العلوم الإنسانيّة وإصلاح الواقع

كثير من الموضوعات والظواهر والمسائل نناقشها بآرائنا، ونصدر أحكاماً عليها، وهي أحكام انطباعيّة شخصيّة غير علميّة، وربما نقرأ عنها (نتفاً) هنا وهناك، وهي -في حقيقة الأمر- مباحثُ قُتِلَت بحثاً وقد خُصّص لها علوم مستقلّة.

والسبب بعدم معرفة أنّ لها أقساماً خاصّة في علوم متخصّصة هو عدم اطّلاعنا على تلك العلوم، لذلك عرّف بعضهم العالم بأنّه: “من يجيد استخراج المسألة من الكتب” .

فلم يشترطوا عليه حفظ المسائل كلّها، بل يكفي معرفته بمظانّ المسائل، وقدرته على استخراجها وتحقيقها، واختيار الراجح منها.

لذلك علينا الاطلاع الجيّد على تلك العلوم حتى ننتبه إن مرّت بنا مسألة -وهي جزء من علم ما- أنّه يلزمنا مراجعة ذلك العلم، ونستطيع الرجوع لتلك الكتب والبحث فيها، أو سؤال المتخصّصين بذلك.

 أمّا إن كنّا لا نعلم انتماء ما نناقشه إلى تخصّص ما، فكيف سنكون واعين بضرورة الرجوع لذلك التخصّص، حتّى نطّلع على ما يقدّمه لنا من معلومات تساعدنا في فهمنا وقرارنا فيما نحن بصدده؟

فإذا أردنا معرفة الواقع أو فهم الواقع أو فقه الواقع بطريقة (علميّة) فلا يتمّ ذلك بالاختلاط بالناس والنزول للأسواق والمكاتب والمعامل والمحلّات ومخالطة أصحاب المهن والحِرَف المختلفة وفهم الحياة من خلالهم فقط!

 فهذا قدر بسيط من فهم الواقع، يشترك فيه الناس كلّهم تقريباً، ويتساوى فيه العاميّ مع العالِم، بل ربّما يتفوّق العاميّ صاحب السَفَر والتجارب بفهم تفاصيل وحِيَل الواقع أكثر من العالم المنعزِل المشغول بكتبه وتدريسه وتآليفه، فالمطلوب في فهم الواقع فهماً علميّاً هو أن نرجع لأهل التخصّص في تلك الجوانب.

 فالظواهر الاجتماعيّة والقوانين التي تحكمها تُفهم من خلال علم الاجتماع، وسلوك الأشخاص يُفهم من خلال علم النفس، والسياسة تُفهم مبادئُها من كتب العلوم السياسيّة وليس من متابعة الأخبار السياسيّة! والاقتصاد يفهم من كتب الاقتصاد، ووظائف الأعضاء وحركة الأجرام والقوانين القضائيّة وغيرها من العلوم تُفهم من أهل التخصص الدقيق. 

والعلوم الإنسانيّة علوم نسبيّة وغير قطعيّة بطبيعتها، لتعلّقها بالإنسان صاحب الإرادة الحرة التي تمكّنه من التصرّفات المتعاكسة تجاه المؤثّر الواحد، فالضغط على الشعوب قد يؤدّي للثورة، وقد يؤدّي لمزيد من الخنوع والخضوع!

 بعكس المادّة التي تستجيب بطريقة واحدة للمؤثّر الواحد، لانعدام الإرادة الحرّة عند المادّة، وهذا يجعل هضم العلوم الإنسانيّة وإتقانها صعباً، فوجهات النظر في العلوم الإنسانيّة متباينة بشكل كبير، بعكس العلوم التجريبيّة التي تحسم التجاربُ المنضبطة الخلافَ في النظريّات وتخفِّفه. 

ومما ينبغي الانتباه إليه أنّ العلوم الإنسانيّة لها وظيفتان وظيفة وصفيّة واقعيّة، ووظيفة معياريّة قِيَميّة مثاليّة، فالوظيفة الوصفيّة هي وصفها للواقع كما هو؛ بحلوه ومرّه، بصوابه وخطئه، بإيجابيّاته وسلبيّاته، دون تقييم لذلك، فيكتفي العلم بوصف الواقع وتحليله.

والوظيفة الثانية: هي توجيه الواقع ووضع معايير له، والحكم عليه قِيَميّاً، فهذا صواب وهذا خطأ، ويحدّد الحال المثاليّة المطلوبة.

ومن هنا نستطيع القول: إنّ العلوم الإنسانيّة تصف الواقع أوّلاً ثمّ توجّهه نحو ما تراه صواباً ثانياً، فهي مؤثّرة في الواقع وموجّهة له، وهنا تكمن خطورةُ العلوم الإنسانيّة.

 فأصل التغيير والإصلاح هي العلوم الإنسانيّة، أمّا العلوم الطبيعيّة التطبيقيّة فهي غالباً علوم آليّة خدميّة ماديّة.

 نستطيع القول -إذا صحّ التعبير- إنّ العلوم التطبيقيّة تبني المدنيّة الماديّة، أمّا العلوم الإنسانيّة فتبني الحضارة الإنسانيّة، أو العلوم الإنسانيّة تبني جسد الحضارة، والعلوم الإنسانيّة تبني روحَها وعقلَها الموجِّه.

لذلك تهتمّ العلوم الإنسانيّة بالشأن الإنسانيّ للأفراد والجماعات والدول والحضارات، فكلّ الحضارات تنطلق من فلسفة تجري في آليّاتها ومؤسّساتها جريان النُّسْغِ في الأغصان، فهي (الغائب الحاضر) الغائب عن وعي العامّة، الحاضر بقوّة وفاعليّة في الحياة.

فينبغي الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة حتّى لا نصاب بـ(العلمانيّة العمليّة) -دون أن نشعر- باقتصارنا على العلوم الشرعيّة وفصلها عن العلوم الإنسانيّة التي تعين على فهم الحياة والتفاعل معها، لما لها من تأثير كبير في طريقة التفكير، وأسلوب التعاطي مع الحياة، وآليّة اتخاذ القرارات.

وهنا لا بدّ من التحذير من بعض الكتابات الإسلاميّة، فمما لا شكّ فيه أنّ كلّ ثقافة لها نظرتها الخاصّة للعلوم وجزئيّاتها وتطبيقاتها واستخدامها في الحياة، سواء العلوم الإنسانيّة الاجتماعيّة أو التطبيقيّة التجريبيّة، ولا بدّ من كتّاب راسخين ينبّهون للأخلاقيّات الإسلاميّة في التعامل مع تطبيقات العلوم التجريبيّة، ونظرات العلوم الإنسانيّة، فيقبلون الصحيح وما يتّفق مع ثقافتنا وتعاليم ديننا، ويحذّرون ممّا يتعارض معه.

لكن علينا الحذر في التعامل مع الكتب التي تتناول العلوم الإنسانيّة أو التطبيقيّة التجريبيّة والحكم عليها إسلاميّاً، أو التي يوضع في عنوانها بعد اسم العلم كلمة (الإسلاميّ) مثل: علم النفس الإسلاميّ، أو: علم الاجتماع الإسلاميّ، أو: علم التربية الإسلاميّة، أو: الطب الإسلاميّ، أو: السياسة الإسلاميّة، أو: علم الاقتصاد الإسلاميّ، أو:  الفنون الإسلاميّة، أو: الإعلام الإسلاميّ، وبعضها يتناول الأحكام الشرعيّة لمسائل كذا وكذا..

لماذا يجب الحذر في التعامل مع هذه الكتب؟ لأن ّالكاتب قد يكون في أحيان كثيرة قصير النظر في فهمه للإسلام، سطحيّ الاطلاع، ضعيف الفقه بالإسلام وقواعده العامّة، بعيداً عن مرونة الإسلام وسَعته، وينعكس ذلك في نظرته لذلك العلم عموماً، وفي جزئيّات مسائل ذلك العلم، فيشوّه ذلك العلم بدلاً من أن يقدّم إضافة معرفيّة حقيقيّة.

وفي أحايين أخرى يكون فهمه لذلك العلم قاصراً أو سطحيّاً، فيُغفِل آراء راجحة في ذلك العلم، ويتبنّى آراء سطحيّة أو مرجوحة أو ضعيفة، أو حتّى متروكة، وربمّا جاء بها وبدأ بنقدها مع أنّها مهجورة غير مُعتمَدة عند المتخصّصين في ذلك العلم.

كما أنّ الكثيرين ممّن يكتبون كتابات إسلاميّة يقفون من الأفكار الوافدة موقفَ المستريب الشاكّ الرافض لها، قبل أن يفهمها ويهضمها، ويأخذ النافع منها ويرفض الخاطئ أو الصحيح من وجهة نظر الغربيين -سواء كانوا مسيحيين أو ماديّين- لكنّه لا يناسبنا نحن المسلمين.

فهو رافض لها كلَّها مسبقاً، ويدخل بهذه العقليّة الرافضة ليقرأ لهم ويردّ عليهم، فهو متحيّز ضدّهم مسبقاً، فكيف سيتعامل بموضوعيّة معهم! 

لكن للإنصاف نقول: ليست الكتابات الإسلاميّة كلّها كذلك، لهذا قلتُ: (احذر) ولم أقل (اترك).

فمن أراد المساهمة في فهم الواقع أوّلاً، ثمّ بإصلاحه ثانياً، فلا بدّ له من الاطلاع الجيّد على العلوم الإنسانيّة، لأنّ إصلاحه سيتناول -بشكل أو بآخر- الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول، و هذا كلّه لن يتمّ فهمه بشكل جيّد وبطريقة علميّة دون الرجوع للعلوم الإنسانيّة.




الثورة حياة

الحياة هي النشاط والحيويّة، هي الليل والنهار، هي النور والظلام، هي الطيّبون والخبثاء، هي نوازع الخير والشرّ في النفوس البشريّة، هي المصالح المتضاربة، والطغيان المتوقّع.

 (إنّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى) فالقوّة مظنّة الطغيان، فبمجرّد استغناء الإنسان، وعدم وقوف قوّة تمنعه، سيمضي وراء مصالحه لا يوقفه إلا عدم القدرة، أو الالتزام بالمبادئ والأخلاق، فالدّين والأخلاق تهذّب الطباع، لكنّها لا تغيّرها، كما أنّ المبادئ قابلة للتأويل والتحايل والتسويغ.

 فحتّى تستقرّ الحياة وتتوازن، لا بدّ من التدافع الذي لا تستقيم الحياة لولاه (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251] 

وقد قالها أجدادنا قديماً في المثل الشعبيّ: “قالوا لفرعون مَنْ فَرْعَنَكَ؟ قال: لم أجدْ من يردّني”. فحتّى تتوازن الحياة وتعتدل، لا بدّ من الثورة دائماً في وجه أنواع الظلم والفساد والاستبداد كلّها.

والحياة الكريمة لا تستقيم دون ثورات تحمي حياضها، عندما ترفع المرأة صوتها في وجه زوجها القاسي محتجّة.. فهذه ثورة، وحين يعترض العامل على سوء معاملته، وعلى هضم حقوقه، فهذه ثورة، حينما يطالب التلميذ بالعدالة مع زملائه فهذه ثورة، حينما يحتجّ المنتظر الواقف في (الطابور) الطويل على من يأخذ دوره.. فهذه ثورة، إنكار المنكر ثورة، والأمر بالمعروف ثورة.  

 حينما تطالب الشعوب المقهورة بالكرامة والحرّيّة والعدالة والمساواة ورعاية مصالحهم وحفظ حقوقهم هذه ثورة.

البشريّة كلّها تتقدّم في ميدان حقوق الإنسان والكرامة البشريّة، واحترام المواطن، وتبني الدول الحديثة التي تخلّصت من عقليّة الوصاية والتعامل كالسادة والعبيد الذين يعيشون في مزرعة السيّد، الذي يمنّ عليهم بالعطايا، وبنوْا دولاً ديمقراطيّة تستمدّ الحكومات مشروعيّتها من إرادة شعوبها عبر انتخابهم، وتتقرّب الحكومات من الشعوب بالتفنّن بتقديم الخدمات وترفيه مواطنيهم.

والمستبدّون العرب يسبحون بعكس تيّار الحياة، ويحاربون سنن التاريخ، ولن يستطيعوا الوقوف في وجه التقدّم الطبيعيّ، لن يستطيعوا إيقاف نموّ الأشجار، ولا إيقاف سقوط الأمطار.. لن يستطيعوا الوقوف في وجه الأقدار، لن يستطيعوا الاستمرار في استعباد الشعوب!!

لكن لا بدّ مع الأمل من العمل، فالحقوق لا تُعطى بل تُؤخذ، وما يسمّى (بالثورات المضادّة) أمر طبيعيّ متوقَّع، فإذا كان اللصّ الصغير الذي يسرق شيئاً حقيراً لا يستسلم، ويبذل قصارى جهده للفوز بمسروقاته، فماذا ننتظر من ظالم فاسد سارقٍ مقدّرات بلدان كاملة؟! هل نتوقع أن يستيقظ ضميره ويُسَلّم الجملَ بما حَمَل؟!

 هل يتنازل عن مصالحه كلّها؟! ثمّ ماذا عن الطفيليّات التي تعيش على موائد المستبِدّ، هل تستسلم بسهولة هي الأخرى؟! من المؤكّد أنّهم سيحاربون للمحافظة على مكتسباتهم لآخر رمق!.

ومن الواجب أن نصبر على متطلّبات نيل الحقوق، ونصبر على مواجهة الظلم، بدل الدعوات الخائرة التي تطالب بالصبر على الظلم!.

ينبغي أن نطالب بالرضا بما يصيبنا عند إصلاح الواقع، بدل الدعوات للرضا بالواقع الآثم!.

علينا الانتقال من الاكتفاء بالدعاء -والاقتصار على أضعف الإيمان- إلى أعلى درجات الإيمان؛ إلى التغيير باليد، وبذل الغالي والنفيس، فالثورة مستمرّة ما دامت الحياة مستمرّة.




الإجازاتُ المَشْيَخِيّة .. بين الوسيلة والمقصِد

خلال مراحل العمر يغلب أن يمرّ طالب العلم بتجارب متنوّعة، ومن هذه التجارب تجربة الإجازات من المشايخ والعلماء، حيث أولعتُ في فترة من عمري بجمع الإجازات والأسانيد العالية، وخَبَرْتُ القضيّة جيّداً، فكنّا نطوي -مع أصحاب لي- المسافات الطويلة طلباً لإجازة، أو إسناد عالٍ، فنقابل العلماء، ونطلب منهم الإجازة إحياءً لسنّة السند الذي ميّز الله بها هذه الأمّة، وغيرها من الكلمات المحفوظة في هذا السياق، فيعطونا إجازات مكتوبة، بعضها أكثر من عشر صفحات، مليئة بأسماء كتب الحديث وبقيّة العلوم الشرعيّة، ممّا لم أقرأه ولم أطّلع عليه أصلاً! ثمّ استيقظتُ بتنبيهٍ من بعض الأفاضل، وركّزتُ جهدي على طلب العلم، وتركتُ الهَوَس بجمع الإجازات!

كثيراً ما تضيع البوصلة عندنا، فنخلط بين الوسائل والمقاصد، حيث كانت الإجازة وسيلة تمثّل الشهادة لطالب العلم بإتقان علم أو سماع مرويّ، ثمّ أصبحت غاية ضاع معها المقصد.

وكان الإسناد للتوثيق والتأكيد، لذلك كان الرواة يطلبون الإسناد العالي في الرواية (وهو الإسناد قليل عدد الرواة)(1) لتقلّ إمكانيّة الخطأ على الرواة، وانتهى عصر التدوين وتناقلت الأمّةُ الكتبَ التي جمعتِ السُّنةَ النبويّة الشريفةَ، وحفظوها ونقلوها محفوظة في السطور والصدور، ولم يعد للأسانيد تلك الأهميّة التي كانت قبل عصر التدوين، فالناس الآن تتناقل أمّات كتب الحديث بالتواتر، عبر ما يُسمّى في طرق تحمّل الأحاديث (الوِجادة) وهي أن تجد كتاباً فيه أحاديث جمعها شخص وأنت لم تلقَ المؤلّف وليس لك إجازة منه، ووثّقت بنسبة الكتاب إليه، فيجوز لك الرواية من ذلك الكتاب، على أن تشير أنّك تروي من كتاب وجدتَه لفلان، ولا توهم السامع أنّك سمعتَ تلك الروايات منه، وبهذا يظهر أنّنا نروي من كتب أمّهات الأحاديث في أيّامنا على سبيل الوجادة الجازمة بنسبتها إلى أصحابها، فهي منقولة لنا بالتواتر الذي تحيل العادةُ الكذب بنسبتها.

وأصبح في زماننا السند للبركة، والإجازات والإسناد العالي للتفاخر، مع الغفلة عن مقصد علم الحديث الشريف، وهو الفهم والاستنباط والعمل، وتشاهد ذلك عندما يجتمع المهتمّون بالإجازات، ويتفاخرون بها، فهذا يقول: “أجازني العالم الهنديّ فلان صاحب الإسناد العالي بكذا وكذا”، فيجيبه الآخر: “وأنا أجازني العالم المغربيّ فلان بكذا وكذا وإسناده أعلى”، وقد ذمّ علماؤنا القدماء ذلك وعابوه، ومن ذلك كلمة قاسية للإمام الذهبيّ، يقول فيها: “والمحدّثون: فغالبهم لا يفقهون، ولا همّة لهم في معرفة الحديث.. إنّما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة”(2) ومن الواضح أنّه يقصد طائفة من المشتغلين بالحديث ممّن يتّصفون بما ذَكَر، فلا يجوز تعميم تلك الأوصاف، فجهود السادة المحدّثين في جمع حديث رسول الله ﷺ مشهورة مأجورة مشكورة إن شاء الله، وكثير منهم جمع بين الرواية والدراية والحفظ والفهم.

وممّا ينبغي التنبّه له هنا التدليس الذي يفعله بعض طلّاب العلم، من أنّه يروي عن شيخ موهماً أنّه تلقّى عنه العلم أو الرواية، وهو في حقيقة الأمر مجرد مجازٍ منه إجازة، دون تلقٍ لشيء من العلوم التي يرويها أو يشرحها، وقد ذمّ العلماءُ التدليسَ، قال شعبة بن الحجاج: “التدليس أخو الكذب”.

ومن مظاهر انقلاب الوسائل إلى مقاصد الحرصُ على قراءة وإقراء أجزاء وكتب قيمتها العلميّة متدنيّة بالنسبة إلى غيرها، والسبب في ذلك توفّر إجازة وسندٍ في هذه الكتب.

فتسمعهم يحرصون على قراءةِ وإقراءِ أجزاءٍ حديثيّة غريبة الاسم والموضوع، ويتركون الأَولى منها والأجدر، من كتب الحديث ذات القيمة العالية، وما الدافع لقراءة وإقراء هذه الأجزاء الغريبة إلا توفّر إسنادٍ لها، مع أنّ كثيراً من هذه الأسانيد ضعيفةٌ لا يمكن الاعتماد عليها! 

ومن أشكال هذه الظاهرة رواية الأحاديث المسلسلات (وهي التي تُرْوَى على هيئة وطريقة محدّدة) وليس ذلك بسبب القيمة العلميّة لهذه الروايات بل لِزَعْمِ توفّر إسناد وإجازة بتلك الرواية!

والمرجوّ والمطلوب من طلبة العلم الشرعيّ بمختلف تخصّصاتهم أن يحرصوا على الاطلاع على خلاصة أمّهات كتب الحديث ولو بقراءة سرديّة، بشرط أن تكون السرعة تعطي مجالاً لفهم معنى الحديث الشريف، ولو المعنى الإجماليّ الكلّيّ.

ولذلك لا داعي لقراءة الأسانيد لغير المتخصّصين بالحكم على الأحاديث (قبولاً وردّاً تصحيحاً وتضعيفاً)، حتّى اسم الصحابيّ (راوي الحديث) لا داعي لحفظه كما كنّا نُكَلَّف في أثناء طلبنا للعلم، ونتعب في ذلك، وتختلط علينا أسماء الرواة، وكلّ ذلك ممّا لا طائل تحته أصلاً، إلا إنْ كان اسم الصحابيّ (راوي الحديث) له علاقة بنصّ الحديث ومتنه.

ولا داعي لقراءة المكرّرات، لذلك فالأفضل أن يتمّ اختيار كتاب جامع لمتون أمّهات كتب الحديث دون تكرار، وأن تتمّ قراءة متون الأحاديث قراءةً متمهّلة فاهمة.

حتّى يسمع طالب العلم أحاديث النبيّ ﷺ، مرّة في العمر -على أقلّ تقدير- ليعرف مواضيعها ومَواضِعَها، ويحيط بالعناوين والأبواب، فيستطيع الرجوع إليها بسهولة، ويتذوّق أسلوب النبيّ ﷺ، وتتكوّن لديه مَلَكة في تمييز الحديث النبويّ الشريف عن غيره، ويحبّذ أن يكون القارئ عالماً متقِناً يعلّق تعليقاتٍ سريعة على الأحاديث التي قد تَشْكُلُ على الناس.

أمّا ما يحصل في كثير من الأحيان فهو أنّ الإجازة تحوّلت من وسيلة إلى مقصد في حدّ ذاتها، فلو تمّت قراءة كتاب من أمّهات كتب الحديث في (مجلس سماع) مثلاً، فلا يتمّ التركيز على إتقان معانيه أو لفظه، بل ما يحصل هو قراءةٌ سرديّة سريعةٌ أقرب (للهَذْرَمَة) لا يفهم السامعُ أغلبَها، ولو ادّعى شخص أنّه يفهم ما يُقرأ ولو كانت القراءة سريعة، فيُقال له: النادر لا عبرة به، فلا بدّ من النظر لغالبيّة الحضور، فلا قدرة للمستمع -عادة- على الاستمرار بالتركيز والفهم، نتيجة السرعة المفرطة التي لا تُبِين الحروفَ والكلمات، فيسهو المستمع وربما ينام! وبتتبع هذه المجالس ينتابك شعورٌ أنَّ همّ القارئ والمستمِع إنهاءُ الصفحات، كأنّها عقوبة يريد التخلّص منها! لينال في نهاية المجلس إجازةً بسندٍ عالٍ!

ومن أهمّ مظاهر تحوّل الوسائل إلى مقاصد جمع الروايات وإهمال المعاني والفقه والعمل بالحديث، رغم أنّه المقصود، وقد نبّه إلى هذه الآفة وغيرها الإمام ابن الجوزيّ، في كتابه الشهير تلبيس إبليس فقال: “من ذلك أنّ قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية، والمتون الغريبة، وهؤلاء على قسمين: قسمٍ قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وهم مشكورون على هذا القصد، إلا أنّ إبليس يلبّس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين، من معرفة ما يجب عليهم، والاجتهاد في أداء اللازم والتفقّه في الحديث.

 فإن قال قائل: فقد فعل هذا خلق كثير من السلف، كيحيى بن معين وابن المدينيّ والبخاريّ ومسلم، فالجواب: إنّ أولئك جمعوا بين معرفة المهمّ من أمور الدين والفقه فيه، وبين ما طلبوا من الحديث، وأعانهم على ذلك قصر الإسناد، وقلّة الحديث، فاتّسع زمانهم للأمرين، فأمّا في هذا الزمان فإنّ طرق الحديث طالت، والتصانيف فيه اتّسعت، وما في هذا الكتاب في تلك الكتب، وإنّما الطرق تختلف، فقلّ أن يجمع أحدٌ بين الأمرين..

القسم الثاني: قوم أكثروا سماع الحديث، ولم يكن مقصودهم صحيحاً، ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق، وإنّما كان مرادُهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان ليقول أحدهم: لقيتُ فلاناً، ولي من الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري.. وهذا كلّه من الإخلاص بمعزل”(3).

نعم يمكن استخدام الإجازات كوسائل تحفيز وترغيب بطلب علمٍ ما، كالشهادات التي تُعطى في الدورات العلميّة والمهاريّة والتنمويّة، التي انتشرت في زماننا، وإن كانت هذه الشهادات قد حلّت محلّ الإجازات، وأغنت عنها في كثير من الأحيان، ومن قصص النجاح التي تُحسَب للإجازة في هذا السياق إجازاتُ حفظ القرآن الكريم، يَذكر شيخُنا الشيخ المقرئ أبو الحسن الكرديّ ؒ أّنه عندما أُجيز بالقراءات العشر في خمسينيّات القرن الماضي كان من النادر أن تجد من يحفظ القرآن الكريم في دمشق من الرجال، فضلًا عن النساء! فبحث العلماء والدّعاة عن طريقة تجعل الناس يُقبلون على حفظ القرآن الكريم، فاقترح الشيخ عبد الكريم الرفاعي ؒ على الشيخ أبي الحسن أن يفرد رواية حفص فقط بإجازة، (ولم يكن إفراد الإجازة برواية واحدة مشتهِراً عند قرّاء دمشق وقتئذٍ، بل كان القرّاء يجيزون بالقراءات العشر كاملة).

 أُعجب الشيخ أبو الحسن بتلك الفكرة، واستشاروا بذلك شيخَ القراء في الديار الشاميّة وقتها الشيخ أحمدَ الحلواني ؒ فوافقهم على ذلك، وطُبعت الإجازة برواية حفص عن عاصم، ثمّ انتشرت وأقبل الناس على حفظ القرآن الكريم من الرجال والنساء لمّا رأوا الإجازة، وقرؤوا فيها السند العظيم الذي يصل إلى رسول الله ﷺ، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن ربّ العزة تبارك وتعالى(4).

فالإجازةُ شهادةٌ بأنّ فلاناً قد أُجيزَ بعلم ما، مسنَداً كان هذا العلمُ أم غير مسندٍ، سواءٌ كانَ منقولاً عن عالم آخر أو من بطون الكتب أو من جامعة أو مدرسة أو دورة أو من أفكارِ الباحثِ أو العَالِمِ نفسِه، وقد تكون الإجازة في علوم الآلة أو في العلوم الشرعيّة الرئيسة.

وقد تطوّر مفهوم الإجازة من صورته الفرديّة، المقتصرة على الإذن برواية بعض الأخبار؛ إلى كونها شهادة معتمَدة من جهة ذات مصداقيّة في علم من العلوم، تُظهر قدرة حاملها على الأداء العلميّ المتقَن في مجال تخصّصه. 

ثمّ تطوّرت في عصورنا المتأخّرة إلى مئات الأنواع، بحسب تخصّصاتها، والجهات المشرفة عليها، والسنوات المبذولة فيها، والمستويات المندرجة تحتها، وغير ذلك من الاعتبارات.

وهذا النوع من “الإجازات” هو الذي ينبغي الاهتمام به، والتفتيش عنه، الإجازات التي تنظّمها القوانين والأنظمة المنضبطة، وتشرف عليها جهات معتمَدة، ذات مصداقيّة عالية في تخصّصها وأمانتها وسمعتها بين الناس، كالجامعات المرموقة، والمعاهد المتخصّصة، والمراكز العالميّة، ونحوها من المؤسّسات الشرعيّة وغير الشرعيّة، أو أفراد العلماء والمشايخ الذين يتثبّتون فيما يمنحون من إجازات وشهادات، المهم أن تُثبت الإجازة لحاملها أنّه ترقَّى في تحصيل العلم بين يدي أهله المتخصّصين، ضمن أنظمة رقابيّة، تضمن تحقّق الحدّ الأدنى من الكفاءة المطلوبة.

أمّا الإجازات التي أشرنا إليها واشتهرت لدى بعض المشتغلين بالعلوم الشرعيّة، التي يتمّ فيها منح حقّ الرواية والتدريس من غير تثبّت من أهليّة المجاز وتمكّنه ممّا أُجيز به؛ فهي من الصور الضعيفة التي لا ينبغي التعويل عليها في توثيق حاملها والأخذ عنه(5).

يقول الشيخ عبد الله الجديع حفظه الله متحدّثاً عن الإجازة في علم الحديث: “توسّع فيها المتأخرون، وزادوا في أنواعها، وأدخلوا فيها صوراً منكرة، شبيهاً بما أدركناه اليوم من طائفة يقتني أحدهم كرّاساً جُمِع فيه له أو جَمَع لنفسه أسماء مصنّفات عدّة، كالصحيحين والسنن، له بمضمون ذلك الكرّاس إجازة من شيخ له، أن يروي تلك الكتب عنه، وذلك بإسناد لذلك الشيخ عن شيخ له، ويقع في السلسلة من هو معروف من علماء المتأخّرين بالإسناد، ينتهي الإسناد إلى إمام من أئمّة الحديث، كالحافظ ابن حجر أو غيره، ومنه إلى الأئمة المصنفين لتلك الكتب. والعيب في هذه الإجازات أنّ الطالب يجاز بمجرّد أسماء لكتب، لا يجاز بمضمون، بل من هؤلاء المجازين من لم يطّلع على مضمون، ولم يرَ الكتاب الذي أُجيزت له روايته عمره، بخاصّة بعض الأجزاء الحديثيّة التي هي في عداد المفقود، فعجباً لأحدهم يقول بعد ذلك: “لديّ برواية صحيح البخاريّ إجازة، وأنا أروي جامع الترمذيّ عن مسند العصر فلان”، ما أراه والله إلا يكذب في دعواه! فإنّه لو قرأ البخاريّ أو الترمذيّ وحفظهما فإنّه إنّما تلقّاهما بالطريق الذي تلقّاهما به سائر الناس، وهو هذه الوجادات عن الأصول الخطيّة والنسخ المنتهية أصولها إلى قرون عدّة، فأيّ فضل في هذا لإسناد هذا المسكين، وأيّ صدق في دعواه: أَرْوي هذا عن فلان، ما هذا إلا من تشبّع الإنسان بما لم يُعطَ، ولا عجب، فكثير من هؤلاء المُجِيزينَ والمُجَازِينَ ممّن لا حظّ لهم في هذا العلم”(6).

____________________

1) مثلاً: لو كان بين الراوي وبين النبيّ ﷺ ثلاثة رجال يكون الإسناد أعلى من أن يكون الإسناد فيه خمسة رجال بين الراوي وبين النبيّ ﷺ.

2) زَغَل العِلْم، الإمام الذهبيّ، ص 27

3 ) تلبيس إبليس، ابن الجوزيّ، ص: 105

4) ينظر مقال: توضيح وبيان حول الإجازات القرآنيّة التي منحها الشيخ أبو الحسن الكرديّ، بقلم ولد الشيخ محمد نزار الكرديّ، المقال منشور في عدّة مواقع على شبكة المعلومات.

5) ينظر: الإجازات القرآنيّة وشروطها: رؤيّة جديدة مهمة، أحمد النبوي

6) تحرير علوم الحديث، الدكتور عبد الله الجديع، 1/152




أخلاقٌ إنسانيّة !!

الإنسانُ محورُ الكون، الإنسانُ أكرمُ المخلوقات على الله تعالى، خلقه في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكُتب، وسخّر له الكونَ كلَّه بسماواته وأرضه!!

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

كرَّم الله الإنسان بغضّ النظر عن لونه، أو عرقه، أو بلده، أو دينه، أو مذهبه.

أو دينه؟!!

نعم الإنسان مكرّم بغضّ النظر عن دينه.. 

روى البخاري: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ!!

فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!!
أليست نفساً: أي أليست روحاً أليس بشراً؟!! (لقد كرّمنا بني آدم) فكلّ بني آدم مُكرَّمون عند الله تعالى.

هذه القيم العظيمة، تكريمُ الإنسان، والحفاظُ على حقوقه، وقيمةُ التسامح والتعايش والرحمة والرأفة والمعاملة بالحسنى، هل ستبقى قيماً فقط  للتمدّح والتغنّي والخطب الرنّانة والمقالات البليغة؟ أم لا بدّ من تحويلها إلى سلوكٍ فاعل وأخلاقٍ غالبةٍ، وإجراءاتٍ عمليّة؟

لقد كانت هذه القيم منتشرةً زمنَ قوّتنا وتمكّننا، لكنها تضاءلت في عصرنا هذا، ففي زمن الهزائم والخذلان والضّعف يشيع الفقه المتشنّج، الحدّي مع الآخر (العين الحمرا).. وفي زمن التمكين والاستقرار والقوّة.. يشيع فقه التسامح والتعايش.. 

لقد افتقدنا هذه القيمَ عند صنفين من الناس.. الصنفُ الأوّل:

المتشدّدون والمتطرّفون من المتديّنين. 

والصنفُ الثاني: غيرُ الأخلاقيّين؛ ممّن لا دين له ولا خلق ولا قيم؛ ممّن يَعتبر الحياة مادّة، فمن الذكاء جمعُ ما تستطيع منها دون قيد أو شرط.

فالإنسانُ دون دينٍ وخلقٍ وضميرٍ، وحشٌ كاسر، أطماعُه تَجعلُه يرتكبُ المَجازر، التي يذهب ضحيَّتها النساء والأطفال والشيوخ، ويُتاجرُ بالأعضاء والأطفال والنساء، ويُمارسُ الغشَّ والخداع والاحتيال؛ ليروي شهواته ورغباته..

وهنا نؤكّد على ما يُميّزُ الإنسان، وهو القلب والروح، فالحضارةُ الماديّة منحت الإنسان الرفاهيةَ، لكنّها لم تمنحْه السكينة، ووفّرت له المتعةَ الماديّة، ولم تُوفّر له السعادةَ الروحيّة، وهيّأت له الوسائلَ والأدواتِ، ولم تهيّء له المقاصد والغايات، فهو يحيا حياةً لا يعرفُ لها هدفاً، ولا يجدُ لها معنىً().

فالتقدُّم والازدهار، الذي نراه في كلِّ مكان من العالم، إنْ لم يرافقْه نهضةً خُلقيّةً وروحيّةً وقيميّةً، فسيبقى تقدُّماً وانتعاشاً على صعيد المُخترَعاتِ، وأدواتِ الرفاهية والزينة، وأسباب القوَّة فقط، وهذا سيُشكِّل مأساةً على المدى البعيد!

إنّ المذهبَ الوجوديّ الإنسانيّ قدّم للإنسانيّة وعوداً لم يحقّقها، كما أنّه أفقدَ الناس الشعورَ بالطَّمأنينة الروحيّة، وجعلَ الناس عبيداً للمادّة.

أمّا المتشدّدون والمتطرّفون فقد شوّهوا جمال الإسلام وتسامحه ونزعته الإنسانيّة بتصرّفاتهم الرعناء، وروحهم المتعصّبة والطائفيّة، وقلبهم البغيض الأسود..

إلى الآن ما زال بعضنا يعيش بعقليّةٍ كعقليّةِ العصور الوسطى المتخلّفة في أوربّة، التي كانت مشغولةً عن حقوق الإنسان وحرّيّته وأحلامه وتطلّعاته، وكيف نحمي الإنسان من الفقر والجهل والمرض والقهر؟! بينما هم يهدرون الإنسان دفاعاً عن جناب الله تعالى -بزعمهم-، ويسفكون الإنسان خوفاً من الهرطقة والضلال بزعم الكنيسة().. 

وكذلك بعضنا يعتدون على إخوانهم، لمخالفتهم رأيهم في بعض صفات الله تعالى، أو حكم التوسّل برسول الله عليه الصلاة والسلام.. 

فكيف يتساهلُ بعض المتشدّدين مع الذين يفجّرون أنفسهم بين أناس لمجرّد مخالفتهم لهم في الدين، وانتمائهم إلى دولة معادية؟، أو لاستحقاق أحدهم للقتل برأي ذلك القاتل؟!!

بالفعل سلوكيّات بعض الغلاة تؤيّد من يقول: (المتديّنون منشغلون بتنزيه الله تعالى، وغافلون عن حقوق الإنسان) مع أنّ الإسلام جاء لسعادة الإنسان ورعاية حقوقه.. إلى جانب ربط قلبه بخالق الكون الواحد سبحانه وتعالى.

وقد كان نبيّنا محمّدٌ عليه الصلاة والسلام الإنسانَ الكامل، فحتّى عندما كان مُستغرقاً في الصلاة كان يراعي أحوال الناس خلفه، قال: ((إذا صلَّى أحدُكُم إماماً للناس، فليُخفِّف، فإنّ فيهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ. وإذا صلَّى لنفسه –أي مُنفرداً– فليُطوِّل ما شاء)) متفق عليه.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنّي لأقومُ إلى الصلاة، وأريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في صلاتي كراهية أن أشُقَّ على أمِّه)) متفق عليه.

والآن ما المطلوب؟ حتّى نُحييَ النزعة الإنسانيّة عندنا؟

أولاً: التعامل برفق مع مخلوقات الله من حيوان ونبات:

علينا أنْ نُعمِّقَ النزعة الإنسانيّة لدى الأجيال الجديدة؛ من خلال التعاطف مع الحيوان، ومع الأشياء من حولنا؛ بغيةَ بناءِ خطوط دفاع متقدِّمة، تَحول دون ظلم الإنسان أخاه الإنسان.

فالنصوصُ الواردةُ في مديح من يُساعد الحيوان، وذكر الوعيد الشديد على إيذائه – تستهدف تنميةَ المشاعر الخيِّرة، ومشاعر الأُلفة والرعاية، كما تستهدف كبحَ المشاعر الشرِّيرة. 

كما يجب صيانةَ ما هو موجود من الثروة الحيوانيّة والنباتيّة، وتنميته وتكثيره؛ لأنّ الناسَ يكثرون، وهم بحاجة إلى المزيد من الموارد، ونجد في هذا المعنى قوله – صلّى الله عليه وسلّم -: ((مَن غَرَسَ غَرساً لم يأكُل مِنهُ آدَمِيٌّ، ولا خَلقٌ من خَلق الله -عزّ وجلّ- إلا كان لهُ صَدَقَة)) أحمد وغيره، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إن قامَتِ الساعةُ على أَحَدِكُم وفي يَدِهِ فَسيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ ألاَّ تقومَ حتى يَغرسَها فَليَغرِسها)) أحمد وغيره.

 كما جاء التوجيهٌ للمسلم أنْ يتعاطفَ مع مخلوقات الله تعبيراً عن الرحمة التي في قلبه، وشكراً له سبحانه على ما سخَّره منها، وورد النهي عن إيذاء الحيوانات في أحاديث كثيرة، منها أنّه نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوَسْم في الوجه، ومرَّ يوماً بحمار قد وُسِم في وجهه، فقال: ((لعنَ الله الذي وَسَمَهُ)) رواه مسلم، والوسم: هو كي الحيوان بحديدة محماة حتّى تترك علامة للزينة، أو لتمييز الحيوان بتلك الإشارة.

ومرّةً أخذ بعض الصحابة فِرخَيْ طائر، فجاءت أمّهما ترفرف باحثةً عن صغيريها، فقال فداه روحي: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها)، (ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار!!) أبو داود.

ثانياً: معاملة الناس كلّهم بأخلاق فاضلة:

معاملةُ الناسِ كلِّهم بالقيم نفسها، وليس المسلمون الملتزمون فقط،

 كذلك الشاب الملتزم الذي ركب الحافلة، ولمّا اكتظت بالركاب، صعدت امرأة طاعنةٌ في السّنّ، فلم يَقمْ لها ليُجلسها موضعه، لأنَّها كانت سافرةً، ولمّا صعدتْ امرأةٌ مُحجّبةٌ، قامَ لها وأجلسها مكانه، على الرّغم من أنّها أحدث سنّاً من العجوز، فكان تصرّفُه غيرَ لائق..

فإطعام الفقير، وتعليم الجاهل، وعلاج المريض، ومساعدة المحتاج… أفعال فاضلة ينبغي تقديمها لكلّ إنسان، بنفس الجَودة والحماسة.. روى البخاريّ عن حبيبنا صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).

أي: كلّ كائن حيّ لنا بمساعدته أجر..

فعمل الخير يجب أن يتناول بني آدم، بغضّ النظر عن انتمائه وعرقه ولونه..

فإذا دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتّى ماتت، ودخل الجنّة رجل سقى كلباً ماء فأنقذ حياته، فكيف بمن يساعد إنساناً!..

بل هذه الأخلاق الفاضلةُ كثيراً ما كانت سبباً لكي يُحبّ غيرُ الملتزم الالتزامَ بتعاليم الإسلام، والخلقُ الحسن كثيراً ما كان سبباً لكي يدخل غيرُ المسلم في الإسلام، لإعجابه بسلوك بعض المسلمين.

قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين) وليس للمسلمين فقط..

وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والبِّرّ: هو أفضل المعاملة، طُولبنا بالبرّ لأهمّ مخلوقين عندنا وهما: الوالدان، والآية الكريمة تطالبنا بالبرّ لغير المسلمين المسالمين، أمّا القسط فهو العدل.

ثالثاً: عدم التسرع بالحكم على ظاهر الناس، والرفق بالعُصاة والشفقة عليهم:

 بعضُ الشباب يحلقون لحاهم، ويلبسون الثياب الضيّقة، وقد أطالوا شعورهم، لكنّهم يحافظون على الصلاة، ويحافظون على صيام النوافل، وفي بعضِ البلدان أعدادٌ هائلةٌ من النساء لا يلبَسنَ الحجاب، ويخرجنَ متزيّنات، ورغم ذلك يُحافظن على الصلاة، وتلاوة القرآن والأذكار، وبعض رجال الأعمال ينفقون على الفقراء والمحتاجين سرّاً، مع أنهم مُقصّرون في أداء الصلاة، وربما يَتساهلون في طرق الكسب وجمع الثروة..

فالحكمُ على الناس بناء على المظاهر -التي قد يكون بعضها مُحرّماً- خطأٌ، قد ينتهي بنا إلى الانصرافِ عنهم، وتركِ الاهتمام بهم، بل قد يدعونا إلى معاداتهم، (فكلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون)، فكثيرٌ من هؤلاء فيه خيرٌ كثير، وقَابليّةٌ كبيرةٌ للصلاح، بل كثيرون ربّما يتفوّقون على الملتزمين بطيب القلب، وحُسن الخلق، والشهامة والرحمة، ويحبّون الالتزام، لكنّ نفوسهم تغلبهم عليه، ويشعرون بالتقصير والانكسار لله تعالى بسبب ذلك..

بينما نحن ـ الملتزمين ـ نشعرُ بالتفوّق والاستعلاء عليهم!! وهذا من باطن الإثم، الذي ينبغي أنْ ننتبه له..

ورحم الله القائل: ربَّ معصيّةٍ أورثت ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزّاً واستكباراً.

ولو قلتُ لبعض الناس في حقّ مُدْمن خمر: (هذا يحبّ الله ورسوله) لعله يُبادر ويقولُ: ما هذا التمييع بالدين، وما هذه المبالغة الممجوجة؟!!

فهذا صحابيّ (كما روى البخاريّ) مُدْمن خمر، وكان فكهاً، يُضحك النبيّ  ، وذاتَ مرةٍ جِيء به وقد شرب، فأُمر به ليجلد، فقال شخص: (لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به). 

فقال رسولنا الكريم الرحيم عليه الصلاة والسلام: (لا تلعنه، فإنّه يحبّ الله ورسوله)…

مثل هذه النصوص تغيب عن ثقافة المتشدّدين المتجهّمين، والغلاة القساة.. الذين شوّهوا الدين، وبغّضوه للنّاس.

رابعاً: تنمية مشاعر الصَّفح والعفو والإعذار:

 وذلك من الاستجابة لأمر الله تعالى في هذه الأمور أوّلاً، ومن أجل التَّكيُّف والتأقلم مع الطبيعة البشريّة الخطّاءة، حيث إنّ علينا دائماً أنْ نتوقَّعَ تصرفاتٍ غيرَ ناضجة، ومواقفَ غير سديدة، وإنّ التوقُّف عندها، والمحاسبة عليها، على نحو مستمرّ من العوامل التي تزيد في الاضطراب الاجتماعيّ، وقد قال الله تعالى مادحاً العفو وأهله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ!}.

وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وقد كان نبيّنا ﷺ يُقدّمُ الأنموذج الأسمى في العفو عن الإساءات، وغضّ الطرف عن الهفوات، وفي هذا تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ما ضربَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من مَحارم الله تعالى، فَينتقمَ لله)) رواه مسلم..

فالأسبابُ التي تجعل الناس يُسيئون التقدير، أو يقعون في الزلل، أو يَجرون خلف رغباتهم أكثرُ من أن تحصى، ولو أنّنا عرفنا هذا حقَّ المعرفة، فإنّنا سنجد أنّ العفو والصفح هو الموقف الصحيح في معظم الأحيان.

وقد ثبت أنّ فرضَ القوانين من غير تثقيف وتربية، وإحداث تغييرات مهمَّة على صعيد الرُّوح والنفس… لا يكون ذا فائدة تُذكَر. 

وقبل أن ننهي كلامنا، هناك تساؤلان على ما قدّمنا:

سؤال يتعلّق بنا نحن المسلمين، وآخر يتعلّق بغيرنا.

أمّا التساؤل الأوّل: أين الولاء والبراء، والحبُّ في الله والبغضُ في الله؟

الجواب: أمّا الولاء والبراء، فمن المؤكّد أنّنا لا نوالي أعداءنا، ونحن نبرأ من عقائد غير المسلمين.

وأمّا الحبّ في الله، والبغض فيه: فيجب أن نكره المعصية، ولا نكره العاصي، ونكره الكفر، ولا نكره الكافر، وإلا فكيف ستدعو من تكرهه؟ وكيف ستحرص عليه، وتشفق عليه من عذاب الآخرة؟، فاللازم هو كره الكفر والمعاصي، لا كرهَ الكافر والعاصي..

ثمّ إنّنا نخلط بين أوامر الشرع وقتَ الحرب، وبين أوامره وقتَ السِّلْم، فبعضُ الكتّاب والجماعات متخصّصون بكتابات الجهاد القتاليّ، فهؤلاء يتشبّع فكرهم بقيم الحرب وتعاليمه، وإذا لم ينتبهوا لذلك تَخرجُ آراؤهم غير متوازنة، وينعكس ذلك على كتاباتهم كلّها، فيشوّهون جمال الإسلام.

 كما أنّ قوماً على الطرف المقابل، يغلب عليهم الكتابة والتنظير للحياة العاديّة وقت السِّلْم، ولا ينتبه لحساسية الحرب، واختلافِ النظر فيها، فيُدخِلون قيم التسامح والتعايش لساحة الحرب..

والصوابُ أنَّ لكلِّ حالٍ أحكامها وآدابها وأخلاقها، فما يصلح وقتَ الحرب لا يصلح وقت السلم، والعكس صحيح.

ووضعُ النَّدَى في موضعِ السَّيْفِ بالعُلا = مُضِرٌّ، كوضعِ السَّيْفِ في موضعِ النَّدَى.

التساؤل الثاني: الآخر ليس متسامحاً معنا كما تطالبنا أن نكون معه:

قد يقول قائل: الآخر الذي تتحدّث عنه، وتطلب منّا معاملته بالحسنى، يتصرّف معنا بحقد وطائفيّة، ويقف مع الغرب، والغرب نفسه الذي يُنادي بحقوق الإنسان، هو يطبّق الحقوق، لكن للشعوب الغربيّة لا لنا.

ونقول: بشكل عام: كلامكم صحيح، لكن تصرّف الآخرين وحقدهم ليس مسوّغاً لمقابلته بحقدٍ مثله..

وإلا فما الميزة لنا عليهم؟ إذا شابهناهم بالطباع والأفعال والأخلاق؟

الإسلامُ يُريد أن يكون المسلم صاحب قلب نقيّ صافٍ، لا محلّ فيه للبغضاء والحقد، وهذا لا يعني الغباء (والسذاجة، أو البلاهة) فنحن طيّبون باختيارنا، لا عن غفلة، (فلستُ بالخِبّ ولا الخبُّ يخدعني)، فمن اعتدى علينا فليس له إلا البندقيّة (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فوقتُ الحرب نُري أعداءنا شدّةً وقسوةً، وصبراً وشجاعةً تَردعه.

ولِمَنْ كان مسالماً موادعاً نحن أطيب من عليها.

السلام عليكم.




وعينا بين القصور والتجديد

يُعرّف الوعي في علم النفس بأنّه: مجموع ما يُتحصّل من الشعور والإدراك والنزوع. 

لكن في الساحة الثقافية العامّة كلمة: (وعي) يُراد بها: الإدراك، أو الشعور.

بالمحصلة فالوعي: هو ما يُكون لدى الإنسان من أفكار، وتصوّرات، ووجهات نظر، ومفاهيم عن الحياة والطبيعة من حوله.

 والوعي أيضاً هو: محصّلة عمليّات ذهنيّة وشعوريّة معقّدة.
فالتفكير والحدس والخيال والأحاسيس والمشاعر، والضمير والمبادئ والقيم، ونظم الحياة العامّة، والظروف التي يمرّ بها الانسان كلّها، تساهم في تشكيل وعيه.

كما يتأثّر وعي الإنسان بالبيئة والمحيط والمجتمع الذي يعيش فيه.

والوعي لا يستطيع أن يدرك الواقع والعالم ويحيط به من خلال الحواسّ وحدها، لذلك يلجأ الوعي إلى القياس والاستقراء والتعميم.

وذلك كلّه في سبيل إيجاد قواعد ومنطلقات وأساليب يتعامل من خلالها مع أحداث الوجود، مما يُوّلد لديه صوراً ذهنيّة وتصورات عن الأشياء والأشخاص والشعوب والوقائع والأحداث.

فالصور الذهنيّة أو التصوّرات هي عبارة عن: مجموع المعارف والمعتقدات التي يحتفظ بها الفرد عن نفسه، وعن العالم الخارجيّ، وفق نظام عقليّ ثقافيّ وجهد هائل يقوم به الوعي.

وفائدة هذه التصوّرات للوعي كبيرة، إذ من خلالها يستطيع أن يُشكّل صوراً مبسّطة ومختصرة لما يرغب بالتعامل معه من العالم الخارجيّ. 

إنّ مهمّة الوعي الأساسيّة هي إدراك الواقع وفهمه ومعرفة كيفيّة التعامل معه.

وعند التدقيق في مكوّنات تشكيل الوعي ومهمّته الأساسيّة نلاحظ الأمور التالية:

1- تصوّرات قاصرة ومحدودة ونسبيّة:

إنّ التصوّرات التي يتشكّل منها الوعي كثيرة ما تكون: قاصرة ونسبيّة ومحدودة نتيجة عدم القدرة على الاستقراء التامّ، والاكتفاء بالاستقراء الناقص الذي لا يشمل جميع الحالات بجميع الأوقات لدى جميع الأشخاص.

 2- تصوّرات زائفة و مشوّهة:

كما يمكن أن تكون هذه التصوّرات زائفة أو مشوّهة نتيجة تفسيرات وتحليلات ظنيّة، قام بها الوعي، فالقطعيّات هنا قليلة جدّاً والمساحة للعقل والنظر.

3- تصوّرات جامدة: 

وهذه التصوّرات بسبب صعوبة بنائها وتشكيلها، فإنّ الوعي يحاول الحفاظ عليها إلى أكبر قدر ممكن، ولا يقوم بتغييرها، ممّا يولّد جمود هذه التصوّرات عن إدراك الواقع المتسارع فضلاً عن فهمه.

4- تصوّرات جزئيّة:

وذلك عندما تكون الأفكار والمفاهيم مقتصرة على جانب أو ناحية معيّنة، وغير شاملة لكلّ النواحي والجوانب والمستويات المترابطة والتي تؤثّر وتتأثّر في بعضها بعضاً في عمليّة تطوّر الحياة.

5- تصوّرات حدسيّة:
كما يمكن أن تكون هذه التصوّرات مباشرة وفجائيّة تجعلنا ندرك أشياء أو علاقات أو معرفة، دون أن نكون قادرين على الإتيان بأيّ استدلال يعزّز تصوّراتنا.

ومن هذه الملاحظات نستطيع تفسير وتفهّم وجود بعض الأشخاص الذين يتحدّثون في أمور سياسيّة واقتصاديّة بأسلوب يعتمد على مفاهيم نسخت من قرون، وتجاوزتها الخبرة البشريّة، وصار الأخذ بها يثير الضحك والاشفاق معاً!

وذلك بسبب جمود تصوّراتهم الذهنيّة وعدم تجديدها.

بل إنّ البثّ الفضائيّ والتواصل الكونيّ الهائل، ووفرة المعلومات التي لم تسبق في أيّ عصر مضى، جعل الوعي في مشكلة جديدة، حيث صار عليه أن يبرمج وينظّم خبراته بشكل متجدّد.

وكذلك الواقع المتغيّر وحركة التاريخ المستمرّة والوقائع المتجدّدة تتطلّب من الوعي أن يكون دائم الاستعداد للتجديد من مفاهيمه وتصوّراته.

وفي ظلّ تزاحم الواجبات، وقلّة الأوقات على الوعي أن يكون دائم التجديد لأحكامه ومعارفه وتصوّراته، لمعرفة واجب الوقت، وتقديم الاستجابة الصحيحة التي يطلبها الزمان والمكان.

من هذا كلّه نستطيع القول: إنّ الوعي إذا لم يجدّد تصوّراته ومعطياته التي يبني عليها الأحكام، سيتحوّل دوره من مهمّة إدراك الواقع ومعرفة كيفيّة التعامل معه، إلى وسيلة وأداة تحجُب الإنسان عن فهم الواقع وإدراكه بشكل صحيح، فضلاً عن التعامل معه.

ويختلف وعي الأفراد عن وعي المجتمعات والجماعات، فعادة ما يتغيّر ويتجدّد وعي الأفراد على نحو أسرع ممّا يتغيّر عليه وعي الجماعات والمجتمعات، لكنّ كلاً منهما يتغيّر على نحو تراكميّ.

إذا كان تجديد الوعي ضرورة ملحّة إلى هذه الدرجة، فما هي الطريقة وما هو السبيل إلى تجديده؟

هذه بعض الأمور التي تساهم في تحسين الوعي وتجديده:

أوّلاً معرفة أنّ التصوّرات والمفاهيم التي ينتجها الوعي ليست قطعيّة.

ثانياً متابعة المعطيات التي ينتجها الواقع على نحو مستمرّ.

ثالثاً التحلّي بالمرونة الذهنيّة وعدم التشنّج أو الجمود على القرارات والمفاهيم السابقة التيّ نمّتلكها.

رابعاً التعّلم والقراءة المستمرّة تساهم بشكل كبير في تحسين الوعي وتجديده.

خامساً فهم السنن والقوانين الربّانيّة، وطبائع الأشياء والنّظم الكونيّة التي سيّر الله الكون عليها.




هل في القرآن كلّ العلوم؟

كثيراً ما نسمع من بعض الفضلاء أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، فهو نظام شامل، وهذا حقّ لا ريب فيه، ونسمع أنّ كلّ شيء مذكورٌ في القرآن الكريم، ففيه علم الأوّلين والآخرين، وفيه علوم الدنيا والدين كلّها، الأنظمة والأفكار والحلول كلّها، وقد ورد عن بعض السلف مثل هذا الكلام، ويستشهدون بمثل قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}، (وَنزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (وتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) (اليوم أكملت لكم دينكم)، رغم أن الآية الأولى -والتي يستشهدون بها أكثر من غيرها- فسّرها كثير من المحقّقين بأمّ الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سيحصل في الدنيا(1)، وعلى القول بأنّها القرآن الكريم فإنّ هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى: ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ(2)، وهذا المعنى هو الذي يجب المصير إليه في تفسير هذا المبدأ العامّ، وهو أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، التي تدلّ عليه الأدلّة السابقة وغيرها، أي جاء بآيات وأحاديث تفي بحاجة توجيه الناس، ومن هذه الأحكام مبادئُ عامّة تصلح قواعد وأصولاً نستقي منها الفروع والتطبيقات المتجدّدة عبر تطوّر الحياة واتّساعها، وإلّا لما اضطررنا لمصادر تشريعيّة غير الكتاب والسنّة، لذلك قال علماء الأصول: “لمّا كانت النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية، كان لا بدّ من القياس وغيره من الأدلّة التي نحتاجها للحكم على المستجدّات غير المنصوصة”، فالمصدر الأصليّ في التشريع الإسلاميّ هو القرآن الكريم، وهو أرشدنا للرجوع للسنّة، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، والكتاب والسنّة أرشدانا للعقل السليم، والعقل مسترشداً بالكتاب والسنّة دلّنا على كون القياس الصحيح طريقةً سليمةً لاستنباط الأحكام والإرشادات الشرعيّة، وكذلك اعتبار المصلحة التي لم يُنْهَ عنها، واستصحاب البراءة الأصليّة، ومنع وسائل ومداخل المنهيّات بسدّ ذرائعها، واعتماد الأعراف الصالحة.. وهكذا اكتشفنا أنّ القرآن الكريم دلّنا على منابع وقواعد للمعرفة الصالحة من خارجه، تعتمد اجتهاد الإنسان، أي الجانب البشريّ من التشريع، ومن حكمة الله تعالى أنّه جاء بتعاليم مفصّلة لما كان ثابتاً كالعقيدة والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث.. وجاء بمبادئ وقواعد عامّة للمتغّيرات كالمعاملات الماليّة وأحكام الحرب والسلم، والعلاقات الدوليّة وأحكام الإدارة السياسيّة والإرشادات الاجتماعيّة.

فالجانب البشريّ في تقدير التشريعات والأحكام الإسلاميّة المتغيّرة كبير، طبعاً مع مراعاة القواعد والمبادئ العامّة التي شرعها الشارع الحكيم، وبلزوم مراعاة هذه المبادئ الربّانيّة من قِبَل المشرّع من البشر يختلف التشريع الوضعيّ عن التشريع الإسلاميّ.

لكنّ بعض الخطابات الإسلاميّة توهم الناس أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، فيهما تفاصيل كلّ شيء، وبخاصّة في سياق الوعظ ومدحِ الشرع الإسلاميّ!

 وهذا من العبث المنهجيّ، فقد أنتج هذا الخطاب عندنا أناساً يشترطون النصّ من الكتاب والسنّة على كلّ جزئيّة في حياتنا.

 وليت الأمر اقتصر على الجوانب التشريعيّة، لكنّ الأمر انتقل للعلوم التطبيقيّة والعلوم الإنسانيّة، وحتّى للآليات والأدوات والوسائل والنظم والإداريّات، وتفاصيل النظام السياسيّ والنظام الاقتصاديّ والأنظمة الاجتماعيّة، وتفاصيل القوانين والأنظمة الإداريّة، والعلوم الطبيعيّة والكونيّة التجريبيّة، فوجدنا علماء يبحثون عن تفاصيل هذه الأمور كلّها في نصوص الكتاب والسنّة!

طبعاً لا يعني هذا تجاوز تعاليم الكتاب والسنّة، بل الذي ننكره تقاعس عقل المسلم عن الاجتهاد البشريّ في إيجاد تفاصيل وحلول لكيفيّة تسخير الكون، واختراع نظم إداريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وتقنيّة واكتشاف العلوم التجريبيّة وتطويرها لحياتهم الدنيويّة والمعاشيّة، امتثالاً لقوله ☺ (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).

طبعاً هذه العقليّة أدّت بهم إلى عدم العثور على تفاصيل تلك النظم والآليات في الكتاب والسنّة، فرجعوا للحلول الإسلاميّة المحليّة -رغم قدمها- حيث رجعوا للجهد البشريّ للمسلمين في العصور السابقة، الذين عاشوا في ظلال تعاليم الإسلام -بحسب اعتقاد من أخذوا عنهم- وتبنوا آراءهم وحلولهم وتطبيقاتهم وآلياتهم التي وصلوا إليها.

 وهنا لا نقول: إنّ كلّ تراث أمّتنا العلميّ والعمرانيّ والثقافيّ متخلّف ولا يناسب عصرنا!

 بل نقول: فيها ما يناسب عصرنا، وفيها ما تجاوزه العصر، ولم يعد صالحاً، فحياتهم كانت أبسط، وواقعنا الجديد معقّد يحتاج حلولاً جديدة تناسبه.

فكان اتجاههم ماضَويّاً ينظر في تراثنا العلميّ والحضاريّ يريد تكراره، بما أنّه منضبط بالكتاب والسنّة (بحسب تصوّرهم)!

 وبالمقابل ظهر سلوك آخر رافض للحلول المستوردة (الغربيّة) ولو كانت عصريّة متقدّمة، وصالحة للاقتباس!

والحقيقة أنّ حلولنا الإسلاميّة –تاريخيّاً- كان كثير منها اقتباساً من الحضارات المعاصرة للدولة الإسلاميّة فاقتبسنا في العصور الإسلاميّة الأولى من فارس والروم كثيراً من الأنظمة والحلول، فما المانع أن نقتبس من الغرب والشرق ما توصلّوا إليه من علوم إنسانيّة وتطبيقيّة وأدوات ووسائل ونظم وحلول ناجحة؟! فهي تجارب بشريّة نأخذ ما يناسبنا منها، ونترك ما لا يتلاءم مع واقعنا واحتياجاتنا ومع مبادئنا وديننا.

بل سأذهب لأبعد من ذلك وأقول: حتّى ما نخافه من القيم والمبادئ العليا، نحن نتشارك معهم في كثير من مبادئهم وقيمهم، (كالصدق والأمانة واحترام الوعد والوفاء بالعهد والمواثيق، وكرامة الإنسان والمحافظة على حقوقه..) فقد اهتمّوا وسلّطوا الضوء على كثير من القيم والمبادئ التيّ كانت ضامرة –نسبيّاً- في عموم البشريّة في العصور السابقة، كالحرّيّات والعدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة وتفاصيل حقوق الإنسان وقيم التسامح والتعايش والسلم الأهليّ..

فالحلّ ليس بتكرار التجربة الإسلاميّة التاريخيّة بحذافيرها، ولا باستنساخ التجربة الغربيّة بكلّ تفاصيلها، بل بأخذ الصالح من التجربة الإسلاميّة التاريخيّة والتجربة الغربيّة المعاصرة، بما لا يتعارض مع قيمنا وتعاليم ديننا.

نحن بتكاسلنا عن النظر والبحث والتفكير والاعتماد على الجهد البشريّ، والنظر في الآفاق والأنفس، واستبدال ذلك بطلب تفاصيل ذلك من نصوص الكتاب والسنّة اللذين يرشداننا للنظر خارجهما عبر الأمر بالتفكّر والتدبّر والبحث والاجتهاد والتجربة والمشاهدة والاعتبار.

نحن نمشي بعكس المطلوب، فالمطلوب البحث خارج الكتاب والسنّة لتدبير شؤون حياتنا والنظر في الكتاب والسنّة للتوجيه والإرشاد والالتزام في شؤون حياتنا.

فعمارة الأرض مهمّة بشريّة بحتة، وعملها كله خارج الكتاب والسنَّة، ووضع القيم العليا  والأخلاق الفاضلة والأحكام الملزمة موجود في الكتاب والسنَّة.

فالأمور الدنيويّة الأصل فيها الإبداع البشريّ، مع الاتباع للتوجيه الربّانيّ.

فعمارة الدنيا تحتاج بحثاً (خارجيّاً) خارج الكتاب والسنّة، أما تعاليم الإسلام وأحكامه وإرشاداته فتحتاج بحثاً (داخليّاً) للكتاب والسنّة.

وعندها سنكتشف أنّ الكتاب والسنّة يأمراننا بالاتجاه خارجهما لعمارة الأرض، والالتزام بهما في السلوك والأخلاق والعقيدة.

يروي الشيخ الشعراويّ في تفسيره أنّه “سُئل الإمامُ محمّد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في إرْدَبّ الدقيق(3)؟.

 فقال: انتظروا.

واستدعى خبّازاً وسأله: كم رغيفاً في إردبّ القمح؟

فقال له: كذا رغيفاً. فقالوا له: أنت تقول إنّه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]”

ها هو القرآن الكريم يرشدنا للمتخصّصين في كلّ علم.

لكنّ حال بعض المنتكسين كالطالب الكسول الذي يعلّمه أستاذه تفاصيل علم ما في كتاب جامع لمسائل وقواعد ذلك العلم، في الكتاب القواعد التي يحتاجها كلّها في هذا التخصّص العلميّ، ثم يكلّفه ببحث التخرّج، وهو بحث تطبيقيّ يقوم به التلميذ وحده، فيأتي التلميذ ولم ينجز بحث التخرّج، متعلّلاً بأنّه نظر في الكتاب الذي أعطاه إيّاه أستاذه لعلّه يجد فيه بحثه المطلوب وحلول مشاكل البحث،  فلم يجدها، فيوبّخه أستاذه ويقول له: لن تتمكن من هذا العلم هذا حتّى تستطيع بنفسك تطبيق قواعده ومبادئه في تطبيقات جديدة ليست موجودة في الكتاب.

وبعضنا كهذا التلميذ الكسول، يريد علوم الكون كلّه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة!

كالقاعد عن الجهاد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)) ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)) 

فالكتاب والسنّة للهداية وليس موسوعة علميّة تجد فيها الاكتشافات والاختراعات العلميّة.

فلإنسان دور أساس في فهم تعاليم القرآن، واكتشاف علوم الأكوان.

ورد في بعض الآثار “ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه” قال العلماء في بعض تأويلاته أي: عندما يخالف القارئ تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته!

فالقرآن الكريم يدفع بنا للانطلاق خارجه، والنظر في الآفاق والأنفس، ونحن نعود وننكفئ عليه مخالفين أمرَه!!

____________________

1) ينظر: تفسير الطبريّ، وتفسير الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطيّ، عند تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]

2) اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ، 8/128

3) مكيال قديم يسع 24 صاعاً أي ما يساوي 60 كيلو غرام تقريباً.




مدرسة المسيري وأسئلة الواقع

ما زال كثير من نخبنا العربية من الإسلاميين المنحدرين من خلفية يسارية أو من التوجه الإسلامي الصرف، مولعون بنقد الحداثة أو الرأسمالية أو (الحضارة الغربية) بين قوسين، وهو ترف فكري لم يعد له كبير فائدة في أيامنا، لأن هذا الخطاب استفرغ أغراضَه وأدّى دورَه، فلم تعد الأكثرية مبهورة بالغرب كما كانت في بداية القرن الماضي، فالكتابات الإسلامية في بداية القرن الماضي كانت دواء لتخفيف حالة الانبهار بالغرب أمام تخلّف دولنا، لكن هل من الصواب الاستمرار بهذه الاستراتيجية (التركيز على نقد الحداثة) إلى ما لا نهاية؟ أما آن لنا أن ننتقل إلى خطوة ثانية؟

 لأن الحداثة ليست منتجاً غربياً خالصاً، فالإنسانية كلها ساهمت بصناعتها، وإن كان للغربيين نصيب الأسد! إلا أن ذلك لا يلغي مساهمات بقية العقول (التي لطالما بكينا هجرتها)، هاجرت وساهمت في نهضة الدول المتقدمة وما تزال تساهم، فالدول المتقدمة هيّأت بيئة حاضنة للتطور.

 والنقد للحداثة كان أعمقه وأقواه من كتّاب غربيين أصلاً، إما ينقدون بدافع النقد الذاتي بهدف تطوير وتصحيح ما يرونه من أخطاء، وإما انطلاقاً من مخالفة إيديولوجية للفكر السائد كيساريي الغرب مثل: نعوم تشومسكي وغيره، ومثل عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عندنا.

وما نخبنا أو أكثرهم إلا مترجمون لهذه الانتقادات، ونقد الحضارة الغربية في كثير منه نوعٌ من التعويض عن مركّب النقص عندنا!

وبين قوسين: فإن أفضل من نقد الرأسمالية هو ماركس في كتابه: (رأس المال) لذلك يطرب الإسلاميون لنقد اليساريين للرأسمالية الغربية، وبالمقابل يرفضون الشيوعية والاشتراكية، ويقولون: عندنا نظرية ونظام اقتصادي خاص.. يجب أن نستخرجه.. ونحن ننتظر إخراج هذا النظام الفريد! فتجد كتابات جاءت بالنظرية الرأسمالية أو الاقتصاد الحر ووضعت له طربوشاً إسلامياً. 

وكتابات أخرى جاءت بالنظرية الاشتراكية ووضعت لها طربوشاً إسلامياً أيام ازدهارها، وكتابات أخرى تلفق بينها..

ولعلّ الصواب مع الفريق الثالث، فالحل مركّب بين النظريتين، فالأصل اقتصاد حر مع مراعاة حقوق الضعفاء وضمانها بتدخّل الدولة الذي يقيّد طمع وجشع الأقوياء ويحمي الضعفاء.

الاعتراف بدلاً من الهجاء:

المطلوب الاعتراف بجوانب القصور والتخلّف في بلادنا وجوانب الإشراق والإحسان في ديارنا، وبالمقابل الاعتراف بتطورهم عنا في كثير من المجالات وافتقارهم وانحرافهم في جوانب أخرى.

بدلاً من أن ننهال عليهم نقداً وذماً دون إنصاف، فلا نحن استفدنا من تجاربهم فيما أجادوا فيه، ولا طوّرنا أنفسَنا فيما قصّرنا فيه، كقول ذلك الأعرابي: (أوسعتهم شتماً ومضوا بالإبل)، فالهجاء لا يغيّر من الواقع شيئاً.

حالنا كالمدير الذي تراجعت شركته الكبيرة، فجمع تقاريراً عن أخطاء وعثرات الشركات الناجحة المنافسة التي تفوّقت على أرض الواقع وحققت النجاحات، واجتمع مع موظّفيه وبدأ يذكر لهم عيوب وسلبيات الشركات المنافسة، ليستعيدوا الثقة بشركتهم ويحتقروا المنافسين!

 هل هذا المدير يحسن لشركته وموظفيه؟ أم أنه يخدع نفسَه وأتباعَه؟

 إنّ الرائدَ ينبغي ألا يكذبَ أهلَه، فعلى المدير أن يعترف بتراجعهم أولاً ثم يبحث عن أسباب الفشل ويعالجها، ويبحث عن عوامل نجاح الآخرين فيستفيد منها، ويخطط للنهوض مرة أخرى، ويشجّع موظفيه ويثير فيهم الحماسة، ويقنعهم بإمكانية استئناف النجاح والعودة، إنْ استفادوا من خطط المنافسين، فأخذوا المناسب منها وطوّروا أساليب ووسائل أخرى، حتى تنهض الشركة مرة أخرى وتحقّق نجاحات جديدة، وتصل لدرجة المنافسة لغيرها بإذن الله تعالى.

 وهذا يحتاج جهداً ووقتاً واهتماماً كبيراً، لكننا نستسهل الأمور، ونكتفي بهجاء الآخرين، وكأنّ الهجاء سيعيد لنا الماضي الجميل! هيهات هيهات!

إنّ إدمان ذمّ الحداثة ومنتجاتها له أثرٌ سلبي على الأمم المتخلّفة، وهو أنه يمنعها من مصدر هام من مصادر المعرفة ألا وهو الاستفادة من التجارب والخبرات البشرية المتطوّرة.

الاستفادة من الآخرين:

 قديماً قال إمبراطور صيني: “النجاح يبدأ بالتقليد الأعمى، ثم بالتقليد المبصِر، ثم يأتي الإبداع”.

 ونحن بما توفّر في عصرنا من علوم ووعي ووسائل نقل للمعلومات لا ننادي بالتقليد الأعمى، بل (بالتقليد المبصِر) بداية، التقليد الذي يفهم ويميّز ويختار من وسائل وأدوات وعلوم وأفكار الأمم المتقدمة (التجارب البشرية) ما يناسبنا، التقليد الذي يعدّل ويطوّر ما لا يناسبنا.

 وحتى نطمئن فإنّ التعديل سيحصل -لا محالة- فعندما نكتفي باستيراد الأشياء الجاهزة فقط، سنقع (بالتقليد الأعمى)، لكننا ننادي (بالتقليد المبصِر) ولا يحصل ذلك إلا إنْ بدأنا ننتج ما نحتاجه بما يناسبنا.

الاختلافات بين الشعوب: 

ومما يجدر التأكيد عليه أنّ المواصفات الخاصة بنا ليست فروقات جذرية بكلّ شيء، بل الإنسانية تشترك بأكثر من 80 % من الحاجات والقيم والعادات والأفكار، وتختلف ببعض الأشياء التي تتأثّر بثقافتهم وبيئتهم.

 وهذه الاختلافات ليست كلها بسبب الدين، بل كثير منها يرجع للعرف ولتأثير البيئة والتجارب التاريخية للأمم، وهذه الأشياء المحلية ليست ملزمة لنا كما لا يخفى، ولتوضيح الأمر أكثر أقول: الإسلام جاء بقيم عامة وأحكام ثابتة لكل زمان ومكان، ولم يأت ليعمّم عادات وتقاليد بيئة على بقية البيئات، فالذي تأثّر به المسلمون في كل الكرة الأرضية (من تعاليم الإسلام)، والقاسم المشترك (من تعاليم الإسلام) بينهم في كل الأرض هو الذي يمثّل جوهر الدين، وما يختلف به المسلمون من عادات وتقاليد وغيرها، فهذا ليس من الدين في شيء، فمشروعنا الإسلامي ليس تعميم العادات والتقاليد العربية على البشرية!

 ولنضرب مثالاً يزيد توضيح الفكرة: اللباس له أشكال وألوان في العالم الإسلامي، والقاسم المشترك بينها هو ستر العورة وهذا هو أهم الواجبات إسلامياً (ستر العورة)، أما ما اختلفت فيه البيئات من أشكال وألوان الألبسة فكلّها مباحة، وهي راجعة لتأثير بيئة تلك المناطق وأعرافهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهو أمر متسامح فيه ما لم يكن فيه محرم (كلباس الحرير للرجال) فأهم شيء في اللباس هو ستر العورة.

 ومثلها البيوت، فبيوت المسلمين في كل العالم مختلفة اختلافاً عظيماً، وذلك حسب بيئة تلك البلاد ومناخهم والموادّ المتوفّرة عندهم وأذواقهم، فلم يُلزمهم الإسلام بنمط معين أو شكل خاص؟!!

فلم يأتِ الإسلام بأشكال خاصة لبناء البيوت، وإنما جاء بتعاليم عامة كأن تحفظ حقّ جارك، ولا تعتدي عليه ببناء بيتك، ولا تبني على أرض ليست ملكك، أما ستر العورة فليس شرطاً أن يحققّ البيتُ ذلك، فستر العورة يتحقق باللباس، فلا يشترط في البيت أن يستر العورة! 

فلو افترضنا أنّ إنساناً سكن بيتاً له سقفٌ وليس له جدران، لجاز له ذلك، ويجب عليه ستر عورته باللباس أو الغطاء..

 حتى المساجد ليس لها مواصفات خاصّة، فالمهم أن يكون هناك مكان يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم واجتماعاتهم ودروسهم وخطبهم، ورحم الله الخليفة الزاهد عمر رضي الله عنه، قال يوصي من يريد بناء مسجد: (أكنّ الناس ولا تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس) أي أظلّ الناس ولا تزيّن المسجد بالألوان الصفراء والحمراء وغيرها فتشغل الناس وتفتنهم، والفاروق عمر رضي الله عنه هو نفسه عندما زار بلاد الشام وهمّ بالإنكار على المسؤولين للتفاخر بأبنية المساجد، أقنعه المسؤول هناك أنّ الناس في بلاد الشام يرون عظمة الكنائس فيريد ألا يظهر الإسلامُ ضعيفاً، فسكتَ الفاروق!

يمكن أن نقول إنّ تعاليم الإسلام تظهر على أبنية المسلمين بتجنّب الصليب والتماثيل لذات الأرواح، وتعتمد بدلاً عنها الزخرفة النباتية والهندسية.. متأثرين بتعاليم الإسلام التي تحرّم ذلك، وهذا أمر طبيعي، لكن لو جاء قوم كالفُرس وتفننوا بالفسيفساء في مساجدهم هل نقول لهم: عليكم التزام نمط آخر في أبنيتكم وزخرفتكم؟!!

فكلّ بيئة تبني كما هي أنماط أبنية بلادهم مراعين ظروفهم البيئية، ومواد بنائهم الأساسية، وذوقهم العام، وقد فعلها المسلمون تلقائياً دون وجود لأحكام فقهية متنطّعة أو مبالغة تتدخّل بشكل البيت وصفاته! 

والذي يهمنا هنا البيوت الحديثة هل هي منافية للإسلام؟!! أو هل هناك مدينة إسلامية وبيوت إسلامية وبنايات إسلامية كما يروّج بعض المثقفين؟

أعتقد أن الإسلام لا يتدخّل بهذه التفاصيل، بل يقول لك: اجتهد واختر البيت والنمط الذي يحلو لك فهذا داخل تحت المباحات.

والمسلم الحريص سيضع وحده السواتر والستائر التي تحفظ عليه ستر العورات، كما أنه سيراعي ذلك بالتصميم والتخطيط، حتى يرتاح من ستر العورة باللباس والأغطية، ولأن فطرة الإنسان أنه يحب أن يأوي إلى بيت يحميه من الحر والبرد ويحجبه عن أعين الناس، ويحقّق له الخصوصية.

بعض الأطروحات المتشنّجة من منتجات الحداثة ومفرزاتها توهمك أنّ: الإسلام معادلة كيميائية صعبة التطبيق، بل مستحيلة، لأنّ قيم الحداثة مغروسة في كيمياء منتجاتها، وتحتاج أن تعيد تذويب المنتجات وأن تشكّلها من جديد كما تملي عليك الفلسفة الإسلامية –بزعمهم-، وعليك أن تكون حذراً فلعلّ (جُزَيْئاً) هرب منك من قيم الغرب -المتسربة في منتجاته- ولم تستطع تفكيكه وإبعاده؟!!

بينما الأمر أسهل من ذلك وأهون، وقد استفاد الصحابة الكرام من كلّ الحضارات دون شعور بالدونية أو الانبهار.

كما أنّ المسلمين الجدد لم يهدموا بيوتهم ليبنوا بيوتاً إسلامية!

الدوّامة:

هذه الأطروحات تدخلنا في دوامةً لا مخرج منها، و(تضع العِصِيَّ في العجلات) كما يقال، فندخل في مأزق لا مخرج منه، فلا نستطيع التقدّم ولا التأخّر.

المشكلة في هذه الأطروحات أنك تطالبهم بحلّ، فيقولون لك: تعايش مع الواقع فلا بدّ أن نجد حلاً.. وما زلنا ننتظر الحل، وتمضي الحياة قدماً وتتلبّس بمنتجات الحداثة أكثر وأكثر، وهم ينقدون دون حلول واقعية عملية!

المتغيرات والثوابت:

الحقيقة أنّ إسلامنا جاء بقيم وأحكام تفصيلية ثابتة فيما شأنه الثبات كالأحكام التي تتعلق بالأفراد كالعقائد والتصورات والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث، وجاء بتعاليم وأحكام عامة مرنة فيما شأنه التطوّر والتغيّر كقضايا الشأن العام كالنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والسياسي، وترك للبشر أن يطوّروا أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لأنفسهم مراعين تعاليم وأحكام دينهم العامة في ذلك الشأن.

أما في مجال الوسائل والأدوات والأنظمة فالباب مفتوح على المصراعين للاقتباس والاستفادة من تجارب البشر وعلومهم واختراعاهم بما هو مباح، لأن الأصل في كل ذلك الإباحة حتى يأتي (أمر أو نهي) فيتحوّل المأمور به إلى مندوب أو واجب، ويتحوّل المنهي عنه إلى مكروه أو حرام، حسب درجة الأمر أو النهي وضرورتهما.

وهذه الأوامر والنواهي هي التي تعطينا هويتنا و(بصمتنا الخاصة)، فنجري التعديلات على منتجات الحداثة، بأن نطالب بمواصفات خاصّة بنا، قبل استيراد شيء من منتجات الحداثة أو بعد استيراده (إنْ لم ننتبه لما لا يناسبنا) لو ظهرت لنا سلبياته فيما بعد!

وهذا حاصل بطبيعة الحال فحتى لو استوردنا شيئاً يخالف هويتنا وذوقنا فقانون السوق الطبيعي في (العرض والطلب) سيجعل غالبية المستهلكين الذين يراعون هوية مجتمعاتهم يُقْبِلون على نوع يراعي هويتهم، وتكسد سُوْقُ النوع الذي لا يراعي هويتهم، وبالتالي سيضطر التجار والصنّاع لترك ما لا يراعي بيئتنا والإتيان بما يراعيها..

فالموضوع ليس (مفاصلة) مع منتجات الآخرين بل إصلاح طبيعي متدرّج لمنتجات الحداثة، وتأقلم مع بعضها أيضاً، فالحضارات تتفاعل وتتناقح. 

الحداثة والفطرة:

حتى تكون دعوةُ الإخوة -الذين يحذّرون من منتجات الحداثة الغربية المتلوثة بالقيم المخالفة للإسلام- واقعيةً عملية مفيدة ندعوهم لذكر المحذورات وتحديدها وليقدّموا حلولاً واقعية، حتى نراعيها في إنتاجنا واستيرادنا (في الحسيّات والمعنويات والأنظمة) ولا يطلقوا الكلام إطلاقاً.

 كما نطالبهم بأن يكونوا واقعيين موضوعيين منصِفين في تقييم سلبيات الحداثة فكثير مما يذكرونه من عيوب موجود في مجتمعاتنا الشرقية وفي منتجاتنا القديمة والحديثة، فكثير من عيوبنا الاجتماعية والخلقية والسلوكية كانت موجوداً قبل هذه المنتجات الغربية، فلا ننظر لسلبياتها فقط بل لإيجابياتها أيضاً.

فعندما ينقدون حبّ المال وتكديسه وتحقيق الأرباح ومحاولة تقليل أجور العمال ورفع الأسعار، ومثل هذه المعاني هذا ليس خاصاً (بالرأسمالية الغربية) بل هذا في فطرة الإنسان منذ فجر التاريخ.

الواقع غلّاب:

وأهم نقطة هنا هي أن أسئلةَ الواقع ملحّةٌ، ولا تحتمل التأجيل أكثر، يا نخبنا العزيزة: أعطونا حلولاً عملية تفصيلية!

 لكن كثيراً منهم مشغولون بنقد الحداثة ومنتجاتها المادية الغربية كنظام الديمقراطي السياسي، والتوحّش الرأسمالي الاقتصادي، والقيم الليبرالية الثقافية..

ونحن نقول: ربما كان نقدكم صحيحاً في بعض جوانبه، لكن ما الحل الذي نطبّقه في واقعنا وبيوتنا ومؤسساتنا؟

بل ما الحل لبلداننا التي قمنا فيها بثورات، ما الحل غير (الديمقراطية السياسية)، و(الحرية الاقتصادية) الذي تتدخل فيه الدولة لحفظ حقوق المستضعفين، و(الحرية الاجتماعية) المسؤولة بما لا يؤذي الآخرين؟!

ما الحل العملي بغير ذلك؟

وهنا يقول بعضهم: لسنا نحن من ينقد الحضارة الغربية بل الغربيون أنفسهم ينقدونها، ونقول لهم: 

الغربيون حينما ينقدون منتجات حضارتهم كالذي سكن بيتاً فارهاً في مجمع سكني راقٍ ثم طلبتْ منه الشركة العقارية التي نفّذت بناء المجمع السكني ملأ (استمارة للشكاوى) بقصد التطوير، فجلس يتأمل أشهراً ويجمع الملاحظات والعيوب التي يراها ثم -بعد أشهر- قدّمها لإدارة المجمّع.

فجاء رجل مقاول غشّاش يبني البيوت بمواصفات رديئة سيئة في أحياء عشوائية، وصوّر ورقة الشكوى بما حوته من الملاحظات السلبية لذلك المجمع الراقي، وجمع السكان من الفقراء والمساكين في العشوائيات التي بناها، وبدأ يقرأ عليهم الملاحظات، ويقول لهم: هذه المجمعات التي أنتم مفتونون بها اقرؤوا بماذا يصفها أصحابُها؟!!

أشعر أننا في بلادنا العربية المتخلّفة مثل أولئك الفقراء والمساكين.. وبعض نخبنا يذكرون لنا عيوب الحضارة الغربية وسلبياتها!

المشكلة أن كلّ الأمم عرفت الطريق وهو التنافس الحضاري والعلمي والتقني وعرفوا مضمار السباق ودخلوه وهم يتنافسون في التحديث والتطوير والاختراعات، ونحن مازلنا نتناقش هل هذا هو الطريق أم لا؟

الطريق واضح وسنن التطور واحدة فالنهضة العمرانية المادية واحدة عند كل الشعوب وهذه لا هوية لها فهي وسائل حيادية، أما الهويات (ديناً ولغةً وتاريخاً وعادات وتقاليد) فلكل أمة هويتها.

انظر إلى اليابان أتت بمناهج الحضارة الغربية، وحافظت على هويتها الحضارية، وقامت بنهضتها ونجحت، وانظر إلى ماليزيا وكلمة زعيم نهضتها مهاتير محمد التي لخّص فيها منهجهم: (عندما أردنا الصلاة اتجهنا صوب مكة وعندما أردنا بناء البلاد اتجهنا صوب اليابان”

وانظر إلى تركيا وكيف وضع حزب العدالة والتنمية الحاكم هدفاً وهو دخول الاتحاد الأوربي ليستوردوا المعايير الأوربية الدنيوية وينهضوا بها مادياً وعمرانياً، وبالمقابل كيف دعموا التوجّه الإسلامي في تركيا كهوية ودين وتاريخ، وحققوا نهضتهم.

وعلى كل حال نحن لو حسمنا أمرنا وقرّرنا الدخول في هذا السباق فلن نجد الطريق معبّداً بل المضمار مزدحم والتنافس شديد.

ستزول الفروق:

وبما أنّ البشرية تشترك بالفطرة الإنسانية الواحدة، وغالبهم عندهم إرث من النبوات التي ما خلا منها بشر: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، والبشر يشتركون بأكثر من 80 % من القيم والأخلاق، فأظنّ أنّ الزمان قد تقارب وبخاصة في زمن وسائل التواصل والمواصلات، وتفجّر المعلومات، وأنّ إمكانية حوار الحضارات وتفاعلها الإيجابي واقتباس البشرية تجارب بعضها أصبح أسهل مما نعتقد، وبخاصة في ثورات الترجمة الفورية التي نشهدها، وهذا سيسهّل عملية الاقتباس والاستفادة وسيجعل الحدود المادية بين الدول لا أثر لها تقريباً، فالعلوم والمعلومات ستسيل بين الناس ولن يحجزَها شيءٌ، وهذا سيُسرّع عملية التصفية والاقتباس من الأفكار والاختراعات وأن النتيجة أن البشرية ستشترك بـ80 % (أو أقل أو أكثر) من العادات والتقاليد والأفكار والمخترعات، وسيبقى لكل قوم بصمتهم الخاصة التي لن تتجاوز 20 % (تقريباً) من حياتهم وتلك 20% ستكون انعكاساً لثقافتهم وبيئتهم.

وهذا التفاعل والاقتباس نلاحظه عند الأشخاص دائمي السفر تجد حياتهم خليطاً من العادات والآلات المختلفة لأنه يقتبس من كل قوم ما راقه.

والآن في عصر التواصل أصبح الجميع يسافر، فبدلاً من أن تسافر لتشاهد وتجرّب أصبحت منتجات الأرض وشعوبها وعاداتهم تأتي إليك عبر المعلومات وبالصوت والصورة.

والجدير بالتذكير هنا أنّ التقوقع على النفس والخوف على الهوية الذاتية ليس هماً ننفرد به نحن المسلمين، بل كل الأمم عندها هذا الهاجس، لكن وسائل التواصل والإعلام وثورة المواصلات والاتصالات بما تهدمه من أسوار العزلة بين الأمم، ستجعل البشر يتبعون الأصلح لهم والأكثر فائدة والأجدى وسيجعلهم يتجاوزون كثيراً من هذه المخاوف والهواجس وسيكون ضغط الحياة العملية الواقعية أقوى من الجميع، وسينحاز الناس إلى مصالحهم وإلى الأنفع لهم، وإن كان البعض سيجامل الداعين للتقوقع على الذات، فذلك بقلوبهم فقط وواقعهم مع الحداثة، وسيبقى المنادون بمقاطعة الحداثة كالـ(الفلكلور الشعبي) القديم، هم في وادٍ، والناس في واد آخر.

وهذا ينبغي ألا يخيفنا فديننا فيه مؤهّلات قابلة للبقاء والانتشار إذا أحسنّا فهمه وتطبيقه والاستفادة منه لأنفسنا أولاً، فعندما يصلحنا لن يتوانى الكثيرون عن اعتناقه، لكن لو بقينا لا نحسن التعامل مع ديننا فسنكون أكبر الصادّين عنه (ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا).




لماذا يخافون الجهرَ بآرائهم التجديدية؟

جراحة في الأعماق

المقدمة

جمعنا من عدة أيام مجلس مع أحد رموز الحركة والفكر الإسلامي ودار الحديث بمواضيع متعددة، وكان يصرّح بآراء جريئة ومفيدة للساحة لكنها تخالف السائد المعهود، فقلتُ له: سيدي لماذا لا تعلن ذلك؟ قال: أنا أقولها هنا وأنا خائف! 

حتى عبارة: (عنده أفكار خاصة) تعدّ في كثير من الأوساط، كلمة جَرْح، لا وصف مدح، في حقّ العلماء وطلاب العلم، وكأنّ الواجب أن نكون نسخاً كربونية عن بعضنا بعضاً!!

مع أن العقلاء يبحثون عن الأفكار الجديدة، أي المختلفة عما يعرفونه، لأنّ وجهة النظر الجديدة ربما كانت أفضل وأعمق وأصحّ من الأفكار التي نشؤوا عليها!

حتى مصطلح (طالب علم) هل هو طالب لنفس المعلومات التي نشأ عليها؟ أم يطلب المعلومات الجديدة؟!

ظاهرة كتم الآراء قديمة معروفة:

ظاهرة كتم الآراء المخالفة ظاهرة مكرّرة في كل زمان ومكان وعلى أعلى المستويات، فالفلاسفة القدماء وكبار المفكرين في أوربا لطاما تعرّضوا للنقد المؤلم والاعتقال وإحراق الكتب والطرد وحتى الإعدام في عصورهم المظلمة.

وفي تاريخنا حرق الكتب والمؤلفات كان حاضراً وإن كان بنسبة أقل.

ها هو الإمام ابن تيمية رحمه الله يموت في السجن بسبب آرائه التي خالف فيها الرأي السائد، بوشاية من علماء زمانه!!

فحرية التفكير والتعبير تحدٍ كبير يقف في وجه كتم الآراء، وسيستمر التدافع بين الانفتاح والانغلاق مادامت السماوات والأرض.

وهنا يأتي سؤال: إذا كان الأمر قديماً وسيبقى فما الداعي لإثارة الموضوع إذن؟

الجواب:

نحن الآن في عصر السرعة والمعلومات، والحياة تتطور بسرعة شديدة فكل يوم اختراعات وتطورات، والواقع تغيّر كثيراً فينبغي ان نتسلّح بآليات مرنة في التعامل مع المعلومات، وديناميكية سريعة في تطوير الأفكار والتمحيص فيها، وهذا يتطلب جواً منفتحاً لطرح الأفكار ومناقشتها، أما التحفّظ والانغلاق سيجعلنا خارجنا المعادلة تماماً.

فعصرنا تغيّر عن العصور السابقة، ولم تعد تنفع كثير من الأقوال القديمة، ولو بقينا نتهيّب الاجتهاد، فسينحسرُ الإسلام عن حياة الناس رويداً رويداً، وسيبقى كعقائد وتصوّرات ذهنية، وعبادات فردية طقوسية!

ولو نوينا التفاعل والانفتاح فنحتاج إلى سرعة مذهلة للمواكبة في هذا المضمار، فكيف ونحن ما زلنا مُعْرِضِين وخائفين ومنكرين على من يقتحم المضمار؟!

فتطوّر الوسائل والآليات والمخترعات المادية والمعنوية تحتاج جواً علمياً منفتحاً على كلّ رأي جديد نافع.

وأسارع فأقول: مقالي هذا للصادقين المتخصّصين الراغبين بالإصلاح، وليس للمبتدئين، ولا لمن يريدون الإفساد باسم التجديد، وعلى كل حال فالمفسدون لا ينتظرون تشجيعاً من أحد ففسادهم يملأ الآفاق، كلامي هنا للراسخين من المتخصّصين فلولا تقصيرُهم لما تجرأ غيرُهم على الإقدام.

لذلك سأذكر في هذا المقال أسباب الخوف من الجهر بالآراء، وأناقشها حتى نكون واعين بهذه البواعث، فليست كلها مخاوف مشروعة..

فما هي أسباب عدم الجهر بالآراء الخاصة؟!

نستطيع تقسيم الأسباب التي تجعل الناس لا يجهرون بآرائهم الخاصة إلى سبعة أسباب رئيسة، يندرج غيرها تحتها.

وحتى نكون منصفين ليست كلّ الأسباب سيئة، لذلك سنبدأ بالبواعث والأسباب الخيّرة ثم أتبعها بغيرها:

أولاً: أسباب دينية:

الخوف من الخطأ والضلال:

فالكثيرون يخافون الخطأ وتبعاته كاتباع الناس لهم في تلك الآراء، فيحملون أوزارهم، لذلك لا يتكلمون بآرائهم الخاصة خشية أن تكون خاطئة، وبالتالي الخوف من شقّ الصفّ والفتنة.

الخوف من تبعات بعض الرخص الشرعية:

المقصود بالرخصة هنا: الرأي الفقهي الذي فيه تيسير على الناس، وليس المقصود الرخصة الخاصة بحالات السفر أو المرض أو الضرورة أو غيرها فقط!

هناك طلاب علم وعلماء يتبنون آراء (غير مشهورة) فيها ترخيص وتخفيف في مسائل فقهية، وهم أنفسهم يفعلون تلك الرّخَص، ولا يفتون بها غيرَهم، وربما كانت تلك الرخص فيها فسحة وسهولة بأمر عمّت به البلوى، بل عامة الناس يتجنّبونها ويعتقدون أنّ فعلَهم لتلك الرخصة أمرٌ محرّم، ولو اضطر العاميُّ وارتكب ذلك المحظور (برأيه) يعذّبه ضميره، ويشعر بالذنب الذي قد يؤدّي لأن يعتقد في نفسه أنه مرتكب لمحرم، وبعيد عن الله تعالى! وربما أدّى به ذلك أن يترك واجباتٍ ويرتكب محرماتٍ أخرى، فهو الغريق فما خوفه من البلل؟!!

ورغم ذلك، لا ينشر طلاب العلم تلك الرخص، بين عامة الناس لحجج وأعذار متعددة، كأن يقول طالب العلم في نفسه: أنا أتحمّل مسؤولية نفسي أمام الله تعالى 

لكن لن أتحمّل مسؤولية غيري!

أنا لن أتوسّع بالترخّص وربما توسّع هذا العاميّ!

أنا أعرف ضوابط ومحددات هذه الرخصة، بينما العاميّ ربما لا يعرفها أو يهملها ولا يراعيها أو ينساها!!

ويُقال لهؤلاء: كثيرة هي أحكام الدين التي لها ضوابط، فلماذا نعلمهم تلك الأحكام المفصّلة، ولا نرشدهم لهذه الرخص؟! ثم لماذا نظنّ أننا نراعي الضوابط ولا نتوسع، ونظن بالناس السوء وأنهم سيتوسّعوا؟!

اعتقاد أفضلية أقوال السابقين:

 لأنهم الأفهم والأعلم والأتقى والأورع لأنهم الأقرب من عصر التشريع، وبالتالي لا يجوز أن نخالف أقوال السلف، فأين نحن وأين هم؟! ويمكن تسمية ذلك الخضوع لسلطة القديم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)

وهنا ينبغي الانتباه إلى أنّ أفضلية أقوال السابقين ليست على إطلاقها، فاجتهادهم أَوْلى لزمانهم، واجتهاد علماء العصور التي تليها أقوى لزمانهم، فعلماء كل عصر أدرى بظروف وملابسات زمانهم.

عدم الخضوع للواقع المنحرِف:

فمع اعترافهم بتغيّر الواقع إلا أنهم يرون أنّ الحل ليس بالخضوع للواقع بل بتغييره، فواجب الدعاة والعلماء والجماعات الإسلامية تغيير الواقع حتى يتوافق مع أقوال العلماء القدماء، وعدم البحث عن اجتهادات جديدة تناسب الواقع وترقّعه.

وهذا الكلام ابتداء صحيح، لكن ليست كلّ التغيرات كانت للأسوأ بل كثير منها كان للأفضل، كانتشار الوعي والعلم والنظافة والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم ومظاهر التحضّر، ثم إنّ كثيراً من التغيرات كان باتجاه التعقيد كالعقود والمعاملات، وأحياناً باتجاه التبسيط، وكل ذلك لا علاقة له بالخير أو الشر، فهنا ينبغي إيجاد أقوال تراعي هذه التطورات، ولا نقصد التسامح مع الفساد والانحرافات، والخضوع لها.

ثانياً الأسباب المنهجية المعرفية:

 التربية العلمية على التقليد في البيئات المتخلّفة:

 فمهمة طالب العلم حفظ الكتب المقرّرة، والتفنن بنشرها والدفاع عنها، في مثل هذه البيئة ينعدم الشك المنهجي ونفقد التشجيع على البحث عن السؤال المعرفي الذي يعيش طالب العلم ليحلّ هذا السؤال، ويبلور إجابات علمية عليه، وكلما أنهى الجواب عن سؤال بحث عن غيره من الأسئلة.

في مثل تلك الأجواء تنشأ العقول البسيطة التي تكتفي بما تتشرّبه من أفكار سائدة في المجتمع، فيعتقدون أنّ هذا هو الحقّ وكل ما خالفه خطأ وضلال، فلا يخطر ببالهم أن يبحثوا عن أفكار أخرى أصلاً!

فالمنهجية العلمية التي تُنتجها بيئةُ التقليد تعتمد الاعتكاف والانكفاء على علوم السابقين تحقيقاً وجمعاً وتلخيصاً وحفظاً ونشراً، والقياس على أقوالهم (في أحسن الأحوال)، فأكبر همّ طالب العلم الحفظ والتكرار لعلوم السابقين، وهي كتب لا تنتهي، فهم في دوّامة (كثرة المصنّفات) كيف سيخرجون منها!! هي أشبه بالسجن المؤبّد مع الاشغال الشاقّة (في الدول المتخلّفة) فلا ينتهي السجين من حفر حفرة، حتى يردموها ويشغلوه بغيرها وهكذا..

 بدلاً من أن يُوجّه الطالب للنقد والتطوير والبناء العلمي المتطوّر، فاللاحق يبني على السابق، وهكذا يتكامل الصّرح المعرفي ويتطوّر بشكل مستمر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها! (وحتى عندها أُمِرْنا أن نستمر بعمارة الأرض ولو لم نشاهد الثمار).

الفكر الأيديولوجي:

الفكر الإيديولوجي وأقصد به: منظومة الأفكار والمعتقدات والفلسفات التي يعتنقها فرد أو جماعة تفسّر بها الواقع وأحياناً تقدّم طريقة لتغيير الواقع المنحرِف للحالة المثالية التي تتخيلها.

المشكلة بهذه النظرة أنها تقدّم تصورات غير قابل للنقد أو التطوير، وتعتبر كل فكرةٍ مخالفةٍ شبهةً ينبغي الردّ عليها وضلال ينبغي محاربته، أما عندما تكون الإيديولوجية مفتوحة ومرنة أي تقدّم معلومات مبدئية وقابلة للنقد والتطوير فعندها لا تشكّل مشكلة؛ لأنها تبقى مفتوحة وقابلة للتطوير عبر الاجتهاد البشري.

فمن يتبنى إحدى الإيديولوجيات يحصر فكره في نشرها والدفاع عنها، لا في نقدها وتطويرها.

الخوف من الحيرة العلمية:

 كثيراً ما يبتعد الشخص بنفسه عن النقد والتفكير بالجديد، خوفاً من التفكير والقلق الفكري، والشكّ المعرفي، والركون إلى راحة البال والسكون والطمأنينة المزيّفة.

فالانتماء لمدرسة فكرية وتبنّي كلّ آرائها يعطي المنتسِب لها طمأنينة مباشرة، وراحة من عناء التفكير والمقارنة والترجيح، لكنها طمأنينة العاميّ الذي تبنّى الفكر الذي نشأ عليه وركن إليه، وليست طمأنينة العالم الذي وصل للحقيقة بعد رحلة علمية شاقة، فالبون بينهما شاسع، وصدق الله العظيم القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)

ثالثاً: أسباب علمية: 

عدم معرفة أدوات الاجتهاد والتجديد:

 وعدم التمييز بين الثوابت والمتغيّرات بين المبادئ والوسائل، بين الأهداف والأدوات، وعدم معرفة ما فيه مرونة ويمكن تغييره، وما فيه صلابة ولا يجوز العبث به، فيظن أنّ كلّ شيء ثوابت لا يجوز تغييرها أو التفكير في ذلك أصلاً.

تهيّب مخالفة المألوف العلميّ:

عدم الثقة بالنفس وما يمكن تسميته: (الجبن العلمي) وعدم الجرأة على اقتحام المشكلات العلمية أو الإشكالات المعرفية، أو مخالفة السائد المحفوظ.

الخوف من مخالفة غالبية العلماء:

واعتقاد أنّ الحقّ دائماً مع الجماعة الأكثر عدداً من العلماء مع أنّ الحقّ مع الأقوى حجة ودليلاً وليس مع الأكثر عدداً وأعزّ نفراً، فكم خالف عالم محقق من علمائنا الغالبية، وكان الراجح مع الفرد.

الخوف من عدم نضوج الرأي علمياً:

فالإتيان برأي علمي جديد أو يخالف المألوف يشعر معه صاحبه بأنه يحتاج تريّثاً وتأكّداً ومراجعة، وهذا حقّ لا ريب فيه، فالحقّ غالباً مع غالبية المتخصّصين، لكن هذا ليس قاعدة مطّردة، فإذا ظهر للمتخصّص رأيٌ فيه إشراق علمي جديد، عليه أن يتأكّد بمزيد بحث واستشارة للمتخصّصين، فمخالفة الجمهور ليست ممنوعة، لكنها ليست سهلة بنفس الوقت.

 لكن المبالغة والإحجام عن الصدع بالرأي العلمي الجديد الذي استفرغ به الباحث وُسْعه، ولم يألُ فيه جهداً، والامتناع عن نشره خوفاً من الخطأ أو تبكيت الآخرين وإنكارهم، هنا ينقلب التريّث والحذر العلمي المحمود إلى جبنٍ مذموم، كما أنّ الإقدام المفرِط تهوّر، فالتريّث المفرِط جبنٌ، والشجاعة العلمية وسط بينهما.

رابعاً: أسباب اجتماعية:

الخوف من تشويه السمعة والتسقيط الاجتماعي:

والخوف من طعن الزملاء والأساتذة والأقران الذين كثيراً ما يُظهرون الغيرة الدينية والحرص العلميّ، ويكتمون داء الحسد ومشاعر الغَيرة الشخصية، بل ربما يلتبس على الحاسدين أنفسِهم ذلك فلا ينتبهون أنهم شامتون متشفّون بمن كانوا يحسدونه دون شعور منهم!

وهذا الطعن يستتبع انفضاض الطلاب والأتباع والمحِبون، وبالتالي انقطاع العطايا والهدايا.

الخوف من الطرد من الجماعة:

أو الفصل أو العزل من الجماعة أو الحزب أو المؤسسة التعليمية أو انفضاض الأتباع عنه، أو التحذير منه ومن القراءة أو الاستماع له.

بل بعضهم ينتسب لجماعة وينافح عن أفكارها ومواقفها بحقّ وبباطل كالمحامي، لما تعطيه تلك الجماعة له من مكانة ومكاسِب وأتباع، وأسوأ شيء ألا يكون المرء واعياً بذلك، فيظن نفسَه المناضل، ولو فتّش في أعماق نفسِه لوجد النوايا المدخولة.

الخوف من الإعلام:

 وجمع الآراء الخاصة التي كثيراً ما تُسمى الشذوذات والأخطاء والضلالات، ونشرها.

الخوف من إنكار العوام:

 فلربما يتقبّل العلماء الراسخون بعض الأقوال الجديدة، فيأتي بعض السفهاء من الغوغاء فيظنون أنفسَهم أنهم رعاة الأصالة وحماة الحقيقة، فينكرون ما لا ينكره العلماء الراسخون، ويُزكي نارَ الفتنة بعضُ أنصاف العلماء!

بل كثيراً ما ينتهي الخلاف الفكري إلى تحريش العامة على المخالِف فيؤول الأمر إلى الاعتداء الجسدي أو القتل الذي يتقرّب به القاتل إلى الله بذلك!

خامساً: أسباب نفسية وتربوية:

إيثار الهدوء وعدم إثارة الإشكالات:

فمن يتصف بنقص الشجاعة وضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس، والجبن العلمي لن يملك الجرأة على مخالفة الآخرين، فالكثيرون يخافون من إثارة غضب الآخرين والجدل والنقاش والاعتراضات والتساؤلات، ويحبون أن يعيشوا مسالمين للجميع، سواء كان هذا طبعاً شخصياً أو صفة مكتسبة عبر التربية والتلقين فالنتيجة واحدة، وهذا في الميدان العلمي مضرٌ بالعلم ونموه وتطوّره.

الخوف من حظوظ النفس:

وهو سبب ديني نفسي ونقصد به الخوف من شهوة النفس بطلب الشهرة والتميّز عبر الشذوذ والمخالفة للفتِ الانتباه والأنظار، (فالنقد يعطي صاحبه تميّزاً وتفوّقاً مباشراً على المنقود)، وهذا التخوّف حقّ، ينبغي أن ينتبه له كل إنسان، فحظوظ النفس كثيرة ومتنوعة، وقد يخالط الحقّ حظٌ للنفس، حتى بالأعمال الصالحة كالصدقة والتعليم والجهاد في سبيل الله، كما ورد في الحديث أنّ أول ما تُسعَّر النار بهم لسوء نياتهم (نسأل الله السلامة)، وحتى مجابهة الحكّام الظلمة وقول كلمة الحقّ، قد يكون فيها حظّ نفس مثل المجاهد، ليُقال: (شجاع) وقد قِيل فيحبط ثوابُ عمله يوم القيامة.

 لكن هنا ينبغي أن ننتبه إلى أنّ هذا الأمر قلبيّ لا يعلمه -على وجه اليقين- إلا الله تعالى، وعلى كل امرئ أن ينتبه لنفسه، (بل الإنسانُ على نفسِه بصيرة) ولا نرمي به غيرَنا، فليس كلّ مخالف للسائد مُحِبٌ للتميّز والظهور.

 فكثيراً ما تكون ضريبة الجهر بهذه الآراء تفوق حظوظ النفس، فالإنسان يحتاج مخالفة لنفسه التي تُؤثر السلامة حتى يصدع بآرائه التي قد تُلحق به أذى طول عمره، كما أنّ خوف هذا الحظّ النفسي (حبّ الظهور) ينبغي ألا يمنعنا عن قول ما ترجّح عندنا من آراء.

سادساً: أسباب اقتصادية:

الخوف من الحصار الاقتصادي والتضييق في الوظائف:

 فيُعزَل الخطيب والمدرّس والكاتب والمحاضِر ويُمنع من نشر فكره المضلّل براي مخالفيه، وهذا شائع مشاهَد، ولعله من أخطر الأسباب وأقواها في كبت الآراء.

عدم وجود منصة يصرّحون فيها بآرائهم:

وذلك قبل انتشار الناس في أرض الله الواسعة، وفي بلادٍ هامشُ الحرية فيها واسع، وقبل ظهور (وسائل الإعلام الاجتماعي)، وهذه ترجمة أدقّ من (وسائل التواصل الاجتماعي)، لمصطلح: (سوشال ميديا)، كان أصحاب الآراء الخاصة، يكادون لا يجدون من ينشر فكرهم من إعلام مقروء أو مسموع أو مرئي.

أما الآن فميدان النشر واسع، لذلك بدأنا نرى ونسمع ونقرأ آراء جديدة وبكثافة فريدة، وهذا لا يخيفنا، بل يدعو للتفاؤل على المدى البعيد فالعاقبة للتقوى، بشرط العمل والاجتهاد والتطوير في خطابنا الإسلامي (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

سابعاً: أسباب سياسية:

الخوف من السلطة السياسية، فلو خالف العالِمُ توجّهات السلطة السياسية ربما تعرّض للتضييق والاعتداء، وأحياناً كانت الدولة تتبنى آراء دينية أو سياسية أو اقتصادية وتُلزم الناس بها، وتعتبر من يخالف ذلك مخالفاً للدولة، وتُنزل بهم أشدّ أنواع العذاب، بل كثيراً ما كان السياسيون لا يتدخَّلون بآراء العلماء، لكن العلماء أنفسهم يشون ببعضهم، ويستعدون السياسيين على مَنْ يخالفهم في الآراء الدينية، كالآراء العقدية أو الفقهية، ناهيك عن مخالفة سياسات الدولة ونقد تصرفات الحكّام وكبار المسؤولين!!

وقد أخّرت الأسباب السياسية، لأنه السبب الأول المتبادَر للأذهان حينما نناقش موضوع كتم الآراء، مع أنّ الواقع أنّ أسباباً كثيرة غيره ينبغي معالجتها والانتباه لها، ولا علاقة لها بالسياسية.

الحل: الشجاعة بإبداء الرأي مع الضوابط التالية:

1 -ينبغي أن يتصدّر للاجتهاد المتخصّصون وننزل آراء غير المتخصّصين منزلة فكرة تحتاج عرضاً على المتخصصين وتأكّداً من صوابها، فلا نردها مباشرة لأنها صدرت عن غير متخصّص، فغير المتخصّصين يفكرون خارج الصندوق، كما يقال.

2- عدم التسرّع بنشر الآراء قبل استفراغ الجهد إلى حد الوصول إلى رأي يغلب على الظنّ رجحانه، ويطمئن له الباحث إلى حدٍ ما، أقول (إلى حد ما) لأنّ الآراء الجديدة يصعب الاطمئنان لها قبل عرضها على المتخصّصين وإقرارها.

3- عدم تجاوز الثوابت، وبالمقابل عدم توسيع الثوابت، فكما هناك من يتجاوز الثوابت والقطعيات فهناك أيضاً من يتوسّع بالثوابت والقطعيات ويُدخل فيها متغيراتٍ وظنيات.

4- الحذر من اتباع الهوى والكِبر عند ظهور الحقّ مع من يخالفكم، فعلى من يخوض بالعلوم أن يكون رائده الحقّ يدور معه أينما دار.

بعد ما مضى:

– واقعنا يحتاج علماء فدائيون يخاطرون بكلّ ما سبق من المخاوف، ويجهرون بآرائهم دون وَجَل أو خَوْف إلا من الله تعالى.

علينا أن نعلّم الناس أنّ هذه العلوم والأفكار ما هي إلا رأي واجتهاد بشريّ، وليست وحياً معصوماً!

– وديننا يشجّع على الاجتهاد ووعد نبينا ﷺ من اجتهد فأخطأ فله أجر، فإنْ أصاب فله أجران!

– فاجهر برأيك فلن تضل الأمة لو قلتَ شيئاً خاطئاً، فالأمة معصومة من التلبّس بخطأ يعمّها، ولا تبالغ بمكانتك ولا تظننّ أنّ الأمة كلّها ستتبع رأيك بمجرد نشرك له، فلا تخشوا الخطأ فلن يستمر في الأمة، وستنبذه بتوفيق الله تعالى، ولن يبقى إلا ما كان صواباً إن شاء الله، ولو كان رأيك (صواباً أو خطأ)، كيف ستتأكّد من ذلك دون نشره وتعريضه لنار النقد والتمحيص؟

– بما أنّ الاجتهاد بشري فسيعتريه القصور والضعف والخطأ و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، لذلك سيثيب الله تعالى من يأخذ بتلك الأقوال الخاطئة لأنّ نية المقلّد أنه يريد اتباع الحقّ والرأي الأقرب لرضا الله تعالى.

الذي ننادي به هو الانفتاح المنضبط وعدم ردّ كل فكرة تخالف ما ألفناه.

ورائدنا قوله تعالى: ((إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))




دور المشاريع الفكرية في نهضة الأمة

كيف تساهم المشاريع الفكرية في نهضة الأمة؟

يوم الخميس 11 يوليو 2019م استضافت صفحة عمران على فيس بوك الدكتور حذيفة عكاش
مدير مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام (يمكنكم متابعة تسجيل اللقاء من هنا) للحديث عن المشاريع
الفكرية وكيف تساهم في النهضة؟
تعاني الأمة الإسلامية من مشاكل في عدة جوانب منها الفكر، ويسعدنا استضافة الدكتور حذيفة
عكاش متخصص في الفكر الإسلامي وبفضل من الله هو مؤسس لرؤية للثقافة والإعلام وهي
مؤسسة فكرية إعلامية تُعنى بتحرير المعارف الإسلامية وتمكينها كثقافةٍ معيشة تحفظ هوية الأمة
وسلامة الوطن، وهذه المؤسسة تحت إشراف الدكتور عبد الكريم بكار.
جمهور عمران متحمس للقاء والاستمتاع بالحوار معك ضيفنا المتميز، نحن سعداءٌ جدا
باستضافتك لتحدثنا عن المشاريع الفكرية وكيفية مساهمتها في نهضة الأمة. 
نبدأ لقاءنا بالتعريف بحضرتك إلى جمهور عمران، من هو الدكتور حذيفة عكاش؟ من مواليد
سوريا (حمص) 1978، بذلك نحن نتحدث عن دكتور شاب خاض عدّة تجارب، كانت بدايته مع
ثانوية شرعية تابعة لوزارة الأوقاف السورية من 1996، تحصل على بكالوريوس شريعة
إسلامية من كلية الشريعة في 2000، ومن ثم ماجستير شريعة إسلامية قسم الفقه المُقارن الذي
هو تخصص فقه الإعلام بعنوان: الضوابط الشرعية للإعلام المرئي في جامعة طرابلس 2014،
تحصل على دكتوراه شريعة إسلامية في نفس التخصص “قسم الفقه المقارن وفقه الإعلام
بعنوان: الأخبار في وسائل الإعلام أحكامها وضوابطها الشرعية” من جامعة أم درمان الإسلامية
بالسودان سّنة 2017 ، و حاليا ضيفنا مدرس بجامعة طرابلس وفي أكاديمية “باشاك شاهير” 
بجامعة اليرموك، وأيضا جامعة رُشد مدرسًا لمادة الفكر الإسلامي ومادة الدعوة والإعلام، ومن
الجميل أيضاً أنّ ضيفنا مدير عام مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام، أهلا بك نترك لك المجال الآن. 
 
بارك الله فيكم وجزاك الله خيرًا أستاذ عبد الله، أشكر جمهور عمران، وأشكر الدكتور طارق
السويدان الذي طالما تعلمنا منه مباشرةً أو من خلال ما قدمه لنا عبر التلفزيون والإعلام،
والمشروع الرائد مشروع عمران هذا المشروع الجميل الذي يحول طموح الشباب وحماسهم إلى
مشاريع، لطالما قال لنا الدكتور عبد الكريم بكار أنّ الآن زمن المشاريع، أما زمن الجماعات
الإسلامية كان في الحقبة الماضية، الآن زمن الشباب، زمن المشاريع، زمن المؤسسات
المتخصصة، وهذا هو مشروع عمران، مشروع المشاريع، والمشروع الذي يُشرف على
مشاريع الشباب.
 بالنسبة لموضوعنا اليوم “المدارس الفكرية وأثر الفكر في نهضة الأمة”، فكما تعلمون إخواني
وأخواتي العالم كله منقسم، ونظّر مالك بن نبي رحمه الله لمعادلة الحضارة والتي تضم: التراب
ويقصد به: الأشياء والآلات والموارد الأولية، ثانياً: الإنسان وثالثًا: الوقت.
وأهم عنصر من هذه العناصر هو الإنسان وأهم شيء في الإنسان فكره، وتأتي أهمية الفكر في
أنه يُؤثر في سلوك الإنسان وفي مشاعره وفي علاقات الإنسان وقراراته، ونحن في مؤسسة
رؤية لاحظنا أن الذي يتغير فكره يتغير وعظه، تتغير قراراته وآرائه، وحتى المشاريع تتغير

عندما يتغير فكر الإنسان، حتى اختياراته الفقهية والوعظية تتغير، كل هذا يتبع الفكرة التي
يحملها الإنسان.
 حسناً، لو رجعنا الآن إلى المدارس الفكرية المتواجدة في الساحة نجد عندنا المشروع القومي،
المشروع العلماني، المشروع التغريبي، المشروع الليبرالي، المشروع اليساري والمشروع
الإسلامي، كلها أفكار وأيديولوجيات يتبناها الإنسان وينشط فيها. 
من المعروف أن المشروع القومي استنفذ أغراضه، فبقينا فترة طويلة من الزمن ونحن نحلم
بالقومية العربية ووحدتها، لم يحققوا قومية ولا وحدة ولم يحققوا استقلالا حتى! فأصبحت الدول
التي تدعي القومية تبعية هنا وهناك. 
يتسم المشروع الحداثي غالبًا بالحداثة الغربية، فهل تعتبر الأفكار النهضوية التي قامت عليها
نهضة الغرب كلها أفكارًا ظلامية ينبغي تجاوزها ؟
هذا أكبر جدل سائد في الساحة الآن، كذلك الصراع بين الفكرة الإسلامية والتراث الإسلامي
وبين الفكرة التقليدية، الحقيقة أن الأفكار التراثية لا يمكن أن نتجاوزها كلها، فتراثنا يحتوي كنوز
ما زالت لم تستنفذ أغراضها، أي أنّها ما زالت صالحة الى الآن،
ما هو التراث؟ هو فهم أجدادنا وعلمائنا عبر التاريخ لمرجعية الكتاب والسنة وإسقاط هذا الفهم
عبر الواقع.
هل نستطيع الآن تجاوز كل هذا الفهم؟ طبعاً لا، فيوجد في التراث أفكار صالحة حتى الآن،
الأفكار التغريبية والأفكار الحداثية هل كلها أيضاً رجسٌ من عمل الشيطان كي نتجنبه؟
هناك استقطاب حاد حالياً بين الأفكار التغريبية والأفكار الإسلامية، والذي نعتقده أن في الأفكار
الإسلامية أفكار لا تزال تصلح في أيامنا هذه، وفيها أفكار تجاوزها الزمن لأن الواقع تغير،
المفكر الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله تعالى يعبر عن هذا بأن أسباب النزول تغيّرت بمعنى
الواقع، فبما أنّ الواقع تغيّر ينبغي أن يكون هناك اجتهادات جديدة، هذا من حيث التراث، أما من
حيث الأفكار الحداثية، فكثير منها أيضاً صالح.
مشكلتنا إخواني الكرام وأخواتي الكريمات أنّ عندنا عقلية أبيض أو أسود، أي إما نقبل كل شيء
أو نرفض كل شيء! فنأتي إلى التراث نقول: “كل شيء موجود في تراثنا، لكن نحن ضعاف لم
نطلع عليه”، هذا الكلام صواب وخطأ في نفس الوقت، في تراثنا الأفكار الكثيرة التي ما زالت
صالحة، لكن فيه اجتهادات غير صالحة، بسبب أن الواقع الذي نتجت عنه  اختلف.
الأفكار الحداثية الآن هل كلها صالح لنا؟ المشترك الإنساني بيننا وبين الغرب ما زال صالحًا،
يعني ليست كل الأفكار الغربية أفكار مادية إلحادية فهناك مشترك إنساني، على هذا المستوى
هناك الكثير من الأفكار الحداثية الغربية صالحة عندنا، كما تُوجد أفكار حداثية غربية تناسب
بيئتهم فقط، إذن الخلطة ليست إما أبيضا أو أسودا، الخلطة المطلوبة أننا نحتاج أشياء من تراثنا
وأخرى من الحداثة الغربية كونها تجربة بشرية.
    الفكر إخواني وأخواتي خطير جداً، لأن من الفكر تأتي الأيديولوجيات، ما هي الأيديولوجيات؟
هي مجموعة من الأفكار، والقوانين، والتصورات، التي تصف الواقع أولاً ثم توجِد مجموعة من

الأفكار التي تُصلِح هذا الواقع، بناءً على صورة ذهنية مثالية سنصل إليها، إذن الأيديولوجية لها
ثلاثة أقسام :
1- وصف للواقع.
2- إيجاد حلول لهذا الواقع. 
3- الوصول إلى صورة متخيلة في الذهن “الواقع المثالي”
من هنا أتت خطورة الأفكار، وبشأن الأفكار وتأثيرها على الحضارة والواقع والنهضة لدينا
موضوع (الهوية الخاصة) التي تحدثنا عنها، الفرق بيننا وبين الغرب أو بين أي جهة هي هويتنا
الخاصة، إلى أي مدى هذه الهوية الخاصة؟ وإلى أي مدى هناك مشترك إنساني؟ هذا مجال
اجتهاد. 
 إخواني هناك الآن صراع فكري في الساحة بين الأفكار التي تحدثنا عنها، وحتى بين الأفكار
الإسلامية بأطيافها، عندنا تيار صوفي  كبير يُراد له الآن أن ينشط من قِبَل بعض المؤسسات
والدول التي وقفت بكل أسف مع الثورات المضادة، ولجأت إلى أخذ النموذج الصوفي كبديل
وكإرواء للنازع الديني.
لكن أي نموذج صوفي يريدونه؟ هل النموذج الصوفي المُشرق الذي تبناه عمر المختار؟ هل
النموذج الصوفي الذي تبنته بعض حركات التحرر، بعض الحركات التي كانت تقف مع الشعوب
وإرادتها؟ الصوفية التي تنكر المنكر؟ الصوفية الحيوية أم الصوفية السكونية التي تخضع
للاستبداد؟ لا، هم  يريدون نشر التصوف الذي يخضع للاستبداد، التصوف السكوني الذي يبارك
أفعال الحُكام مهما فعلوا! 
تم الآن استدعاء السلفية أيضًا، المتمثّلة بالجامية والتي تحارب الإسلام الحركي، لا يريدون
إسلاماً فاعلاً، لا يريدون إسلاماً حاضراً في المشهد، لا يريدون إسلاماً يُنكر المنكر ويأمر
بالمعروف، لذلك يُحارب الإسلام الحركي.
بالإسلام الحركي التقليدي الذي نشأنا عليه في الحركة الأم حركة الإخوان المسلمين،  والذي
ننادي به هو أخذ منهج الإمام البنا رحمه الله، هذا المنهج الشمولي، المنهج الحركي، المنهج
الفاعل، المنهج المعاصر.
هذه المنهجيات نأخذها من الإمام البنا ولا نجمُد على اجتهاداته رحمه الله، فقد قدّم اجتهادات في
زمانه ومضى على تأسيس الحركة الآن حوالي مائة سنة يعني (قرن كامل)، ولو كان الإمام البنا
رحمه الله في زماننا هذا لجدّد في كثير من الأفكار، والمتابع لكتابات الإمام البنا رحمه الله تعالى
يجد التطوّر الفكري بين المؤتمر والمؤتمر، كان يأتي بأفكار جديدة، كان رجلاً ديناميكياً، رجلاً
عبقرياً، رجلاً يراعي الواقع، فلو كان في زماننا هل كان سيتبنى نفس الأدبيات؟
الذي نعتقده أنه كان سيطوّر، لأنّ الواقع اختلف فعندما نشأ الإمام البنا رحمه الله نشأ في بيئة
تحت نظام ملكي، تحت احتلال وهوية مهددة بالانهيار، سمعت مرة الشيخ عبد الله عزام رحمه
الله تعالى في إحدى محاضراته المسجّلة يقول: “الإمام البنا جاء في وقت كان المسلم يستحي من
إسلامه”، الآن اختلف الأمر بفضل الله تعالى، يعني سؤال الهوية انتهينا منه الآن، نحن دخلنا الآن
في سؤال النهضة.

 عندنا صراع آخر مع مشروع الإسلام الجهادي، ونحن في سوريا صُدمنا بهذا المشروع، فقد كنا
في أول بداياته متعاطفين معه، لكن اكتشفنا أنّ هذا المشروع هو للأسف خنجر لكنْ في في بطون
المسلمين، هو مخلب لكنْ في رقاب المسلمين، انقلبت الكثير من الحركات الجهادية وكفّرت
المسلمين، عندنا أزمة مع (مدرسة الغضب) كما يسميها أستاذنا الدكتور جاسم سلطان، (مدرسة
القتال) كما يسميها أيضا الدكتور القرضاوي حفظه الله تعالى، فنحن الآن أمام صراع أفكار، حتى
أُلخص الموضوع وأنهي ما أريد قوله سأُقسّم مراحل الصراع الفكري إلى أربعة مراحل: 
1- مرحلة الانبعاث.
2- مرحلة المراجعة.
3- مرحلة الاستقرار.
4- مرحلة الازدهار.
أعتقد أن هذه المراحل تنطبق على كل أمة، مرحلة (الانبعاث العاطفي) حيث تشعر أمة من الأمم
أنها متخلّفة وتريد الحراك والتقدّم، ويظهر المجتهدون والمفكرون، وتنشأ جماعات وتنشأ
التجارب، المفكّر يقول رأيه في الإصلاح، يجمع حوله بعض المفكرين، يغلُب على هذه المرحلة
العاطفة والاندفاع، أعتقد والله أعلم أننا انتهينا من هذه المرحلة.
المائة سنة الماضية كلها مرحلة انبعاث وأفكار ومشاريع وتجارب وحركات، فكل فكرة تمّ
تجريبها تقريباً، وأعتقد أننا الآن في بداية المرحلة الثانية وهي (مرحلة المراجعة)، الآن هناك
مراجعات كبيرة في كل المدارس، لكن هذه المراجعات تختلف من مجموعة إلى مجموعة ومن
فرد إلى فرد ومن جماعة إلى جماعة، نحن في (مؤسسة رؤية للفكر) نُسرِّع من هذه المراجعات،
يعني المراجعات ستحصل بنا ومن غيرنا، نستضيف المفكرين، وأصحاب التجارب لكي يرووا
لنا مراجعاتهم وآخر أفكارهم وتجاربهم.
هذه (مرحلة المراجعة) المرحلة الثانية التي يغلب عليها العقل والنقد، فيها قسوة شديدة، إذ من
الصعب جدًا على جماعة نشأت على فكرة، وضحّت من أجلها وقدّمت الشهداء والاعتقالات،
وقدّمت الذين أُعدموا والذين استُشهدوا، من الصعب أن تقول لها: منهجك يحتاج إلى مراجعة،
صعب عليها أن تُسلّم بأنها مخطئة!
لهذا نحن الآن نعيش في المرحلة الثانية مرحلة استقطاب فكري شديد، حُرّاس الأفكار القديمة
يدافعون عن أفكارهم وتجاربهم، والشباب الصاعد الذي يفكّر بالتغيير والمراجعة ينقد بشدة.. لهذا
الآن نحن نشهد (زلازل) منها ظاهرة الإلحاد التي تعتبر طبيعية، نظراً للانتقال من  مرحلة
عاطفية إلى مرحلة عقلانية، النسخة الإسلامية تحتاج إلى مراجعة وإلى تغيير حتى تُقنع شباب
القرن الواحد والعشرين!
 المرحلة الثانية يتم فيها البحث عن الأداة الذهبية، عن الأفكار الصالحة للعبور إلى العصر
الجديد، عندما نكتشف هذه الأفكار وتُعمّم وتتبناها مجموعة، نسميها (الكتلة الحرجة)، وهي
مجموعة لا يمكن تجاوزها، تؤثّر في الواقع، حينها ندخل في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة
(الاستقرار والعمل)، نكون قد اكتشفنا أدواتنا الذهبية، اكتشفنا الأفكار الصحيحة، تخلينا عن
التجارب العاطفية والتجارب التي أثبتت فشلها، وعندها يتحوّل أغلب المجتمع في مرحلة العمل،
فغالب المشاريع تصبّ في اتجاه واحد.

إذن، المرحلة الأولى عاطفة المرحلة الثانية عقل، المرحلة الثالثة عمل، وهذه هي مرحلة
النهضة، بعد أن نمضي مدة من الزمن ويصبح العمل كله بالاتجاه الصحيح، عندها ندخل في
دورة حضارية جديدة، وتأتي المرحلة الرابعة وهي مرحلة الازدهار وقطف الثمرة، ونحن الآن
أستاذ عبد الله في المرحلة الثانية، مرحلة المراجعةـ، كانت هذه أهم الأفكار وبقية الأجزاء
سنتعرض لها أثناء الحوار إن شاء الله.
    جزاك الله خيرًا دكتور، طرح جميل جدًا، شخصت فيه الواقع، يسأل أحد المتابعين: لماذا لم
نتمكن من المساهمة في الحركة الحداثية؟
تنتمي المرحلة الحداثية إلى المرحلة الثانية العقلية، التي نحن فيها الآن، المرجو من هذه المرحلة
بعد المراجعات أن تتبلور عندنا مجموعة من الأفكار، هذه الأفكار كانت تمثل عند الغربيين ما
يسمى بأفكار الحداثة، التي قامت عليها النهضة الأوروبية، لكن لكل أمة حداثتها وبصمتها، فالذين
يريدون استنساخ الفكرة الغربية كما هي إلى ديارنا لن ينجحوا في هذا، الحداثة عبارة عن
مجموعة كبيرة من الأفكار، بعضها يخص ويناسب أقواماً ولا يناسبنا، يشبهونها بأننا مثلاً نمتلك
سيارة مرسيدس ونريد أن نضع فيها قطعاً أخرى  نأخذها من سيارة الBMW ، وهذا لا ينفع!
 لدينا واقعنا وبصمتنا وهويتنا وديننا المؤثر فينا، لو جئنا بشيء يخالف المبادئ والقيم العامة، فلن
ينفع معنا، مثل التحرّر الزائد والإباحية لا تنفع معنا لأنها تنتمي لمجتمع مختلف عنا، فلدينا قيمة
اسمها: (الستر) وقيمة اسمها: (العفّة والدين والحياء).
–مثلاً- في سورية توجد بعض المنظمات الغربية التي تريد أن تقيم دورات عن الجندرة وعن
حقوق الشاذّين وكذا، هذه أمور تناسبهم حتى أنها تلقى معارضة في ديارهم فهي غير متفق
عليها، بل وحتى عندهم الكنيسة واليمين يعارضانها، فهؤلاء يريدون أن يستنسخوا نسخة غريبة
عن جسمنا ويضعوها كما هي عندنا، هذا لا ينفع.
وفي الطرف الآخر أيضاً بعض الإخوة الكرام لا يقبل شيئاً من أفكار الحداثة، ويقول أنّ كل هذه
الأفكار تنتمي للحضارة الغربية ولا نريدها، يعني لا إفراط ولا تفريط، ليس كل ما في الحضارة
الغربية مرفوض، وعندي تحفّظ كبير على كلمة الحضارة الغربية، فهي نتاج مما عندنا، نحن
ساهمنا في إنتاج الحضارة الغربية، نحن نعترف بأنهم بنوا حضارتهم بناءً على كتاباتنا، كما في
كتاب: شمس الله (العرب) تسطع على الغرب، ومثل ديكارت أخذ جزئيات من منهج الإمام
الغزالي، نحن ساهمنا في هذه الحضارة ولنا بصمتنا فيها، وهي ثمرة لحضارة إنسانية، 
فالمشترك الإنساني نستطيع أن نستفيد منه.
الأخ عبد الله، والإخوة الكرام المشاهدين، عمل المفكرين المصلحين الآن هو إيجاد أفكارنا
الحداثية، نجد أن بعضهم يقترب من اليمين وبعضهم يقترب من اليسار، وهذه الاجتهادات في
اختيار الأفكار الحداثية الخاصة بنا، كما لا يوجد أحد يدعي أنه سيجلس ويبدأ من الصفر، فهم
بنوا على ما بنينا أصلاً في الحضارة بين الأمم، فعلينا أن نستفيد من أفكارهم كما  اعتمدوا هم
على أفكارنا، فالحضارة دُولة بين الدول، فالحضارة كانت شرقية ثم انتقلت للغرب والآن
الحضارة تتجه شرقاً، ونحن الآن نساهم والمفكرون يساهمون في صنع أفكار الحداثة الخاصة
بنا.
    أحسنت دكتور، طيب لدينا سؤال آخر، حبذا لو تعطينا لمحة عن أنواع المشاريع الفكرية
ولمحة عن أهدافها، وكيفية قياس النتائج والتأثير، كمثال مؤسسة رؤية الآن لديكم رؤية

حقيقية، لديكم قيادات داخل المؤسسة، أنت المدير العام للمؤسسة فلو تعطينا مثال حقيقي كي
نقرب الصورة لمتابعينا الأعزاء؟
    أشكرك على هذا السؤال أستاذ عبد الله، أهم فكرة إخواني لا يوجد شيء (مسبَق الصنع)، نحن
في رؤية دخلنا الآن في السنة الرابعة من تأسيسها، أصدقك والله يا أستاذ عبد الله والإخوة
المتابعين إلى الآن ما زلنا نبلور أفكارنا، إلى الآن نحن (صندوق مفتوح) نستمع ونقرأ ونناقش
ونستضيف هذا وذاك ونستفيد من الجميع ونبني الرؤية الفكرية، فإن كان هناك أمر مطلق نقيده
ببعض الضوابط، وإن كان هناك تضييق نزيل بعض الضوابط..
فإذا أردتُ أن أُلخّص الموضوع، فالأفكار (مشروع مفتوح) بمجرد أن نقول أننا وصلنا للنسخة
النهائية نكون قد حكمنا على أنفسنا بالجمود وسيتجاوزنا الزمن، هناك أمر مهم جداً أيها الإخوة
والأخوات، الدكتور بشير نافع المفكر الفلسطيني المعروف صاحب سلسلة إسلاميون، يقول:
نظرية ابن خلدون رحمه الله تعالى،  ودورة الحضارة لم تنطبق على الحضارة الغربية، نظرية
ابن خلدون باختصار: (نشأة، ازدهار، تكلس ثم اندثار)، أي مثل مراحل نمو الإنسان (قوة رجولة
ثم كهولة واندثار)، يقول الدكتور بشير نافع: لماذا هذه الدورة لم تدخل على الحضارة الغربية؟!
لسبب واحد هو أن أفكارها متطوّرة، مجرد أنها أغلقت أفكارها ستندثر ويتجاوزها الزمن، لذلك
الأفكار الليبرالية والرأسمالية ما زالت مستمرة لأنها دائماً تطوّر نفسها..
فنحن في مؤسسة رؤية أهم فكرة نطمح إلى ترسيخها هي عدم الجمود، وأن نبني دائماً،
فالمشروع الفكري مشروع مفتوح، دائم التطوير، لن يقف وينبغي دائماً أن لا نتوقف إلى قيام
الساعة!
    صحيح جزاك الله خير، لدينا سؤال مهم، سمارت هذا يستخدم في قياس المشاريع بحيث أنه
أحد القياسات المستخدمة في إدارة المشاريع، (الوقت) لابد أن يكون محدداً، السؤال: هل
سنحتاج مائة سنة أُخرى للمراجعة؟ لأوضح يعني مائة سنة ونحن في مرحلة الانبعاث، ونحن
فقط عاطفة واندفاعات في الأفكار كذلك، والآن انتقلنا لمرحلة المراجعة، وأنا سوف أُسلّم معك
في هذا، في مرحلة المراجعة الآن التي يقف عليها العقل والنقد هل نحتاج أيضاً مائة سنة؟
وأريد الإضافة على نفس المقياس، هل بعد أربعمائة سنة سوف نقطف الثمرة؟
    سؤال جميل جداً، هذا السؤال مُلِح ودائماً ما نتذاكر حوله وهو هاجس، (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ
عَجَلٍ) [الأنبياء:37]، الإنسان بطبيعته يستعجل المدد الطويلة.
أولاً أحب التأكيد أن الفواصل الزمنية فواصل وهمية، نحن نتكلم عن شيء يغلب على فترة من
الزمن، والفواصل بين هذه المراحل فواصل وهمية تقريبية.
حتى المسارات في مجالات الحياة ليست متساوية، تجد في بعضها تقدّم كبير وبعضها تأخّر،
وبعضها جمود، فهذه الفواصل الزمنية وهمية تقريبية، إلى الآن يوجد أناس يعيشون بعقلية القرن
السابع الهجري، يوجد أٌناس الآن بيننا بعقلية الواحد والعشرين وقبلها وربما الاثنين والعشرين،
فقصدي ليس الكل بسوية واحدة وليست كلها مسارات متساوية، فليس الكل متخلفين مثل بعضهم،
فبعضهم متقدم، بعضهم متأخر كأفراد وكجماعات في مساقات، فهل أمتنا متخلفة من حيث
الالتزام بالدين أو الترابط الأسري؟ أمتنا متقدّمة في هذين المجالين، طيب تقنياً متخلفة، في كل
التقنيات؟ وهكذا فلا يوجد عندنا قواطع.

 هل نحتاج إلى مائة سنة؟ هذا الشطر الثاني من السؤال، لا نحتاج إلى مائة سنة لأن الزمان الآن
تقارب بفضل الفضائيات والإنترنت وبفضل هذا البث المباشر الآن و كلٌ منا في بلد، فالزمان
تقارب والتجارب تقاربت، إخواني كان في عصر من العصور قبل ظهور هذه الوسائل أحد أعلام
المسلمين مات بالأندلس فاستغرق خبر وصول وفاته إلى مدينة فاس بالمغرب ثلاثة شهور، أما
الآن فهو على الفراش خبره يصل بنفس اللحظة وبنفس الدقيقة، إذاً هذا التقارب إن شاء الله يخفّف
كثيراً من الزمن المطلوب.
    تطرق الدكتور طارق السويدان إلى هذا الجانب، أنه إن شاء الله قد تكون رؤية المراحل كل
مرحلة تحتاج إلى عشرين سنة وقد تحتاج إلى مائتين سنة حتى نصل إلى الحضارة الإسلامية
التي تقود العالم من جديد.
    لدينا سؤال آخر: هل مظاهر الاختلاف بين أنصار الفكر القديم وأنصار الحداثة والمراجعة
ستبقى مستمرة بوضوح في كل المراحل الأربعة التي ذكرت؟
    بالنسبة لحُراس القديم ودُعاة المعاصرة أو الحداثة أو التُراثيين والحداثيين، هذا الصراع سيبقى
وهذا الصراع مهم و جميل وجيّد، لماذا؟ دعونا نشبه الدين والمبادئ والثوابت بعمود وسط
الساحة، حراس التراث يدفعون بنا إلى الارتباط بهذا الأصل، ونحن نريد أن نتوسّع وننفتح، 
وعملية الشد هذه بين المنفتحين والمنغلقين (التراثيين) عملية جيدة تخلق توازن في الفكر، حتى
أن دعاة الحداثة والتشديد يشطحون وهؤلاء جامدون، فعندما نجمع الشطح مع الجمود يعتدل
مزاج الأفكار، لكن بشكل عام ستخفّ حدة هذا الصراع والله أعلم. 
المتبنّون لأفكار المعاصرة والأفكار الجديدة سيكثُر أنصارهم وعندها ندخل في المرحلة الجديدة،
نحن الآن ما زلنا في عملية شد عندما تصبح الكتلة الحرجة معاصرة عندها نستطيع الدخول في
عصر جديد.
مع أن البعض يقول ليس من الضروري للفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي والفاعل الحضاري
أن يكون كل المجتمع يحمل هذه الأفكار، فيكفي للفاعل السياسي أن يتبنّى هذه الأفكار بالتحالف
مع الفاعل الاقتصادي ويحققون تنمية.
لكن المشكلة عندها يصبح هناك ازدواجية في المجتمع، فنجد أناساً متقدمون جداً وأناساً يعيشون
في القرن السابع الهجري، وهذا نشاهده في تركيا يعني لو رجعنا إلى بعض المدارس الشرعية
نجدهم يعيشون في القرن السابع الهجري والحكومة التركية تأخذ بآخر التطوّرات، فتجد فعلاً أنه
لا يوجد تجانس، عندما تجلس مع بعض القيادات الإسلامية التراثية التركية، تقول في نفسك:
مستحيل كيف حقّقت تركيا هذه النهضة؟ السبب أنّ الفاعل السياسي والاقتصادي والتنموي لا
يتبنّى أفكار هذا  التراث وإنما تبنّى أفكار حداثية وانطلق!
    طيب ممتاز دكتور، لك ختام الكلمة، سعداء بهذا الحوار، وبما تحدثت عن المشترك الإنساني
الموجود في الحضارة الغربية وممكن أن نطرح في عمران كيفية الاستفادة منه في نهضة أمتنا
أو في النسخة الإسلامية الجديدة التي تحدثتَ عنها وتكلمتَ بأنها تحتاج إلى مراجعة كي ننطلق
إن شاء الله بالكتلة الحرجة وننطلق في مرحلة النهضة، لنصل إلى مرحلة الازدهار بأسرع وقت
ممكن. 

    جزاك الله خيراً أستاذ عبد الله على هذا التقديم الرائع وهذا الحوار الممتع الذي استمر ساعة،
وأنا من ناحيتي لم أشعر بالزمن وأشكر السادة المتابعين كلهم في منصة عمران، وأستاذنا
الدكتور طارق السويدان حفظه الله تعالى.
وأُبشّر الجميع أنّ المستقبل لنا إن شاء الله، ليس كلاماً عاطفياً وإنما واللهِ نراه رأيَ العين، هناك
تيار شبابي كبير يجمع بين المعاصرة والأصالة، الأصالة فلا يوجد أمة تنهض إذا تجاوزنا
هويتها، لا نريد نسخة غربية مثل الذي يأتي بنبتة من بيئة مختلفة -غير مناسبة- فلن تنبت هذه
النبتة، فالمستقبل لنا والشباب متحمّس وديننا صالح لكل زمان ومكان، ويحتاج إلى اجتهادات
معاصرة.
 القافلة تسير، والتقدّم يمشي وهذا الدين منصور، وهذه الأمة لن تقف هكذا، وأكبر دليل
التضحيات التي نراها هنا وهناك، هذه الثورات تدل على أنّ امتنا أمة مستيقظة، أُمة تحتاج أن
تكسر القيد وتنطلق.
وهذا ليس كلاماً عاطفياً واللهِ لكن هذا واقع نعيشه ليلاً ونهاراً، كلما ظننا أنّ الأمة ليس فيها خير
نجد انبعاثاً من هنا وهناك، لكن القافلة تسير وعلينا فقط الركوب فيها، والذي يركب ويمضي مع
هذه القافلة ينال شرف الاشتراك في هذا النهوض، والذي يريد البقاء فلا سيطرة لنا عليه، جزاكم
الله خيراً شكراً لكم ولا تنسونا من دعائكم.
منقول من مدونات عمران




دكتوراه ببضع صفحات!!

(أربع ملاحظات لتساهم الدراسات العليا بنهضة بلداننا)

ما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، جزاه الله عني كل خير، عندما أمسك بإحدى خطط البحث المقترحة للماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات A4، قرأ الخطة ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: “هنا عملك!” يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك.

تأمّلت تلك الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.

إخواني:

انتشرت في ديار المسلمين -بفضل الله تعالى- الدراسات العليا التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة والتدريس الجامعي إلى درجة (الأستاذية)، وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والترشيد، فبحوثُ الدراسات العليا من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض ببلداننا.

لذلك سأذكر أربع ملاحظات إرشادية للبحوث الأكاديمية:

الملاحظة الأولى: علينا أن نشجّع الباحثين على الإبداع والاجتهاد الجديد:

رغم انتشار الدراسات العليا في ديارنا إلا أنها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو:

تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث، وتقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات، فتنهض البلاد.

لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، وذلك بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم، فيمنعون الباحث من الترجيح أو إبداء الرأي، ويوبّخونه لو ظهرت شخصيته في البحث، بدلاً من تشجيعه على الاجتهاد والإبداع والإتيان بالجديد!! (طبعا هم يزعمون أنهم يريدون أن يربّوا الباحث ويعلموه التواضع واحترام جهود السابقين، لكنهم مثل الذي يريد أن يقوم بعملية للعين ليصلحها فبدلاً من إصلاحها يُعميها!! وهم هكذا يفعلون، فبدل أن يجعلونه يترك التكبر ويتواضع، يجعلونه يترك الاجتهاد والإبداع، ويجمد على أقوال السابقين. لكنّ فِعْلَهم هذا في حقّ الباحث يعتبر جريمة!! لأنهم يقتلون إبداعه.

 حتى إنّ أحد (الدكاترة الجامدين) كان يقول: “الترجيح بين أقوال العلماء قلة أدب!!”  طبعاً بمعيار هذا الدكتور كلُّ علماءنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، والردِّ على المخالف لهم من بقية المدارس، أو من يخالفهم ضمن المذهب الواحد.

وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ جديد.

الملاحظة الثانية: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا:

ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا.

 لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك للطلاب الأغرار هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودَهم بما ينفع بلداننا.

 الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسّسات المجتمع المدني وحتى القطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، أو (أي مؤسسة حتى لو كانت ربحية تقوم على الإشراف على هذا الأمر) فيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه من جهة، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث لتطوير نفسها وحلّ مشاكلها من جهة ثانية.

 كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق.

وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا يوجد ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!

ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، وننسى الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من (وقت وجهد ومال) حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير.

الملاحظة الثالثة: الاختصار والتركيز في البحوث والدراسات على موضع الإبداع وحلّ الإشكال:

بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث؟ فكثير من البحوث الاكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الترتيب، وفي أحيان قليلة إعادةُ الصياغة والإتيان بأمثلة معاصرة.

يجب أن نعمل على أن تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟!

فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ؛ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير!!

لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د.عبد الكريم بكار، فالتفاخر -مع الأسف- بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها!

ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).

وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟

الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي.

فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1-في ذلك هدر للموارد: كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر والجهد الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار!

2-البحوث الطويلة تُلزم القارئَ لها أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهر البحث وآراء الباحث الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة.

بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث.

حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، لكثرتها وطولها وتكرارها للمعلومات، فلا يقف المتخصص بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ”كثرة المصنّفات تعيق عن التحصيل” كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.

3-في البحوث المطوّلة عندما يصل الباحث للجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) ربما يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً!! وقد سمعت أستاذنا د.أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيه حقّه من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد).

فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار وإعادة صياغة المعلومات القديمة المعروفة!

4-نريد الاختصار في الأبحاث حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة!

نريد الاختصار حتى نخفف من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: “ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات”، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ المنطق يقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجَودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.

الملاحظة الرابعة: ضرورة نشر الدراسات والأبحاث حتى يستفيد منها الناس: 

فبعد الانتهاء من البحث، ومناقشة اللجنة العلمية للباحث، ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحثُ في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب، لا يستفيد منه أحد! على الأقل انشروه إلكترونياً فالنشر الإلكتروني لا يكلّف شيئاً، وإلا فما فائدة هذا البحث إذا لم يأخذ طريقه للنشر والتطبيق في الواقع.

بصراحة: علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسيات العليا، حتى تساهم بنهضة بلادنا، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، نكسب منها أمرين اثنين:

أولاً: باحثون أكاديميون يحملون مناهج علمية في عقولهم، ويطبّقونها في حياتهم.

والأمر الثاني الذي نكسبه: بحوث نوعية راقية تساهم في تطوير واقعنا، حتى نستعيد حضارة أمتنا، والله الموفّق.