الواقع، حينها ندخل في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة
(الاستقرار والعمل)، نكون قد اكتشفنا أدواتنا الذهبية، اكتشفنا الأفكار الصحيحة، تخلينا عن
التجارب العاطفية والتجارب التي أثبتت فشلها، وعندها يتحوّل أغلب المجتمع في مرحلة العمل،
فغالب المشاريع تصبّ في اتجاه واحد.

إذن، المرحلة الأولى عاطفة المرحلة الثانية عقل، المرحلة الثالثة عمل، وهذه هي مرحلة
النهضة، بعد أن نمضي مدة من الزمن ويصبح العمل كله بالاتجاه الصحيح، عندها ندخل في
دورة حضارية جديدة، وتأتي المرحلة الرابعة وهي مرحلة الازدهار وقطف الثمرة، ونحن الآن
أستاذ عبد الله في المرحلة الثانية، مرحلة المراجعةـ، كانت هذه أهم الأفكار وبقية الأجزاء
سنتعرض لها أثناء الحوار إن شاء الله.
    جزاك الله خيرًا دكتور، طرح جميل جدًا، شخصت فيه الواقع، يسأل أحد المتابعين: لماذا لم
نتمكن من المساهمة في الحركة الحداثية؟
تنتمي المرحلة الحداثية إلى المرحلة الثانية العقلية، التي نحن فيها الآن، المرجو من هذه المرحلة
بعد المراجعات أن تتبلور عندنا مجموعة من الأفكار، هذه الأفكار كانت تمثل عند الغربيين ما
يسمى بأفكار الحداثة، التي قامت عليها النهضة الأوروبية، لكن لكل أمة حداثتها وبصمتها، فالذين
يريدون استنساخ الفكرة الغربية كما هي إلى ديارنا لن ينجحوا في هذا، الحداثة عبارة عن
مجموعة كبيرة من الأفكار، بعضها يخص ويناسب أقواماً ولا يناسبنا، يشبهونها بأننا مثلاً نمتلك
سيارة مرسيدس ونريد أن نضع فيها قطعاً أخرى  نأخذها من سيارة الBMW ، وهذا لا ينفع!
 لدينا واقعنا وبصمتنا وهويتنا وديننا المؤثر فينا، لو جئنا بشيء يخالف المبادئ والقيم العامة، فلن
ينفع معنا، مثل التحرّر الزائد والإباحية لا تنفع معنا لأنها تنتمي لمجتمع مختلف عنا، فلدينا قيمة
اسمها: (الستر) وقيمة اسمها: (العفّة والدين والحياء).
–مثلاً- في سورية توجد بعض المنظمات الغربية التي تريد أن تقيم دورات عن الجندرة وعن
حقوق الشاذّين وكذا، هذه أمور تناسبهم حتى أنها تلقى معارضة في ديارهم فهي غير متفق
عليها، بل وحتى عندهم الكنيسة واليمين يعارضانها، فهؤلاء يريدون أن يستنسخوا نسخة غريبة
عن جسمنا ويضعوها كما هي عندنا، هذا لا ينفع.
وفي الطرف الآخر أيضاً بعض الإخوة الكرام لا يقبل شيئاً من أفكار الحداثة، ويقول أنّ كل هذه
الأفكار تنتمي للحضارة الغربية ولا نريدها، يعني لا إفراط ولا تفريط، ليس كل ما في الحضارة
الغربية مرفوض، وعندي تحفّظ كبير على كلمة الحضارة الغربية، فهي نتاج مما عندنا، نحن
ساهمنا في إنتاج الحضارة الغربية، نحن نعترف بأنهم بنوا حضارتهم بناءً على كتاباتنا، كما في
كتاب: شمس الله (العرب) تسطع على الغرب، ومثل ديكارت أخذ جزئيات من منهج الإمام
الغزالي، نحن ساهمنا في هذه الحضارة ولنا بصمتنا فيها، وهي ثمرة لحضارة إنسانية، 
فالمشترك الإنساني نستطيع أن نستفيد منه.
الأخ عبد الله، والإخوة الكرام المشاهدين، عمل المفكرين المصلحين الآن هو إيجاد أفكارنا
الحداثية، نجد أن بعضهم يقترب من اليمين وبعضهم يقترب من اليسار، وهذه الاجتهادات في
اختيار الأفكار الحداثية الخاصة بنا، كما لا يوجد أحد يدعي أنه سيجلس ويبدأ من الصفر، فهم
بنوا على ما بنينا أصلاً في الحضارة بين الأمم، فعلينا أن نستفيد من أفكارهم كما  اعتمدوا هم
على أفكارنا، فالحضارة دُولة بين الدول، فالحضارة كانت شرقية ثم انتقلت للغرب والآن
الحضارة تتجه شرقاً، ونحن الآن نساهم والمفكرون يساهمون في صنع أفكار الحداثة الخاصة
بنا.
    أحسنت دكتور، طيب لدينا سؤال آخر، حبذا لو تعطينا لمحة عن أنواع المشاريع الفكرية
ولمحة عن أهدافها، وكيفية قياس النتائج والتأثير، كمثال مؤسسة رؤية الآن لديكم رؤية

حقيقية، لديكم قيادات داخل المؤسسة، أنت المدير العام للمؤسسة فلو تعطينا مثال حقيقي كي
نقرب الصورة لمتابعينا الأعزاء؟
    أشكرك على هذا السؤال أستاذ عبد الله، أهم فكرة إخواني لا يوجد شيء (مسبَق الصنع)، نحن
في رؤية دخلنا الآن في السنة الرابعة من تأسيسها، أصدقك والله يا أستاذ عبد الله والإخوة
المتابعين إلى الآن ما زلنا نبلور أفكارنا، إلى الآن نحن (صندوق مفتوح) نستمع ونقرأ ونناقش
ونستضيف هذا وذاك ونستفيد من الجميع ونبني الرؤية الفكرية، فإن كان هناك أمر مطلق نقيده
ببعض الضوابط، وإن كان هناك تضييق نزيل بعض الضوابط..
فإذا أردتُ أن أُلخّص الموضوع، فالأفكار (مشروع مفتوح) بمجرد أن نقول أننا وصلنا للنسخة
النهائية نكون قد حكمنا على أنفسنا بالجمود وسيتجاوزنا الزمن، هناك أمر مهم جداً أيها الإخوة
والأخوات، الدكتور بشير نافع المفكر الفلسطيني المعروف صاحب سلسلة إسلاميون، يقول:
نظرية ابن خلدون رحمه الله تعالى،  ودورة الحضارة لم تنطبق على الحضارة الغربية، نظرية
ابن خلدون باختصار: (نشأة، ازدهار، تكلس ثم اندثار)، أي مثل مراحل نمو الإنسان (قوة رجولة
ثم كهولة واندثار)، يقول الدكتور بشير نافع: لماذا هذه الدورة لم تدخل على الحضارة الغربية؟!
لسبب واحد هو أن أفكارها متطوّرة، مجرد أنها أغلقت أفكارها ستندثر ويتجاوزها الزمن، لذلك
الأفكار الليبرالية والرأسمالية ما زالت مستمرة لأنها دائماً تطوّر نفسها..
فنحن في مؤسسة رؤية أهم فكرة نطمح إلى ترسيخها هي عدم الجمود، وأن نبني دائماً،
فالمشروع الفكري مشروع مفتوح، دائم التطوير، لن يقف وينبغي دائماً أن لا نتوقف إلى قيام
الساعة!
    صحيح جزاك الله خير، لدينا سؤال مهم، سمارت هذا يستخدم في قياس المشاريع بحيث أنه
أحد القياسات المستخدمة في إدارة المشاريع، (الوقت) لابد أن يكون محدداً، السؤال: هل
سنحتاج مائة سنة أُخرى للمراجعة؟ لأوضح يعني مائة سنة ونحن في مرحلة الانبعاث، ونحن
فقط عاطفة واندفاعات في الأفكار كذلك، والآن انتقلنا لمرحلة المراجعة، وأنا سوف أُسلّم معك
في هذا، في مرحلة المراجعة الآن التي يقف عليها العقل والنقد هل نحتاج أيضاً مائة سنة؟
وأريد الإضافة على نفس المقياس، هل بعد أربعمائة سنة سوف نقطف الثمرة؟
    سؤال جميل جداً، هذا السؤال مُلِح ودائماً ما نتذاكر حوله وهو هاجس، (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ
عَجَلٍ) [الأنبياء:37]، الإنسان بطبيعته يستعجل المدد الطويلة.
أولاً أحب التأكيد أن الفواصل الزمنية فواصل وهمية، نحن نتكلم عن شيء يغلب على فترة من
الزمن، والفواصل بين هذه المراحل فواصل وهمية تقريبية.
حتى المسارات في مجالات الحياة ليست متساوية، تجد في بعضها تقدّم كبير وبعضها تأخّر،
وبعضها جمود، فهذه الفواصل الزمنية وهمية تقريبية، إلى الآن يوجد أناس يعيشون بعقلية القرن
السابع الهجري، يوجد أٌناس الآن بيننا بعقلية الواحد والعشرين وقبلها وربما الاثنين والعشرين،
فقصدي ليس الكل بسوية واحدة وليست كلها مسارات متساوية، فليس الكل متخلفين مثل بعضهم،
فبعضهم متقدم، بعضهم متأخر كأفراد وكجماعات في مساقات، فهل أمتنا متخلفة من حيث
الالتزام بالدين أو الترابط الأسري؟ أمتنا متقدّمة في هذين المجالين، طيب تقنياً متخلفة، في كل
التقنيات؟ وهكذا فلا يوجد عندنا قواطع.

 هل نحتاج إلى مائة سنة؟ هذا الشطر الثاني من السؤال، لا نحتاج إلى مائة سنة لأن الزمان الآن
تقارب بفضل الفضائيات والإنترنت وبفضل هذا البث المباشر الآن و كلٌ منا في بلد، فالزمان
تقارب والتجارب تقاربت، إخواني كان في عصر من العصور قبل ظهور هذه الوسائل أحد أعلام
المسلمين مات بالأندلس فاستغرق خبر وصول وفاته إلى مدينة فاس بالمغرب ثلاثة شهور، أما
الآن فهو على الفراش خبره يصل بنفس اللحظة وبنفس الدقيقة، إذاً هذا التقارب إن شاء الله يخفّف
كثيراً من الزمن المطلوب.
    تطرق الدكتور طارق السويدان إلى هذا الجانب، أنه إن شاء الله قد تكون رؤية المراحل كل
مرحلة تحتاج إلى عشرين سنة وقد تحتاج إلى مائتين سنة حتى نصل إلى الحضارة الإسلامية
التي تقود العالم من جديد.
    لدينا سؤال آخر: هل مظاهر الاختلاف بين أنصار الفكر القديم وأنصار الحداثة والمراجعة
ستبقى مستمرة بوضوح في كل المراحل الأربعة التي ذكرت؟
    بالنسبة لحُراس القديم ودُعاة المعاصرة أو الحداثة أو التُراثيين والحداثيين، هذا الصراع سيبقى
وهذا الصراع مهم و جميل وجيّد، لماذا؟ دعونا نشبه الدين والمبادئ والثوابت بعمود وسط
الساحة، حراس التراث يدفعون بنا إلى الارتباط بهذا الأصل، ونحن نريد أن نتوسّع وننفتح، 
وعملية الشد هذه بين المنفتحين والمنغلقين (التراثيين) عملية جيدة تخلق توازن في الفكر، حتى
أن دعاة الحداثة والتشديد يشطحون وهؤلاء جامدون، فعندما نجمع الشطح مع الجمود يعتدل
مزاج الأفكار، لكن بشكل عام ستخفّ حدة هذا الصراع والله أعلم. 
المتبنّون لأفكار المعاصرة والأفكار الجديدة سيكثُر أنصارهم وعندها ندخل في المرحلة الجديدة،
نحن الآن ما زلنا في عملية شد عندما تصبح الكتلة الحرجة معاصرة عندها نستطيع الدخول في
عصر جديد.
مع أن البعض يقول ليس من الضروري للفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي والفاعل الحضاري
أن يكون كل المجتمع يحمل هذه الأفكار، فيكفي للفاعل السياسي أن يتبنّى هذه الأفكار بالتحالف
مع الفاعل الاقتصادي ويحققون تنمية.
لكن المشكلة عندها يصبح هناك ازدواجية في المجتمع، فنجد أناساً متقدمون جداً وأناساً يعيشون
في القرن السابع الهجري، وهذا نشاهده في تركيا يعني لو رجعنا إلى بعض المدارس الشرعية
نجدهم يعيشون في القرن السابع الهجري والحكومة التركية تأخذ بآخر التطوّرات، فتجد فعلاً أنه
لا يوجد تجانس، عندما تجلس مع بعض القيادات الإسلامية التراثية التركية، تقول في نفسك:
مستحيل كيف حقّقت تركيا هذه النهضة؟ السبب أنّ الفاعل السياسي والاقتصادي والتنموي لا
يتبنّى أفكار هذا  التراث وإنما تبنّى أفكار حداثية وانطلق!
    طيب ممتاز دكتور، لك ختام الكلمة، سعداء بهذا الحوار، وبما تحدثت عن المشترك الإنساني
الموجود في الحضارة الغربية وممكن أن نطرح في عمران كيفية الاستفادة منه في نهضة أمتنا
أو في النسخة الإسلامية الجديدة التي تحدثتَ عنها وتكلمتَ بأنها تحتاج إلى مراجعة كي ننطلق
إن شاء الله بالكتلة الحرجة وننطلق في مرحلة النهضة، لنصل إلى مرحلة الازدهار بأسرع وقت
ممكن. 

    جزاك الله خيراً أستاذ عبد الله على هذا التقديم الرائع وهذا الحوار الممتع الذي استمر ساعة،
وأنا من ناحيتي لم أشعر بالزمن وأشكر السادة المتابعين كلهم في منصة عمران، وأستاذنا
الدكتور طارق السويدان حفظه الله تعالى.
وأُبشّر الجميع أنّ المستقبل لنا إن شاء الله، ليس كلاماً عاطفياً وإنما واللهِ نراه رأيَ العين، هناك
تيار شبابي كبير يجمع بين المعاصرة والأصالة، الأصالة فلا يوجد أمة تنهض إذا تجاوزنا
هويتها، لا نريد نسخة غربية مثل الذي يأتي بنبتة من بيئة مختلفة -غير مناسبة- فلن تنبت هذه
النبتة، فالمستقبل لنا والشباب متحمّس وديننا صالح لكل زمان ومكان، ويحتاج إلى اجتهادات
معاصرة.
 القافلة تسير، والتقدّم يمشي وهذا الدين منصور، وهذه الأمة لن تقف هكذا، وأكبر دليل
التضحيات التي نراها هنا وهناك، هذه الثورات تدل على أنّ امتنا أمة مستيقظة، أُمة تحتاج أن
تكسر القيد وتنطلق.
وهذا ليس كلاماً عاطفياً واللهِ لكن هذا واقع نعيشه ليلاً ونهاراً، كلما ظننا أنّ الأمة ليس فيها خير
نجد انبعاثاً من هنا وهناك، لكن القافلة تسير وعلينا فقط الركوب فيها، والذي يركب ويمضي مع
هذه القافلة ينال شرف الاشتراك في هذا النهوض، والذي يريد البقاء فلا سيطرة لنا عليه، جزاكم
الله خيراً شكراً لكم ولا تنسونا من دعائكم.
منقول من مدونات عمران




دكتوراه ببضع صفحات!!

(أربع ملاحظات لتساهم الدراسات العليا بنهضة بلداننا)

ما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، جزاه الله عني كل خير، عندما أمسك بإحدى خطط البحث المقترحة للماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات A4، قرأ الخطة ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: “هنا عملك!” يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك.

تأمّلت تلك الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.

إخواني:

انتشرت في ديار المسلمين -بفضل الله تعالى- الدراسات العليا التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة والتدريس الجامعي إلى درجة (الأستاذية)، وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والترشيد، فبحوثُ الدراسات العليا من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض ببلداننا.

لذلك سأذكر أربع ملاحظات إرشادية للبحوث الأكاديمية:

الملاحظة الأولى: علينا أن نشجّع الباحثين على الإبداع والاجتهاد الجديد:

رغم انتشار الدراسات العليا في ديارنا إلا أنها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو:

تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث، وتقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات، فتنهض البلاد.

لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، وذلك بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم، فيمنعون الباحث من الترجيح أو إبداء الرأي، ويوبّخونه لو ظهرت شخصيته في البحث، بدلاً من تشجيعه على الاجتهاد والإبداع والإتيان بالجديد!! (طبعا هم يزعمون أنهم يريدون أن يربّوا الباحث ويعلموه التواضع واحترام جهود السابقين، لكنهم مثل الذي يريد أن يقوم بعملية للعين ليصلحها فبدلاً من إصلاحها يُعميها!! وهم هكذا يفعلون، فبدل أن يجعلونه يترك التكبر ويتواضع، يجعلونه يترك الاجتهاد والإبداع، ويجمد على أقوال السابقين. لكنّ فِعْلَهم هذا في حقّ الباحث يعتبر جريمة!! لأنهم يقتلون إبداعه.

 حتى إنّ أحد (الدكاترة الجامدين) كان يقول: “الترجيح بين أقوال العلماء قلة أدب!!”  طبعاً بمعيار هذا الدكتور كلُّ علماءنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، والردِّ على المخالف لهم من بقية المدارس، أو من يخالفهم ضمن المذهب الواحد.

وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ جديد.

الملاحظة الثانية: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا:

ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا.

 لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك للطلاب الأغرار هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودَهم بما ينفع بلداننا.

 الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسّسات المجتمع المدني وحتى القطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، أو (أي مؤسسة حتى لو كانت ربحية تقوم على الإشراف على هذا الأمر) فيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه من جهة، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث لتطوير نفسها وحلّ مشاكلها من جهة ثانية.

 كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق.

وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا يوجد ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!

ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، وننسى الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من (وقت وجهد ومال) حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير.

الملاحظة الثالثة: الاختصار والتركيز في البحوث والدراسات على موضع الإبداع وحلّ الإشكال:

بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث؟ فكثير من البحوث الاكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الترتيب، وفي أحيان قليلة إعادةُ الصياغة والإتيان بأمثلة معاصرة.

يجب أن نعمل على أن تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟!

فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ؛ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير!!

لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د.عبد الكريم بكار، فالتفاخر -مع الأسف- بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها!

ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).

وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟

الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي.

فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1-في ذلك هدر للموارد: كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر والجهد الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار!

2-البحوث الطويلة تُلزم القارئَ لها أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهر البحث وآراء الباحث الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة.

بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث.

حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، لكثرتها وطولها وتكرارها للمعلومات، فلا يقف المتخصص بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ”كثرة المصنّفات تعيق عن التحصيل” كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.

3-في البحوث المطوّلة عندما يصل الباحث للجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) ربما يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً!! وقد سمعت أستاذنا د.أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيه حقّه من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد).

فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار وإعادة صياغة المعلومات القديمة المعروفة!

4-نريد الاختصار في الأبحاث حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة!

نريد الاختصار حتى نخفف من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: “ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات”، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ المنطق يقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجَودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.

الملاحظة الرابعة: ضرورة نشر الدراسات والأبحاث حتى يستفيد منها الناس: 

فبعد الانتهاء من البحث، ومناقشة اللجنة العلمية للباحث، ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحثُ في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب، لا يستفيد منه أحد! على الأقل انشروه إلكترونياً فالنشر الإلكتروني لا يكلّف شيئاً، وإلا فما فائدة هذا البحث إذا لم يأخذ طريقه للنشر والتطبيق في الواقع.

بصراحة: علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسيات العليا، حتى تساهم بنهضة بلادنا، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، نكسب منها أمرين اثنين:

أولاً: باحثون أكاديميون يحملون مناهج علمية في عقولهم، ويطبّقونها في حياتهم.

والأمر الثاني الذي نكسبه: بحوث نوعية راقية تساهم في تطوير واقعنا، حتى نستعيد حضارة أمتنا، والله الموفّق.




داء المشيخة

قد يقول قائل: وهل المشيخة داء؟

نعم عندما يتحول طالب العلم إلى شيخ بزِيٍ معيّن، ينتظر من الناس الاحترام والتبجيل، والدعوات للولائم والعطايا، والتصدُّر بالمجالس والمدح والذِّكْر الحسن.. ويشكو انتشار قلة الأدب، ويتباكى على زمان الأدب.

بينما الدعوة مِنْ أُسُسِها: الصبرُ على الأذى، والمحن والابتلاءات، وغِلظة العوام، وتهجّم الحكّام والظلّام.

فلسنا أفضلَ حالاً من أنبياء الله!! والقرآن حاشد بقصص الأنبياء، وذِكْرِ إيذاء أقوامهم لهم، تصبيراً وتثبيتاً لمن تبع سبيلَهم.

فيروى أن أحد الدعاة الكبار المشاهير زار بلدةً فوجد الناس ينتظرونه محتفين به، محتشدين مرحّبين.

فرجع إلى نفسه متّهماً قائلاً: يجب أن نعيد حساباتنا، فالأنبياء الصادقون كانوا يلقون الأذى!!

طبعا هذا من صدقه ومراقبته لنفسه، وإلا فالهجرة إلى المدينة كان هذا شأنُها.

لكن الهجرة نقطة في بحر الأذى الذي لقيَه صلّى الله عليه وسلم.

مرةً قال أحدُ الكتّاب المثقفين: لا ينقضي عجبي من اتباع العوام لبعض المشايخ! فو الله خطاب هؤلاء المشايخ لا يقنع عاقلاً!! لكنه الرصيد الموجود في وُجدان الناس لعلماء الدِّين عامة، الذي زرعه العلماء الصادقون، وورثه هؤلاء الدراويشُ المتكسِّبون!!

فبعض المشايخ يقتاتون على ما بذله العلماء الصادقون المضحُّون.

هناك فرق بين مَنْ يحملون الإسلامَ، وبين مَنْ يحملهم الإسلام!!

هناك فرق كبير بين الداعية الذي يريد هداية الناس.. وبين المُدَّعي الذي يريد المكاسب والجاه، والاحترام والتقدير من الناس..

هناك فرق بين مَنْ يعتبر العمل للإسلام مكاسب.. وبين مَنْ يعتبرها واجباً عليه أن يتحمّل في سبيلها المصائب..

هناك فرق بين من يعتبر العمل للإسلام مغنَماً، وبين من يعتبره مغرَماً!! وليس مقالي هذا رخصةً وذريعةً للناس لإساءة الأدب مع علمائهم!!

فالمقال موجّه لإخواني طلاب العلم الصادقين، ولكلِّ مقام مقال، وما يقال لطرف، لا يُقال للطرف الثاني، فالأمم الراقية تحترم علماءَها، لأنهم يساهمون في تنمية العقول والأرواح والأنْفُس..

وقد كتب الطنطاوي قديماً مقالاً نعى فيه على بعض المشايخ ما سماه: (صناعة المشيخة) ويقصد أنها: “صارت علامة على طبقةٍ تأخذ من الناس ولا تعطيهم، وتستجيب لدعواتهم ولا تدعوهم، وتقول لهم ولا تسمع منهم، وسمةً لمن هو غريب عن عاداتهم ومواضِعِهم، صارمٌ في وعظهم، شديدٌ في نصحهم، لا يقبل رداً على كلام، ولا جدالاً في رأي، يتكلم (النحْويَّ)..”

وفي النهاية هذا تذكير لي وإخواني، أن يحملوا همّ الدعوة، ويتحمّلوا في سبيلها ما يلاقون، ولا ينتظروا من الناس جزاءً ولا شكوراً.




بين المفكّر والحركيّ

لا شكّ أن الحركة بركة، والعمل واجب وأن الإيمان لا ينفع ما لم يُشفع بالعمل الصالح، وأنّ التنظير يبقى كلاماً ما لم يُترجم إلى واقع ملموس.

ولا ريب أنّ بعض الكُتّاب والمفكرين يجلسون في بروج عاجيّة ويخاطبون الناس من علٍ، دون ملامسة لهمومهم ودون اكتراث بمعاناتهم؛ فلا يتألّمون لآلام الناس، ولا يحلمون بآمالهم.

لكن: هل هذا يسوّغ لنا أنْ نعمّم القول بتفضيل العاملين على العلماء، والحركيّين على المفكرين، والميدانيّين على المنظّرين؟!

وأنْ نهاجم كلّ منظّر أو مفكّر أو كاتب؟! ينقد بعض ممارسات العاملين أو تصوّراتهم وأفكارهم؟ أو حتّى ينقض النظريّة كلَّها التي تأسّس عليها عملهم؟! 

فهل يُلام من يقدّم النصح والتوجيه؟! 

وهل من تثريب على من يفكّر ويبحث ويقرأ ويتأمّل، ثمّ يكتب ما توصّل إليه من نتائج، يراها مهمّة ومفيدة وينشرها؟! 

هل يجب أن يطبّق الكاتب ما يقوله ويكتبه كلّه؟، حتّى فيما يخصّ الشأن العامّ في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والحضاريّ؟! وهل يتأتّى له ذلك فيما لو أراد ذلك؟!

من المؤكد أنّ الجمع بين التطبيق والتنظير أفضل، لكنّ الحقّ ينبغي أن يقال، وهو أنّ الجمع بين التنظير الدائم والحركة والتنفيذ أمر لا يتيسّر إلا للنوادر من الرجال، بل أزعم أنّ أحدهما ينبغي أن يطغى على الآخر في حال الجمع بينهما، أي: (التنظير والعمل) فإما أن يطغى العمل والميدان على التنظير والكتابة، وإمّا أن يغلب التنظير والفكر على التطبيق.

الحقيقة أنّ مهمّة العالم والكاتب والمثقّف والمنظّر أن يقدّم أفكاراً وحلولاً فينقد ما يراه، منكراً أو خطأً أو قاصراً، حتّى إنّه قد ينقد الحسن لنفعل الأحسن والأَولى والأَجود والأنسب.

إذ يفترض أنّنا نطمح للتطوُّر والتميّز في عالَم يتنافس بالجَودة وفق أدقّ المعايير.

العالم يتنافس اليوم في امتلاك المعرفة والمعلومات والتقنيّة، وكلها نتاج المنظّرين والعلماء والمفكّرين والمخترعين، سواء في الجانب التطبيقيّ الماديّ أو في المجال الاجتماعيّ الإنسانيّ.

ونحن عندنا شحٌ في المفكّرين والعلماء والباحثين، إلا إذا اعتبرنا كلّ من يتكلّم وينقُد ويهرف بما لا يعرف من عامّة الناس منظّراً!

من مظاهر تخلّفنا نفورنا من التخطيط والتنظير والتفكير والنقد، واندفاعنا للتنفيذ والحركة والعمل، فكم من أعمال ومشاريع انطلقت دون تفكير ودراسة وتخطيط كافٍ، فكانت النتائج كارثيّة، وكم من تفكير عميق وخطط رائعة لم تتحوّل إلى عمل، فبقيت حبيسة الكتب!

ومن مظاهر نفورنا من التنظير وصف (الفكر بالبرود)، وهنا ملاحظة مهمّة ينبغي الانتباه إليها، وهي أنّ المفكّر ينبغي أن يوائم بين معرفة هموم الواقع واحتياجاته، وبين أن ينغمس في العمل والتطبيق، فعليه أن يبتعد عن سخونة التنفيذ والعمل والحركة، فالواقع له تغيّرات ومشكلات وضغوطات، وإلا عاش حال (طوارئ التنفيذ) فيتشوّش ولا يعود قادراً على الإبداع والتفكير الحرّ، وتصبح أفكاره تحت ضغط الواقع، فينقلب إلى ميدانيّ تنفيذيّ تستغرقه التفاصيل وإطفاء الحرائق.

وهنا لا بدّ من أن يوازن بين رفرفة الفكر الاستراتيجيّ، وواقعيّة الفكر التكتيكيّ.

ففي المعارك الكبرى يتركون القيادة العليا بعيدة عن ساحة المعركة، في مكان آمن، حتّى يفكّروا للمعركة بعيداً عن ضغطها.

ومن عجائبنا أنّنا نندب حظّنا ونشكو قلّة مراكز البحث والتفكير، ثمّ نلوم من يتفرّغ ويكدّ في البحث والتنقيب والتفكير، وينتج (معرفة باردة) كما يصفها بعضهم.

وننسى أو نتناسى أنّ أصل كلّ حركةٍ ومشروعٍ وعملٍ فكرةٌ، فـ “وراء كلّ مشروع عظيم.. فكرةٌ عظيمة”.

وكثيراً ما تبقى كتابات بعض العلماء مهجورة غير منتفَع بها، وبخاصّة إذا كانت سابقة لزمانها، فالوعي بها يكون ضعيفاً في زمان كاتبها، ثمّ يأتي أوانها، وتعرف الأمّة قيمتها، ومدى الحاجة إليها، فتقبل عليها، وتنتفع بها أشدّ الانتفاع، بل إنّ كثيراً من الحركيّين يستفيدون من كتابات المنظّرين، ولا يعلنون ذلك.

قد يقول قائل: لكنّ الكُتّاب والمنظّرين عندنا كثيرون، فما أكثر المنظرين عندنا، وما أقلّ العاملين!!

فنقول: هذا الكلام غير دقيق، فكثيراً ما تعترضنا مشكلات وعقبات وتحدّيات تحتاج إلى منظّرين، يقدّمون فيها حلولاً فلا تكاد تجد أحداً، -دعك من الثرثارين ممّن يهرف بما لا يعرف- ممّن لو طبّقتَ كلامهم لازداد الأمر سوءاً.

ثمّ إنّ إحصاءات إنتاج الكتب وطباعتها وقراءتها في عالمنا العربيّ تشير إلى أنّنا في ذيل أمم الأرض.

هذا من حيث الكمّ، أمّا من حيث النوع فحدّث ولا حرج، فالتكرار يكاد يكون السمة العامّة للكتب، كأنّنا تواطأنا ألا يخالفَ بعضُناً بعضاً في أطروحاتنا.

ثمّ إنّنا نستطيع تقسيم الكُتّاب والمفكّرين والمنّظرين وصُنّاع الرأي في المجتمعات كلّها إلى ثلاثة أقسام، فلو رسمنا هرماً وقسّمناه أفقياً إلى ثلاثة أقسام، قمّة الهرم الضيّقة، ووسطه، وقاعدته الواسعة، فإنّنا نضع في قمّة الهرم أرباب العقول الكبيرة؛ وهم درجات كذلك، ففي ذروة القمّة الفلاسفةُ العظام أصحاب النظريّات الكبرى، ثمّ العلماء الكبار الذين يؤسّسون علوماً ومدارس فكريّة، والمخترعون والمبدعون، ثمّ المفكّرون الذين ينتجون أفكاراً ونظريّات صغيرة، ثمّ العلماء الذين يشرحون ويكمّلون ما أسّسته الطبقة السابقة، وهكذا ينتهي القسم الأوّل وهو قمّة الهرم، ويمكن أن نطلق عليهم لقب: (منتجو المعرفة).

ثم يأتي القسم الثاني؛ وهو وسط الهرم، ويمكن أن نسميَهم (صنّاع الرأي العامّ)، وهم طبقات ومراتب كذلك، بين مقلّ ومكثر، ومتعمّق وسطحي، فمنهم من يعلو حتّى يقترب من القسم الأوّل في قمّة الهرم، ومنهم من يسفل فيقترب من عامّة الناس، وهي الطبقة السفلى من الهرم، وهذا القسم الثاني يشمل الكتّاب والصُّحُفِيّين والإعلاميّين والعلماء والمدرّسين والخطباء وأساتذة الجامعة، وكلّ من يؤثّر في الرأي العام من المثقفين والعلماء، ممّن يحتكّ بعامّة الناس ويقنعهم بأفكاره وينشر العلم والوعي بينهم، فهذه الطبقة تأخذ أفكارها وعلومها من قمّة الهرم، من (منتجي المعرفة) وينشرونها في المجتمع، فهم وسطاء بين قمّة الهرم وأدناه.

والطبقة الأخيرة: عامّة الناس، ممّن يتلقّى العلم والرأي من القسم الثاني، من (صنّاع الرأي)، وهم كذلك طبقات منهم من علمه ووعيه وثقافته تؤهّله أن يقترب من الطبقة الثانية، ومنهم الأميّ الذي يقع في أسفل الهرم.

وهنا نتكلّم عن العلم والفكر والوعي العقليّ ولا نتكلّم عن التفضيل والمكانة الاجتماعيّة، ولا عن المكانة الأخروية، فميزان التفاضل في الآخرة: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإن كان للعلم مكانة في التفاضل، فقد أخبرنا الله تعالى أنّه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]

من خلال التقسيم السابق يظهر لنا أنّ أكثر الكتابات والأحاديث تكون من القسم الثاني، فالمبدعون (من القسم الأوّل) من أصحاب النظريّات الكبرى أندر من الكبريت الأحمر، فهؤلاء يدور في فلكهم، ويقتات على فكرهم جمعٌ غفير من الناس، فيشرحون ويوضّحون ويفصّلون ويطبّقون ويحلّلون ويرّكبون ويأتون بأمثلة وحجج ودلائل، ويردّون على الاعتراضات والتساؤلات وينشرون ذلك كلّه بين الناس.

أمّا مؤسّسو الحركات والجماعات والأحزاب فغالباً ما يكونون من القسم الثاني، ممّن يحمل الفكرة ويطوّرها وينشرها، ثمّ يجمع الناس عليها، ونادراً ما يكون من القسم الأوّل المنتج للمعرفة، إلا إن كان قائد تيّار فكريّ أو علميّ، وليس له جهد جماهيريّ اجتماعيّ.

لأنّ التنفيذيّين غالباً ما يبدعون بالنشر والترويج، وجمع الناس وتنظيمهم والحركة بهم. 

ولعلّ هذا من حكمة الباري سبحانه وتعالى ليتكامل الناس ويتخادَموا ويتعاونوا.

وهنا تظهر مشكلة عويصة؛ وهي جمود الأتباع عند اجتهادات المؤسّس، فلا يتهيّأ -في كثير من الأحيان- منظّرون للجماعة على مستوى المؤسّس في الفكر أو في الشجاعة، أو في قبول الأتباع لتحديثاته وتطويراته وتغييراته، فتقع الجماعة بالجمود، لتغيّر الواقع الذي نشأت فيه، وحاجتها لمن ينقلها لمواجهة مرحلة جديدة في حال فشل الوسائل القديمة، أو في حال النجاح واستنفاد أغراض وأهداف الوسائل القديمة، والحاجة لتجاوز المرحلة السابقة، والإعداد للمرحلة الجديدة، والاحتياجات الجديدة.

وهنا يظهر داخل الجماعة التنظيميّون الذين غالباً ما يغلبون المفكّرين المجدّدين، وذلك لأنّ التنظيميّين متفرّغون لإدارة الجماعة، فهم المسيطرون عمليّاً، بينما المنظّرون منصرفون للبحث والقراءة والتفكير والتنظير، وهذا غالباً ما يعزلهم عن مواضع القرار.

 فيهيمن التنظيميّون على القرار، وهؤلاء مثل الضباط والمدراء التنفيذيين يغلب عليهم فرض السمع والطاعة والانضباط، فيضيقون ذرعاً بأصحاب الفكر والتنظير.

 فيكون مصير المنظّرين: إمّا تركهم يتكلمون دون تنفيذ لاقتراحاتهم، أو يتمّ منعهم من النقد و(التشويش) على الجماعة، أو تجميدهم وإبعادهم وشغلهم بمهامّ أخرى، أو الفصل من الجماعة، للتخلّص من (تشويشاتهم).

أو يخرج المنظّر بنفسه من التنظيم، وبالتالي تصبح بيئات التنظيمات والجماعات بيئات طاردة للمبدعين.

وهذا يؤدّي إلى تجمّد الجماعة، وتركها تعاني من المشكلات والانتكاسات، وحتّى عند وجود المراجعة والتجديد، فإنّ تلك المراجعات والنقد الداخليّ تبقى في مستوى التنفيذ والإدارة وآليّات الحركة، ولا تتجاوزها إلى الاستراتيجيّات والأفكار المؤسِّسة، والأهداف العليا، فتكون النتيجة العمليّة دوراناً بالمكان نفسه!

كما أنّنا نخشى من الوقوع في التكبّر لو أعرضنا عن سماع الناصحين من داخل الجماعة أو من خارجها.

ومن أسباب عدم الاهتمام بالنقد: الوثوقيّة العالية بالمنهج والأفكار، والجمود عندها.

ويمكن تلخيص الحلول المقترحة في النقاط التالية:

1- معرفة أهميّة المنظّرين لأيّ مشروع وحركة وجماعة.

2- لا أقول بقبول النقد فحسب، بل وجوب البحث عن النقد، بقصد التطوير والتحديث والتصحيح، فيما اقتنعنا به من النقد، فليس كلّ نقد صواباً، وليس كلّ صواب يصلح للتطبيقِ الآن.

3- التعامل مع العمل الجماعيّ على أنّه وسيلة وليس غاية، فقد يحقّق فرد نتائج أفضل من جماعات، فلا يجوز استصغار أيّ مشروع فرديّ أو الاستهانة به.

4- الخروج من عقلية أبيض وأسود؛ وإمّا هذا أو هذا، فكثيراً ما يكون الصواب بهذا وذاك معاً، أي: إمّا أن يؤسّس المفكّر جماعة أو مشروعاً، وإلّا فكلّ عمله لا قيمة له، لماذا لا نقول: اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له.

ختاماً: لا يقلّل من قدر العلماء والمفكّرين والمنظّرين إلّا مخطئ، ها هي الحكومات المستبدّة تتعامل بحزم مع كل صاحب قلم حرّ، لأنّها تعرف قوّة الكلمة.

الذي نحتاجه حقّاً هو: تلاحم العلم مع العمل، والمنظّرين مع الفاعلين، والمختبَر مع المصنَع، والمهندس مع المنفّذ، فينطلق العمل من عقول العلماء والمفكّرين إلى أرض الميدان، ويعود الحركيّون دائماً إلى العلماء والمفكّرين بنتائج أعمالهم ليعدّلوا ويصوّبوا ويصحّحوا ويطوّروا المسار، فيحصل الإبداع والتميّز، فلا بدّ من تحالف أولي الأيدي مع أولي الأبصار، والله الموفّق.




المنقذ من الجمود الديني

الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمود.

ولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب علينا أن نقوم بالخطوات الأربعة الآتيّة:

الخطوة الأولى: ترك مهاجمة من يترك التقليد:

ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام.

لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً.

صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار.

أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت.

يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟

 بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.

الخطوة الثانية: نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد:

لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار.

فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:١١١]  أوّلاً، ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟!! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع.

وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟ 

فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟!!

بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة!

ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر.

أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر.

وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل.

ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم.

كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها.

الخطوة الثالثة: الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين:

من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟!

 ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال.

لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة.

الخطوة الرابعة: نشر الاجتهاد المقاصدي:

هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).

نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان.

 فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان.

أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة.

هذه خطوات أربعة لعلها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج.

والله من وراء القصد.




التطبيع ونقض المنهج السياسي

توظيف خطيئة التطبيع
فيّ نقض منهج الإسلام السياسيّ

في البداية دعونا نعترف أنّ موافقة حزب العدالة والتنمية المغربيّ
على التطبيع مع إسرائيل كان خطأ كبيراً، ينبغي تنزّه حزب العدالة
منه، وقد خسر من رصيده الكثير، بل ربما تكون غلطته هذه هي
التي ستطيح به (أقول: ربما)، فيكونون -حاشاهم-كمنديل يُرمى في
سلّة المهملات عند اتساخه، وانتهائه من مهمّته.
وهنا تطالعنا ظاهرة المنظّرين والرموز الإسلاميّين الذين يمارسون
السياسة (مثل: الأستاذ الغنّوشي والدكتور سعد الدين العثمانيّ
وغيرهم) وفي هذا ثلاث ملاحظات:
1-لا شكّ أنّ كتابات أولئك المنظّرين كتابات مفيدة، فيها تجديد مفيد،
بما قدّموه من أطروحات تناسب عصرنا وتواكب تطوّراته، وتتوافق
مع مبادئ ديننا وتطلّعات شعوبنا.
2-ليتهم تفرّغوا للتنظير والتواصل المستمرّ مع المباشرين للسياسة،
وبهذا يُبقون على أَلَقِهم وسمعتهم، ويَستفيدون ويُفيدون بالتواصل مع
السياسيّين المحسوبين عليهم، يستفيدون من اختبار أفكارهم على
أرض الواقع، فيطوّرونها بسبب احتكاكها بالواقع، ويُفيدون
السياسيّين بفكرهم، والمحافظة على الخطّ الاستراتيجيّ عند
السياسيّين، حتّى لا تنحرف بوصلة السياسيّين نتيجة انهماكهم
بيوميّات ومجريات السياسة اليوميّة وضغوطاتها وإكراهاتها
وبراغماتيّتها.
3-على كلّ حال (عَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لعلّ من
المفيد مستقبلاً أنّ المنظّرين يمارسون السياسة حالياً، حتّى يقعوا
ببعض ما يلومهم به الناس، فيكونون مثالاً في المستقبل على من

2

ينكر على السياسيّين أيّ خطأ، أو الإذعان للإكراه، وحتّى لا يأتي
زمان يُقال فيه: (لو كان المنظّر الفلانيّ هو المسؤول، لما فعل كذا،
أو لفعل كذا وكذا)، فيكون الردّ حاضراً وهو: أنّ أولئك المنظّرين
الإسلاميّين حينما يمارسون السياسة يقعون بمثل أخطاء السياسيّين
العاديّين الشرفاء.
وهنا نفترض أنّ (الاستبداد والظلم والخيانة والعمالة) مستثناة في
كلامنا، فهذه الجرائم لا عذر فيها لأحد، ومن ثبت عليه ذلك ففي
مشروعيّة منصبه نظر أصلاً! وفي السكوت عليه وعدم تغييره خَوَر
لا يجوز.
والآن نعود لأصل الموضوع؛ وهو استغلال جماعات العنف لأخطاء
جماعة الإسلام السياسيّ في (نقض) منهجهم، فكثيراً ما يتمّ استغلال
الأحداث والنصوص الدينيّة والرموز والمواقف في نصرة الفكرة
والآيديولوجيّة، وحديثنا هنا عن استغلال الأحداث في (نقض)
الآيديولوجية المخالفة!
فالنقد لا أقول مشروع فقط، بل هو مطلوب ومفروض، وهو من
واجبِ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لكن… هناك (نقد)
وهناك (نقض) وبينهما بونٌ شاسع.
فأهمّ تيّارين إسلاميّين يسعيان للسلطة بجِديّة هما:
1-التيّار الإصلاحيّ السياسيّ: الذي يؤمن بنجاعة وضرورة التغيير
السلميّ السياسيّ عبر الآليّات الديمقراطيّة، ويؤمن غالبيّة هؤلاء
بالإقناع في تطبيق القوانين الشرعيّة، عبر الآليّات الديمقراطيّة، وهم
تيّار (الإسلام السياسيّ).
2-التيار الثاني: هو الريديكاليّ القتاليّ: الذي لا يرى نجاعة التغيير
بالأسلوب الأوّل، بل لا بدّ من امتلاك القوّة، ولا مانع من استخدام
العنف والسلاح في التغيير بداية، لفرض السيطرة بعدها، وغالباً

3

هؤلاء لا يجيزون إخضاع القوانين للتصويت، وغالباً لا يجيزون
التعدّديّة الحزبيّة، بخاصّة الأحزاب غير الإسلاميّة، فرؤاهم شموليّة،
وهم تيّار دعونا نصطلح على تسميته بـ (الإسلام القتاليّ).
قلت (غالباً): لأنّ تفاصيل الرؤى تختلف ضمن كلّ تيار من التيارين.
والحقيقة: إنّ القوّة (نَعَم) قد تلزم لمرحلة تخلّص الدولة من الظلم
والاستبداد والحصول على الديمقراطية (إنْ تعذّر التغيير السلميّ).
لكن بعدها ينبغي حصر دور القوّة في حماية الوطن من العدوّ
الخارجيّ، وداخليّاً من أن ينقلب مستبدّ جديد على اختيارات الشعب،
ويتغوّل على الدولة، ويفتئت على الأمّة.
وكما أنّ الحصول على الديمقراطيّة يحتاج نضالاً وقوّة، فإنّ الحفاظ
عليها يحتاج أضعاف تلك القوّة، فالطامعون بالحُكم كثيرون في
الداخل والخارج!
فجماعات العنف يمكن أن يُسقِطوا نظاماً لكنّهم يستحيل أن يبنوا دولة
قابلة للوجود والاعتراف الإقليميّ والدوليّ، وأن تستقرّ الدولة
وتستمرّ، وتنمو تزدهر دون خطط تنمويّة وانفتاح على المحيط.
الطريف بالموضوع أنّ أحداثاً مثل التطبيع في المغرب وإعلان تأييد
الحزب الحاكم له، يجدها أصحاب التوجّه القتاليّ فرصة لنقض
نظريّة التيّار الأوّل كلّها؛ (نقض المنهج السلميّ والديمقراطيّ
والسياسيّ، والعمل ضمن حدود الوطن، وفصل الدعويّ عن
السياسيّ إلى آخره..) فالخصم بالزاوية ووجهه مكشوف.. فهي
فرصة لتسجيل نقاط على الخصم.. ومحاولة إسقاطه بالضربة
القاضية! وادعاء الاستعلاء الآيديولجي.
والحقيقة: لا تلازم بين انتهاج الإسلام السياسيّ، وبين ارتكاب هذه
التنازلات!
فقد يتنازل تيّار (العنف) أو دعاة استخدام (القوّة) أكثر من هؤلاء
السياسيّين، لكن بطريقة أكثر دهاء.. ومن يتابعهم ويعرف كواليسهم

4

يعرف ذلك جيّداً، فما زلنا نتابعهم في سورية ونعرف مزاوداتهم
وتنازلاتهم في سبيل بقائهم مسيطرين على مناطقهم.
فخطابهم خياليّ حالم في حال الحروب، وإدارة التوحّش، أو عند
بقائهم في المعارضة، والغرف المظلمة، حيث رفع السقف لأعلى
عليّين (فالكلام ليس عليه جمارك) كما يقولون في المثل الشعبيّ
الساخر ممن يقول كلاماً موغلاً في الخيال.
ففرق كبير بين الكلام في الفراغ، وبين تنفيذ ذلك على أرض الواقع..
وقد رأينا وسمعنا مزاودات المتشدّدين أيّام الحروب و(إدارة
التوحّش) كيف تدرّجوا بالتنازلات والمراجعات طرديّاً مع اقترابهم
من جعل مناطقهم آمنة ومستقرّة، ومازال مسلسل التنازلات مستمرّاً
على أمل الاعتراف بهم دوليّاً!
فمن اللؤم استغلال مشاعر الناس المنكِرة لذلك القرار (التطبيع) في
توظيف ذلك (آيديولوجيّاً) من قِبَل تيّارات العنف في نقد الإسلام
السياسيّ، ونقد المشاركة السياسيّة.
ويتغافل هؤلاء عن أنّ الديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة دونها
السجون وأعواد المشانق، والقذف بالدبّابات والراجمات، وهجوم
الطائرات والمصفّحات!
ويتناسى أولئك أنّ الطغاة يُطلقون من سجونهم رؤوس الغلوّ والتشدّد
من دعاة العنف، حتّى يكفّروا الديمقراطيّة ويغتالوا المشاركين
بالعمليّة السياسيّة!
لأنّ المستبدّين يتمنّون أنْ يدفنوا كلمة (ديمقراطيّة)، ويغتالوا
(المشاركة السياسيّة) حتّى تسلم لهم السلطة فينفردوا بها!
وبعد الانتهاء من مهمّتهم الحالية في ضرب الإسلام السياسيّ
والقضاء على التحول الديمقراطيّ في بلداننا، عندها ما أسهل سجن
دعاة العنف باسم (مكافحة الإرهاب)، فكلّ حكومات العالم تؤيّدهم
به، أو يرسلونهم لمهمّة أخرى في بلد آخر، أو يسجنونهم ويتم

5

تخزينهم لمهمّة جديدة مستقبليّة، في ضرب عدوّ مشترَك (كما تمّ
توظيفهم في قتال روسيا سابقاً)، وكما يتمّ إعدادهم حاليّاً لضرب
الصين في ساعة الصفر المرتَقبة!
والله المستعان.




التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد

التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد؟!!
كثر الحديث في أيامنا عن التجديد الإسلاميّ، وكثر التساؤل عن ضوابطه وملامحه
وتأييده، والقول بوجوبه وضرورته، وبالمقابل الريبة منه والتشكيك فيه وبدعاته،
فهل ديننا يحتاج حداثة أو تحديثاً أو تجديداً أصلاً؟!
كما كثر الحديث عن ظاهرة الإلحاد الجديد وأسبابها وطرق علاجها.
ومن العجائب أنّ الإسلاميّين أنفسهم يتراشقون التهم، فالتجديديّون الميسِّرون يرون
المتشدّدين سبباً للإلحاد (فهم غلاة منفّرون)، كما أنّ الجامدين والمتشدّدين يرون
الميّسرين سبباً في الإلحاد فهم (مميّعون يجعلون الناس يتحلّلون من تعاليم الإسلام)!
مع أنّ الواقع يقول: إنّ الغلوّ يسبب الإلحاد، ولم نسمع بمن ترك الدين بسبب
التنويريّين أو المجدّدين أو الميسّرين!
سأحاول بهذا المقال وضع مقدّمات للجواب عن هذا الإشكال، وبيان دور التجديد
المقبول في الحدّ من ظاهرة الإلحاد.

الإلحاد الجديد:
ممّا لم يعد يخفى على أحد انتشار ظاهرة الإلحاد بين المسلمين، بل أزعم أنّ ظاهرة
الإلحاد ما يظهر لنا منها: (رأس جبل الجليد) فقط، وما خفي كان أعظم، وما نراه
من مظاهر إلحاديّة أمر بسيط بالنسبة إلى الحركة الإلحاديّة التي ستأتي وتزداد نوعاً
وكمّاً، وأسأل الله تعالى أن أكون مخطئاً في توقّعاتي!
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أسباب الإلحاد الجديد كثيرة، أحصيتُ في محاضرة
لي منشورة على اليوتيوب بعنوان: (أسباب الإلحاد وطرق المواجهة)، ستّة عشر
سبباً، فمن الإجحاف تحميل سبب واحد كامل الظاهرة، كما ننبّه إلى أنّ شبهات
الإلحاد الجديد كثيرة وجديدة، بل ومتجدّدة فكلّ يوم هناك جديد، فلا تكفي الكتب
القديمة للمواجهة، ولا يكفي علم لمواجهتها، فهناك شبهات من العلوم النظريّة
والتطبيقيّة كلّها، وهذا يجعلنا نحتاج كلّ الخبرات والكفاءات والتخصّصات.
وما يعنيني هنا من أسباب الإلحاد الجديد الكثيرة سبب مهمّ، وهو الخطاب الإسلاميّ،
وبعض الاجتهادات الإسلاميّة المشكلة على عقليّة إنسان عصرِنا، عصرِنا الذي
أضحت فيه الفلسفات والأنظمة والدول تتنافس بخدمة ورفاهية وحماية ورعاية
الإنسان، كلّ الإنسان.

2

فهذا الانفتاح المتسارع على العالم في زمن الإنترنت وسهولة التواصل، جعل عَقْدَ
المقارنة بيننا وبين بقيّة أمم الأرض المتحضّرة ممّا يتيسّر لأيّ إنسان، وهو جالس
ببيته، وبالصوت والصورة كذلك!
وهذه الموجة الإلحاديّة ستساهم -بما يترتّب عليها من جدل وتأثير متبادل بين
الملحدين من جهة، وبين الدعاة والعلماء من جهة مقابلة- في ترقية (خطابنا
الإسلاميّ)، وبالتالي بتحسين (نوعيّة التديّن) فسننتقل من التديّن الشكليّ الطقوسيّ
إلى القيميّ الأخلاقيّ الذي يركّز على المعاملة الحسنة، والذي لا يهمل الطقوس
طبعاً، فـ(لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خيرٌ لكم).
ويمكن التنبيه على بعض الخطابات الإسلاميّة المنفّرة على سبيل المثال لا الحصر:
أ- خطاب إسلاميّ متشدّد يجعل الاستمساك بأهداب الشريعة الغرّاء يستلزم أن يعيش
المسلم على هامش الحياة، فدائرة المحظورات تغطّي معظم جوانب الحياة في ذلك
الخطاب!
ب- خطاب كراهية وحقد داخل مجتمعاتنا، مقابل مبادئ التسامح والتعايش في
المجتمعات الراقية، طبعاً أتكلّم هنا عن ثقافتهم داخل دولهم ومجتمعاتهم، وهذا لا يعني عدم
وجود خطاب كراهية في تلك المجتمعات، نتيجة وجود اليمين المتطرّف، ولا يلغي ذلك
السياسات الخارجيّة المصلحيّة البعيدة كلّ البعد عن مبادئهم الداخليّة التي يلتزمون بها مع
مواطنيهم!
ولكن نتكلم عن الثقافة العامّة المنظَّمَة والممنهجة التي يحميها التعليم والإعلام
والقوانين والأنظمة في تلك الدول.
ج- خطاب إسلاميّ يفصل بين الحكم الشرعيّ وبين حِكمته وفائدته والغاية والهدف
منه في حياة الناس ودنياهم، فمهما كان الحُكم المستنبَط غريباً يجب أن تسمع وتطيع
فالاجتهاد مشتَق من نصٍّ مقدّس، وهنا نقول على عجالة: “هذا فهمك واجتهادك،
وليس مراد الشارع الحكيم!.

الإنسانيّة ليست اختراعاً ماديّاً:
جعل الله تعالى الإنسان محور الكون، وسخّر له سمواته وأرضه، ونفخ فيه من
روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل له رسله وأنزل عليه كتبه (إنّي جاعل في
الأرض خليفة)، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}

3

وشرع الله تعالى للإنسان من القيم والأخلاق والأحكام وأرشده ووجّهه بما يكفل له
سعادته وأمنه في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دعوة مبكّرة للنزعة الإنسانيّة مقابل
الأديان القديمة التي كانت تهدر الإنسان قرباناً لآلهتهم! فالإنسانيّة ليست اختراعاً من
الفلسفة الماديّة، فقد سبق الدين الخالد لها!
وهنا لا بدّ من إبراز موقف الإسلام المشرّف تجاه حقوق الإنسان، ومراعاة تلك
الحقوق عند الاجتهاد والترجيح والفتوى والخطاب المعاصر.

بين الفقيه والمفكّر:
سنتحدّث هنا عن الفروق بين الفقيه والمفكّر، أو بين الكلّيّات والجزئيّات، أوبين الفقه
والأخلاق، فهناك فصام نكد –أحياناً- بين الاجتهادات الفقهيّة الفرعيّة والرؤية الكلّيّة
من جهة، وبين الفروع الفقهيّة وبين الأخلاق من جهة أخرى!
فكثير من عامّة المسلمين ومثقّفيهم استمعوا للخطباء أو قرؤوا للمفكّرين، فأعجبهم
الإسلام الذي يحترم القيم وينادي بالأخلاق ويحافظ على المبادئ، وله فلسفة تشريعيّة
حكيمة متناسقة ومتناسبة ومنتظمَة.
ولكنّهم يتفاجؤون عندما يحتكّون ببعض الفقهاء فيجدون هذه المنظومة القيميّة
الرائعة قد اختلطت وغابت -في كثير من أحيان- فالأحكام مشتّتة هنا، تشدّد فيما
يستحقّ التيسير، وهنا تساهل فيما حقّه التشديد!
وما ذلك إلا لأنّ المفكّر ينظر في الكلّيّات ويسلّط الضوء على جماليّات الإسلام
ونُظُمِه وقواعده الكلّيّة، بينما الفقيه ينغمس في الجزئيّات منشغل –في كثير من
الأحيان- بالنصوص الجزئيّة والاشتقاقات اللغويّة ودلالاتها، ويسهو عن المقاصد
الكلّيّة والمبادئ الأساسيّة والقيم الإسلاميّة.
وبالتالي يحبّ الناس الإسلام القيميّ الأخلاقيّ كما يذكره الخطباء والمفكّرون، وهم
لا يعرفون بعض الاجتهادات التي تضادّ الكلّيّات الجميلة، ويصطدمون بها عندما
تطفو على الإعلام، ويستشكلونها كثيراً، والحقّ معهم!
مثلاً: الزواج بنيّة الطلاق، ولا يُعلم الخاطبُ البنتَ ولا أهلَها.. فلو ناقشتهم في حرمة
ذلك، لأنّه خيانة مبيّتة -مع سبق الإصرار والترصّد- لقالوا لك: هو ينوي الطلاق
والطلاق مباح، كما أنّ النيّة لا يُحاسب عليها الإنسان؟!

4

ونسي القائل حديث: (أترضاه لأختك؟ وأتراضاه لأمّك؟) ونسي أنّ الأصل في العقد
التأبيد، وأنّ الأهل أعطوا ابنتهم ورضيت الفتاة بناء على أنّها ستبقى مع هذا الرجل
مدى الحياة، إلا إنْ طرأ طارئ وتعذّرت الحياة بينهما، فعندها تطرأُ نيّة الطلاق
وفعله.
فلو كانت الفتاة تعرف أنّ هذا الرجل ينوي الزواج بها مدّة ثمّ سيتركها، (بعد أن
يُفقدها عذريّتَها) لما قبلت الارتباط به أصلاً!
فهنا نَظَرُ الفقيه انحصر بآليّات إجرائيّة (مباحة) تمّ تركيبها مع بعضها (نيّة مكتومة
غير محاسب عليها، لفِعْلٍ مباح وهو الطلاق) وغفل عن حيثيّات المسألة ومآلاتها
ونتائجها الكارثيّة على الفتاة المطلّقة في أغلب البيئات في زماننا هذا!
فهنا الفقه انفصل عن الأخلاق تماماً في هذه المسألة، أين الصدق؟ فالمعروف عرفاً
كالمشروط شرطاً، أين الأمانة؟ أين الشهامة؟ أين حفظ أعراض الناس ونسلهم؟ أين
الحفاظ على نفسيّة الفتاة وأهلها؟.. هذه المعاني كلّها تُهدر في هذا الاجتهاد القاصر.

الشرع يراعي مصالح العباد وييسّر عليهم:
عندما نقول: (الدين جاء لإسعاد الناس في دنياهم وآخرتهم)، قد يقول قائل: ليس من
الضروريّ أن يسعد الإنسان في الدنيا، بل يكفي أن يفوز بالسعادة الأخرويّة..
ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عباداتنا وطاعاتنا، فلا
تضرّه معصيّة، ولا تنفعه طاعة، لكنّه أنزل لنا شرائع وتعاليم الدين لتنظيم علاقات
البشر، وسائر شؤون حياتهم في عالم الغيب والشهادة، لحماية الإنسان ورعاية
مصالحه وسعادته: ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)) ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
[النحل : 97]
وبالمقابل: ))وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا، وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ
أَعمى(([طه: 124]

النكد ليس شرطاً في التديّن:
مع الأسف هناك تصوّر أن المتديّن كلّما كان غير مرتاح، كان أقرب إلى الله،
فالأصل بالمؤمن البلاء والعيش الضنك والمشقّة والعسر والضيق، وكأنّ المشقّة

5

مقصودة لذاتها، وبهذا التصوّر الخاطئ يتمّ تسويغ كلّ الاجتهادات المتشدّدة
المرهِقة..
بينما النصوص التي تذكر جزاء المشقّة والمصائب تذكرها لتهوينها على نفس من
يصيبه بلاء، مواساةً وتخفيفاً عن العباد، لا كما قد يتوهّمه بعضهم، من أنّ المشقّة
مقصودة لنيل الثواب، كما ذكر لي أحدهم مرّة: (ينبغي أن نسلك الطريق الأبعد إلى
المسجد، لكونه أكثر ثواباً!!) ونسي الأخ أنّ التبكير في دخول المسجد له ثواب،
وانتظار الصلاة له ثواب، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسُه.
فذِكْر الشارع الحكيم ثواب المسير للمسجد وحسنات كلّ خطوة، لكيلا يستثقل
الذاهب للمسجد طول الطريق أو مشقّته في البرد أو الحرّ، ويعلم أنّ كلّ مشقة تصيبه
في أثناء ذهابه للمسجد له به أجر.
وهكذا كلّ ما ذُكر من ثواب للمصائب والأمراض والهموم وغيرها.. للمواساة
وكرماً منه سبحانه، حتّى يخفّف عناء عباده المبتَلِين، وليس المقصود أن المصائب
مقصودة مطلوبة، نسأل الله العفو والعافية!
فمن حيث تعاليم وأحكام ديننا، فالعَنَت والمشقّة والحرج والشقاء كلّه مرفوع في
شريعتنا.
والأصل في الأشياء الإباحة في شريعتنا، ما لم يرد نهي عن شيء ضارّ للنفس أو
للمجتمع، ولكنّ نفراً من الفقهاء كان مزاجهم التشدّد، وهذا الغالب على فتاويهم حتّى
سمّى بعضُهم منهجَ أولئك الصنف من الفقهاء بـ(فقه النكد) فكلّ لهو أو ترويحٍ حرامٌ،
وكلّ فنّ أو توسّع حرام، والأصل في معاملات الناس الشكّ والريبة والحُرمة!!
فقلبوا القاعدة فأصبحت: (الأصل في الأشياء المنع ما لم يرد نصّ)!
مع أنّ النبيّ ☺ كان متشوّفاً نحو إبقاء دائرة التحريم ضيّقة، لذلك نهى عن كثرة
السؤال، وأخبر أنّ أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء فحُرّمَ من أجل مسألته 1 ،
وكان يخشى أن تُفرض بعضُ السنن على المسلمين، لذلك كان يتركها أحياناً ولا
يداوم عليها، ويقول: (خشيتُ أن تُفرض) فهل مزاج وعقول وقلوب أولئك الفقهاء
المتشدّدين مثل رسول الله ☺؟!
بل بعضهم تشعر أنّه يتلذّذ بتحريم الأشياء على الناس، بينما روى لنا علماؤنا الثقات
عن بعض علمائنا الورعين الصالحين أنّهم كانوا يبحثون عن أسهل الأقوال، ويفتون
1 تخريج؟؟

6

بها الناس توسعةً وتيسيراً، ومنهم شيخ مدينتي في حمص الشيخ محمود جنيد رحمه
الله المعروف بالزهد والورع والصلاح (كان متقناً للمذهبين الحنفيّ والشافعيّ
المنتشرين في ديارنا) روى لنا تلامذته أنّه عندما وجد قولاً في المذهب الحنبليّ فيه
سعة وتيسير حيث يجيز معاملة ماليّة راجت في مدينتي، كاد الشيخ أن يرقص من
الفرح!
فمقصود الشارع الحكيم التيسير على عباده ورفع الحرج والمشقّة عنهم: نصّ على
إرادته ذلك صراحة بنحو قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))
وانتبه إلى قوله تعالى: (يريد) فهو مقصود صراحة، [البقرة: 185] ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج : 78]
فكلّ اجتهاد فقهيّ يوقع الناس في الحرج والعنت والمشقّة، ينبغي البحث عن سواه،
فلم يُخيّر رسولُ الله ☺ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً 2 .
طبعاً ليس ذلك قاعدة مطّردة، فما كان فيه هضم لحقوق الآخرين فنحتاط فيه، لأنّنا
في هذه الحالة نكون قد أوقعنا الطرف الثاني في الحرج، وما كان فيه تقحّم في
المحرّمات القطعيّة نبتعد عنه أيضاً ونحتاط فيه، لأنّ الشارع الحكيم لم يحرّمها إلا
وفيها مفسدة لنا، وقد فصّلت في ذلك في كتابي: (ضوابط التيسير في الفتوى، وهو
منشور على الشبكة).
يقول ابن القيم ؒ: “فصل في بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد:
هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من
الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي في
أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة
كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها
بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه،
وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله  أتمّ دلالة وأصدقها” 3

2 ؟؟
3 إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، ابن القيّم، (3 / 2)

7
لا تخلط بين اجتهادك وحكم الله تعالى:
من الظواهر المنتشرة عند الاعتراض على معقوليّة ومنطقيّة وحِكمة وفائدة بعض
الاستنباطات والاجتهادات، يتم استدعاء نصوص السمع والطاعة، واتباع الله ﷻ
ورسوله ☺، وعدم اتباع الهوى..
وهنا نقول: هم لا يعترضون على أحكام الله تعالى، بل على اجتهادك في معرفة
مراد الشارع الحكيم، فما كان من المحكمات والثوابت من المسائل التي نُصّ عليها
وعُرفت في الشريعة من غير اجتهاد ولا استنباط، مِن المعلوم من الدين بالضرورة
كأمّهات الواجبات والمحرّمات، هذه يمكن أن نستدعي لها نصوص السمع والطاعة،
أمّا الاجتهادات الظنيّة (وأغلب الاجتهادات ظنيّة) التي اختلف فيها الفقهاء أصلاً،
وأنكر بعضُهم فيها على بعض! بل ردّ بعضهم فيها على بعض! هذه يسعنا الانتقاء
منها والاختيار فيها، لكن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، وقيم ومبادئ الإسلام
وليس بحسب الهوى!

قراءتان لأحكام الإسلام: بين التعليل والتوقيف:
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك قراءتين لأحكام الإسلام:
القراءة الأولى: قراءة تجعل تعاليم الإسلام غير معقولة المعنى وهو ما يعبّرون عنه
بأنّ الأصل فيها التوقيف (تعبّديّة) يجب الالتزام بها تعبّداً، أي امتثالاً واستجابة
للأمر، وليس معرفة بالهدف والغاية والفائدة، فالأحكام الشرعيّة الأصل فيها ذلك،
وبالتالي يمكن وفق هذه القراءة أن تصبح كلُّ آية كريمة وكلُّ حديث صحيح الإسناد
مبدأً ومصدراً للأحكام والتشريع، بغضّ النظر عن السياق والحال والظرف
والخصوصيّة، لعدم وجود قواعد مستنبَطة حاكمة بأنّها الأصل، وما يخالفها خارج
عن القاعدة، فعند القول بتعليل الأحكام نستنبط من عللها وحِكمها قواعد ومبادئ
ومقاصد نجعلها أصلاً، فما خالفها نلجأ للتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ أو
عدم العمل به..
فعند من يقول إنّ (الأصل عدم التعليل) كلُّ نصّ دينيّ مبدأ مستقِلّ قابل للتطبيق
بغضّ النظر عن بقيّة النصوص، يكفي أن تكون الآية واضحة الدلالة، والحديث
صحيحاً حتّى يُعمل بهما، وبالتالي أنت أمام نصوص كثيرة جدّاً لا ينظُمها شيء
بنظر هؤلاء.
طبعاً الكلام بالعموم وليس بالإطلاق، فالكلّيّات العامّة متفَق عليها، وهي ما يسمّى
“ما يُعلم من الدين بالضرورة” أي يعرفه كلّ مسلم يعرف الإسلام، فمن مقتضيات

8

هذا المذهب (الأصل في الأحكام عدم المعقوليّة) ما يؤدّي لقراءات للإسلام لا
تنتهي، فالنصوص-عندهم- كأحجار البناء، يستطيع كلّ بنّاء تشكيلها كما يشاء،
وبالتالي ظهرت اجتهادات (ليس أوّلَها ولا آخرها داعش).
قراءات قد تهلك الإنسان مقابل إرضاء الإله (بزعمهم)، وقد تجعلك تعادي
العالمين، وتعلن حرباً مفتوحة عليهم، بل قد تقتل أقرب الناس إليك بذريعة الردّة!
وينطبق على هذه القراءة –برأيي- قولهم: (الاتّباع الأعمى)، فهو اتّباع دون معرفة
الفائدة أو الحكمة أو العلّة من الحُكم.
وأيّ واحد يعترض على هذه القراءات، فالاتّهامات جاهزة، فهو إمّا: منبهر بالغرب،
أو عميل لهم، أو متقاعس أو جبان، أو مرتدّ أو يقدّم عقلَه على النصّ، أو قرآنيّ!
كما ظهر بالمقابل قراءات استخدمت النصوص دون قواعد ولا منهج ناظم فتحلّلت
من الإسلام ونقضته عروة عروة، باستدلال من الكتاب والسنّة كذلك!
وأيّ واحد يعترض، كذلك التّهم جاهزة: تقليديّ رجعيّ متشدّد داعش جامد..
أمّا القراءة الثانية ترى أنّ تعاليم الإسلام الأصل فيها التعليل والمعقوليّة وظهور
الحِكمة والغاية والهدف والفائدة.. وللأحكام أنساق وقواعد واضحة ترعاها
النصوص وتؤكّد عليها، وبالتالي فتعاليم الإسلام متناسقة متفهّمة ترعى مصالح
العباد، وتحفظ حقوقهم وتنظّم حياتهم بما يكفل سعادة الجميع.

السؤال: بأيّ هذه القراءات نأخذ؟
عند اختلاف القراءات أو الاجتهادات القديمة والحديثة، بأيّ هذه القراءات
والاجتهادات نأخذ؟
ينبغي ترجيح القراءة الثانية، فالفقه هو الفهم، وكلّما علا كعب الفقيه كان ملتزماً
بالقراءة الثانية أكثر.
وتطبيقات هذه القراءة ليست منحصرة بمذهب فقهيّ معيّن، فعندنا ثروة فقهيّة رائعة،
وكلّ فقيه له فتوحات وإشراقات اجتهاديّة لا تخطئها عين الباحث.
وهنا نحتاج مرجّحات أو ضوابط، وأقترح ما يلي:
1- القيم الكبرى التي جاءت تعاليم الإسلام لترسيخها كالحقّ والخير والعدل
والشورى والرحمة والجمال والتعاون على الخير.. والتضييق على الشرّ.

9

2- مراد الشارع الحكيم ومقاصده وأهدافه من التشريع، أي ما يسمّى مقاصد
الشريعة الكلّيّة وهي ستّة تمثل أمّهات حقوق الإنسان، وهي حفظ دينه ونفسه وعقله
ونسله وعرضه وماله، أو ثمانية، بإضافة: العدل والحرّيّة.
3- مقاصد الشارع الجزئيّة وذلك بمراعاة مقاصد الشارع في كلّ باب فقهيّ، ثمّ
مقاصد الشارع في كلّ مسألة فرعيّة، فالشريعة متكاملة متعاضدة تنظمها قواعد، فلا
يضرب بعضها بعضاً، كلّها مسحوبة بخيوط نحو مقصد كلّيّ واحد؛ هو مراعاة
مصالح العباد، وتحقيق السعادة لهم في الدينا، ومن يلتزم بها يجازيه الله تعالى
بسعادة الآخرة.
4- التيسير ورفع الحرج والعنت والمشقّة، بما لا يتعارض مع المقاصد السابقة.
فخلاصة القول: نحن مبتلون بتيّار تجديد دون ضوابط، وتيّار ضوابط دون تجديد،
والمطلوب تجديد أو تحديث بضوابط، ولا مشاحة بالاصطلاح إذا اتفقنا على
المعانيّ، والمدلولات، والمرجّحات في التجديد الفقهيّ الذي نراه:
(معقوليّة) الأحكام المتمثّلة بالتعليل ومراعاة المقاصد و(إنسانيّة) الأحكام المتمثّلة
برعاية مصالح الإنسان والتيسير عليه.
بذلك نكون ساهمنا في القضاء على سبب هام من أسباب الإلحاد الجديد، وقبل ذلك
نكون قد أرضينا ربّنا واتّبعنا مراده وشريعته كما يحبّ ويرضى، والله الموفّق.