استراتيجيّات مواجهة الطائفيّة

الواقع: 

لا يخفى على متابع الشأن السوريّ بخاصّة، والشأن الإقليميّ بعامّة، أنّ الخطاب الطائفيّ قد أصبح خطاب المنابر الإعلاميّة السياسيّة والدينيّة والبينات العسكريّة.

وبدأت ثورات الربيع العربيّ مثقلة بأوزار الطائفيّة، لاسيّما فيّ العراق وسوريّة واليمن، وساعد على ذلك ما يلي:

1-العدوان الإيرانيّ على الشعوب العربيّة مصطحباً معه خطاب التشيّع، وتصدير الثورة الإيرانيّة.

2-قيام النظام السوريّ بإزكاء المشاعر الطائفيّة، عن طريق الأجهزة الأمنيّة، والاستهزاء بالدين، وحشد الطائفة العلويّة.

3-رواية النظام ضدّ الثورة، بأنّها تستهدف الأقليّات الدينيّة، وأنّه يحميها من السلفيّة الجهاديّة.

4-قدوم مليشيّات شيعيّة من عدّة بلدان عربيّة وأجنبيّة، وارتكابها جرائم بحقّ الشعب السوريّ بثوب طائفيّ.

5-قيام تنظيمات متطرّفة، واستخدامها خطاباً طائفيّاً مضادّاً.

المآلات:

1-غياب الخطاب الثوريّ والمطالب الشعبيّة، المستمدّة من أهداف الربيع العربيّ.

2-أدلجة الخطاب الثوريّ بالأدبيّات التنظيميّة والحزبيّة، وغياب الروح الوطنيّة الجامعة.

3-استثمار إيران الساحة الطائفيّة، والزجّ بمقاتلين عقائديّين بحجّة الدفاع عن المراقد.

4-ترويج رواية النظام؛ بأنّ الثورة حركات دينيّة متشدّدة إرهابيّة تستهدف الأقليّات الدينيّة.

5-تشتيت الجهود؛ من إسقاط النظام، إلى اقتتال واحتراب عقائديّ، وتنافس مذهبيّ ودينيّ.

6-علوّ خطاب الغلاة، وتصدّرهم المشهد، وغياب صوت الاعتدال في كافّة الأطراف.

التعاطي مع المشروع الشيعيّ:

من المفيد تقسيم استراتيجيّة المواجهة مع الشيعة، وفق مسارات ثلاثة:

  1. المسار الدعويّ.
  2. المسار السياسيّ.
  3. المسار العسكريّ.

أوّلاً: المسار الدَّعوي:

 لا بدّ في المسار الدعويّ من تمثّل المرتكزات المعرفيّة والاعتماد عليها، وتعزيز مرجعيّتها عند جماهير أهل السنّة، من خلال ما يلي:

1-تحصين اعتقاد أهل السنّة المتواتر من سنّة النبيّ ﷺ بمراجعه الحديثيّة والعلميّة التي بلورت المذهب السنيّ.

2-توضيح الخلافات الاعتقاديّة والفقهيّة والسياسيّة مع الشيعة ، وبيان مدى خطرها على الأمّة والدّين.

3-تعرية الخطاب الطائفيّ الشيعيّ، وتبيين مراميه وأهدافه، في اجتثاث الأمّة واستبعادها، وقمع حريّة التديّن والتمذهب.

4-دراسة فرق الشيعة وأفكارهم المعاصرة، وإعداد قاعدة بيانات لتوجّهاتهم المعاصرة.

5-إعداد الكوادر العلميّة والفكريّة لمواجهة المشروع الشيعيّ، وإنشاء مركز بحثيّ متخصّص.

ثانياً: المسار السياسيّ:

يجب أن يكون العمل ضمن المسار السياسيّ، في إطار درء المفاسد، وجلب المصالح، وتخفيف شرور الحرب الطائفيّة، وإنقاذ الأمّة من الاقتتال الدائر، ويمكن العمل وفق ما يلي:

1-عدم وضع الشيعة في سلّة واحدة، من حيث درجة العداوة والضلال، ومحاولة تقسيم صورتهم المذهبيّة.

2-تشجيع صوت الإصلاح الداخليّ في المدرسة الشيعيّة الرافضين للتغوّل الطائفيّ، والمعاندين للصائل الإيرانيّ.

3-مدُّ يد التواصل والتعاقد للقامات الشيعيّة المعتدلة، والتحالف معها لمناهضة الطائفيّة.

4-تشكيل منصّة تشاوريّة تعاقديّة من السنّة والشيعة، تهدف لصيانة الحرمات، ومواجهة الظلم، ومقاضاة المجرمين الطائفيّين.

5-رفض خطاب التكفير للسنّة والشيعة، ورفض شيطنة الطوائف بالمطلق، واستحلال الدماء.

6-نقل التدافع السُّنيّ الشيعيّ في الإطار المذهبيّ إلى الإطار السياسيّ، وتجريم الاحتكام إلى السلاح.

7-حشد الأصوات المعارضة للمشروع الإيرانيّ، من الشيعة العرب، والمعارضة الإيرانيّة، وتفعيلهم على قضايا الشعوب العربيّة، كدعوتهم للمؤتمرات، والخروج بلقاءات متلفزة علنيّة.

ثالثاً: المسار العسكريّ:

لن يستطيع السُّنَّة والشيعة الوصول إلى التهدئة والسلام، مادام العدوان الإيرانيّ معلناً على الأمّة، ولذلك لابدّ عسكريّاً ممّا يلي:

1-دعم الثورة السوريّة، والمقاومة اليمنيّة بكلّ أنواع الدعم العسكريّ والسياسيّ والماليّ، لحسم معركة الحرّيّة.

2-إعادة تأطير المقاومة الوطنيّة العراقيّة، ودعمها بكلّ أسباب البقاء.

3-حشد  الأمّة والمجاهدين حول مشروع واحد، والتصدّي للمليشيّات الطائفيّة التي تجتاح العواصم العربيّة.

4-إحياء مشروع شيعيّ عربيّ في العراق، يؤمن بتحرير العراق من الاحتلال الإيرانيّ، ودعمه عسكرياً وسياسيَّاً.

5-اهتمام الإعلام العربيّ بعرب الأحواز، والإثنيّات السنيّة، والقوميّة المضطّهدة في إيران، وتشجيعها على الثورة على نظام الملاليّ.

6-استرداد شرف المواجهة من تنظيم (داعش)، وعزل الغلاة عن قيادة أيّ مشروع جهاديّ، صوناً للجهاد من التكفير والتشظّي.

المهمّات والأدوات:

1-عقد مؤتمر للقنوات الفضائيّة العربيّة المناصرة للربيع العربيّ، ووضع برنامج موحَّد لمواجهة المشروع الإيرانيّ إعلاميّاً.

2-إنشاء مجلس إقليميّ من الشخصيّات والرموز الإسلاميّة، مهمّته توعية الحكومات والمؤسّسات بخطر المشروع الشيعيّ والإيرانيّ.

3-إنشاء مركز أبحاث متخصّص بالشأن الإيرانيّ، وامتداداته العربيّة.

4-تعريف أهل السنّة والجماعة ضمن وثيقة يوقّع عليها كلّ علماء السُّنّة المشهورين، وبخاصّة في الشرق الأوسط.

5-كتابة مبادئ الخطاب الوطنيّ، والإصلاح الاجتماعيّ، وتعميقه كثقافة الاختلاف السياسيّ.

6-إنشاء لجنة سوريّة برعاية المجلس الإسلاميّ للتواصل مع المعتدلين الشيعة، والتعاطي معهم بما فيه مصلحة.

7-إنشاء هيئة التوجيه المعنويّ للثورة السوريّة، لضبط الخطاب الثوريّ، ونشر ثقافة الوسطيّة عبر منصّات إعلاميّة مؤثّرة.




فقه الخلاف وأدب الحوار

إنّ الاختلاف بين الخلق سنّة ربّانية في هذا الكون، وكما اختلفت أصناف المخلوقات من نباتات وحيوانات وجمادات وكواكب وسموات وأرضين، فقد اختلف خلق البشر وتفاوت من شخص لآخر، ومن أمّة لأخرى، في الأشكال والألوان والطباع والأخلاق والأديان…

وما كلّ ذلك إلا آية عظمى من آيات الله في خلقه، لا يدرك حكمتها إلا العالمون، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ الروم: (22)

وقد خلق الله عباده بهذه التنوّع الكبير للاختبار والامتحان في هذه الحياة ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، ولو شاء أن يكون خلقه نسخة واحدة لا يتمايز بعضهم على بعض في قليل أو كثير لفعل، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ هود: (118، 119) 

وإذا كان الاختلاف بين الخلق في العقول والطبائع والتوجهات، أمراً لا مفرّ منه، فكيف ننظر إلى هذه الأمر؟ وكيف نتعامل معه وفق رضا الخالق سبحانه وتعالى؟

إنّ الحديث حول هذه الجزئيّة التي تمسّ حياة البشر كلّهم، لهو أمر في غاية الأهميّة في حياة الإنسان المسلم، فأنَّى لإنسان أن يعيش بسعادة في هذه الدنيا دون أن يعرف حكمة الله في خلقه مختلفاً عن غيره، أو الحكمة في خلق الآخرين يختلفون معه في كلّ شيء أكثر ممّا يتّفقون…

بل كيف سيقدر على العيش في هذا الوسط المتنوّع، إن لم يتعلّم كيف يتلاءم مع من حوله من خلال فهم واقع الحياة، وشروط العيش فيه بسلام… من هنا ندرك أهميّة إحاطة الإنسان بسنّة الاختلاف الربّانيّة وما يترتب عليها من آداب يتوجّب على الإنسان الالتزام بها تجاه الآخر… إنّ هذا التنوّع في توجّهات الخلق وطبائعهم هو الطريق نحو التكامل البشريّ، إن عرف الإنسان كيف يتعايش معه ويستفيد منه، وليس هذا التنوّع طريق الخلاف والشقاق والتنافر كما يظنّ أصحاب العقول القاصرة، والأفهام السقيمة.

ونحن المسلمين في حياتنا الإسلاميّة نوعان من الاختلاف: أحدهما ممدوح، والآخر مذموم، وقد وقع الخلط بينهما في عقول الكثير من الناس، فلم يميّزوا بينهما…

أمّا الاختلاف المحمود: فمثل الذي يكون بين المجتهدين في الأحكام الشرعيّة، كاختلاف الصحابة في اجتهاداتهم، ومن بعدهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، ممّا أدّى إلى تعدّد المدارس الاجتهاديّة والمذاهب الفقهيّة… 

ورغم أنّ خطاب الشرع للمسلمين واحد، وهو القرآن والسنّة، فإنّ فيهما بعض التوجيهات والقواعد الكليّة التي تحتمل عدّة أحكام واتّجاهات، وقد كانت مقصودة للمشرّع الحكيم، ليتّسع على الناس دينهم، فعن أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال 🙁 إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها) حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.

ومن المقطوع به لدى كل أصحاب النظر والتبصر، أن فهم الناس لأدلة الشرع الحكيم، سيختلف من مكان لآخر تبعاً لاختلاف عقولهم وطبائعهم، فمنهم الروحانيّ الذي يفهم الحديث بمقاصده ومراميه الأخلاقيّة قبل كلّ شيء، ومنهم النصّيّ الذي يقف في حياته عند حدود الكلام، ويفضّل ذلك على البحث والتأويل، ومنهم أصحاب النزعة العقليّة الذين يتلقون الأوامر بعقولهم أولاً ويوازنون بينها وبين ما عندهم من معارف سابقة واطلاع على مقاصد الدِّين، ومنهم من يجمع بين هذا وذاك… ولكنّ النتيجة من ذلك كلّه موروث إسلاميّ متكامل وثروة تشريعيّة غزيرة الأحكام، أدّت إلى يسر الدّين وسعته للخلق كلّهم بجميع طبائعهم… فكان رحمة عامّة شاملة للأمّة، وهذا هو مفهوم السلف للاختلاف، فقد ورد عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنّه قال: “ما يسرّني أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا، لأنّهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة”.

وأمّا الاختلاف المذموم: فهو الاختلاف الذي يأخذ بيد أصحابه إلى الجدل الذي نهت عنه الأديان السماويّة كلّها، وأكثر نبّينا صلّى الله عليه من التحذير منه، حيث يتحوّل التنوع الاجتهاديّ إلى ساحة للأخذ والردّ والنقاش الفارغ بقصد نصرة الرأي والتعصّب للنفس أو المذهب أو الإمام… وعند ذلك تضيع مقاصد الدِّين ويلتبس الأمر على عامّة الناس، فيقعون في حيرة مريرة يفقدون معها القدرة على التفريق بين مقاصد الإسلام وحكمه، وبين شذوذات المتعصّبين التي يظهرونها للناس على أنّها دين الله الذي لا يحيد عنه إلّا ضالّ… وإذا انتشر هذا النوع من الجدل في أمّة من الأمم فهو شرّ محض ينبئ عن قرب زوال هذا المجتمع أو انهياره… قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) رواه البخاريّ، وقال أيضاً: (ذروني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاريّ. 

وقد أخبرنا النبيّ صلوات الله وسلامه عليه بأنّ أصحاب المنهج الجدليّ البحت، الذي يأخذ بالأمّة إلى الهاوية،  هم من أبعد الناس عن الله، وأبغضهم إليه، فقال: (إنّ أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم)…

وفي السنوات الأخيرة انتشر هذا النوع من الاختلاف انتشاراً كبيراً في المجتمع الإسلاميّ، حتّى غدا السّمة العامّة لحياتنا، بل وتحوّل إلى حروب طاحنة بين تيّارات ومناهج وصلت في بعض البلدان إلى حمل السلاح، وقتل الآخر، فقط على الطائفة والهويّة الدينيّة أو المذهبيّة، ومع مرور سنوات على هذا المنوال المقيت، فقد بدأت تتغير نظرة الكثير من أبناء جيلنا إلى الدِّين، بل وأصبح مفهوم الدِّين عند مجموعات لا يستهان بها من المثقّفين وغيرهم مفهوماً آخر غير الذي أراده الله ورسوله له، ولا منجاة لنا ممّا نحن فيه إلا بالحوار الشامل بين جميع تيّارات هذه الأمّة وأبنائها…

وعلى طلّاب العلم ودعاة الإسلام اليوم أن يشقّوا طريق السلام لأبناء هذه الأمّة الواحدة، عبر الحوار الهادف، والتعايش السلميّ، بصبر وتؤدة، بين طريقين آخرين لا يختلفان عن بعضهما في مجانبة الصواب وخطرهما على الأمّة والدّين، أحدهما طريق التطرّف والذي يسلكه أناس ضيّقو الأفق، لم يجدوا في الدِّين إلا مادّة للنقاش والجدل العقيم، والتبديع والتكفير ورفض وجود الآخر، بل وحمل السلاح عليه بحجّة الدفاع عن مفاهيم الدِّين… وبين طريق آخر هو نتيجة ردّة فعل حتميّة لسابقه، وهو طريق التهاون بتعاليم الدين وحدوده بحجّة المصلحة العامّة، حيث يحاول سالكوه محو الفوارق بين أبناء التيّارات الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، بل ميّعوا قضيّة الدِّين وجعلوه سلعة، على كلّ طرف أن يتنازل عن جزء منها ليتّفق مع الآخر بعيداً عن المبدأ المرتبط بقواعد الشرع، فأدّى بهم الأمر إلى إنكار وجود الخلاف في فهم الأدلّة الشرعيّة، واعتمدوا على أفكارهم الشاذّة المخالفة للواقع، فقاموا بمحاربة تراث الأمّة وتشويهه والاعتداء على أئمّته، وادّعاء أنّهم سبب الفرقة وضلال الأمّة وحروبها ونزاعاتها، بل وصل بهم الأمر إلى محاولة توحيد الأديان، وتمييع مفهوم الإيمان والتوحيد من أصله، كردّة فعل للتطرّف الذي يمثّله التيّار الأوّل… فهم كسابقيهم يمشون في طريق الهلاك دون أن يشعروا. 

وبين الإفراط والتفريط يبحث رجال العلم والفكر عن طريق الخلاص الذي يعتمد فهم سنّة الله في اختلاف الخلق، والتعامل معها عبر الحوار الهادف الذي ينقذ الأمّة ممّا وقعت فيه من بلاء، دون تمييع للدِّين، كما فعل بعضهم، أو جعله وبالاً على الأمّة كما فعل بعضهم الآخر… 

ولكن ما هي الخطوات العمليّة لنتخلّص من الجدل العقيم ونصل إلى الحوار الهادف الذي يؤسّس لبناء أمّة؟

أولاً: علينا أن نؤمن بأن الله خلق الناس مختلفين بشكل لا يجمعهم فيه إلا الله، وأنّ الله له حكمة في ذلك، فعلينا أن نعمل بمقتضى هذه المشيئة الربّانيّة، وننفّذ أوامر الله في التعامل مع الآخر، دون تجاوز للحدّ…

ثانياً: أن يعرف الدعاة أنفسهم أنّهم ليسوا أوصياء على الدِّين ولا على جنّة الله ولا ناره، وليعلموا أنّهم مبلّغون فقط، لا أقلّ ولا أكثر… ويكفي الإنسان شرفاً أن يكون مبلِّغا عن الله، فتلك وظيفة أشرف خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48) فقد حصر الله مهمّة نبيّه بالبلاغ، ونفى مسؤوليّته عنهم إن هم استجابوا أم لا…

وكرّر عليه هذا المعنى مرّات وكرّات لتبقى الدعوة صافية لا يشوب طريقها كدر ولا يأس فقال: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22] ،وقال في موضع آخر: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ الكهف (6)

وأنت أيّها الدّاعي كلّما غضبت وكاد اليأس أن يداخل قلبك تذكّر قول الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82).

ثالثاً: أن نتعلّم أن نقدم مصلحة الأمّة ووحدتها على اجتهاداتنا الخاصّة وقناعاتنا الشخصيّة، وهذا أبو ذرّ رضي الله عنه لمّا سمع تقديم عثمان بن عفان الخطبة على صلاة العيد أنكر عليه أيّما إنكار، ولكن لمّا حضر العيد القابل عمل بما أمر به عثمان، وعندما سئل عن ذلك قال: (نعم، ولكن الخلاف أشدّ).

رابعاً: علينا أن نختلف بعقلانيّة، ونحترم الآخر، وإذا أردنا أن نصوّبه فعلينا أن نسلك أيسر طريق وألينها، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}… وقد أمرنا الله بحسن الحوار مع أهل الديانات الأخرى، فقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْل الْكِتَاب إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } العنكبوت (46)، فكيف بالجدال والحوار داخل الأمّة الواحدة، ثمّ علّمنا أسلوباً نحافظ من خلاله على مجتمعاتنا، وهو البحث عن النقاط المشتركة بيننا وبين أبناء الديانات الأخرى لتقليل المسافات بيننا، فقال: {وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

خامساً: علينا أن ننشر العلم والاستقرار في شتّى البقاع التي توجد فيها أمّتنا، لأنّ الجهل والاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة لها آثار مباشرة في تغيّر طبيعة المجتمع وفساد أخلاقه.

وقبل الختام لا بدّ لنا من نموذج للحوار المباشر مع الآخر والصبر عليه، مهما اختلفت الآراء وتباعدت الأفكار، فقد وردت مواقف كثيرة في كتاب الله، تصف هذا الأمر ،فمن ذلك في كتاب الله حوار نبيّ الله موسى عليه السلام مع فرعون، وحوار لوط عليه السلام مع قومه وحوار إبراهيم عليه السلام مع قومه ومع عبّاد الكواكب ومع أبيه، ولننقل حوار نبيّ الله إبراهيم لأبيه الذي ذكره الله في سورة مريم، ونأخذ منه العبر، قال تعالى ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)﴾.

وأخيراً: علينا أن ندرك أنّه قد حان الوقت لننبذ كلّ الخلافات الصغيرة التي بيننا، لأجل الهدف الكبير في توحيد الأمّة والسعي نحو مجدها وعزّتها.




أزمة العولمة: فرص ومخاطر

ربما نشعر اليوم بالعولمة وتأثيراتها أكثر من أي وقت مضى، لكن هناك من يتحدث أكثر عن أن العولمة تمر بأزمة بالقدر ذاته.

إن الإمكانيات التي ظهرت بظهور العولمة ويستفيد منها كل البشر تجعل العالم أصغر وأصغر بمرور الوقت، لتمكّن الجميع من الوصول إلى كل مكان والحصول على كل الإمكانيات كيفما أرادوا. غير أن هذا الوضع عاجز عن التغلب على رغبة العديد من البلدان في الانغلاق على نفسها أكثر، بل إنه يقوي هذه الرغبة ويعزّزها. يستطيع مواطنو الدول المميزة الوصول إلى أي مكان في العالم دون تفرقة وقتما يشاؤون، إلا أن استفادة مواطني الدول غير المميزة من الإمكانيات ذاتها يفضي إلى حالة من الاستياء في تلك البلدان المميزة.

إن الأمريكيين والأوروبيين اليوم لا يرغبون أبدًا في التنازل عن امتياز حرية التجول حول العالم كيفما شاؤوا، لكنهم يحاولون بناء سدود عالية للحيلولة دون تدفق مواطني البلدان التي يتجولون بها نحو دولهم. فأوروبا بعد جرّبت كل مميزات الاتحاد، تشهد انتشار كراهية الأجانب التي وصلت إلى حدّ يهدد الأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي نفسه.

لا تجد أي وجهة نظر عقلانية يتبناها تيار اليمين المتطرف الذي تعلو شوكته في كل الدول الأوروبية. وفي الواقع، كانت أهم نقطة عمياء في التحليلات المتعلقة بالعولمة هي دعم الجميع لها لأنها تؤدي إلى فوز الجميع، وأنها منطقية وعقلانية بالنسبة للجميع. بيد أن البشر ليسوا عبارة عن آلات عقلية مطلقة، كما أنّ سلوكياتهم ليست عقلانية بشكل مطلق.

ولقد كان مقدّرًا للدول الأوروبية أن تأخذ هي الأخرى نصيبها من اللاجئين عقب اندلاع الأزمة السورية التي وقعت في مكان ما في العالم وانتشر تأثيرها في أرجاء المعمورة كافة منذ ثماني سنوات.

ولقد نظمت قناة TRT World التركية الناطقة بالإنجليزية المنتدى الدوري لهذا العام للحديث عن أهم القضايا التي تشغل العالم اليوم تحت عنوان “أزمة العولمة: الفرص والمخاطر”، وهو المنتدى الذي شهد طرح العديد من النقاشات الجادة للغاية على مدار يومين نُظم خلالهما بطريقة في منتهى الاحترافية بمشاركة أبرز المفكرين والسياسيين والناشطين والصحفيين في العالم.

وأرى أنّ المنتدى نجح في تنفيذ مهمة تتوافق مع دور تركيا في النظام الدولي الجديد من أجل اختيار اسم لأزمة العولمة وكشف النقاب عن الأسباب الخفية وراء هذه الأزمة.

لا يوجد أي دولة أكثر من تركيا لديها القدرة والإمكانية على الكشف عن أسباب فشل عملية التحول الديمقراطي في منطقتنا اليوم مع الكشف عن المسؤولين عن هذا الأمر وأصدقاء المنطقة وأعدائها. وإن الدول الأوروبية هي المسؤول الأول عن فشل عملية التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. فالأوروبيون ليسوا أصدقاء الديمقراطية في منطقتنا، بل أعداءها، ذلك أنهم لا يتضامنون مع أي تطور سياسي في المنطقة، بل إنهم لا يشعرون بأدنى حرج بشأن التعاون مع الأنظمة القمعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلاب على الديمقراطية؛ إذ إن الأوروبيين يفضلون هذه الأنظمة على القوى الديمقراطية ليتعاونوا معها في المجال السياسي.

ولا يخفى على أحد أنه ليس لأوروبا ولا والولايات المتحدة أي فضل على التطورات الديمقراطية التي يشهدها العالم حاليًّا، بل إنهما يساهمان بشكل كبير في ابتعاد دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص عن مسيرة التحول الديمقراطي. فلا يغرنّكم اهتمام هؤلاء بمسائل حقوق الإنسان خصوصًا في تركيا وبعض الدول الأخرى عندما تشتهي أنفسهم ويكون ذلك في مصلحتهم. فتجد كلّ محاولات الانقلاب التي استهدفت موجات الربيع العربي التي بدأت قبل نحو 10 سنوات كحركة ديمقراطية عالمية نمطية وقد نجحت في الاندماج بسهولة تامة مع الهيكل السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة وأوروبا.

ولقد أضحت تركيا، في ظل هذه الظروف، مصدر إلهام لكلّ التطورات الديمقراطية التي شهدها الشرق الأوسط، كما صارت الدولة الوحيدة التي لم تبخل بتضامنها مع الشعوب المظلومة التي تعرضت للانقلابات العسكرية لاحقًا، ولم تكف عن تقديم الدعم بكل إخلاص وعلى أعلى المستويات لتلك الشعوب.

وبغض النظر عن إذا كنا سنسمي ما يحدث بالعولمة أو الديمقراطية، فإن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تتمتع بالتفوق الأخلاقي عندما يتعلق بالأمر بتمثيل كل هذه القضايا.

وربما يكون لهذا السبب شهدت كل المظاهرات الديمقراطية في دول المنطقة كمصر والجزائر وتونس وليبيا والعراق ولبنان ترديد شعارات مناوئة للانقلابي المصري عبد الفتاح السيسي الذي اقترن اسمه بالثورة المضادة للربيع العربي عندما ردد المتظاهرون “لا إله إلا الله محمد رسول الله، والسيسي عدو الله!”، بينما ردد المتظاهرون في العديد من البلدان شعارات مؤيدة للرئيس التركي أردوغان بقولهم “أرواحنا ودماؤنا فداء لك!”. ولعل هذا الأمر يعتبر في غاية الأهمية للكشف عن ريادة الدور الذي تلعبه تركيا في النظام الدولي الجديد.

ومما رأيناه خلال الكلمات التي ألقاها المشاركون في منتدى TRT World فإننا يمكن أن نميّز الدور الرائد الذي تلعبه تركيا خلال عمليات التحول الديمقراطي حول العالم وفيما يخص المسائل الإنسانية.

ولقد تطرق الحاضرون كذلك لمسألة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بوصفه مبشّر لموجة ربيع جديدة بدأنا نشهدها هذه الأيام في كل الدول العربية، وبوصف الجريمة التي ارتكبت بحقه رمزًا للأنظمة الظلامية المعادية للديمقراطية التي تحكم في المنطقة.

ومما لا شك فيه أن خاشقجي كان بأفكاره ومواقفه وقضيته كان يحمل أفكار تركيا وموقفها وقضيتها. ولهذا فإن اليد التي امتدت للنيل منه امتدت كذلك للنيل من تركيا. كما أنه اليوم أقوى بكثير مما كان عليه عيد قيد الحياة بفضل القضية والأفكار التي مثلها. وأما من استهدفوه بالقتل فإنهم يعيشون اليوم الذل والهوان الذي يليق بهم.

المصدر: موقع يني شفق.




أزمة المناهج في التّعليم الشّرعي الجامعي

لا بدّ من التّأكيد على أنَّ أزمة المناهج في التّعليم الشّرعي الجامعي جزءٌ طبيعيّ من أزمة المناهج في تخصصات العلوم الإنسانيّة الجامعيّة عمومًا، وجزءٌ من الأزمة التي تعيشها البلاد العربيّة في التّعليم بمراحله المختلفة.

غير أنّ تخصيص مناهج التعليم الشّرعيّ بالحديث نابعٌ من أهميّة هذا التعليم في بناء المجتمع المصطبغ بالصّبغة الدينيّة، إضافةً إلى كون خريجي هذه الكليّات يقدّمون أنفسهم ويقدّمهم النّاس بوصفهم أحد أهمّ أصناف قادة الرّأي في المجتمع.

والحديث عن أزمة المناهج لا يمكن الإحاطة به في مقال أو بضعة مقالات، بل هي إشارات لأهمّ تجليّات الأزمة في هذه المناهج.

 • عالقةٌ في الماضي؛ غائبةٌ عن الحاضر

فرقٌ كبيرٌ بين التّعلّق بالماضي والعلوق فيه، فالتّعلّق بالماضي لا يكون سببًا للغياب عن الحاضر، والتقوقع في دهاليز الأحقاب السّالفة، بينما العلوق في الماضي هو السبب الرّئيسُ في الغيبوبة عن الواقع المُعاش.

ما تزال الكثيرُ من مناهج التعليم الشّرعيّ الجامعيّ عالقًةً في الماضي من حيث الأحكامُ وأمثلتها، ومن حيث الإسقاط على الوقائع وربطها به.

فلم تستطع هذه المناهج طيّ صفحة الأمثلة التي لم تعد موجودةً في بيئة المتعلّم؛ وهي كانت تناسب حقبةً زمنيّة ألّفت كتب العلوم الشرعيّة فيها.

 فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ ما تزال أحكام الرّق والعبيد حاضرةً بتفاصيل أحكامها الفقهيّة؛ لا بوصفها قضيّة تحتاج الفهم في سياقها الزّمنيّ وبيان آليّات التّعامل الفكريّ مع الاتّكاء عليها لمهاجمة الإسلام.

كذلك ما تزال الأمثلة في أحكام السياسة بعيدةً في كثيرٍ منها عن الواقع؛ فما تزال القسمةُ الثّنائيّة إلى دار الإسلام ودار الكفر هي المهيمنة على المناهج في ظلّ تغيّر الواقع السّياسي في العالم كلّه وتبدّل خرائط الأحقاب السّالفة إلى خرائط أكثر تعقيدًا وتشابكًا.

وكم هو مستغرب أن تبقى أبواب الطّهارة في مناهج معاصرة تتحدّث عن قضايا ما عاد النّاس يعرفونها كالاستجمار بالعظم ونحوه.

وأليسَ من العجيب أن يبقى الحديث عن حكم إجارة الدّابّة في وقت غدا فيه استئجار الطائرات أمرًا متعارفًا عليه والعالم مقبل على استئجار المركبات الفضائيّة؟!

من الطّوامّ الكبرى أن يكون الطلّاب في قاعاتهم الجامعيّة عالقين في أمثلةٍ على الأحكام الشرعيّة التي يدرسونها لا تمتّ لواقعهم بكثير صلة بينما يموج العالم خارج هذه القاعات بالمتغيّرات المتسارعة في ميادين السّياسة والاقتصاد والمجتمع، وبالوقائع التي تفجّرها التكنولوجيا كلّ يوم ويقفُ النّاس أمامها حائرين في أحكامها الشّرعيّة.

هذا الواقع الجديد الذي تتكاثر فيه القضايا الجديدة، والذي يشهد تحوّلات جذريّة على مستوى العلاقات السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة ونظام الأسرة والواقع الشّبابي يحتاج إلى مناهج تكون على مستوى بناء طالب علم شرعيّ قادرٍ على فهم هذا الواقع من حوله والتّعامل معه شرعيًّا.

 • غياب العلوم الإنسانيّة

يقدّم علماء الشّريعة أنفسهم ويؤكّدون على طلّابهم دومًا بأنّهم أهمّ قادة الرّأي المجتمع، ولكنّ هذا يصاحبه غيابٌ لأهمّ مفاتيح العلوم الإنسانيّة التي لا يمكن لأحدٍ أن يكون قائد رأي مؤثّرًا وفعّالًا في المجتمع وهو غائب عنها.

كيفَ نتوقّع من طلّاب العلوم الشرعيّة أن يكونوا هم الأكثر تأثيرًا في واقعهم ومجتمعهم ومناهج التّعليم الشّرعيّ تكاد تكون قاصرةً على الكتب الشرعيّة وبعض الكتب القانونيّة؟!

لا نجدُ في كثيرٍ من مناهج التّعليم الشّرعيّ الجامعيّ مدخلًا إلى علم الاجتماع أو مدخلًا إلى علم النّفس أو مدخلًا إلى علم السياسة أو علم الاقتصاد أو علم التربية أو علم التّاريخ أو علم الإدارة أو الإعلام والتّواصل أو غيرها من العلوم الإنسانيّة الضّروريّة لفهم المجتمع والتّعامل معه.

طبعًا ليسَ المقصود على الإطلاق أن يكون طلّاب الكلّيات الشّرعيّة متخصّصين في هذه العلوم بل أن يتم تمليكهم مفاتيحها وفتح النّوافذ لهم للإطلالة عليها من خلال مداخل عامّة تجعلهم أقدر على التّعامل مع هذا المجتمع الذي نريد لهم أن يكونوا قادة الرّأي فيه.

 • كثافةٌ لا تكثيف؛ وفقدان ترابُط

تعاني المناهج الجامعيّة في كثيرٍ من الكليّات الشّرعيّة من الكثافةِ والتّطويل الكمّي على حساب التّكثيف النّوعي، ممّا يجعل الطّالب مستهلكًا في المطوّلات والحفظ الكمّي.

كما تعاني كثيرٌ من هذه المناهج من غياب التّرابط والتّنسيق بين مفرداتها، ويعودُ ذلك إلى إشكالٍ في تنظيم المعارف المتضمّنة داخل المساق نفسه من جهة، وإلى إشكالٍ في التّنسيق بين مساقات المنهاج المختلفة من جهةٍ أخرى.

وسبب ذلك هو غياب الرّؤية الشّاملة والتكامليّة للمنهاج، ممّا يوقع الطّالب في مصيدة التّكرار الذي لا طائل منه ولا يغطّي القضايا من زوايا نظر مختلفة.

كما يجعله غير قادرٍ على التّحصيل النوعيّ بسبب استنزاف الطّاقة في هذه المناهج.

إنّ وضوح الأهداف

وتكاملها وتركيزها هو الذي يضمن أن نتحوّل من حالة الكثافة الكميّة إلى التّكثيف النّوعيّ في المعارف التي يريد المنهاج بناء طلّاب العلوم الشّرعيّة عليها.

 • غياب ملكة النّقد وعدم البناء على الإبداع

عندما أبدع العلماء القدامى مناهج النّقد في علوم الحديث، وعندما أسسوا لقواعد الاجتهاد في علم أصول الفقه؛ فإنّهم بذلك بنوا في طلّابهم ملكة النّقد وحوّلوهم من مجرّد نسخ من الكتب التي يدرسونها إلى شخصيّات قادرةٍ على تحويل علوم الشّريعة إلى علوم متحرّكة من خلال التّدافع العقلي بالتفكير والمحاججة.

لكنّ المناهج في الكليّات الشرعيّة اليوم غدت تعتمد مبدأ تلقّي المعرفة لا إبداع المعرفة.

ومن أجلى صور هذا هو تحويل علوم الآلة من وسائل إلى غايات قائمة بذاتها؛ فأصول الفقه وأصول التفسير ومنهج النّقد في الحديث هي علوم آلة ينبغي أن تكون وسائل لتفجير الإبداع الشّرعي وبناء الملكة النّقديّة.

لكنّها تحوّلت مع الأسف إلى علوم غاياتٍ يتلقّاها الطّالب بالحفظ والدراسة والتوغّل في تفاصيلها والغرق في أمثلتها المحفوظة دون استخدامها في الإبداع المعرفي.

وقد نبّه ابن خلدون إلى ذلك في مقدّمته متحدّثًا عن علوم الآلة حيث يقول:

“وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضًا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيلِ الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟”

إنَّ بناء المناهج التي تنمّي في طلّاب الكليّات الشرعيّة مهارات التّفكير، وملكة النّقد، وتفتح لهم أبواب الإبداع على مصاريعها هو من أهمّ وسائل إطفاء الشّذوذات التي تطفو على السّطح الشّرعيّ باسم الإبداع.

إنّ إعادة إنتاج المناهج الشّرعيّة وفق رؤية تجديديّة تقوم على الانطلاق من الماضي دون العلوق فيه، والتّعامل مع الحاضر ومستجدّاته، والواقع ومسائله، والمجتمع واحتياجاته، وبناء طالب العلوم الشرعيّة المتملّك مداخل العلوم الإنسانيّة لفهم المجتمع، والمبنيّ على قواعد التّفكير والإبداع؛ لهو حاجةٌ ماسّة في هذا الواقع المتغيّر الذي لا ينتظرُ أحدًا ولا يرحمُ متباطئًا.




وقفة مع سيد قطب

في هذه الحلقة يناقش الشيخ الأسباب التي من أجلها اعتقل سيد قطب وإخوانه وحوكموا، وصدر الحكم بإعدامه مع البعض منهم، متسائلا: من المسئول عن سفك هذه الدماء وإزهاق تلك الأرواح؟

وكان التعرض لهذا الموضوع مدخلا مناسبا ليقف الشيخ في مذكراته وقفة تأملية لفكر الأستاذ سيد قطب، مستعرضا مراحل حياته، وتطورات أفكاره خلالها، مناقشا هذه الأفكار، ناقدا ومحللا، متفقا ومختلفا.

علام حوكم سيد قطب؟

الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل “الأعمال الخطيرة” التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل “الأفكار الخطيرة” التي اعتنقها أو دعا الناس إليها. ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل -بل حكمنا عليه بالإعدام- من أجل أفكاره لا من أجل أعماله.

والعجيب أن الذي كان يحاكم أفكار سيد قطب ضابط محدود الثقافة، قليل البضاعة من العلم والفكر، وإن كان لواء في الجيش. فإن كان لا بد من محاكمة فكر سيد قطب فلتكوّن له لجنة من كبار العلماء والمفكرين، تناقشه فيما ذهب إليه.

لقد أخطأ عبد الناصر ورجال أجهزته من شمس بدران ووزارة الدفاع، وأجهزة المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية وغيرهم، حين ظنوا أن “الأفكار” تُحارب بالاعتقال والسجن والتعذيب والإعدام. إنما تحارب الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، واللسان باللسان، والقلم بالقلم، ولا تحارب الفكرة بالقوة، ولا الحجة بالسجن، ولا اللسان بالسنان، ولا القلم بالسيف.

لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب “معالم في الطريق”؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذا من تفسيره “في ظلال القرآن” في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى.

كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها “مكتبة وهبة”، ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف. وصدق ما قاله عليه رحمة الله: “ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!”.

فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!

الحكم بالإعدام

حوكم سيد قطب أمام “محكمة عسكرية” تتكون من ضباط كبار، والأصل في المحاكم العسكرية أن تحاكم العسكريين من الضباط والجنود فيما خالفوا فيه النظام والقوانين العسكرية، وهذا طبيعي ومنطقي أن يحاكم العسكريون عسكريين مثلهم، وهم أولى بهم.

ولكن المشكلة تكمن حين يحاكم العسكريون المدنيين في تهم لا تتعلق بالجانب العسكري؛ فهذا ما تلجأ إليه الأنظمة الديكتاتورية تحت شعار الأحكام العرفية أو أحكام الطوارئ؛ ليحكموا على خصومهم السياسيين أو العقائديين بما لا ترضاه المحاكم المدنية.

وأكثر من ذلك أن يحاكم العسكريون كبار رجال العلم والفكر والقانون، كما رأينا قائد الجناح جمال سالم يحاكم أمثال: حسن الهضيبي، وعبد القادر عودة، ومحمد فرغلي.

ورأينا اللواء فؤاد الدجوي يحاكم سيد قطب؛ فإن من العجب حقا أن يحاكم رجل عسكري -مهما تكن خبرته ومعرفته- رجلا في حجم سيد قطب الأديب الناقد العالم المفكر!!

وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام، وعلى آخرين بأحكام متفاوتة.

وقد قوبل الحكم بالإعدام على سيد قطب وصاحبيه بالدهشة والاستغراب والإنكار، بل الرفض والاحتجاج من أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقامت مظاهرات، وأرسلت برقيات، وحدثت وساطات لدى عبد الناصر، وكان الكثيرون يتوقعون أن يستجيب لها؛ فلم يفعل، وسد أذنا من طين، وأذنا من عجين، كما يقول المثل.

لقد شنق ستة من قادة الإخوان سنة 1954م من أجل تهمة شروع في قتل عبد الناصر في ميدان المنشية، وإن كنا أثبتنا بالأدلة القاطعة براءة جماعة الإخوان من هذه التهمة، وقول الكثيرين: إن هذه “تمثيلية” وليست حقيقة، إلى آخر ما ذكرناه في الجزء الماضي. ولكن هناك في الظاهر تهمة شروع في قتل رأس النظام.

أما هنا فلم يحدث قتل، ولا شروع في قتل، فعلام يُعدَم هؤلاء؟ وبأي جريمة تُقطَع رقابهم؟!

وقد ذكروا هنا أمرا عجيبا ينبغي أن نسجله؛ ذلك أن شمس بدران وحسين خليل مدير المباحث الجنائية عرضا على عبد الناصر خلال محاكمة الشهيد سيد قطب الأحكام التي سيصدرها الدجوي، ومن بينها حكم الإعدام على سيد قطب، واتفقوا مع عبد الناصر على تخفيف حكم الإعدام عليه إلى السجن، أو العفو مع تحديد إقامته أو نحو ذلك؛ لينال عبد الناصر كسبا شعبيا يغطي كل ما قيل عن التعذيب، وما سيُقال عن العقوبات التي ستفرض على الآخرين. ولكنهم فوجئوا بعبد الناصر يصدق على حكم الإعدام وينفذه![1].

إن دم سيد قطب ورفيقيه سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم، حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين، ويستجيب لدعاء المظلومين الذي يرفعه الله فوق الغمام، ويفتح له أبوب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.

سهام الليل لا تخطي ولكن   لها أمد وللأمد انقضاء

فيمسكها إذا مـا شاء ربي    ويرسلها إذا نفذ القضاء

من المسئول عن هذه الدماء؟

كان المسئول الأول عن دماء الإخوان في المرات السابقة، وعن محنتهم بصفة عامة وزارة الداخلية المصرية، وأجهزة الأمن فيها، وبخاصة “المباحث العامة” التي سُميت فيما بعد “مباحث أمن الدولة”. كانت هي التي تعتقل، وهي التي تتهم، وهي التي تحقق، وإن شاركتها وزارة الحربية ببعض الأشياء، مثل السجن الحربي بزنازينه وزبانيته وقائده المتجبر حمزة البسيوني.

أما المسئول الأول عن دماء الإخوان ومحنتهم في هذه المرة؛ فهو “وزارة الحربية” ووزيرها: شمس بدران، وإن شاركتها الداخلية بالمساعدة في القبض والاعتقال وغيرها.

ولكن ما مدى مسئولية جمال عبد الناصر في هذه المحنة وتبعاتها؟

لقد حاول بعض الناصريين أن يقلل من مسئوليته ويخفف منها؛ لأنه في هذه الفترة من الزمن لم يكن هو الذي يحكم مصر في الحقيقة والواقع، إنما كان الحاكم الحقيقي لمصر هو المشير عبد الحكيم عامر الذي جمع السلطات كلها في يديه: العسكرية والمدنية، وأصبح لا يُبرَم أمر من الأمور إلا بعد أن يمر على عامر، وبات عبد الناصر بمثابة الملك الذي يملك ولا يحكم، وكان عامر يفعل ذلك بحكم نفوذه في القوات المسلحة، حتى قالوا: إن عبد الناصر عرض عليه مرة أن يعينه نائبا لرئيس الجمهورية، ويدع الجيش والقوات المسلحة، ولكنه رفض؛ ليقينه أن من يملك القوات المسلحة يملك البلد كله.

وهذا الذي قاله الكثيرون؛ أكده السيد حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة في أحاديثه مع أحمد منصور في برنامج “شاهد على العصر” الذي تقدمه قناة الجزيرة.

ومع تصديقي بهذه المقولة لا أعفي عبد الناصر من مسئوليته التاريخية عن هذه المأساة؛ فهو الذي أعلن عنها من “موسكو”، وذكر في خطابه الشهير هناك قائلا: إننا سنضرب بيد من حديد، وإننا لن نرحم هذه المرة. كأنه قد رحم في المرة السابقة!

وقد أكد الكثيرون من المعتقلين -الذين كانت السياط تشوي جلودهم في زنازين التعذيب- أنهم رأوا بأعينهم عبد الناصر يحضر مشاهد التعذيب مع رجاله. ومن ذلك ما ذكرته الأخت المؤمنة الصابرة المحتسبة الحاجة زينب الغزالي التي ذكرت في كتابها “أيام من حياتي” ما لاقت من الأهوال، التي لا تكاد تُصدق من بشاعتها، وقالت: إنها رأت جمال عبد الناصر في إحدى مرات التعذيب.

وهو -على كل حال- الرئيس المسئول دستوريا وقانونيا عما تفعله حكومته، وهو الذي صدق على حكم إعدام سيد قطب، وهو الذي رفض أية شفاعة فيه، وأصم أذنيه عن استغاثات العرب والمسلمين أن لا ينفذ حكم الإعدام، وأصر على أن ينفذ في الرجل الأديب العالم المفكر الداعية الكبير حكم الإعدام.

فمهما يحاول محامو الناصرية أن يبرئوا الرجل عن التبعة؛ فإن الثابت بيقين أنه مسئول عنها أمام الله سبحانه، وأمام الشعب، وأمام التاريخ.

على أنا سنثبت عند حديثنا عن “النكسة” أن المسئول عن كل تجاوزات عامر وانحرافاته هو عبد الناصر!

وقفة مع الشهيد سيد قطب

لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له. ولا شك في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجلها.

ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.

وهذه الفكرة هي التي انتهى إليها تطوره الفكري والعلمي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، في مجال الأدب والنقد، وفي مجال الدعوة والفكر.

ولا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهى إليه.

مرحلة الأدب والنقد

أول ما ظهر سيد قطب ظهر أديبا شاعرا، ثم ناقدا أدبيا.

كان شاعرا رقيقا مرهف الحس، دافق العاطفة، يحسبه الناقدون على “الاتجاه الرومانسي” في الشعر، وعده د. محمد مندور في جماعة “أبولو” ذات الاتجاهات الرومانسية المعروفة.

ومن المعروف أنه كان في أدبه النثري محسوبا على “مدرسة العقاد” وكان العقاد يمثل “المدرسة الليبرالية” والفكر الحر، ولم يكن قد ظهر توجهه الإسلامي الذي اتضح في كتاباته الأخيرة.

وكان الذي يمثل “المدرسة الإسلامية” في الأدب هو مصطفى صادق الرافعي. وكان بين الاتجاهين أو المدرستين صراع دامٍ؛ سلاحه القلم، وميدانه المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة وغيرهما، والكتب الأدبية، وقد هاجم الرافعي العقاد في مقالات نشرت بعد ذلك في كتاب سماه “على السفود”.

لم يكن سيد قطب في هذه المرحلة قد عرف بتوجه إسلامي واضح، رغم أنه خريج “دار العلوم” وقد عاصر حسن البنا، وإن لم يتعرف عليه وعلى دعوته إلا بعد استشهاده.

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه “الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ”[2] واقعة عن سيد قطب في هذه المرحلة، ما زلت في شك من أمرها، وهي: أنه كتب مقالة في الأهرام تدافع عن “العرْي” وأنه من الحرية الشخصية للإنسان، على غرار ما يكتبه دعاة الإباحية، وهذا نفس غريب على مسيرة سيد قطب، فلم يكن الرجل -على ما أعلم- في أي فترة من حياته من دعاة التحلل. وأرجو من إخواننا من شباب الباحثين أن يحققوا ويبحثوا في مدى صدق هذه الواقعة.

وقد توج هذه المرحلة من مراحل مسيرته عملان كبيران من الأعمال الأدبية الأصيلة التي لم يقلد سيد قطب فيها أحدا، بل كان فيها نسيج وحده.

أولهما: كتابه عن “أصول النقد الأدبي” وهو -باعتراف مؤرخي الأدب العربي- عمل متميز، وإن لم يأخذ حقه من الظهور، ربما كان سبب ذلك هو تحول صاحبه إلى الدعوة الإسلامية، وأمسى محسوبا على عالم الدعاة، لا على عالم الأدباء والنقاد.

وثانيهما: عمله الأصيل المتميز في خدمة القرآن، وإعجازه البياني، بمنهج لم يسبق له نظير، وهذا العمل يتمثل في كتابيه الرائعين:

أ- التصوير الفني في القرآن.

ب- مشاهد القيامة في القرآن.

والكتاب الأول يجسد النظرية، والثاني بمثابة التطبيق لها.

وهذان الكتابان يمثلان تمهيدا أو همزة وصل للمرحلة القادمة؛ مرحلة الدعوة إلى الإسلام.

مرحلة الدعوة الإسلامية

والمرحلة الثانية في حياة سيد قطب هي مرحلة الدعوة إلى الإسلام؛ بوصفه عقيدة ونظاما للحياة يقيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.

وكان هذا التطور له مقدمات وعلامات، منها: اهتمامه بقضية المظالم الاجتماعية في مصر، وسيطرة الإقطاع المتجبر في الأرياف، والرأسمالية الاحتكارية المستغلة في المدن على الاقتصاد المصري، وضياع الفلاحين والعمال -وهم جل المصريين- بين تجبر أولئك وتسلط هؤلاء.

وقد بدا هذا التوجه واضحا في مشاركته في مجلة “الفكر الجديد” التي كانت تعنى بهذا الجانب الاجتماعي، والتي لم تدم طويلا، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني من هذه المسيرة.

ولعل كتابيه السالفين في خدمة البيان القرآني قد مهدا له الطريق؛ ليطل على “المضامين” الإصلاحية العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، وإن كانت دراسته أساسا تهتم بالشكل والأسلوب.

ظهر أول كتاب له في هذه المرحلة، وهو: كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بين فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وإن كان الشيخ الغزالي رحمه الله له فضل السبق بتناول هذه الموضوعات في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة “الإخوان المسلمون”، ثم جمعها في كتبه: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، ولكن هذه الكتب لم تكتب بالطريقة المنهجية التي كتب بها سيد قطب؛ لأنها في الأصل مقالات، تجلي جوانب مهمة في هذا الجانب الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام.

ولا شك أن الشهيد سيد قطب قد استفاد من كتب الغزالي، وإن لم ينقل منها بالحرف، وإنما اقتبس كثيرا من الأفكار. ولهذا جعل من مصادره في الطبعة الأولى للكتاب: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” و”الإسلام والمناهج الاشتراكية”. ثم حُذفا بعد ذلك مع قائمة المصادر كلها.

استقبلت الأوساط الإسلامية كتاب “العدالة” بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أول مولود لسيد قطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتبا له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار، تعوض الخسارة التي لحقت به بانضمام الشيخ خالد محمد خالد إلى التيار العلماني؛ فكأن عدالة الأقدار عوضت عن خالد بسيد، وعن كتاب “من هنا نبدأ” بكتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام”.

وغمرت الإخوان خاصة فرحة بهذا القلم الجديد الذي انضم إلى القافلة الإسلامية، وكأنه كان مكافأة لهم بعد خروجهم من معتقلات الطور و”هايكستب” وسقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي قاتلة حسن البنا، وصاحب التاريخ الأسود، والعسكري الأسود!

ولم يكتفِ سيد قطب بهذا الكتاب بل أتبعه بكتب أخرى: “معركة الإسلام والرأسمالية” و”السلام العالمي والإسلام”، ومقالات عدة كتبها في مجلة “الدعوة” التي يصدرها الإخوان، ومجلة “الاشتراكية” التي يصدرها حزب العمل، ومجلة “اللواء” التي يصدرها الحزب الوطني، ولكن هذه المقالات كانت كلها “تحت راية الإسلام”. وهي التي جمعت بعد ذلك تحت عنوان “دراسات إسلامية”.

ومنها مقال عن “حسن البنا وعبقرية البناء”، نقلت خلاصته في كتابي “الإخوان المسلمون: سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد”.

وفي هذه الفترة بدأ يكتب تفسيره الشهير الذي لم يسمه تفسيرا، ولكنه رضي أن يسميه “في ظلال القرآن” وصدق في تسميته، فلم يكن في طبعته الأولى يحمل الطابع الرسمي للتفسير، ولكنها وقفات عقل متدبر، وقلب حي، ووجدان مرهف أمام القرآن، يلتمس عظاته، ويجلي إعجازه، ويبين حقائقه، وينبه على مقاصده، وإن تغير ذلك في الأجزاء الأخيرة، وفي الطبعة الثانية للأجزاء الأولى، فقد بدأ يهتم بالجانب التفسيري، حتى أحسب أنه أفرغ خلاصة تفسير ابن كثير في “ظلاله”.

وفي هذه الفترة بدأ سيد قطب يقترب من الإخوان، ويرى بعينيه نشاطهم والتزامهم، وما بينهم من رباط وثيق، وإخاء عميق، وما يتميز به كثير منهم من وعي دقيق، وشعور رقيق، وكان المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي يصطحبه معه في رحلاته، ليرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويحكم بعد ذلك بعقله، ويختار لنفسه.

وقد اختار بملء إرادته الانضمام إلى دعوة الإخوان، ولا سيما بعد أن خاب ظنه في رجال الثورة، الذين علق عليهم في أول الأمر آمالا وأحلاما، فتبخرت وضاعت، كما تبخرت أحلام الشاعر العاشق الذي قال:

كأني من ليلى الغداة كقابض    على الماء خانته فروج الأصابع

وأحيل القارئ إلى ما ذكرته في الجزء السابق عن سيد قطب وانضمامه إلى الإخوان، وتسلمه رئاسة قسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئاسة تحرير مجلتهم، إلى أن دخل معهم في محاكمات محكمة الشعب وحكم عليه بعشر سنوات.

مرحلة الثورة الإسلامية

وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها “مرحلة الثورة الإسلامية”، الثورة على كل “الحكومات الإسلامية”، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل “المجتمعات الإسلامية” أو التي تدعي أنها إسلامية، فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية.

تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم “أسقطوا حاكمية الله تعالى” ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام.. فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟!

بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن “لا إله إلا الله” منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة.

أقول: تكون هذا الفكر الثوري الرافض، داخل السجن، وخصوصا بعد أن أعلنت مصر وزعيمها عبدا لناصر، عن ضرورة التحول الاشتراكي، وحتمية الحل الاشتراكي، وصدر “الميثاق” الذي سماه بعضهم “قرآن الثورة”! وبعد الاقتراب المصري السوفيتي، ومصالحة الشيوعيين، ووثوبهم على أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر، ومحاولتهم تغيير وجه مصر الإسلامي التاريخي.

هنالك رأى سيد قطب أن الكفر قد كشف اللثام عن نفسه، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يخفيه بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير، وتضليل العوام.

هنالك رأى أن يخوض المعركة وحده، راكبا أو راجلا، حاملا سيفه “ولا سيف له غير القلم” لقتال خصومه، وما أكثرهم. سيقاتل الملاحدة الجاحدين، ويقاتل المشركين الوثنيين، ويقاتل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويقاتل المسلمين أيضا، الذين اغتالتهم الجاهلية، فعاشوا مسلمين بلا إسلام!

وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه، وبرغم حبي وتقديري الكبيرين له، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر، نتيجة اجتهاد وإعمال فكر -أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب الجديد سيد قطب القديم.. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض سيد قطب الداعية المسالم، أو سيد قطب صاحب “العدالة” سيد قطب صاحب “المعالم”.

ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي في بعض أفكاره الأساسية، وإن لامني بعض الإخوة على ذلك، ولكني في الواقع، كتبت ما كتبت وناقشت ما ناقشت، من باب النصيحة في الدين، والإعذار إلى الله، وبيان ما أعتقد أنه الحق، وإلا كنت ممن كتم العلم، أو جامل في الحق، أو داهن في الدين، أو آثر رضا الأشخاص على رضا الله تبارك وتعالى.

ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توافرت النية الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأن المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرا واحدا، كما في الحديث الشريف، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية أو العملية، الأصولية أم الفروعية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما.

وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة “التكفير” والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من “الظلال” ومما أفرغه في كتابه “معالم في الطريق” أن المجتمعات كلها قد أصبحت “جاهلية”. وهو لا يقصد بـ “الجاهلية” جاهلية العمل والسلوك فقط، بل “جاهلية العقيدة” إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترضَ بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا، ليس الناس في حاجة إلى أن نعرض عليهم نظام الإسلام الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القانوني، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها، وبأنها من عند الله. أما من لا يؤمن بها، فيجب أن نعرض عليه “العقيدة أولا” حتى يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالشريعة حاكمة.

وهذا ما أشار إليه في كتابه “المعالم” وفصله في كتاب “الإسلام ومشكلات الحضارة”. وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد.

كما رأى عليه رحمة الله أن لا معنى لما يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه “تطوير” الفقه الإسلامي أو “تجديده” أو “إحياء الاجتهاد” فيه؛ إذ لا فائدة من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم غائبا، يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولا، ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء واقعنا الإسلامي.

وقد ناقشت أفكاره عن “الاجتهاد” وعدم حاجتنا إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي، في كتابي “الاجتهاد في الشريعة الإسلامية” وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه.

وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه حول قضية “الاجتهاد” ناقشته في رأيه في “الجهاد” وقد تبنى أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!

وحجته في ذلك آيات سورة التوبة، وما سماه بعضهم “آية السيف” ولم يبال بمخالفة آيات كثيرة تدعو إلى السلم، وقصر القتال على من يقاتلنا، وكف أيدينا عمن اعتزلنا ولم يقاتلنا، ومد يده لمسالمتنا، ودعوتنا إلى البر والقسط مع المخالفين لنا إذا سالمونا، فلم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا.

هذا ما تدل عليه الآيات الكثيرة من كتاب الله مثل قوله تعالى:  “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ” [البقرة: 191،190]. “فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً” [النساء: 90].

 ” فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا” [النساء: 91].  ” وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ” [الأنفال: 61].  ” لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [الممتحنة: 8].

والأستاذ سيد رحمه الله يتخلص من هذه الآيات وأمثالها بكلمة في غاية السهولة أن هذه كان معمولا بها في مرحلة، ثم توقف العمل بها، والعبرة بالموقف الأخير، وهو ما يعبر عنه الأقدمون بالنسخ، وقولهم في هذه الآيات: نسختها آية السيف.

ولا أدري كيف هان على سيد قطب -وهو رجل القرآن الذي عاش في ظلاله سنين عددا يتأمله ويتدبره ويفسره- أن يعطل هذه الآيات الكريمة كلها، وأكثر منها في القرآن، بآية زعموها آية السيف؟ وما معنى بقائها في القرآن إذا بقي لفظها وألغي معناها، وبطل مفعولها وحكمها؟!

ويقول الشهيد رحمه الله: إننا لا نفرض على الناس عقيدتنا، إذ لا إكراه في الدين، وإنما نفرض عليهم نظامنا وشريعتنا، ليعيشوا في ظله، وينعموا بعدله.

ولكن بماذا نجيب الناس إذا قالوا لنا: إننا أحرار في اختيار النظام الذي نرضاه لأنفسنا، فلماذا تفرضون علينا نظامكم بالقوة؟ إن كل شيء يجرعه الإنسان تجريعا رغم أنفه يكرهه وينفر منه، ولو كان هو السكر المذاب، أو العسل المصفى!.

وما الحكم إذا كنا نحن -اليهود أو النصارى أو الوثنيين- أصحاب القوة والمنعة، وأنتم الضعفاء في العدة أو الأقلون في العدد؟ هل تقبلون أن نفرض عليكم نظامنا ومنهج حياتنا؟ كما هو شأن أمريكا اليوم، وتطلعاتها للهيمنة على العالم؟.

ومما ننكره على الأستاذ سيد رحمه الله أنه يتهم معارضيه من علماء العصر بأمرين:

الأول: السذاجة والغفلة والبله، ونحو ذلك مما يتصل بالقصور في الجانب العقلي والمعرفي.

والثاني: الوهن والضعف النفسي، والهزيمة النفسية أمام ضغط الواقع الغربي المعاصر، وتأثير الاستشراق الماكر مما يتعلق بالجانب النفسي والخلقي.

والذين يتهمهم بذلك هم أعلام الأمة في العلم والفقه والدعوة والفكر، ابتداء من الشيخ محمد عبده، مرورا بالشيخ رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والمشايخ: محمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المدني، ومحمد مصطفى شلبي، ومحمد البهي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، وعلي الطنطاوي، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعلال الفاسي، وعبد الله بن زيد المحمود، ومحمد فتحي عثمان، وغيرهم من شيوخ العلم الديني.

هذا فضلا عن الكتاب والمفكرين “المدنيين” الذين لا يحسبون على العلوم الشرعية، من أمثال: د. محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ومحمود شيت خطاب، وعبد الرحمن عزام، وجمال الدين محفوظ، ومحمد فرج، وغيرهم وغيرهم في بلاد العرب والمسلمين.

على أية حال، كانت هذه هي الأفكار المحورية في هذه المرحلة من حياة سيد قطب، وفيها عدل من أفكاره واتجاهه تعديلا جذريا، وأصبح ما كتبه قديما في “العدالة الاجتماعية” وغيرها، يمثل مرحلة من حياته، ولا يمثل الخط الأخير الذي يتبناه ويدعو إليه، ويدافع عنه.

وقد حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الإخوة المقربين من سيد قطب -وكان معه معتقلا في محنة 1965م- أخبره أن الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله، قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولى، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، ونحوها مما صدر له وهو في السجن، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها، فهي تمثل تاريخا لا أكثر.

فقال له هذا الأخ من تلاميذه: إذن أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك.

قال سيد رحمه الله: نعم، غيرت كما غير الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي غير في الفروع، وأنا غيرت في الأصول!.

فالرجل يعرف مدى التغيير الذي حدث في فكره. فهو تغيير أصولي أو “إستراتيجي” كما يقولون اليوم.

وهو على كل حال مخلص في توجهه، مأجور في اجتهاده، أصاب أم أخطأ، ما دام الإسلام مرجعه، والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه. وأشهد أن الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته، كان كله للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام! فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه، وغفر له ما نحسب أنه أخطأ فيه، وأجره عليه أجر المجتهدين الصادقين. وغفر لنا معه أجمعين ” رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” [الحشر: 10].

تحامل على سيد قطب في فكرة الحاكمية

ولقد اتهم بعض الكاتبين سيد قطب بأنه تبنى فكرة “الحاكمية” التي أخذها عن المودودي، وجعلها من صلب عقيدة التوحيد، ورتب عليها أحكاما خطيرة، منها أن الدولة التي تقوم على أساسها أشبه ما تكون بالدولة الدينية، التي تقوم على الحكم بالحق الإلهي. وهذا تحامل ظالم على الرجل.

والحق أن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها. وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية:

1- الملاحظة الأولى: أن الحاكمية التي ركز عليها سيد قطب والمودودي، هي الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها أن الله سبحانه هو المشرع لخلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، وهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرر عند المسلمين جميعا؛ ولهذا حين قال الخوارج لعلي: لا حكم إلا لله لم يعترض علي رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة، فقال ردا عليهم: “كلمة حق يراد بها باطل”.

وقد بحث في هذه القضية علماء “أصول الفقه” في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.

فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير “المستصفى من علم الأصول” عن “الحكم” الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلق بالحاكم، وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف…

ثم يقول: “وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حُكم إلا لله وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره”[3].

ثم يعود إلى الحديث عن “الحاكم” وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين، فيقول: “أما استحقاق نفوذ الحكم، فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته”[4].

وبهذا نعلم أن فكرة “الحاكمية” ليست من اختراع سيد قطب ولا المودودي، بل هي فكرة إسلامية أصيلة، قررها علماء الأصول، واتفق عليه أهل السنة والمعتزلة جميعا.

2- الملاحظة الثانية: أن “الحاكمية” التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم، بل تعتزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم، والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد، بحق.

فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.

وحسبي هنا أن أذكر قول سيد قطب في “معالمه”: “ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يُعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة”.

3- الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، وليست لأحد من خلقه، ونادى بها المودودي وقطب، هي الحاكمية “العليا” و”المطلقة” التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية، بل من مقومات التوحيد، كما بين القرآن في قوله تعالى: ” أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً” [الأنعام: 114].

وهذه الحاكمية -بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر قَدْر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الديني المحض، كالتشريع في أمر العبادات، والتشريع الذي يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويسقط ما فرض الله. أما التشريع فيما لا نص فيه، أو في المصالح المرسلة، وفيما للاجتهاد فيه نصيب، فهذا من حق المسلمين، ولهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كلية إجمالية لا تفصيلية، ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم، ويملئوا الفراغ التشريعي بما يناسبهم[5].

____________________

[1] “العشاء الأخير للمشير”، لعبد الصمد محمد عبد الصمد، ص150.
[2] – انظر: “الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ” لمحمود عبد الحليم “1/190-192”. طبعة دار الدعوة ـ الإسكندرية.
[3] المستصفى: “1/8” طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
[4]المستصفى: “1/83” طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبة بولاق. وفي فواتح الرحموت: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ، إن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا “يعني الماتريدية” “1/25” مع المستصفى.
[5] انظر: كتابنا “بينات الحل الإسلامي” ص163-167.




استراتيجيّات للتعامل مع المشكلات

تعرّف المشكلة بأنّها: كلّ موقف غير معهود، لا يكفي لحلّهِ الخبرات السابقة والسلوك المألوف، وهي عائق في سبيل هدف منشود.

ولأنّ الإنسان يتعرّض في حياته للعديد من الأحداث، والمواقف الجديدة، يعدّ تعرّضه للمشاكل أمراً بدهيّاً، وهذا ما ينبغي علينا أن نوطّن أنفسنا عليه، فلا أعلم أنّ إنساناً ما عاش حياته بدون التعرّض للمشاكل أو التحدّيات في حياته.
ومن ناحية أخرى فإنّ الحياة الدنيا في عقيدة المسلم، هي دار ابتلاء واختبار، وهذا يقتضي أنّ وجود المشكلات أمر بدهي، مادام أكبر خصائص الحياة الاختبار.

فإذا علمنا ذلك كان لابدّ لنا من الاستعداد لمواجهة المشاكل على اختلاف أنواعها.

فكيف نستعدّ؟ وماهي الاستراتيجيّات للتعامل مع المشاكل؟

لكلّ مشكلة استراتيجية معيّنة لحلّها، ويجب أن يتمّ اختيار الاستراتيجيّة التي تتناسب معها، حتّى تعتبر خطوة أولى في الوصول إلى الحّل، الذي يساهم في إنهاء وجود المشكلة.

ويمكن لنا تحقيق ذلك عبر الخطوات التالية:

1- الشعور بالمشكلة: والإحساس بها.

2- تحديد المشكلة: التي نريد حلّها.

3- جذور وأصول: معرفة جذور المشكلة وأصولها، وسبب نشأتها.

4- مظاهر وآثار: معرفة مظاهر المشكلة وأثارها.

5- مشاكل متراكمة: قف قليلاً وتأمّل، فقد يكون حلّ هذه المشكلة متوقّفاً على مشكلة أخرى!

6- جمع المعلومات: الكافية عن المشكلة، ثمّ تحديد أهمّ المعلومات وأكثرها صحّة.

7- صياغة المشكلة: عدّة صياغات، لأنّها تحدّد فهمنا لها، بشكل جيّد حتّى تتفّق رؤيتنا للمشكلة مع من يشاركنا في حلّها.

8- تقسيم المشكلة إلى أجزاء: رئيسة وأجزاء ثانوية، وهي خطوة هامّة جدّاً حتّى لا نتعامل مع المشكلة ككتلة واحدة معقّدة.

 9- الأولويّات: التأكد  بأنّ حلّ هذه المشكلة، مدْرجٌ في سُلّم الأولويّات لدينا.

10- الاطلاع على التجارب السابقة: الاطلاع على المشكلات المشابهة  التي مرّ بها السابقون من العظماء والعلماء، وعلى طرق حلّهم لها.

11- حلول خاطئة: قد يكون هناك آراء سابقة خاطئة حول المشكلة، ممّا يؤدّي إلى وجود عوائق في طريق الحلّ.

12- إيجاد الأفكار: إنتاج أفكار متنوّعة غير عاديّة ثمّ تحديد الأفكار الملهمة التي تساعد على الحلّ.

13- الحماسة والمرونة الذهنيّة: الاندفاع في مواصلة التفكير والعمل، مع التحلّي بالكثير من الصبر والمرونة الذهنيّة، فليس بالأمر اليسير أن نصل إلى حلّ مرضِ تماماً.

(علينا أن نعترف أنّ لكلّ جيل سقفاً معرفيّاً لا يستطيع تجاوزه).

14- النظر من عدّة زوايا: عليك ألّا تستنفد احتمالات الحلّ كلّها في اتجاه واحد، بل لا بدّ من الانتقال من بضعة احتمالات في اتجاه معيّن، إلى احتمالات أخرى في اتجاه آخر، إلى احتمالات جديدة باتجاه ثالث.

15- طبيعة المشكلة: عليك أن تفكّر بطبيعة المشكلة، فبعض المشاكل تتطلّب تفكيراً جماعيّاً، فلا يمكنك أن تصل إلى الحلّ إلّا عن طريق التفكير الجماعيّ، بين مجموعة متجانسة ثقافيّاً وفكرّياً، أو متقاربين ملمّين بالمشكلة أيضاً.

16- اختيار الحلّ الأنسب والأمثل: اختيار الحلّ الأكثر ملاءمة للمشكلة والظرف المكانيّ والزمانيّ.

17- تنفيذ الحلّ: تطبيق الحلّ وتنفيذه على أرض الواقع.

18- اختبار الحلّ: اختبار مدى ملاءمة الحلّ للواقع، ومدى الفائدة المتحقّقة من تطبيقه.

19- توثيق الحلّ: تدوين الحلّ وتوثيقه، حتّى يتمّ الرجوع إليه، وتحويل الحلّ إلى قواعد وقوانين.

وفي الختام لا بد من ملاحظات صغيرة:

لا يشترط أن يتوصّل إلى الحلّ الناجح من خلال الخطوات السابقة فقط، فكلّ ما سبق هو مقدّمات وخطوات  لتحقيق حلّ ناضج وجيّد.

فكّر في الحلّ، ثمّ أعد التفكير، فإنّ الأناة في إصدار الأحكام والصياغة الدقيقة، غاية في الأهمّيّة.

ينبغي ألّا تنسى أمراً هامّاً هو: أنّ كثيراً من المعطيات التي نمتلكها لحلّ ما، تكون غير يقينيّة، ممّا يجعل الحكم في النهاية ظنّيّاً، فلا بدّ لنا من بيان ذلك، فليس من العلم في شيء أن ( نولّد نتائج قطعيّة، من مقدّمات ظنّيّة) أو أن نسوق النتائج، مساق القطعيّات، وهي في الأصل ظنون وتخمينات.

أخيراً لا تخفْ!!
إنّ تصريحك بأنّ الحكم هو ظنّيّ، وغير يقينيّ، ليس ضعفاً في الحلّ، أو حطّاً من قدر النتائج، بل إنّ ذلك يمنح الحلّ إمكانات إضافيّة في صيغته وتطبيقاته والتوليد منه، وتلك من ميزات الحلّ الناجح.




لا حُكْمَ لتجفيف أعضاء الوضوء!

هذه المسألة مما أشكل عليّ في صغري، حيث كنتُ أشاهد حرصاً شديداً من بعض طلبة العلم الشرعيّ على عدم تجفيف أعضائهم بعد الوضوء (لأنّه مكروهٌ عند الشافعيّة)، وكنتُ أستغرب ذلك، وأحتار بحِكمتِه، فلماذا كلّ الناس يحرصون على تجفيف أعضائهم في حياتهم العادية، ثمّ نتركه نحن عند الوضوء أو الغُسل؟! وكان تعليلهم غريباً حيث قالوا: (فيه تبرأٌ من الوضوء والطاعة)!

وكنتُ أقول في نفسي: أين التبرّي عندما أغسل يديّ بالصابون ثمّ أجفّفهما بـ (البشكير)؟

هل أتبرّى بذلك من غسل يدَيَّ؟! 

ومرّت الأيام، وكنتُ أتابع الحنفيّة في قولهم: (بعدم الكراهة) وأجفّف، وزادت راحتي عندما قرأتُ أدلّتهم المجيزة للتجفيف.

ثمّ خطر ببالي أنّ هذا الأمر لا علاقة له بالمأمور والمنهيّ عنه أصلاً، فهو ليس من صلب الوضوء ولا من صلب الغُسل، فهو تابع لعاداتنا وبيئاتنا، يغلب على ظنّي أنّه لو كان النبيّ ☺ في بلد بارد لحرص على توصية أمّته بالتجفيف، حتّى لا يُصابوا بالبرد والمرض، لأنّه رؤوف رحيم بنا، وديننا جاء للناسِ كلّ الناس، في البلدان كلّها.

فكيف يعقلُ نقول للمسلمين في بلد بارد: يُكره تجفيفُ الجسم من الوضوء أو الغُسل؟!

ومع مرور الأيّام، تزداد قناعتي بأنّ الأحكام الشرعيّة الأصل، فيها التعليل، وأنّها لفائدة وحكمة، و بأنّ ديننا دين الفطرة السليمة، والعقل الراجح، ويستحيل تعارضهما، فبحثتُ في الموضوع، وهذه خلاصة الرأي فيه:

الذي أمرنا الله تعالى به هو الوضوء، وبيّنه لنا، مع الغُسل، مع بديلهما؛ وهو التيمّم، ذلك كلّه في آية واحدة في كتابه الكريم، وهي الآية السادسة من سورة المائدة، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ)) وختم الله ﷻ الآية ببيان أنّه أراد (التيسير) وبيّن الحكمة وهي (التطهير) فقال ﷻ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [المائدة: 6]

وطبّقها النبيّ ☺ وعلّمها لأصحابه عمليّاً وهكذا فعل أصحابه من بعده، روى البخاريّ في صحيحه عَنْ حُمْرَانَ رَأَيْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثمّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثمّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثمّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثمّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثمّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا، ثمّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ☺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وَضُوئِي هَذَا، ثمّ قَالَ ☺: ((مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا ثمّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

فلم يذكروا شروط وأركان وسنن ومستحبّات الوضوء لعامّة الناس حتّى لا يعقّدوهم، كما ذكر الدكتور القرضاوي وأطال في نهاية كتابه النفّاع: (العبادة في الإسلام) في فصل (المنهج الأمثل في تعليم العبادات)، في مبحث: (الرجوع لعهد البساطة): حيث ذكر أنّ كثيراً ممّن التقى بهم ودعاهم للصلاة كانوا يعتذرون بأنّهم لا يعرفون هذه الأحكام، والعتب ليس عليهم، بل على من علّمهم واستعرض (عضلاته العلميّة) عليهم!

أما بالنسبة إلى مسألتنا هذه، فقد ورد عنه ☺ أنّه كان أحياناً يجفّف جسدَه بعد الوضوء أو الغسل، وأحياناً لا يفعل، وهذا طبيعيٌ في بيئة مثل مكّة أو المدينة، حيث لَفْح الصيف يجفّف الجسد المبلل خلال دقائق قليلة! فالموضوع ليس له علاقة بالدِّين ولا بالعبادة، بل تروي السيّدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنّه كان لرسول الله ☺ خرقة ينشّف بها بعد الوضوء، وكان -كعادة العرب للآن- يمسح أحياناً وضوءه بطرف ثوبه، كما يُروى عن معاذ بن جبل ؓ قال: رأيت النبيّ ☺ إذا توضّأ مسح وجهه بطرف ثوبه، روى الترمذيُّ تلك الأحاديث وضعّفها، وأنا أميل لتصديقها.

وكما يُروى عن سلمان الفارسيّ، أن رسول الله ☺ توضّأ، فقلب جبّة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه (رواه ابن ماجه).

أمّا ما ورد عنه أنّه لم يجفّف، فله عدّة أسباب محتملة: فقد كان أحياناً مستعجلاً ☺ كما يظهر ممّا يرويه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ☺ فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثمّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ.

فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثمّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ.

بل أشهر ما استدلّ به من كرهوا تجفيف أعضاء الوضوء أو الغُسل هو حديث ميمونة عن ابن عباسؓ:

عن ميمونة قالت: وَضَعَ رسول الله  صلّى الله عليه وسلّم وضوءًا لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ غسل فرجه، ثمّ ضرب يده بالأرض أو الحائط مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ مضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثمّ أفاض على رأسه الماء، ثمّ غسل جسده، ثمّ تنحّى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردّها، فجعل ينفض بيده (رواه البخاري)، ولفظ مسلم: ((ثم أتيته بالمنديل فردّه)) وهذا الحديث لا يدلّ على الكراهة من عدّة أوجه:

قال ابن حجر ؒ: “استدلّ بعضهم بقولها: “فناولْتُهُ ثوبًا فلم يأخذه” على كراهة التنشيف بعد الغُسل، ولا حجّة فيه؛ لأنّها واقعةُ حالٍ يتطرّق إليها الاحتمال، فيجوزُ أن يكون عدم الأخذ لأمرٍ آخر لا يتعلّق بكراهة التنشيف؛ بل لأمر يتعلّق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلّب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال أيضًا عن ابن دقيق العيد بأن نفضَه الماءَ بيديه يدلّ على ألّا كراهة للتنشيف؛ لأنّ كلاًّ منهما إزالة الماء.

 وقال إبراهيم النخعي: إنّما ردّه لئلّا تصير عادة”

وقد أجاد الإمام النوويّ في شرحه على مسلم حينما رجّح إباحة ذلك بدليل قويّ جداً، وهو حاجة الاستحباب أو الكراهة لدليل واضح، بل إنّه نقل قولاً للشافعيّة باستحبابه لأنّه يجفّف الأعضاء ويحميها من الغبار والاتّساخ.

وهناك قول لاحظ موضوع المناخ، فميّز بين الصيف والشتاء، فقال:

“وقد اختلف علماء أصحابنا في تنشيف الأعضاء في الوضوء والغسل على خمسة أوجه: أشهرها: أنّ المستحبّ: تركه، ولا يقال: فعله مكروه.

والثاني: أنّه مكروه.

والثالث: أنّه مباح يستوي فعله وتركه، وهذا هو الذي نختاره، فإنّ المنع والاستحباب يحتاج إلى دليل ظاهر.

والرابع: أنّه مستحبّ، لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ.

والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء“.

هذا مذهب الشافعيّة، أمّا سواهم فقد أباحوا التجفيف: 

قال ابن قدامة ؒ : “ولا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغُسل، وهو المنقول عن أحمد.. وممّن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم، ونهى عنه جابر بن عبد الله وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعه من أهل العلم.. والأوّل أصحّ لأنّ الأصل الإباحة وتَرْكُ النبيّ ☺ لا يدلّ على الكراهة، فإنّ النبيّ ☺ قد يترك المباح” انتهى بتصرّف [المغني، 1/195]

وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين ؒ عن حكم تنشيف أعضاء الوضوء فأجاب:

 “تنشيف الأعضاء لا بأس به ؛ لأنّ الأصل عدم المنع، والأصل فيما عدا العبادات من العقود والأفعال والأعيان الحلّ والإباحة حتّى يقود دليل على المنع.

فإن قال قائل: كيف تجيب عن حديث ميمونة رضي الله عنها؟

فالجواب: إنّ هذا الفعل من النبيّ ☺ قضيّة عَيْن تحتمل عدّة أمور: إمّا لأنّه لسبب في المنديل، أو لعدم نظافته، أو يخشى أن يبلّله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، فهناك احتمالات ولكن إتيانها بالمنديل قد يكون دليلاً على أن من عادته أن ينشّف أعضاءه، وإلا لما أتت به” [مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/93)]

حتّى المالكية الذين يقولون بفرْضيّة (الموالاة في غسل أعضاء الوضوء) لا حرج عندهم من تجفيف بعض الأعضاء في أثناء الوضوء!

وكان الإمام مالك ؒ يجفّف أثناء الوضوء، وهو الحريص على السُّنَّة، وشهد سلوك الناسِ في مدينة رسول الله ☺.

قال الإمام القرافي: “وَإِذَا أُبِيحَ التَّنْشِيفُ، فَهَلْ يُبَاحُ قَبْلَ الْفَرَاغِ؟.. عَلَى الْمَشْهُورِ: يَجُوزُ؛ لِيَسَارَتِهِ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ: قيل لِمَالِكٍ: أَيَفْعَلُ ذَلِكَ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنِّي لأفعله” [الإمام القرافي، الذخيرة (1/289)]

أختم بملاحظتين طبيّتين:

الملاحظة الأُولى: قرأتُ لبعضهم أنّ ترك الماء يجفّ وحده له فوائد صحيّة للجِلد، وأقول: المرجع في ذلك إلى العلم التجريبيّ (إلى الأطبّاء) مع مراعاة اختلاف طبيعة الأشخاص والبيئات والمناخ والفصول الموسميّة برداً وحرّاً، وبعدها يمكن الاستدلال أو الاستئناس بالفائدة أو الضرر الصحيّ، أمّا إطلاق الكلام دون بيّنة فلا يجوز، لأنّ بعضهم تدفعهم العاطفة الدينيّة للإقناع بحكم شرعيّ إلى التساهل بنقل مثل هذه المعلومات؛ لأنّها تؤيّد (برأيهم)حكماً شرعيّاً.

الملاحظة الثانية: عدم تجفيف الأقدام بعد الوضوء ولبس الجوارب قبل جفاف الأقدام، مما يتسبّب بنمو الفطور بين الأصابع ممّا يشكّل مصدراً للروائح الكريهة، وهنا ننصح باستخدام سائل مضادٍ للفطور، يُباع في الصيدليّات يوضع بشكل قطرات بين الأصابع، تساعد على القضاء على الفطور بشكل علاجيّ، كما يستخدم وقائيّاً، بعد تجفيف الأقدام، وستكون النتائج ممتازة إن شاء الله.

 وخلاصة الأمر كما ظهر –والله أعلم- أنّ تجفيف الجسم من أثر الوضوء أو الغسل أمرٌ لا علاقة له بالعبادة (الوضوء أو الغُسل) بل يعود لرغبة المرء وفطرته، إن شاء جفّف وإن شاء تركه، فهو مباح، وقد عنونت مقالتي بقولي: (لا حُكْم) للفت النظر واتّباعاً للقول بأنّ الإباحة ليست (حكماً تشريعيّاً تكليفيّاً) رغم استقرار ذكرها بين الأحكام التكليفيّة الخمسة، وقد ناقش ذلك الأصوليّون طويلاً فمنهم من لم يعدّها حكماً تكليفيّاً لعدم الكُلفة في تطبيقها، ولكنّهم في النهاية اتّفقوا على ذكرها بين الأحكام التكليفيّة للتغليب، أي أنّ الأحكام الأربعة المتبقيّة فيها تكليف بالترك أو بالفعل، وألحقوا بها الإباحة إلحاقاً.

والله أعلم بالصواب.




بين النقد والهدم!

في ثقافتنا عادةً ما نردّد عبارة: (النقد البنّاء)، ولكنّنا عمليّاً نخشى النقد، ونتوجّس منه، بل نكرهه، فهو كالدواء مرٌ، لكنّه مهمّ في التقويم والتصويب.

والناجحون دائماً يطلبون من يرشدهم للخلل، وكذا الأمم المتطوّرة تفرح بالكتابات الناقدة النوعية، حتّى إنّ الشركات الكبرى تموّل أبحاثاً لنقدها وذلك لتطوّر منتجاتها وخدماتها وأدائها.

بل أضحى للتفكير الناقد كتبٌ ودورات تقوم بها المؤسّسات والمنظّمات، وتحرص في اجتماعاتها على تمثيل الفكر الناقد، وذلك لأجل الانتباه للأخطاء والمخاطر والعيوب ونقاط الضعف في القرارات، وحرصاً على التطوير والإبداع، فلا يمكن إبداع جديد ما لم نشعر بقصور القديم، وبالتالي نقوم بالبحث والتنقيب والتفكير بحلول جديدة. 

فالتطوير والتقدّم مدينٌ للنقد، فلولاه لما عرفنا خطأ السابق أو قصوره على الأقلّ، والحاجة لشيء أكثر صلاحيّة وتطوّراً، فالنقد بداية الإبداع، فلا بدّ من نقد السابق لنفكّر بإبداع الجديد.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي».

فالمطلوب مرآة صقيلة ترينا صورتنا على حقيقتها، لا المقعّرة التي تضخّمنا، ولا المحدّبة التي تصغّرنا. 

قد يضيق بعض الفضلاء بالنقد ويعتبرونه نشراً للغسيل الوسخ، أو جلداً للذات أو هدماً للرموز، أو تشويهاً للتاريخ.

هنا يجب أن نميّز بين المندّسين المغرضين الهدّامين المعادين للمشروع الإسلاميّ، وبين الناقدين الناصحين الصادقين المنتمين للتيار الإسلاميّ، الذين همّهم النصح والإصلاح والتطوير والتصحيح، فلا يدفعنا حبّنا وانتماؤنا وولاؤنا للتنظيمات والجماعات، وحماسنا لأفكارنا أن نضع الجميع في سلّةٍ واحدة.

فهل كلّ ناقد كاره لمن ينقدهم؟ أو ضالّ أو مخطئ؟ أو يريد الشهرة والصعود على أكتاف المنقود، أو صاحب مصلحة أو مدفوعٌ له؟!

كلّ حركة وتيّار إسلاميّ لها نقد لبقيّة التيّارات والاتجاهات الإسلاميّة الأخرى، وهذا طبيعيّ لأنّه المسوّغ المنطقيّ لعدم تبعيّتهم لغيرهم، ودليل استقلالهم بمنهج خاصّ.

قد يكون عندنا -مثل ما عند غيرنا- نقدٌ لكثير من أفكار التيّارات الإسلامية في الساحة، ونرى أنّهم لو طبّقوا نقدنا لكانوا أقرب إلى الصواب، وأكثر نفعاً للمسلمين، وأقرب منهجاً للإسلام، والبقاء بالنهاية للأصلح، فعند تصادم الأفكار تبرق بارقة الحقيقة.

علينا سماع المخالفين والنقّاد، بل البحث عنهم وعن أطروحاتهم، حتّى نطّلع عليها، ونقارن بينها وبين أفكارنا وسلوكنا، فنأخذ ما نراه صواباً، ونترك مالا نراه مناسباً.

 على منهج الصحابيّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي قال كما في صحيح مسلم: (كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) وغالباً ما يكون ذلك عند المختلف معنا، لأنّ المحبّ والمنتمي عادة لا ينتبه للأخطاء، لانغماسه بالعمل والتنفيذ أو لشدّة حبّه وولائه، بينما من نصنّفهم (ناقدون متحاملون) فإنّهم كثيراً ما ينقدون أشياء تستحقّ النقد.

ينبغي ألا نتعامل مع كلّ فكرة مخالفة، أو نقد على أنّه طعن وشبهات ينبغي الردّ عليها، فنكون نتلقى الكلام دون استماع ولا فهم ولا تعقّل، بل نتلقّاه بألسنتنا بدل آذاننا لنردّ عليه، ولا نتركه يمرّ على عقولنا، فلعلّ النقد صواب! ولعلّ الحقّ معه، كما قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور:15]، وقد امتدح الله سبحانه: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) [الزمر:18]

الكلام والنقد والحوار ينفع من كان ولاؤه للإسلام أكبر من ولائه للفكرة أو الحركة أو التنظيم، ينفع من يرى حزبه وجماعته ومذهبه الفكريّ أو الفقهيّ أو العقديّ أو السلوكيّ يراهم جزءاً من المسلمين، وليس الممثل الحصريّ للإسلام.

أمّا من يرى تطابقاً بين فكره والإسلام، فلا ينفع معه النقاش، فهو ينطلق في نقاشه من كونه الممثّل للإسلام، فأيّ نقد لفكره يعني نقداً للإسلام!!

وعلى كلّ حال.. فليس الحلّ مع الناقدين بنصب محاكم التفتيش والإقصاء وتراشق التهم والألقاب والدخول بالنّيّات.

كما أنّ السخرية والاستهزاء والتسخيف والاستخفاف بالناقدين ليس حلّاً، لأنّه يوغر الصدور، ويجافي بين القلوب، ويفرّق الصفّ، وقد يحوّل المنتقِد من مجرّد منتقد إلى عدوٍّ حقيقي.

من موانع قبول النقد:

1- عدم تقديم البديل أو الحلّ: 

طبعاً من الأفضل أن يأتي الناقد بالنقد والحلّ معاً، أو البديل، لكن ذلك ليس شرطاً، فمن رأى بناء خطراً آيلاً للسقوط وإيذاء سكّانه، لا يشترط أن يسكت حتّى يحضر البديل، بل يجب عليه أنْ ينبّه أهله ويدعوهم للإصلاح أو الاستبدال وهم بعدها أحرار، إن شاؤوا استمعوا للنصح وفكّروا بالبدائل وأصلحوا، وإن شاؤوا ألقوا التحذير وراء ظهورهم (لأنّه لا يقدّم بديلاً)، ولا أعتقد أنّ عاقلاً يفعل ذلك! لكنّه مع الأسف في واقعنا كثيراً ما نكابر ونفعل ذلك.

2- صغر سنّ الناقد، أو ضعف خبرته، أو عدم شهرته:

قد يكون الناقد صغيراً سنّاً وقدراً من بعض القيادات (فهو في سنّ أولادهم) لكن هذا لا يسوّغ لهم الأسلوب الوصائيّ والاستعلائيّ وسياسة (تكسير المجاديف) فهذا الأسلوب لم يعد ناجعاً في أيّامنا، حتّى مع أولادنا الصغار، ولا بدّ للقيادات أصحاب الخبرات، الذين تعرّضوا للمحن والابتلاء في سبيل الدعوة من الإصغاء للجيل الجديد، إن أرادوا أن يستوعبوهم ويستفيدوا من حِدّة عقولهم، وفهمهم للمستجدّات (كما كان يفعل الفاروق عمر رضي الله عنه) حيث كان يحرص على وجود حدثاء السنّ في مجلس شوراه.

ثمّ إنّ من أسوأ آفات الكبر: (بَطَرَ الحقّ وغَمْطَ الناس) كما ورد في الحديث الصحيح في تعريف الكبر، وبَطَرُ الحقّ: هو عدم الانصياع للحقّ عندما يظهر على لسان الآخرين، وغمط الناس: احتقارهم واستصغارهم!

3- عدم تخصّص الناقد:

 صحيح أنّ الأَوْلى بالنقد والاجتهاد المتخصّصون، لكن بالمقابل ينبغي أن ننزل آراء غير المتخصّصين منزلةَ فكرةٍ تحتاج عرضاً على المتخصصين، وتأكّداً من صوابها، فلا نردُّها مباشرة؛ لأنّها فقط صدرت عن غير متخصّص، فغير المتخصّصين -عادة- يفكّرون (خارج الصندوق) كما يقال، فكم يقيّد التخصّص صاحبه بالقواعد والشروط  والتفصيلات، فيأتي غير المتخصّص بأفكار جديدة تظهر أوّل وهلة كأفكار مجنونة، لكنّ الحلّ يكمن فيها، وهذا شأن الأفكار الإبداعية تظهر كجنون، لكنّنا نكتشف لاحقاً أنّ العقل كلّه فيها!

4- فقْدُ الثقة بالناقد، لكونه ليس مخلصاً، أو ربّما يكون عميلاً أو عدوّاً:

هذه القضيّة أقصد (التخوين) قضيّة منتشرة -مع الأسف- في مجتمعاتنا، وليست كلّها اتهامات باطلة، فبيننا عملاء ومحبّو شهرة، يريدون التسلّق على أكتاف المنقودين، وهناك التحاسد بين الأقران، هذا كلّه صحيح وواقعيّ، لكن بالمقابل كثير من هذا النقد صحيح، وفي مكانه، كما قال الشاعر:

عداتي لهم فضلٌ عليّ ومِنّة ٌ ** فلا صَرَفَ الرحمنُ عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ثم إنّ كثيراً من التّهم السابقة تنطلق من تخمين وظنّ، بل كثير منها عارٍ عن الصحّة، فالقاعدة المريحة للجميع، التي تقينا الدخول بالظنون والتخرّصات والخوض بالنيّات، هي: (علينا بالظاهر، والله يتولّى السرائر)، فننظر في النقد بغضّ النظر عن قائله، فما كان من النقد منصفاً وصواباً أخذنا به، وما كان بعيداً عن الصواب، أو مجانباً إيّاه، تركناه، وبذلك لا نُحْرَمُ النقدّ البنّاء.

5- الاعتداد بالتاريخ والخبرة والانتشار:

لا شكّ أنّ القدم والانتشار يعطي الجماعات والأفراد والمؤسّسات خبرة لا يستهان بها، لكنّ ذلك يجعلهم أيضاً معتدّين بأنفسهم، ممّا يمنعهم من التعامل مع النقد بجدّيّة، وبخاصّة في حالات الإيمان بآيديولوجية معيّنة (أقصد بها نظريّة في التغيير) لأنّ الآيديولوجيّة عادة تكون صمّاء لا تذعن  للواقع، بل تحاول تغيير الواقع وفق خطواتها التي تتبنّاها، لذلك تكون عادة عصيّة على النقد، ولهذا فإنّ الكيانات العريقة عادة تتكلّس أفكارها وتتصلّب ولا تلتفت للناقدين، رغم تطوّر الحياة وتغيّر الواقع الذي نشأت وفق معطياته وحاجاته وإمكانيّاته، فهي بحاجة للإصغاء جيّداً للأصوات الناقدة، لكنّ ذلك يحتاج قيادات استثنائيّة، ذوي عقول منفتحة، ونفوس متواضعة.

ونحن إذ ننادي بالنقد ونشجّع عليه، وتقديم البدائل، إنّما نطمح من ورائه إلى النهوض بالنخبة الفاعلة في مجتمعاتنا، وكسر حال الجمود التي صرنا إليها نتيجة ركام عقود خلت، وقد سبق إلى مثل هذا العمل أئمّة ومفكّرون ومصلحون كبار.

الحلّ مع المخالفين من إخواننا يكمن بالحوار البنّاء معهم، والتواصل الحميد، وإن كان لا بدّ فبمدافعة الفكرة بالفكرة، والحجّة بالحجّة، والدليل بالدليل، فليس الحلّ ببناء قلاع القطيعة، بل ببناء جسور التواصل.




المنقِذ من الجمود الديني

الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمود.

ولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب علينا أن نقوم بالخطوات الأربعة الآتيّة:

الخطوة الأولى: ترك مهاجمة من يترك التقليد:

ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام.

لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً.

صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار.

أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت.

يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟

 بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.

الخطوة الثانية: نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد:

لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار.

فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:١١١]  أوّلاً، ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟!! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع.

وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟ 

فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟!!

بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة!

ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر.

أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر.

وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل.

ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم.

كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها.

الخطوة الثالثة: الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين:

من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟!

 ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال.

لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة.

الخطوة الرابعة: نشر الاجتهاد المقاصدي:

هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).

نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان.

 فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان.

أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة.

هذه خطوات أربعة لعلها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج.

والله من وراء القصد.




العلوم الشرعيّة بين الحفظ وتكوين الملكة

أسمى ما يطمح إليه طالب العلم هو تحصيل المَلَكة في التخصّص العلميّ الذي يدرسه، والمقصود بـ(المَلَكَةِ) عقليّة ذلك العلم وصَنعته وحِرفته وإتقانه حفظاً وفهماً وتطبيقاً وتقويماً ونقداً وتأييداً وإبداعاً جديداً، فالملكة تحصيل المهارة والتذوّق، وامتلاك عقليّة ناقدة مبدِعة في ذلك العلم، بحيث يستطيع العالم من خلال تلك الملكة حفظ المسائل بسرعة وفهمها وتقويمها وإلحاقها بنظائرها، وإدراجها تحت قواعدها، وتقويم الأقوال في المسألة أو القضيّة التي يدرسها والترجيح بين وجهات النظر، بل اشتقاق واجتراح وإبداع أقوالٍ جديدة (إن أمكن).

 لكنّ واقع تعليم العلوم في المجتمعات الراكدة هو تحفيظ مسائل تلك العلوم، والمحفوظات -بطبيعة الحال- لا آخر لها لكثرة المصنّفات! ورحم الله العبقريّ ابن خلدون حينما وضع قاعدة في التعليم: وهي:

– إنّ (كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل).

فالحاصل فعليّاً في بيئاتنا أنّ المعلّم هو أصلاً غافل عن هدف العلم الذي تخصّص فيه، ويشتغل بجمع المعلومات وحفظها، حتّى أصبح ينطبق عليه قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر)، ويشغل غيرَه من الطلبة بذلك! طبعاً هو لا يفعل ذلك بسوء نيّة، ولا يقصد إشغال المتعلّمين بدوّامة المعلومات التي لا تنتهي! 

لكنّه هو نفسُه غافلٌ عن هدف تلك العلوم وهو (تكوين الملكة)، فكيف سيهدي غيرَه، (ففاقد الشيء لا يعطيه)! لذلك واقع تعليمنا أنّ الطالبَ مثاله كالعدّاء الذي يدخل في مضمار سباق دائريّ الشكل يبقى يدور ويدور وهو في مكان واحد لا يبرحه، مهما أسرع وجدّ وبذل قصارى الوُسْع والجهد، لأنّ الهدف غير صحيح.

 فليس هدف العلوم حفظ الأقوال والحجج، بل تحصيل (العقليّة والمَلَكة) في ذلك العلم حتّى يصبح مؤهّلاً للمجيء بأقوال جديدة أو موافقةٍ للأقوال السابقة، لكن (باجتهادٍ) وافق اجتهاداً سابقاً، وليس نقلاً وتقليداً، وهذا هو الفرق بين الذي يحفظ وبين من يصبح ذا ملكة!

 وهذا لا يلغي أهميّة الحفظ للعلوم، فحفظ المعلومات شيء لا بدّ منه، وهو أساس كلّ علم، فكيف سيمتلك العلم ويصبح ذا ملكة فيه وهو لا يحفظ مسائله؟!
لكن ما نريد تأكيده هو: عدم الاقتصار على حفظ المسائل والتعدادات والتفريعات، بل الانتقال من الحفظ المحض إلى بقيّة مستويات التفكير التي ذكرها (بلوم) في سلّمه الشهير، وهي (الحفظ ثمّ الفهم ثمّ التطبيق ثمّ التحليل ثمّ التقويم، ثمّ الابتكار) وهنا ننبّه إلى أنّ أدنى مهارات التفكير: الحفظ والتذكّرـ ثمّ تصعد إلى أعلاها وهو الابتكار.

 ففرق كبير بين من يحفظ ويفهم ويطبّق ويحلّل ويقوّم ويبدع، ويحوز الملكة والمنهج وطريقة التفكير، حتى ينقلب إلى منتِج للمعلومات في ذلك العلم، وبين من يكتفي بالحفظ فقط!

فتجد الكثير من (حفظة العلوم) يعيد لك المفردات والمصطلحات نفسها، بل حتّى الكلمات التي حفظها، ولا يقوى على استبدالها بألفاظ أخرى، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم تمكّن المعاني والفهم العميق للفكرة، فيبقى الحافظ أسيراً للألفاظ مخافة تغيير المعاني التي لم يهضمها!

من مظاهر ولعنا بالحفظ أصبح يطلق على بعض العلماء (هذا الشافعي الصغير، وذاك أبو حنيفة الصغير) ولو جالستَ ذلك العالم أو استمعتَ إليه أو قرأتَ له ستكتشف أنّه حافظ فروع ومسائل ذلك المذهب، ولا يملك عقليّة ذلك العلم، ودليل ذلك أنّك لو سألته سؤالاً سيرجع لذاكرته أو للكتاب ولن يجرؤ أن يقول بحسب الأدلّة وقواعد الحنفيّة فالحكم كذا وكذا!! 

لذلك علينا أن نوجّه تلاميذنا النابهين لهذا الهدف الأسمى (بناء الملكة) ومن قَصُرت همّته واستعداداته عن بلوغ تلك المرتبة -بعد السعي والمحاولة- فليكتفِ بما وصل إليه بحسب جدّه واجتهاده، فهو أفضل ألف مرّة من حبس التلاميذ بسجن الحفظ فقط!

وعندما يتّضح الهدف يسهل إيجاد الوسائل لتحقيقه، وهذا ليس عسيراً، فالتعليم الحديث ينمّي في التلاميذ مهارة شرح الشعر وتحليله، كما أنّه يعلّمهم كتابة موضوعات الإنشاء والإبداع فيها، وحلّ مسائل الكيمياء والفيزياء والجبر والهندسة العويصة.

 فلماذا نكتفي في علومنا الشرعيّة بتلقين التلاميذ المعلومات دون أن ننمّي فيهم ملكة تطبيق العلوم المنهجيّة، كعلم مصطلح الحديث وأصول الفقه، والمقاصد وملكة التفسير والاستنباط؟!

فنخرّج تلمبذاً لا يجرؤ على استخدام عقله في الحكم على مسألة، بل نجعله خائفاً رعديداً، لا يجرؤ على حكم دون الحصول على الحلّ منصوصاً في كتاب قديم!

قد يقال: إنّ مستوى تلامذتنا ضعيف، فلا تكلّف التلاميذ فوق طاقتهم، فكثير من أساتذتهم لا يستطيعون ذلك!

 ونقول: نعم “فاقد الشيء لا يعطيه” والحلّ بإصلاح المناهج، بجعلها تراعي بناء الملكة وتعتمد جوانب التطبيقات والتدريبات العمليّة من المراحل الأولى، وتدريب المدرّسين عليها، عندها سيدهشنا الأساتذة مع تلامذتهم بقدراتهم ومهاراتهم، لكنّهم يحتاجون من يضع عنهم الإصر والأغلال، ويفتّق طاقاتهم.

 وهنا لا نشترط في التدريبات وحلّ المسائل صوابَ أجوبة التلاميذ كلّها، ففي الرياضيّات يعطون الدرجات على خطوات الحلّ السليم حتّى لو أخطأ بالنتيجة النهائيّة، لأنّهم يعتمدون على بناءِ المهارة والمنهج والطريقة في استخراج المعلومة، لا على حفظ المعلومة الجاهزة!

وقد اشتكى من ذلك العلّامة ابن خلدون ؒ قديماً فقال: 

“وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة، فهو الذي يُقرّب شأنها ويُحصّل مراميها.

 فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرّف في العلم والتعليم، ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل، تجد ملكتَه قاصرة في علمه إنْ فاوض أو ناظر أو علّم! وما أتاهم القصور إلا من قِبَل التعليم وانقطاع سنده، وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم، لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك” [المقدّمة، 2 /83]

وحتّى يكون الكلام واقعيّاً وعملّياً، سنضرب أمثلة ببعض العلوم الشرعيّة:

فعلم العقيدة وعلم الكلام بحسب الواقع الذي نمارسه في مدارسنا وكليّاتنا الشرعيّة، هل نهدف لتخريج تلاميذ يحوزون ملكة وقدرة على اجتراح واختيار حجج وبراهين جديدة، تؤكّد العقائد التي يدافعون عنها؟ وخطاب كلّ قوم بحسب عقولهم وخلفيّاتهم الثقافيّة ومخاطبة كلّ قوم بلسانهم، ونقصد باللسان هنا الثقافة، أم همّ مدارسنا الشرعيّة تحفيظ أقوال السابقين واللاحقين من علماء العقيدة فقط؟!

فَلُبُّ علمِ الكلام هو (علم الحجاج، والدفاع عن العقائد) وهو يختلف من ثقافة إلى ثقافة، ومن عُرف إلى آخر، ومن بيئة وعصر إلى آخر.. فالمقصود إقناع الطرف الثاني بصحّة العقائد، مستخدمين الأدلّة العلميّة التجريبيّة والنظر في المخلوقات، والأدلّة العقليّة الفلسفيّة، والأدلّة النقليّة، فالحكمة تقتضي تعدّد الأساليب بحسب المخاطبين، وهذا يحتاج تدريب التلاميذ على ردّ الشبهات المعاصرة، كتابة في مقالات وبحوث وكتب ومناظرة وحواراً وإلقاءً جماهيريّاً وإعلاميّاً، وتربيّة وترسيخاً في نفوس الصغار والكبار. 

وعلم تفسير القرآن الكريم، هل همّ المدرسين إكساب التلميذ المتخصّص بالتفسير مهارة ومَلَكة التفسير؟ أم تركيزهم يقتصر على شرح العبارات والمعاني ليحفظها التلميذ؟ فيصبح ناقلاً وحافظاً لأقوال المفسرين، لا متدبّراً وناظراً ومرجّحاً بين الأقوال والمعاني والروايات التفسيريّة، حتّى يصبح مفسّراً للقرآن الكريم لا ناقلا لتفسيرات غيره فقط.

وكم هو سارٌ أنّ أحدَ أصدقائنا من دكاترة الشريعة الأذكياء كان يُعلّم التلاميذ قواعد التفسير ثمّ يطلب منهم أن يجتهدوا هم في تفسير القرآن الكريم، ويكلّفهم بواجبات عمليّة لتفسير بعض الآيات القرآنيّة بمفردهم أولاً، وبجهدهم الشخصيّ، ثمّ أن يرجعوا لكلام المفسّرين ويقارنوا بين ما توصّلوا هم إليه (باجتهادهم) من تفسيرات، وبين ما توصّل إليه الأئمة السابقون والمعاصرون، ليجدوا أنّهم لم يخرجوا عن المعاني الصحيحة إلا نادراً، وهو بذلك يدرّبهم ويمرّسهم على مهارة التفسير، ليصبح التفسير عندهم ملكة ومهارة، فهل هذا هو الشائع في تدريسنا؟ أم أنّ السائد هو شرح تفسيرات المفسّرين الآخرين وتكليف الطلاب بحفظها؟! 

هذا نموذج لوسيلة تحقّق الملكة والمهارة في نفس المتعلّم المتخصّص. 

وعلم مصطلح الحديث ينبغي أن يكون الهدف الأسمى من دراسته هو إكساب التلميذ المتخصّص بالحديث الشريف القدرةَ على الحكم على الحديث قبولاً أو ردّاً، أي تصحيحاً أو تحسيناً أو تضعيفاً.

بينما الهدف الأَوّليّ لهذا العلم هو أن يحفظ التلميذ المصطلحات التي يستعملها المحدّثون عند الكلام عن ثبوت الأحاديث وصحّتها من ضعفها، إلى آخر المصطلحات التي تملأ كتب علم مصطلح الحديث، حتّى يفهم تلك المصطلحات لو مرّت به.

 وهذا الهدف ضروري -ولا شكّ- لكنّ الأرقى منه هو تحصيل ملكة الحكم على المرويّات الحديثيّة ليحكم هو بنفسه على الأحاديث وفق قواعد ذلك العلم.

 ولو فرضنا أنه سعى لذلك ولم يدرك الدرجة العليا في هذا العلم، فعلى الأقلّ هو يدرك تماماً ما الذي فعله المتخصّصون حتّى حكموا بما قالوا، فيصبح فهمه أدقّ وأعمق من الذي لم يسعَ أصلاً أن يحصّل القدرة على الحكم على الأحاديث، وعندها يمكنه جمع أقوال المحدّثين السابقين، ويقارن بينها، ويرجّح حكماً على الحديث صحةً أو حسناً أو ضعفاً، أمّا أقلّ من ذلك فما فائدة دراسة هذا العلم إذن؟!

وعلم أصول الفقه هل الهدف أن نعرف القواعد التي اعتمدها الفقهاء في اجتهاداتهم، ونحفظ مصطلحات ذلك العلم؟ أم المقصود الأعلى لهذا العلم أن يتملّك التلميذ هذه القواعد وتصبح من قواعد عقله في الاستنباط والاجتهاد والنظر والترجيح، بحيث يمتلك التلميذ مهارة وملكة الاجتهاد بدرجاته المعروفة: (المجتهد المطلق والمقيّد ومجتهد الباب والمسألة والاجتهاد الانتقائيّ والترجيحيّ) بحسب همّة الطالب ومؤهّلاته وقدراته.

 أو على أقل تقدير: يتقن اختيار الفتوى وتنزيلها على الواقعة، فالفتوى عمل اجتهاديّ ولها خطوات وآداب، وكلّ علماء الشريعة وتلاميذها -باختلاف مستوياتهم- يمارسونها، وهي تحتاج تدريباً تطبيقيّاً حتّى لا نقع بكوارث الإفتاء المنتشرة.

وعلوم اللغة العربيّة هل الهدف تحفيظ التلميذ المصطلحات حتّى يفهمها لو مرّت معه في الكتب فقط، أم ينبغي أن يكون الهدف إكساب التلميذ ذوق اللغة العربيّة وفهمها، واستخدام أفضل أسلوب عربيّ للكلام والقراءة والكتابة!

وهكذا… فكلّ علم نبحث عن مَلَكَته وعقليّته فنركّز على زرعها في عقول طالبي هذا العلم.

فالفرق بين من يعتمد حفظ العلوم، وبين من يعتمد المَلَكَة، كالفرق بين (النبع والجمع) كالفرق بين المنهج والمنتَج، كالفرق بين المعلومات ومناهج استنباطها، كالفرق بين المصنع ومنتجاته.

قد يُقال: هذا الكلام للكبار، للعلماء ولطلاب الدراسات العليا، نُجيب: كم نفوّت إذاً من سنوات الدراسة لو غفلنا عن ترسيخ العلوم وتطبيقاتها العمليّة؟

وهذه الآفة تنطبق على طريقة تعاطينا مع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة أيضاً.

ولا يفوتنا أن نؤكّد على ضرورة تنشئة الطلاب على احترام العلماء وتقدير جهودهم، بل لو ربّيناهم على تحصيل المَلَكة سيقدّرون العلماء الراسخين ممّن حصّلوا تلك الملكة، أكثر بكثير ممّا لو اقتصرنا على تحفيظهم أقوالهم فقط، لأنّهم سيعرفون قدْرَهُم ومكانتهم وجهودهم، ولأنّهم سيدركون أيّ منزلة بلغ أولئك الأئمّة حتّى أتوا بهذه العلوم الراسخة.

وكلّ نظريّات التربية والتعليم الحديثة تؤكّد على أهمّيّة التركيز على تنمية العقليّة والتفكير ومنهجيّة البحث والتعامل مع المعلومات عند التلاميذ، وتطوير المنهجيّة المتخلّفة في التعليم القائمة على التّلقين والتحفيظ فقط! وبخاصّة في ظلّ عصر تفجّر المعلومات ووفرتها.

فالحفظ والتذكّر في أدنى مستويات التفكير وفق هرم (بْلُوم) لمستويات التفكير والتعلّم -كما مرّ سابقاً-.

وكرم الله باب واسع مفتوح، قال عليه الصلاة والسلام: (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ) [رواه البخاري].

قال الشرّاح: “قَدْ يَأْتِي فِي الْآخِرِ مَنْ يَكُونُ أَفْهَمَ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ” [فتح الباري]

وحتّى نصل لذلك نحتاج مناهج جديدة لا تقتصر على التنظير، بل فيها تمارين وتدريبات عمليّة تراعي هذا الهدف، ونركّز على مناهج البحث في كلّ علم نعلّمه، وندرس نشأة هذا العلم وتاريخه وتطوّره حتّى يعرف التلميذ المراحل التي مرّ فيها هذا العلم، حيث بدأ بسيطاً ثمّ تطوّر حتّى وصل إلينا، ويضع المؤلّفون آفاق التطوير المطلوبة في هذه العلوم، حتّى تكون منارات لمن أراد بذل الجهد ونيل شرف المساهمة في تطوير هذه العلوم، كما يفعل الباحثون في توصيات رسائلهم الأكاديميّة، بذلك يبني اللّاحق على بناء السّابق، فتزدهر العلوم، وتشرق في عقول حامليها.