لا يُبنى المجتمع بالتَّشريع وحده

إنّ الإسلام ليس مجرّد تشريع وقانون؛ إنّه عقيدة تفسّر الوجود، وعبادة تربّي الروح، وأخلاق تزكّي النفس، ومفاهيم تصحّح التصوّر، وقيم تسمو بالإنسان، وآداب تَجْمُل بها الحياة، وآيات الأحكام التشريعيّة لا تبلغ عُشْرَ آيات القرآن، وهي ممزوجة مزجاً بالعقيدة والضمير، مقرونة بالوعد والوعيد، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بسائر توجيهات القرآن.

اقرأ مثلاً في أحكام الأسرة قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا، إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229). هذا ليس تشريعاً جافّاً كمواد القانون، بل هو تشريع ودعوة وتوجيه وتربية وترغيب وترهيب.

واقرأ في أحكام الحدود قوله جلّ شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا، جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:38-40).

هنا نجد كذلك التشريع الزاجر، مقروناً بالوعد والوعيد، حاملاً التخويف والترجية، والتوجيه والتربية، مرغباً في التوبة والإصلاح، مذكّراً بأسماء الله الحسنى: العزيز إذا أمر ونهى، الحكيم فيما شرع، والغفور الرحيم لمن تاب وأصلح. مالك الكون، وصاحب الخلق والأمر، وهو على كلّ شئ قدير. 

هذا هو سياق التشريع في القرآن، ومثله في السُّنَّة، فليس بالتشريع وحده يبنى المجتمع المسلم، بل لا بدّ من وسيلتين أخريين: الدعوة والتوعية، ثمَّ التعليم والتربية، إلى جوار التشريع والقانون، بل قبل التشريع والتقنين.

ولهذا بدأ الإسلام بالمرحلة المكيّة -مرحلة الدعوة والتربية- قبل المرحلة المدنيّة، مرحلة التشريع والتنظيم، وفى هذه المرحلة نرى التشريع يمتزج بالتربية أيضاً امتزاج الجسم بالروح.

إنّ مجرّد تغيير القوانين وحده لا يصنع المجتمع المسلم، إنّ تغيير ما بالأنفس هو الأساس.

وأعظم ما يعين على تغيير ما بالأنفس هو الإيمان الذي ينشئ الإنسان خلقاً آخر، بما يضع له من أهداف، وما يمنحه من حوافز وضوابط، وما يرتّبه على عمله من جزاء في الدنيا والآخرة، والإسلام كلّ لا يتجزّأ، فإذا أردنا أن نحارب جريمة ممّا شرّعت له الحدود، فليست محاربتها بإقامة الحدّ فقط، ولا بالتشريع فقط، بل الحدّ هو آخر الخطوات في طريق الإصلاح.

إنّ العقاب إنّما هو للمنحرفين من النّاس، وهؤلاء ليسوا هم الأكثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذّ عن القاعدة، والإسلام لم يجئ فقط لعلاج المنحرفين، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم من أن ينحرفوا، والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج.

فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنى نجد أنّ القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحدّ فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهى قوله تعالى: {الزَّانِيّة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(النور:2) ، ولكنّ السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجّه إلى الوقاية من الجريمة؛ وحسبنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور:19) وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور:27).

ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}(النور:58).

وأهمّ من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغضّ البصر وحفظ الفروج، وذلك في قوله جلّ شأنه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.. الآيّة}(النور:30-31) وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتّى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ، ثمَّ تختم الآية بقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ومعنى هذا: وجوب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة، وسدّ الذرائع إلى الفساد، وأهمّ من ذلك كلّه الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كلّه بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤوليّة تضامنيّة: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32).

ومسؤوليّة المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكّام- تتمثّل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سدّ أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق الماديّة والاجتماعيّة أمام الراغبين في الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتّصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم -ماديّاً وأدبيّاً- على تكوين بيوت مسلمة؛ فليست إقامة الحدّ إذن هي التي تحلّ المشكلة، والواقع أنّ الحدّ هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعيّة إلا في حال الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرّات، على ما يراه عدد من الأئمّة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة في أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك؛ فكأنَّ القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة، أمّا من ابتلي بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيويّ، وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.

………………..

* من كتاب “المجتمع المسلم الذي ننشده” لفضيلة العلّامة.

المصدر: موقع الاتِّحاد العالميّ لعلماء المسلمين




حكم المظاهرات السلمية 

من حق المسلمين – كغيرهم من سائر البشر – أن يسيروا المسيرات وينشئوا المظاهرات، تعبيرا عن مطالبهم المشروعة، وتبليغا بحاجاتهم إلى أولي الأمر، وصنّاع القرار، بصوت مسموع لا يمكن تجاهله. فإن صوت الفرد قد لا يسمع، ولكن صوت المجموع أقوى من أن يتجاهل، وكلما تكاثر المتظاهرون، وكان معهم شخصيات لها وزنها: كان صوتهم أكثر إسماعا وأشد تأثيرا. لأن إرادة الجماعة أقوى من إرادة الفرد، والمرء ضعيف بمفرده قوي بجماعته. ولهذا قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة:2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا” وشبّك بين أصابعه (1).

ودليل مشروعية هذه المسيرات: أنها من أمور (العادات) وشؤون الحياة المدنية، والأصل في هذه الأمور هو: الإباحة. وهذا ما قررته بأدلة -منذ نحو نصف قرن – في الباب الأول من كتاب: (الحلال والحرام في الإسلام) الذي بين في المبدأ الأول أن القاعدة الأولى من هذا الباب: (أن الأصل في الأشياء الإباحة). وهذا هو القول الصحيح الذي اختاره جمهور الفقهاء والأصوليين.

فلا حرام إلا ما جاء بنصٍّ صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم. أما ما كان ضعيفا في مسنده، أو كان صحيح الثبوت، ولكن ليس صريح الدلالة على التحريم، فيبقى على أصل الإباحة، حتى لا نحرم ما أحل الله؛ ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجئ نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.

وفي هذا ورد الحديث: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا”. وتلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم:64) (2) . وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: “الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم” (3)، فلم يشأ عليه الصلاة والسلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ما عداه حلالا طيبا.

وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها” (4) . وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها: (العادات أو المعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرّمه الشارع وألزم به، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (الأنعام:119) ، عام في الأشياء والأفعال.

وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي، وفيها جاء الحديث الصحيح: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” (5)، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يُعبد إلا الله، وألا يُعبد إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده – كائنا من كان – فهي ضلالة ترد عليه، لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يُتقرب بها إليه.

وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها، بل الناس هم الذين أنشأوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.    

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به – أي من العادات – كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (الشورى:21) . والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرّمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} (يونس:59) .

وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول:

البيع، والهبة، والإجارة، وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس – فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.

وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاءون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة – وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها  – وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي) (6) انتهى.

ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن (7) . فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع، وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة، ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.

والقول بأن هذه المسيرات (بدعة) لم تحدث في عهد رسول الله ولا أصحابه، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: قول مرفوض؛ لأن هذا إنما يتحقق في أمر العبادة وفي الشأن الديني الخالص. فالأصل في أمور الدين (الاتباع) وفي أمور الدنيا (الابتداع) (8) .

ولهذا ابتكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان: أمورا كثيرة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يعرف بـ(أوليات عمر) وهي الأشياء التي ابتدأها عمر رضي الله عنه، غير مسبوق إليها، مثل: إنشاء تاريخ خاص للمسلمين، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين، واتخاذ دار للسجن، وغيرها.

وبعد الصحابة أنشأ التابعون وتلاميذهم أمورا كثيرة، مثل: ضرب النقود الإسلامية، بدل اعتمادهم على دراهم الفرس ودنانير الروم، وإنشاء نظام البريد، وتدوين العلوم، وإنشاء علوم جديدة مثل: إنشاء علم أصول الفقه، وتدوين علوم النحو والصرف والبلاغة، وعلم اللغة، وغيرها. وأنشأ المسلمون (نظام الحسبة) ووضعوا له قواعد وأحكاما وآدابا، وألّفوا فيه كتبا شتّى.

ولعل مما يؤيد هذا المسلك، الحديث الصحيح: “من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” (9). فهو يحث على المبادرة واتخاذ الموقف القدوة، الذي يرغب الآخرين في تقليده واتباعه، فيكون له أجرهم. وقد قيل: الفضل للمبتدي، وإن أحسن المقتدي!

ولهذا كان من الخطأ المنهجي: أن يطلب دليل خاص على شرعية كل شأن من شؤون العادات، فحسبنا أنه لا يوجد نص مانع من الشرع. ودعوى أن هذه المسيرات مقتبسة أو مستوردة من عند غير المسلمين: لا يثبت تحريما لهذا الأمر، ما دام هو في نفسه مباحا، ويراه المسلمون نافعا لهــم.” فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها” (10) .

وقد اقتبس المسلمون في عصر النبوة طريقة حفر الخندق حول المدينة، لتحصينها من غزو المشركين، وهي من طرق الفرس. واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم خاتما، حيث أشير عليه أن يفعل ذلك، فإن الملوك والأمراء في العالم، لا يقبلون كتابا إلا مختوما .

واقتبس الصحابة نظام الخراج من دولة الفرس العريقة في المدنية والتنظيم.

واقتبسوا كذلك تدوين الدواوين من دولة الروم، لما لها من عراقة في ذلك.

وترجم المسلمون الكتب التي تتضمن (علوم الأوائل) أي الأمم المتقدمة، التي طورها المسلمون وهذبوها وأضافوا إليها، وابتكروا فيها مثل: (علم الجبر) بشهادة المنصفين من مؤرخي العلم.

ولم يعترضوا إلا على (الجانب الإلهي) في التراث اليوناني؛ لأن الله تعالى أغناهم بعقيدة الإسلام عن وثنية اليونان وما فيها من أساطير وأباطيل.

ومن نظر إلى حياتنا المعاصرة في شتى المجالات: وجد فيها كثيرا جدا مما اقتبسناه من بلاد الغرب: في التعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة والسياسة وغيرها. ففكرة الدستور، والانتخابات بالصورة المعاصرة، وفصل السلطات، وإنشاء الصحافة والإذاعة والتلفزة، بوصفها أدوات للتعبير والتوجيه والترفيه، وإنجاز الشبكة الجبارة للمعلومات (الإنترنت) . والتعليم بمؤسساته وتقسيماته وترتيباته ومراحله واختباراته وآلياته المعاصرة، مقتبس في معظمه من الغرب.

والشيخ رفاعة الطهطاوي، حين ذهب إلى باريس إماما للبعثة المصرية، ورأى من ألوان المدنية ما رأى، بهرته الحضارة الحديثة، وعاد لينبه قومه إلى ضرورة الاقتباس مما سبق به الأوربيون، حتى لا يظلوا يتقدمون ونحن نتأخر. ومن يومها بدأ المصريون، وبدأ معهم كثير من العرب، وقبلهم بدأ العثمانيون في اقتباس ما عند الغربيين.

كل هذه مقتبسات من الغرب الذي تفوق علينا وسبقنا بها، ولم نجد بدا من أن نأخذها عنه، ولم تجد نكيرا من أحد من علماء الشرع ولا من غيرهم فأقرها العرف العام. وقد أخذ الغرب عنا من قبل واقتبس منا، وانتفع بعلومنا أوائل نهضته: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140) .

المهم أن نأخذ ما يلائم عقائدنا وقيمنا وشرائعنا، دون ما يناقضها أو ينقضها. فالناقل هو الذي يأخذ من غيره ما ينفعه لا ما يضره. وأهم ما يأخذه المسلم من غيره: ما كان متعلقا بشؤون الحياة المتطورة، وجله يتصل بالوسائل والآليات التي طابعها المرونة والتغير، لا بالأهداف والمبادئ التي طابعها الثبات والبقاء.

على أن ما ذكره السائل أو السائلون، من نسبة هذه المظاهرات أو المسيرات إلى الشيوعيين الملحدين: غير صحيح، فالأنظمة الشيوعية لا تسمح بهذه المسيرات إطلاقا؛ لأن هذه الأنظمة الشمولية القاهرة تقوم على كبت الحريات، وتكميم الأفواه، والخضوع المطلق لسلطان الحكم وجبروته.

قاعدتان مهمتان:

وأود أن أقرر هنا قاعدتين في غاية الأهمية:

1-  قاعدة المصلحة المرسلة:

الأولى هي: قاعدة المصلحة المرسلة، فهذه الممارسات التي لم ترد في العهد النبوي، ولم تعرف في العهد الراشدي، ولم يعرفها المسلمون في عصورهم الأولى، وإنما هي من مستحدثات هذا العصر: إنما تدخل في دائرة (المصلحة المرسلة)، وهي التي لم يرد من الشرع دليل باعتبارها ولا بإلغائها.

وشرطها: أن لا تكون من أمور العبادات حتى لا تدخل في البدعة، وأن تكون من جنس المصالح التي أقرها الشرع، والتي إذا عرضت على العقول، تلقتها بالقبول، وألا تعارض نصا شرعيا، ولا قاعدة شرعية. وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلا شرعيا يبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لا تعلل إلا بمطلق مصلحة تُجلب، أو ضرر يُدفع.

وكان الصحابة – وهم أفقه الناس بهذه الشريعة – أكثر الناس استعمالا للمصلحة واستنادا إليها. وقد شاع أن الاستدلال بالمصلحة المرسلة خاص بمذهب المالكية، ولكن الإمام شهاب الدين القرافي المالكي (684هـ) يقول، ردا على من نقلوا اختصاصها بالمالكي: (وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب) (11) .

2-  للوسائل حكم المقاصد:

والقاعدة الثانية: هي أن للوسائل في شؤون العادات حكم المقاصد، فإذا كان المقصد مشروعا في هذه الأمور، فإن الوسائل إليه تأخذ حكمه، ولم تكن الوسيلة محرمة في ذاتها؛ ولهذا حين ظهرت الوسائل الإعلامية الجديدة، مثل (التلفزيون) كثر سؤال الناس عنها: أهي حلال أم حرام؟

وكان جواب أهل العلم: أن هذه الأشياء لا حكم لها في نفسها، وإنما حكمها بحسب ما تستعمل له من غايات ومقاصد. فإذا سألت عن حكم (البندقية) قلنا: إنها في يد المجاهد عون على الجهاد، ونصرة الحقِّ، ومقاومة الباطل، وهي في يد قاطع الطريق عون على الجريمة، والإفساد في الأرض، وترويع الخلق.

وكذلك التلفزيون: مَن يستخدمه في معرفة الأخبار، ومتابعة البرامج النافعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، بل والبرامج الترفيهية بشروط وضوابط معينة، فهذا لا شك في إباحته ومشروعيته، بل قد يتحول إلى قربة وعبادة بالنية الصالحة. بخلاف من يستخدمه للبحث عن الخلاعة والمجون وغيرها من الضلالات في الفكر والسلوك.

وكذلك هذه المسيرات والتظاهرات، إن كان خروجها لتحقيق مقصد مشروع، كأن تنادي بتحكيم الشريعة، أو بإطلاق سراح المعتقلين بغير تهمة حقيقية، أو بإيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين، أو بإلغاء حالة الطوارئ التي تعطي للحكام سلطات مطلقة. أو بتحقيق مطالب عامة للناس مثل: توفير الخبز أو الزيت أو السكر أو الدواء أو البنزين، أو غير ذلك من الأهداف التي لا شك في شرعيتها: فمثل هذا لا يرتاب فقيه في جوازه.

ومثل ذلك: الاحتجاج على ما يحدث للإخوة في فلسطين، أو الحفريات تحت المسجد الأقصى، أو الحرب على العراق، أو الاحتجاج على الرسوم المسيئة لشخصية النبي عليه الصلاة والسلام.

وأذكر أني كنت في سنة 1989م في الجزائر، وقد شكا إلي بعض الأخوات من طالبات الجامعة من الملتزمات والمتدينات، من مجموعة من النساء العلمانيات أقمن مسيرة من نحو خمسمائة امرأة، سارت في شوارع العاصمة، تطالب بمجموعة من المطالب تتعلق بالأسرة أو ما يسمى (قانون الأحوال الشخصية) مثل: منع الطلاق، أو تعدد الزوجات، أو طلب التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، أو إباحة تزوج المسلمة من غير المسلم، ونحو ذلك.

فقلت للطالبات اللائي سألنني عن ذلك: الرد على هذه المسيرة العلمانية: أن تقود المسلمات الملتزمات مسيرة مضادة، من خمسمائة ألف امرأة! أي ضعف المسيرة الأولى ألف مرة! تنادي باحترام قواطع الشريعة الإسلامية. وفعلا بعد أشهر قليلة أقيمت مسيرة مليونية عامتها من النساء تؤيد الشريعة، وإن شارك فيها عدد محدود من الرجال، يقودهم عالم الجزائر: الشيخ أحمد سحنون رحمه الله. فهذه المسيرة – بحسب مقصدها – لا شك في شرعيتها، بخلاف المسيرة الأخرى المعارضة لأحكام الشريعة القطعية، لا يستطيع فقيه أن يفتي بجوازها.

سد الذرائع:

أما ما قيل من منع المسيرات والتظاهرات السلمية، خشية أن يتخذها بعض المخربين أداة لتدمير الممتلكات والمنشآت، وتعكير الأمن، وإثارة القلاقل. فمن المعروف: أن قاعدة سد الذرائع لا يجوز التوسع فيها، حتى تكون وسيلة للحرمان من كثير من المصالح المعتبرة. ويكفي أن نقول بجواز تسيير المسيرات إذا توافرت شروط معينة يترجح معها ضمان ألا تحدث التخريبات التي تحدث في بعض الأحيان، كأن تكون في حراسة الشرطة، أو أن يتعهد منظموها بأن يتولوا ضبطها بحيث لا يقع اضطراب أو إخلال بالأمن فيها، وأن يتحملوا المسؤولية عن ذلك. وهذا المعمول به في البلاد المتقدمة ماديا.

في السنة دليل على شرعية المسيرات:

أعتقد أن فيما سقناه من الأدلة والاعتبارات الشرعية، ما يكفي لإجازة المسيرات السلمية إذا كانت تعبر عن مطالب فئوية أو جماهيرية مشروعة، وليس من الضروري أن يطلب دليل شرعي خاص على ذلك، مثل نص قرآني أو نبوي، أو واقعة حدثت في عهد النبوة أو الخلافة الراشدة.

ومع هذا، نتبرع بذكر واقعة دالة، حدثت في عهد النبوة، وذلك عندما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولنستمع إلى عمر نفسه، وهو يقص علينا نبأ هذه المسيرة، يقول بعد أن دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم معلنا الشهادتين: (فقلتُ: يا رسول الله، ألسنا على الحقِّ إن متنا وإن حيينا؟

قال: “بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحقِّ، إن متم وإن حييتم”.

قال: فقلتُ: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن. فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد. قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها. فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق) (12).

ومن تتبَّع السيرة النبوية، والسنة المحمدية، لا يعدم أن يجد فيها أمثلة أخرى.




الحرب والأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ سياسة الإسلام في الحرب لا تنفصل عن الأخلاق؛ فالحرب لا تعني إلغاء الشرف في الخصومة، والعدل في المعاملة، والإنسانيّة في القتال وما بعد القتال.

إنَّ الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشريّ، وطبيعة التدافع الواقع بين البشر الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج:40)، {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251) .

ولكنّ ضرورة الحرب لا تعني الخضوع لغرائز الغضب والحميّة الجاهليّة، وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانيّة، إذا كان لا بدّ من الحرب؛ فلتكن حرباً تضبطها الأخلاق، ولا تسيّرها الشهوات، لتكن ضدّ الطغاة والمعتدين لا ضدّ البرآء والمسالمين.

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2) .

إذا كان لا بدّ من الحرب؛ فلتكن في سبيل الله، وهو السبيل الذي تعلو به كلمة الحقّ والخير ، لا في سبيل الطاغوت، الذي تعلو به كلمة الشرّ والباطل، {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء:76) .

 لتكن من أجل استنقاذ المستضعفين، لا من أجل حماية الأقوياء المتسلّطين: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيّة الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (النساء:75) .

 وَلْتتقيّدِ الحرب بأخلاق الرحمة والسماحة، ولو كانت مع أشدّ الأعداء شنآناً للمسلمين، وعتوْا عليهم، وإذا كان كثير من قادة الحروب وفلاسفة القوّة، لا يبالون في أثناء الحرب بشيء إلا التنكيل بالعدو، وتدميره، وإن أصاب هذا التنكيل من لا ناقة له في الحرب ولا جمل، فإنّ الإسلام يوصى ألا يقتل إلا من يقاتل، ويحذر من الغدر والتمثيل بالجثث وقطع الأشجار، وهدم المباني، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان المنقطعين للعبادة والمزارعين المنقطعين لحراثة الأرض.

وفي هذا جاءت آيات القرآن الكريم، ووصايا الرسول الكريم، وخلفائه الراشدين، ففي القرآن: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190) ، وفي السنَّة كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا توجّهوا للقتال بقوله: “اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً”…

 وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديّون من بعده يوصون قوادهم: ألّا يقتلوا شيخاً، ولا صبيّاً، ولا امرأة، وألا يقطعوا شجراً، ولا يهدموا بناء”، بل نهوهم أن يتعرّضوا للرهبان في صوامعهم، وأن يدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له من العبادة.

يذكر المؤرّخون المسلمون أنّ الخليفة الأوّل أبا بكر الصديق رضي الله عنه، في المعارك الكبرى التي دارت بين المسلمين والإمبراطوريّتين العتيدتين فارس والروم، أرسل إليه رأسَ أحدِ قادةِ الأعداءِ من قلب المعركة إلى المدينةِ عاصمةِ الدولةِ الإسلاميّة، وكان القائدُ يظنّ أنّه يسرُّ بذلك الخليفةَ، ولكن الخليفة غضب لهذه الفعلة لما فيها من المثلة، والمساس بكرامة الإنسان فقالوا له: إنّهم يفعلون ذلك برجالنا. فقال الخليفة في استنكار:

-آستنان بفارس والروم؟ لا يحمل إليّ رأسٌ بعد اليوم!

وبعد أن تضع الحرب أوزارها، يجب ألا ينسى الجانب الإنسانيّ والأخلاقيّ في معاملة الأسرى وضحايا الحرب، يقول الله تعالى في وصف الأبرار من عباده: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا} (الإنسان:8-9) .

 – من كتاب “مدخل لمعرفة الإسلام” لفضيلة العلّامة.




وقفة مع سيد قطب

في هذه الحلقة يناقش الشيخ الأسباب التي من أجلها اعتقل سيد قطب وإخوانه وحوكموا، وصدر الحكم بإعدامه مع البعض منهم، متسائلا: من المسئول عن سفك هذه الدماء وإزهاق تلك الأرواح؟

وكان التعرض لهذا الموضوع مدخلا مناسبا ليقف الشيخ في مذكراته وقفة تأملية لفكر الأستاذ سيد قطب، مستعرضا مراحل حياته، وتطورات أفكاره خلالها، مناقشا هذه الأفكار، ناقدا ومحللا، متفقا ومختلفا.

علام حوكم سيد قطب؟

الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل “الأعمال الخطيرة” التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل “الأفكار الخطيرة” التي اعتنقها أو دعا الناس إليها. ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل -بل حكمنا عليه بالإعدام- من أجل أفكاره لا من أجل أعماله.

والعجيب أن الذي كان يحاكم أفكار سيد قطب ضابط محدود الثقافة، قليل البضاعة من العلم والفكر، وإن كان لواء في الجيش. فإن كان لا بد من محاكمة فكر سيد قطب فلتكوّن له لجنة من كبار العلماء والمفكرين، تناقشه فيما ذهب إليه.

لقد أخطأ عبد الناصر ورجال أجهزته من شمس بدران ووزارة الدفاع، وأجهزة المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية وغيرهم، حين ظنوا أن “الأفكار” تُحارب بالاعتقال والسجن والتعذيب والإعدام. إنما تحارب الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، واللسان باللسان، والقلم بالقلم، ولا تحارب الفكرة بالقوة، ولا الحجة بالسجن، ولا اللسان بالسنان، ولا القلم بالسيف.

لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب “معالم في الطريق”؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذا من تفسيره “في ظلال القرآن” في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى.

كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها “مكتبة وهبة”، ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف. وصدق ما قاله عليه رحمة الله: “ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!”.

فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!

الحكم بالإعدام

حوكم سيد قطب أمام “محكمة عسكرية” تتكون من ضباط كبار، والأصل في المحاكم العسكرية أن تحاكم العسكريين من الضباط والجنود فيما خالفوا فيه النظام والقوانين العسكرية، وهذا طبيعي ومنطقي أن يحاكم العسكريون عسكريين مثلهم، وهم أولى بهم.

ولكن المشكلة تكمن حين يحاكم العسكريون المدنيين في تهم لا تتعلق بالجانب العسكري؛ فهذا ما تلجأ إليه الأنظمة الديكتاتورية تحت شعار الأحكام العرفية أو أحكام الطوارئ؛ ليحكموا على خصومهم السياسيين أو العقائديين بما لا ترضاه المحاكم المدنية.

وأكثر من ذلك أن يحاكم العسكريون كبار رجال العلم والفكر والقانون، كما رأينا قائد الجناح جمال سالم يحاكم أمثال: حسن الهضيبي، وعبد القادر عودة، ومحمد فرغلي.

ورأينا اللواء فؤاد الدجوي يحاكم سيد قطب؛ فإن من العجب حقا أن يحاكم رجل عسكري -مهما تكن خبرته ومعرفته- رجلا في حجم سيد قطب الأديب الناقد العالم المفكر!!

وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام، وعلى آخرين بأحكام متفاوتة.

وقد قوبل الحكم بالإعدام على سيد قطب وصاحبيه بالدهشة والاستغراب والإنكار، بل الرفض والاحتجاج من أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقامت مظاهرات، وأرسلت برقيات، وحدثت وساطات لدى عبد الناصر، وكان الكثيرون يتوقعون أن يستجيب لها؛ فلم يفعل، وسد أذنا من طين، وأذنا من عجين، كما يقول المثل.

لقد شنق ستة من قادة الإخوان سنة 1954م من أجل تهمة شروع في قتل عبد الناصر في ميدان المنشية، وإن كنا أثبتنا بالأدلة القاطعة براءة جماعة الإخوان من هذه التهمة، وقول الكثيرين: إن هذه “تمثيلية” وليست حقيقة، إلى آخر ما ذكرناه في الجزء الماضي. ولكن هناك في الظاهر تهمة شروع في قتل رأس النظام.

أما هنا فلم يحدث قتل، ولا شروع في قتل، فعلام يُعدَم هؤلاء؟ وبأي جريمة تُقطَع رقابهم؟!

وقد ذكروا هنا أمرا عجيبا ينبغي أن نسجله؛ ذلك أن شمس بدران وحسين خليل مدير المباحث الجنائية عرضا على عبد الناصر خلال محاكمة الشهيد سيد قطب الأحكام التي سيصدرها الدجوي، ومن بينها حكم الإعدام على سيد قطب، واتفقوا مع عبد الناصر على تخفيف حكم الإعدام عليه إلى السجن، أو العفو مع تحديد إقامته أو نحو ذلك؛ لينال عبد الناصر كسبا شعبيا يغطي كل ما قيل عن التعذيب، وما سيُقال عن العقوبات التي ستفرض على الآخرين. ولكنهم فوجئوا بعبد الناصر يصدق على حكم الإعدام وينفذه![1].

إن دم سيد قطب ورفيقيه سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم، حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين، ويستجيب لدعاء المظلومين الذي يرفعه الله فوق الغمام، ويفتح له أبوب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.

سهام الليل لا تخطي ولكن   لها أمد وللأمد انقضاء

فيمسكها إذا مـا شاء ربي    ويرسلها إذا نفذ القضاء

من المسئول عن هذه الدماء؟

كان المسئول الأول عن دماء الإخوان في المرات السابقة، وعن محنتهم بصفة عامة وزارة الداخلية المصرية، وأجهزة الأمن فيها، وبخاصة “المباحث العامة” التي سُميت فيما بعد “مباحث أمن الدولة”. كانت هي التي تعتقل، وهي التي تتهم، وهي التي تحقق، وإن شاركتها وزارة الحربية ببعض الأشياء، مثل السجن الحربي بزنازينه وزبانيته وقائده المتجبر حمزة البسيوني.

أما المسئول الأول عن دماء الإخوان ومحنتهم في هذه المرة؛ فهو “وزارة الحربية” ووزيرها: شمس بدران، وإن شاركتها الداخلية بالمساعدة في القبض والاعتقال وغيرها.

ولكن ما مدى مسئولية جمال عبد الناصر في هذه المحنة وتبعاتها؟

لقد حاول بعض الناصريين أن يقلل من مسئوليته ويخفف منها؛ لأنه في هذه الفترة من الزمن لم يكن هو الذي يحكم مصر في الحقيقة والواقع، إنما كان الحاكم الحقيقي لمصر هو المشير عبد الحكيم عامر الذي جمع السلطات كلها في يديه: العسكرية والمدنية، وأصبح لا يُبرَم أمر من الأمور إلا بعد أن يمر على عامر، وبات عبد الناصر بمثابة الملك الذي يملك ولا يحكم، وكان عامر يفعل ذلك بحكم نفوذه في القوات المسلحة، حتى قالوا: إن عبد الناصر عرض عليه مرة أن يعينه نائبا لرئيس الجمهورية، ويدع الجيش والقوات المسلحة، ولكنه رفض؛ ليقينه أن من يملك القوات المسلحة يملك البلد كله.

وهذا الذي قاله الكثيرون؛ أكده السيد حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة في أحاديثه مع أحمد منصور في برنامج “شاهد على العصر” الذي تقدمه قناة الجزيرة.

ومع تصديقي بهذه المقولة لا أعفي عبد الناصر من مسئوليته التاريخية عن هذه المأساة؛ فهو الذي أعلن عنها من “موسكو”، وذكر في خطابه الشهير هناك قائلا: إننا سنضرب بيد من حديد، وإننا لن نرحم هذه المرة. كأنه قد رحم في المرة السابقة!

وقد أكد الكثيرون من المعتقلين -الذين كانت السياط تشوي جلودهم في زنازين التعذيب- أنهم رأوا بأعينهم عبد الناصر يحضر مشاهد التعذيب مع رجاله. ومن ذلك ما ذكرته الأخت المؤمنة الصابرة المحتسبة الحاجة زينب الغزالي التي ذكرت في كتابها “أيام من حياتي” ما لاقت من الأهوال، التي لا تكاد تُصدق من بشاعتها، وقالت: إنها رأت جمال عبد الناصر في إحدى مرات التعذيب.

وهو -على كل حال- الرئيس المسئول دستوريا وقانونيا عما تفعله حكومته، وهو الذي صدق على حكم إعدام سيد قطب، وهو الذي رفض أية شفاعة فيه، وأصم أذنيه عن استغاثات العرب والمسلمين أن لا ينفذ حكم الإعدام، وأصر على أن ينفذ في الرجل الأديب العالم المفكر الداعية الكبير حكم الإعدام.

فمهما يحاول محامو الناصرية أن يبرئوا الرجل عن التبعة؛ فإن الثابت بيقين أنه مسئول عنها أمام الله سبحانه، وأمام الشعب، وأمام التاريخ.

على أنا سنثبت عند حديثنا عن “النكسة” أن المسئول عن كل تجاوزات عامر وانحرافاته هو عبد الناصر!

وقفة مع الشهيد سيد قطب

لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له. ولا شك في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجلها.

ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.

وهذه الفكرة هي التي انتهى إليها تطوره الفكري والعلمي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، في مجال الأدب والنقد، وفي مجال الدعوة والفكر.

ولا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهى إليه.

مرحلة الأدب والنقد

أول ما ظهر سيد قطب ظهر أديبا شاعرا، ثم ناقدا أدبيا.

كان شاعرا رقيقا مرهف الحس، دافق العاطفة، يحسبه الناقدون على “الاتجاه الرومانسي” في الشعر، وعده د. محمد مندور في جماعة “أبولو” ذات الاتجاهات الرومانسية المعروفة.

ومن المعروف أنه كان في أدبه النثري محسوبا على “مدرسة العقاد” وكان العقاد يمثل “المدرسة الليبرالية” والفكر الحر، ولم يكن قد ظهر توجهه الإسلامي الذي اتضح في كتاباته الأخيرة.

وكان الذي يمثل “المدرسة الإسلامية” في الأدب هو مصطفى صادق الرافعي. وكان بين الاتجاهين أو المدرستين صراع دامٍ؛ سلاحه القلم، وميدانه المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة وغيرهما، والكتب الأدبية، وقد هاجم الرافعي العقاد في مقالات نشرت بعد ذلك في كتاب سماه “على السفود”.

لم يكن سيد قطب في هذه المرحلة قد عرف بتوجه إسلامي واضح، رغم أنه خريج “دار العلوم” وقد عاصر حسن البنا، وإن لم يتعرف عليه وعلى دعوته إلا بعد استشهاده.

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه “الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ”[2] واقعة عن سيد قطب في هذه المرحلة، ما زلت في شك من أمرها، وهي: أنه كتب مقالة في الأهرام تدافع عن “العرْي” وأنه من الحرية الشخصية للإنسان، على غرار ما يكتبه دعاة الإباحية، وهذا نفس غريب على مسيرة سيد قطب، فلم يكن الرجل -على ما أعلم- في أي فترة من حياته من دعاة التحلل. وأرجو من إخواننا من شباب الباحثين أن يحققوا ويبحثوا في مدى صدق هذه الواقعة.

وقد توج هذه المرحلة من مراحل مسيرته عملان كبيران من الأعمال الأدبية الأصيلة التي لم يقلد سيد قطب فيها أحدا، بل كان فيها نسيج وحده.

أولهما: كتابه عن “أصول النقد الأدبي” وهو -باعتراف مؤرخي الأدب العربي- عمل متميز، وإن لم يأخذ حقه من الظهور، ربما كان سبب ذلك هو تحول صاحبه إلى الدعوة الإسلامية، وأمسى محسوبا على عالم الدعاة، لا على عالم الأدباء والنقاد.

وثانيهما: عمله الأصيل المتميز في خدمة القرآن، وإعجازه البياني، بمنهج لم يسبق له نظير، وهذا العمل يتمثل في كتابيه الرائعين:

أ- التصوير الفني في القرآن.

ب- مشاهد القيامة في القرآن.

والكتاب الأول يجسد النظرية، والثاني بمثابة التطبيق لها.

وهذان الكتابان يمثلان تمهيدا أو همزة وصل للمرحلة القادمة؛ مرحلة الدعوة إلى الإسلام.

مرحلة الدعوة الإسلامية

والمرحلة الثانية في حياة سيد قطب هي مرحلة الدعوة إلى الإسلام؛ بوصفه عقيدة ونظاما للحياة يقيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.

وكان هذا التطور له مقدمات وعلامات، منها: اهتمامه بقضية المظالم الاجتماعية في مصر، وسيطرة الإقطاع المتجبر في الأرياف، والرأسمالية الاحتكارية المستغلة في المدن على الاقتصاد المصري، وضياع الفلاحين والعمال -وهم جل المصريين- بين تجبر أولئك وتسلط هؤلاء.

وقد بدا هذا التوجه واضحا في مشاركته في مجلة “الفكر الجديد” التي كانت تعنى بهذا الجانب الاجتماعي، والتي لم تدم طويلا، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني من هذه المسيرة.

ولعل كتابيه السالفين في خدمة البيان القرآني قد مهدا له الطريق؛ ليطل على “المضامين” الإصلاحية العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، وإن كانت دراسته أساسا تهتم بالشكل والأسلوب.

ظهر أول كتاب له في هذه المرحلة، وهو: كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بين فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وإن كان الشيخ الغزالي رحمه الله له فضل السبق بتناول هذه الموضوعات في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة “الإخوان المسلمون”، ثم جمعها في كتبه: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، ولكن هذه الكتب لم تكتب بالطريقة المنهجية التي كتب بها سيد قطب؛ لأنها في الأصل مقالات، تجلي جوانب مهمة في هذا الجانب الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام.

ولا شك أن الشهيد سيد قطب قد استفاد من كتب الغزالي، وإن لم ينقل منها بالحرف، وإنما اقتبس كثيرا من الأفكار. ولهذا جعل من مصادره في الطبعة الأولى للكتاب: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” و”الإسلام والمناهج الاشتراكية”. ثم حُذفا بعد ذلك مع قائمة المصادر كلها.

استقبلت الأوساط الإسلامية كتاب “العدالة” بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أول مولود لسيد قطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتبا له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار، تعوض الخسارة التي لحقت به بانضمام الشيخ خالد محمد خالد إلى التيار العلماني؛ فكأن عدالة الأقدار عوضت عن خالد بسيد، وعن كتاب “من هنا نبدأ” بكتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام”.

وغمرت الإخوان خاصة فرحة بهذا القلم الجديد الذي انضم إلى القافلة الإسلامية، وكأنه كان مكافأة لهم بعد خروجهم من معتقلات الطور و”هايكستب” وسقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي قاتلة حسن البنا، وصاحب التاريخ الأسود، والعسكري الأسود!

ولم يكتفِ سيد قطب بهذا الكتاب بل أتبعه بكتب أخرى: “معركة الإسلام والرأسمالية” و”السلام العالمي والإسلام”، ومقالات عدة كتبها في مجلة “الدعوة” التي يصدرها الإخوان، ومجلة “الاشتراكية” التي يصدرها حزب العمل، ومجلة “اللواء” التي يصدرها الحزب الوطني، ولكن هذه المقالات كانت كلها “تحت راية الإسلام”. وهي التي جمعت بعد ذلك تحت عنوان “دراسات إسلامية”.

ومنها مقال عن “حسن البنا وعبقرية البناء”، نقلت خلاصته في كتابي “الإخوان المسلمون: سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد”.

وفي هذه الفترة بدأ يكتب تفسيره الشهير الذي لم يسمه تفسيرا، ولكنه رضي أن يسميه “في ظلال القرآن” وصدق في تسميته، فلم يكن في طبعته الأولى يحمل الطابع الرسمي للتفسير، ولكنها وقفات عقل متدبر، وقلب حي، ووجدان مرهف أمام القرآن، يلتمس عظاته، ويجلي إعجازه، ويبين حقائقه، وينبه على مقاصده، وإن تغير ذلك في الأجزاء الأخيرة، وفي الطبعة الثانية للأجزاء الأولى، فقد بدأ يهتم بالجانب التفسيري، حتى أحسب أنه أفرغ خلاصة تفسير ابن كثير في “ظلاله”.

وفي هذه الفترة بدأ سيد قطب يقترب من الإخوان، ويرى بعينيه نشاطهم والتزامهم، وما بينهم من رباط وثيق، وإخاء عميق، وما يتميز به كثير منهم من وعي دقيق، وشعور رقيق، وكان المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي يصطحبه معه في رحلاته، ليرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويحكم بعد ذلك بعقله، ويختار لنفسه.

وقد اختار بملء إرادته الانضمام إلى دعوة الإخوان، ولا سيما بعد أن خاب ظنه في رجال الثورة، الذين علق عليهم في أول الأمر آمالا وأحلاما، فتبخرت وضاعت، كما تبخرت أحلام الشاعر العاشق الذي قال:

كأني من ليلى الغداة كقابض    على الماء خانته فروج الأصابع

وأحيل القارئ إلى ما ذكرته في الجزء السابق عن سيد قطب وانضمامه إلى الإخوان، وتسلمه رئاسة قسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئاسة تحرير مجلتهم، إلى أن دخل معهم في محاكمات محكمة الشعب وحكم عليه بعشر سنوات.

مرحلة الثورة الإسلامية

وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها “مرحلة الثورة الإسلامية”، الثورة على كل “الحكومات الإسلامية”، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل “المجتمعات الإسلامية” أو التي تدعي أنها إسلامية، فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية.

تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم “أسقطوا حاكمية الله تعالى” ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام.. فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟!

بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن “لا إله إلا الله” منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة.

أقول: تكون هذا الفكر الثوري الرافض، داخل السجن، وخصوصا بعد أن أعلنت مصر وزعيمها عبدا لناصر، عن ضرورة التحول الاشتراكي، وحتمية الحل الاشتراكي، وصدر “الميثاق” الذي سماه بعضهم “قرآن الثورة”! وبعد الاقتراب المصري السوفيتي، ومصالحة الشيوعيين، ووثوبهم على أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر، ومحاولتهم تغيير وجه مصر الإسلامي التاريخي.

هنالك رأى سيد قطب أن الكفر قد كشف اللثام عن نفسه، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يخفيه بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير، وتضليل العوام.

هنالك رأى أن يخوض المعركة وحده، راكبا أو راجلا، حاملا سيفه “ولا سيف له غير القلم” لقتال خصومه، وما أكثرهم. سيقاتل الملاحدة الجاحدين، ويقاتل المشركين الوثنيين، ويقاتل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويقاتل المسلمين أيضا، الذين اغتالتهم الجاهلية، فعاشوا مسلمين بلا إسلام!

وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه، وبرغم حبي وتقديري الكبيرين له، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر، نتيجة اجتهاد وإعمال فكر -أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب الجديد سيد قطب القديم.. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض سيد قطب الداعية المسالم، أو سيد قطب صاحب “العدالة” سيد قطب صاحب “المعالم”.

ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي في بعض أفكاره الأساسية، وإن لامني بعض الإخوة على ذلك، ولكني في الواقع، كتبت ما كتبت وناقشت ما ناقشت، من باب النصيحة في الدين، والإعذار إلى الله، وبيان ما أعتقد أنه الحق، وإلا كنت ممن كتم العلم، أو جامل في الحق، أو داهن في الدين، أو آثر رضا الأشخاص على رضا الله تبارك وتعالى.

ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توافرت النية الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأن المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرا واحدا، كما في الحديث الشريف، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية أو العملية، الأصولية أم الفروعية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما.

وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة “التكفير” والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من “الظلال” ومما أفرغه في كتابه “معالم في الطريق” أن المجتمعات كلها قد أصبحت “جاهلية”. وهو لا يقصد بـ “الجاهلية” جاهلية العمل والسلوك فقط، بل “جاهلية العقيدة” إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترضَ بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا، ليس الناس في حاجة إلى أن نعرض عليهم نظام الإسلام الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القانوني، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها، وبأنها من عند الله. أما من لا يؤمن بها، فيجب أن نعرض عليه “العقيدة أولا” حتى يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالشريعة حاكمة.

وهذا ما أشار إليه في كتابه “المعالم” وفصله في كتاب “الإسلام ومشكلات الحضارة”. وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد.

كما رأى عليه رحمة الله أن لا معنى لما يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه “تطوير” الفقه الإسلامي أو “تجديده” أو “إحياء الاجتهاد” فيه؛ إذ لا فائدة من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم غائبا، يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولا، ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء واقعنا الإسلامي.

وقد ناقشت أفكاره عن “الاجتهاد” وعدم حاجتنا إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي، في كتابي “الاجتهاد في الشريعة الإسلامية” وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه.

وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه حول قضية “الاجتهاد” ناقشته في رأيه في “الجهاد” وقد تبنى أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!

وحجته في ذلك آيات سورة التوبة، وما سماه بعضهم “آية السيف” ولم يبال بمخالفة آيات كثيرة تدعو إلى السلم، وقصر القتال على من يقاتلنا، وكف أيدينا عمن اعتزلنا ولم يقاتلنا، ومد يده لمسالمتنا، ودعوتنا إلى البر والقسط مع المخالفين لنا إذا سالمونا، فلم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا.

هذا ما تدل عليه الآيات الكثيرة من كتاب الله مثل قوله تعالى:  “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ” [البقرة: 191،190]. “فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً” [النساء: 90].

 ” فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا” [النساء: 91].  ” وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ” [الأنفال: 61].  ” لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [الممتحنة: 8].

والأستاذ سيد رحمه الله يتخلص من هذه الآيات وأمثالها بكلمة في غاية السهولة أن هذه كان معمولا بها في مرحلة، ثم توقف العمل بها، والعبرة بالموقف الأخير، وهو ما يعبر عنه الأقدمون بالنسخ، وقولهم في هذه الآيات: نسختها آية السيف.

ولا أدري كيف هان على سيد قطب -وهو رجل القرآن الذي عاش في ظلاله سنين عددا يتأمله ويتدبره ويفسره- أن يعطل هذه الآيات الكريمة كلها، وأكثر منها في القرآن، بآية زعموها آية السيف؟ وما معنى بقائها في القرآن إذا بقي لفظها وألغي معناها، وبطل مفعولها وحكمها؟!

ويقول الشهيد رحمه الله: إننا لا نفرض على الناس عقيدتنا، إذ لا إكراه في الدين، وإنما نفرض عليهم نظامنا وشريعتنا، ليعيشوا في ظله، وينعموا بعدله.

ولكن بماذا نجيب الناس إذا قالوا لنا: إننا أحرار في اختيار النظام الذي نرضاه لأنفسنا، فلماذا تفرضون علينا نظامكم بالقوة؟ إن كل شيء يجرعه الإنسان تجريعا رغم أنفه يكرهه وينفر منه، ولو كان هو السكر المذاب، أو العسل المصفى!.

وما الحكم إذا كنا نحن -اليهود أو النصارى أو الوثنيين- أصحاب القوة والمنعة، وأنتم الضعفاء في العدة أو الأقلون في العدد؟ هل تقبلون أن نفرض عليكم نظامنا ومنهج حياتنا؟ كما هو شأن أمريكا اليوم، وتطلعاتها للهيمنة على العالم؟.

ومما ننكره على الأستاذ سيد رحمه الله أنه يتهم معارضيه من علماء العصر بأمرين:

الأول: السذاجة والغفلة والبله، ونحو ذلك مما يتصل بالقصور في الجانب العقلي والمعرفي.

والثاني: الوهن والضعف النفسي، والهزيمة النفسية أمام ضغط الواقع الغربي المعاصر، وتأثير الاستشراق الماكر مما يتعلق بالجانب النفسي والخلقي.

والذين يتهمهم بذلك هم أعلام الأمة في العلم والفقه والدعوة والفكر، ابتداء من الشيخ محمد عبده، مرورا بالشيخ رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والمشايخ: محمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المدني، ومحمد مصطفى شلبي، ومحمد البهي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، وعلي الطنطاوي، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعلال الفاسي، وعبد الله بن زيد المحمود، ومحمد فتحي عثمان، وغيرهم من شيوخ العلم الديني.

هذا فضلا عن الكتاب والمفكرين “المدنيين” الذين لا يحسبون على العلوم الشرعية، من أمثال: د. محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ومحمود شيت خطاب، وعبد الرحمن عزام، وجمال الدين محفوظ، ومحمد فرج، وغيرهم وغيرهم في بلاد العرب والمسلمين.

على أية حال، كانت هذه هي الأفكار المحورية في هذه المرحلة من حياة سيد قطب، وفيها عدل من أفكاره واتجاهه تعديلا جذريا، وأصبح ما كتبه قديما في “العدالة الاجتماعية” وغيرها، يمثل مرحلة من حياته، ولا يمثل الخط الأخير الذي يتبناه ويدعو إليه، ويدافع عنه.

وقد حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الإخوة المقربين من سيد قطب -وكان معه معتقلا في محنة 1965م- أخبره أن الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله، قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولى، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، ونحوها مما صدر له وهو في السجن، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها، فهي تمثل تاريخا لا أكثر.

فقال له هذا الأخ من تلاميذه: إذن أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك.

قال سيد رحمه الله: نعم، غيرت كما غير الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي غير في الفروع، وأنا غيرت في الأصول!.

فالرجل يعرف مدى التغيير الذي حدث في فكره. فهو تغيير أصولي أو “إستراتيجي” كما يقولون اليوم.

وهو على كل حال مخلص في توجهه، مأجور في اجتهاده، أصاب أم أخطأ، ما دام الإسلام مرجعه، والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه. وأشهد أن الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته، كان كله للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام! فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه، وغفر له ما نحسب أنه أخطأ فيه، وأجره عليه أجر المجتهدين الصادقين. وغفر لنا معه أجمعين ” رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” [الحشر: 10].

تحامل على سيد قطب في فكرة الحاكمية

ولقد اتهم بعض الكاتبين سيد قطب بأنه تبنى فكرة “الحاكمية” التي أخذها عن المودودي، وجعلها من صلب عقيدة التوحيد، ورتب عليها أحكاما خطيرة، منها أن الدولة التي تقوم على أساسها أشبه ما تكون بالدولة الدينية، التي تقوم على الحكم بالحق الإلهي. وهذا تحامل ظالم على الرجل.

والحق أن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها. وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية:

1- الملاحظة الأولى: أن الحاكمية التي ركز عليها سيد قطب والمودودي، هي الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها أن الله سبحانه هو المشرع لخلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، وهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرر عند المسلمين جميعا؛ ولهذا حين قال الخوارج لعلي: لا حكم إلا لله لم يعترض علي رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة، فقال ردا عليهم: “كلمة حق يراد بها باطل”.

وقد بحث في هذه القضية علماء “أصول الفقه” في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.

فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير “المستصفى من علم الأصول” عن “الحكم” الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلق بالحاكم، وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف…

ثم يقول: “وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حُكم إلا لله وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره”[3].

ثم يعود إلى الحديث عن “الحاكم” وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين، فيقول: “أما استحقاق نفوذ الحكم، فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته”[4].

وبهذا نعلم أن فكرة “الحاكمية” ليست من اختراع سيد قطب ولا المودودي، بل هي فكرة إسلامية أصيلة، قررها علماء الأصول، واتفق عليه أهل السنة والمعتزلة جميعا.

2- الملاحظة الثانية: أن “الحاكمية” التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم، بل تعتزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم، والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد، بحق.

فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.

وحسبي هنا أن أذكر قول سيد قطب في “معالمه”: “ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يُعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة”.

3- الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، وليست لأحد من خلقه، ونادى بها المودودي وقطب، هي الحاكمية “العليا” و”المطلقة” التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية، بل من مقومات التوحيد، كما بين القرآن في قوله تعالى: ” أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً” [الأنعام: 114].

وهذه الحاكمية -بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر قَدْر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الديني المحض، كالتشريع في أمر العبادات، والتشريع الذي يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويسقط ما فرض الله. أما التشريع فيما لا نص فيه، أو في المصالح المرسلة، وفيما للاجتهاد فيه نصيب، فهذا من حق المسلمين، ولهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كلية إجمالية لا تفصيلية، ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم، ويملئوا الفراغ التشريعي بما يناسبهم[5].

____________________

[1] “العشاء الأخير للمشير”، لعبد الصمد محمد عبد الصمد، ص150.
[2] – انظر: “الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ” لمحمود عبد الحليم “1/190-192”. طبعة دار الدعوة ـ الإسكندرية.
[3] المستصفى: “1/8” طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
[4]المستصفى: “1/83” طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبة بولاق. وفي فواتح الرحموت: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ، إن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا “يعني الماتريدية” “1/25” مع المستصفى.
[5] انظر: كتابنا “بينات الحل الإسلامي” ص163-167.