في تجديد معنى سؤال النهضة

ظل سؤال النهضة هاجسا مرافقا للوعي العربي الإسلامي منذ حدوث الصدمة الأولى مع الغرب المعاصر في القرن الثالث عشر الهجري (19م) إلى اليوم. إذ كان ولا يزال السؤال الإشكالي المحوري الذي تضافرت الجهود وتجادلت في محاولة الإجابة عنه.

وليس من المبالغة أن نقول إنه يمكن اختزال النتاج الفكري العربي بأكمله وبمختلف تياراته واتجاهاته في كونه مجرد حاشية على هذا السؤال، حاشية تقاربه وتعيد صياغته، أو حاشية تروم أن تكون متنا يقدم إجابة عنه.

بل يصح القول أيضا إن انقسام الوعي العربي النهضوي إلى تيارات متباينة يعكس الانقسام والتباين في الإجابة عن هذا السؤال.

ومن الملاحظ من حيث التوقيت التاريخي لتبلور تلك الإجابات أن الإجابة الفكرية الإسلامية كانت الأسبق زمنيا إلى البروز والظهور، إذ يمكن عد كتابات جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده أولى محاولات التفكير في بلورة إجابة نظرية عن سؤال النهوض.

ومن نافلة القول، أن الإجابة الفكرية الإسلامية -وإن كانت السباقة إلى التبلور والظهور- لم تكن الوحيدة التي قاربت هذا السؤال وفكرت فيه، بل كما أسلفنا تعددت وتنوعت وتباينت الإجابات باختلاف المرجعيات المذهبية التي يصدر عنها التفكير.

ذلك لأن الجدل الحضاري مع الغرب أوجد في واقعنا الثقافي تيارات مقلدة له، ومتمذهبة ببعض مذاهبه الفلسفية والسياسية، كما أن التيار الإسلامي القائم على فكرة التأصيل والعودة إلى الذات الثقافية، لم ينتج قراءة واحدة لتراثه الفكري بل أنتج قراءات تختلف في انتقاء المقومات التراثية الكفيلة بتحقيق النهضة، وإن كانت تتفق على أن النهوض يكون من داخل ذاتيتنا الثقافية.

ولهذا تعددت الإجابات وتكاثرت، مقدمة أطروحات متباينة حول ذلك السؤال/الهاجس.

لكن رغم تعدد الإجابات وتنوع الأطروحات النهضوية فإن الوضع العربي اليوم ما زال –سواء من الناحية الثقافية أو من الناحية المجتمعية– مختلا مأزوما، ومن ثم ما زال سؤال النهوض يعبر عن مطلب لا عن ماصدق واقعي منظور.

فما هو السبب؟ هل يرجع الفشل إلى خلل في الإجابات؟ أم أن سؤال النهضة لا يتطلب أجوبة نظرية فقط، بل أيضا أفعالا منظورة وممارسة تغييرية واقعية؟

لكن هل يمكن أن يوجد فعل أو ممارسة رشيدة دون سابق نظر وتفكير؟ وهل يصح اختزال عجز الفعل النهضوي في مجرد عجز اعتور عملية تطبيق الإجابة النظرية، وليس اختلالا في الرؤية الفكرية ذاتها التي أنتجت تلك النظرية ووجهت عملية تطبيقها؟

أسئلة واستفهامات مشروعة وضرورية، لكننا سنخصص هذا المقال لمحاولة الاقتراب الدلالي من لفظ النهضة، مع الإشارة بإيجاز إلى معالم ومحددات الجواب.https://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/KEngine/imgs/top-page.gif

في معنى لفظ النهضة
من الناحية اللسنية من الملاحظ أنه في اللحظة الأولى للقاء الصدمة مع العالم الغربي في القرن الثالث عشر الهجري (19م)، كان السؤال النهضوي مطروحا بصيغة تعبيرية تتوسل لفظ “التأخر” للدلالة على الوضعية الإشكالية التي يعيشها العالم العربي الإسلامي وقتئذ.

وهذا ما يتجلى واضحا في سؤال شكيب أرسلان: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، بمعنى أن الزوج المفهومي المستعمل في توصيف الوضعية التي يعشيها العالم العربي بالمقارنة مع العالم الغربي، كان هو “التأخر/التقدم”.

لكن مع تأمل وضعية العالم الأوروبي، ودرس صيرورته التاريخية لفهم سبب تقدمه، استوقفت الوعي العربي تلك اللحظة الموسومة بـ”رنيسانس” Renaissance الدالة على لحظة ابتداء “التقدم” الأوروبي في القرنين الرابع والخامس عشر، وترجم لفظ “رنيسانس” إلى النهضة.

فأصبحت الكلمة بذلك تختزل المطلوب لتحقيق النقلة الحضارية الواجب إنجازها لنخرج من وضعية التأخر، كما خرجت أوروبا من تأخرها في عصر الإنسية والإصلاح الديني، الموسوم برنيسانس. وهكذا أخذ لفظ النهضة في التداول.

فما المقصود دلاليا بهذا اللفظ؟ وهل يكفي معناه اللغوي لتوصيف ماصدقه الحضاري؟

من حيث الدلالة اللغوية يطلق لفظ النهضة ومشتقاته على أفعال حركية، إذ النهضة كلمة دالة على “البراح من الموضع والقيام عنه، والنهضة: الطاقة والقوة. وأنهضه: قواه على النهوض”. ومنه وصف الطائر/الفرخ بالناهض للدلالة على أنه “وفر جناحيه ونهض للطيران”.

أما من ناحية الاصطلاح فلفظ النهضة ليست له دلالة محددة، فهو إذا كان يدل على إنجاز حراك ثقافي ومجتمعي، فإن دلالة ذلك الحراك مختلفة حسب المرجعية الفكرية.

فقد يكون حراكا يتجه نحو الماضي لإعادة إنتاجه أو استحضاره وانتهاجه، أو حراكا يقفز إلى حضارة الآخر داعيا إلى تقليدها واستنساخ نماذجها المجتمعية، أو الاستهداء بمنهجها في التفكير والعيش، بمعنى أن كل تيار فكري يصطلح على جملة معان ومواصفات يراها محددات النهوض.

لكن النظر إلى هذه المحددات المختلفة يكشف أن ثمة مشتركا بينها، نراه في تقديرنا يعكس اختلالا في فهم النهضة ومستلزماتها. فما هو هذا الخلل المشترك؟

أرى أن الاختلال يكمن في المقاربة المذهبية الجاهزة لسؤال النهوض، إذ تنزع التيارات الفكرية السائدة في واقعنا الثقافي إلى اتخاذ مرجعياتها المذهبية الجاهزة أفقا وسقفا لمطلب النهوض.

فالتيار الليبرالي مثلا يرى أن النهضة لا تتحقق إلا بتطبيق الليبرالية، والتيار اليساري الاشتراكي الذي ساد خلال القرن العشرين يرى أن لا نهضة إلا بالاشتراكية، والتيار الفكري الإسلامي في نموذجه السلفي مثلا يرى أن لا نهضة إلا بإعادة إنتاج نفس مواصفات الاجتماع الإسلامي الذي تجسد في لحظة تاريخية ماضية ( اللحظتين النبوية والراشدية).

وإذا كنت أعتقد أن النهوض في عالمنا العربي الإسلامي لن يتحقق خارج إطار ذاتيتنا الثقافية الإسلامية، فإني لا أعتقد أن المطلوب -بل ولا من الممكن- تقليد لحظة من لحظاتنا الماضية وإعادة إنتاجها، كما تنزع إلى ذلك بعض توجهات الفكر السلفي عندما تدعو إلى استنساخ، ليس أفكار ومبادئ العصر الإسلامي الأول، بل استنساخ حتى ديكور الحياة وشكلها في اللباس وطرائق المعاش!

إن اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) والاسترشاد بهدي قرنه، لا يكون إلا باتباع المبادئ والمحددات الفكرية العامة، وليس باستنساخ صورة الحياة حتى في شكلها المادي، كما يرى هذا التيار السلفي الذي وسع من مفهوم البدعة المذمومة ليشمل كل مستحدث ومستجد.

كما أن النهوض لن يتحقق باستنساخ نموذج ثقافي ومجتمعي غربي، لأن الحضارات التي لها هوية عقدية قوية، كما هو حال الحضارة الإسلامية، يستحيل أن تزول محدداتها وتندثر مقوماتها لصالح غزو ثقافي جذري يروم اقتلاع شخصيتها الحضارية، وإحلال نسق بديل محلها.

إن التفكير في النهضة من مدخل مذهبي جاهز نراه عائقا أمام حركة النهوض، وليس حافزا لها. ومن ثم فالخلل الأكبر في فهم ماهية النهضة يكمن في هذه النظرة المذهبية والماهوية التي سقطت في فخها كل مشاريع النهوض، إسلامية كانت أو متغربة، فأنتجت رؤى وثوقية تكبل فعل النهضة ولا تحفزه.

بينما سؤال النهوض ليس سؤالا يستلزم جوابا ماهويا في كل مستوياته، بل هو سؤال تاريخي متحرك. وأقصد بالسؤال المتحرك أنه في كل لحظة تاريخية يحتاج إلى جواب خاص ينسجم مع حاجات تلك اللحظة وشروطها الآنية، واستشرافاتها المستقبلية.

إن النهضة مطلب ثقافي ومجتمعي يعبر عن حالة جدل تاريخي مرتبط بمجموعة من القيم والحاجات، ينبغي ترتيبها وفق أولويات حسب الوضعية التاريخية.

فالنهضة في زمن الاستعمار مثلا من الطبيعي أن ترتبط بأكبر حاجياتها الآنية المتمثلة في مطلب الاستقلال السياسي؛ لأنه يصير مطلبا ذا أولوية، ومقدمة لغيره من المطالب والاحتياجات.

وأن ننهض في لحظة تأزم اقتصادي معناه أن نعمل على معالجة الإشكال الاقتصادي بإعطائه الأولوية…

بمعنى أن الجواب على سؤال النهضة ليس جوابا ماهويا على سؤال ثابت المطلب، بل هو متحرك مع صيرورة التاريخ، ومرتبط بتحديد دقيق لحاجيات اللحظة، وترتيب لها وفق منظور الأولويات.

ومن هذا المدخل القارئ لماهية النهضة على مستوى الحاجات، يأتي رفضنا لكل تمذهب جاهز، يقولب فعل النهوض في استنساخ مرحلة ماضية، أو تقليد لنموذج مستورد.https://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/KEngine/imgs/top-page.gif

في المعنى الماهوي لسؤال النهوض
لكن رغم رفضنا للاختزال المذهبي والماهوي للسؤال، فإننا لا نطلقه من كل تحديد، بل إذا كنا في مستوى الحاجات ننظر إليه بوصفه سؤالا تاريخيا متحركا بسبب انشداده إلى ما هو لحظي، فإنه من جهة القيم سؤال نحتفظ بطابعه الماهوي.

لذا نقول إن النهضة توكيد للقيم المثالية التي تعد أفقا يتحرك تاريخ الوعي والفعل البشريين نحوهما. إنها توكيد لإنسانية الكائن الإنساني وكرامته، بوصفه كائنا واعيا وحرا وأخلاقيا.

وتأسيسا على هذه القيم الثلاث تتحدد ماهية النهضة كفعل اقتراب من هذا الأفق القيمي المثالي، وهو اقتراب دائم لا يتحقق ويكتمل في التجسيد الواقعي، بل يبقى أفقا متعاليا ليتم جذب الفعل الإنساني -سواء كفعل ذهني أو كسلوك اجتماعي– لمزيد من العطاء والاجتهاد.

فمن حيث الكينونة الواعية للإنسان يكون النهوض حركة وعي بالذات، وتوكيدا على القيم المميزة للكائن الإنساني، ككائن واع وحر وأخلاقي.

أما من حيث إن النهضة وعي بالذات، فتلك مقدمة لكل ذات تريد لنفسها أن تتحرك وتبعث قدراتها الذاتية، وتحفزها على الفعل. ونقصد بوعي الذات إدراك الشخصية الحضارية ومقوماتها، والعمل على تعميق الإحساس بالهوية، لكن مع الاحتراس من الوقوع في محاذير الانغلاق.

وتأسيسا على ذلك نقول إنه لا نهضة للعالم الإسلامي خارج شرط وعيه بذاته، أي خارج مقوماته الحضارية الذاتية.

كما أن النهضة من حيث التقييم المعياري تدل على حالة ارتقاء بالمجتمع الإنساني. ومن ثم نرى أن فعل الارتقاء هذا يستلزم تعميق القيم المميزة للإنسان، تلك التي اختزلناها سابقا في الوعي والحرية والأخلاق.

وبناء على ذلك نقول إنه من حيث كينونة الإنسان كذات واعية تأتي قيمة المعرفة، ومنها نؤكد أن لا نهضة للكائن الإنساني، فردا كان أو جماعة، بدون المعرفة، إذ هي محدد من محددات الإنسانية، وكلما انخفضت المعرفة انخفضت درجة ارتقاء الكائن البشري نحو إنسانيته.

ومن حيث كينونته كفاعل حر تأتي قيمة الحرية وما يرتبط بها من عدالة وانعتاق من الجبر الفكري والسياسي. ومن ثم فلا نهضة للفرد ولا للاجتماع الإنساني إلا بالتحرر من عائق الاستبداد بمدلوله الشامل، سواء كان استبدادا ثقافيا أو سياسيا أو اقتصاديا.

ومن ثم فكلما ازدادت أوهاق الاستبداد قلت قدرة الإنسان على الاجتهاد والإبداع. وكلما ازداد التنميط وسلب الحرية اقترب الكائن الإنساني من مملكة الضرورة، أي اقترب من الحيوانية، وانتفت عنه خاصية الفعل الحر المسؤول.

ومن حيث إن الإنسان كائن أخلاقي تأتي قيمة الفعل الإنساني، بوصفه فعلا مسؤولا أخلاقيا، وقابلا للمعايرة والحكم عليه قيميا. فالمحدد الأخلاقي يميز الفعل والوجود الإنساني عن الفعل الحيواني الخاضع لمنطق الضرورة الطبيعية. ومن ثم نرى أن لا نهضة إلا بتعميق هذا البعد المميز للكينونة الإنسانية.

ولذا فأنماط الاجتماع التي تفصل الفعل السياسي، والفعل العلمي، والفعل الفني.. عن القيم الأخلاقية، كما هو الحال في نمط الاجتماع الغربي اليوم، هي تعبير عن انحراف عن النهضة وإخلال بأحد شروطها.

وهذا ما ينبغي لنا أن نعيه من الوحي القرآني الكريم، الذي أكد الرسول الخاتم أن قصده الحضاري هو تتميم مكارم الأخلاق




الحداثيّون العرب مقلّـدون

كان أوْلى بدعاة الحداثة، وهم الذين يكرّرون مقولات التجديد، وينزعون نحو كسر النماذج الجاهزة -بحسب قولهم- أن يدركوا أنّ النهوض هو حصيلة فعل إبداعيّ ذاتيّ لا تقليد جاهزاً، وأن يسائلوا أنفسهم ابتداء عن حقيقة الحداثة الغربيّة ومدلولها، وعن الشروط التاريخيّة التي أنتجتها، وينتبهوا إلى الصيرورة التطوريّة التي لحقتها حتّى أدخلتها -في الواقع الغربيّ- داخل خناق أزمة فتحت أمام لحظة مراجعة نقديّة، وتأسيس فلسفيّ وثقافيّ لما بعد الحداثة؛ فالحداثة الأوروبيّة ليست كينونة جوهريّة معزولة عن سياق التاريخ بإحداثيّاته الزمانيّة والمكانيّة، بل هي نتاج صيرورة تاريخيّة تمتدّ بجذورها إلى قرون عديدة، ولذا لا يمكن فهم مشروع الحداثة الغربيّة إلا باستحضاره عبر جدله وتطّوره منذ تأسيسه الفلسفيّ مع ديكارت، وتقعيده المفهوميّ السياسيّ مع مونتيكسيو وروسو (أقصد مفهوم فصل السلطات، والعقد الاجتماعيّ)، مروراً بلحظة المراجعة النقديّة لأداته الإبستمولوجيّة (العقل) مع كانت، وانتهاء بالثورة عليه مع فلسفة ما بعد الحداثة لدى نيتشه وفرويد وهيدغر.

إنّ مقاربة مشروع الحداثة كفكرة مفصولة عن حقل التاريخ إخلال بمنهج الفهم، وعطالة في الوعي التاريخيّ، وتغييب لآليّاته، وهو ما يسقط الفكر الحداثيّ العربيّ في مزلق التقليد والمناداة باستنساخ النموذج الغربيّ، لأنّه يراه برؤية أفلاطونيّة، أي بوصفه نموذجاً مثاليّاً متعالياً عن شرط التاريخ وسياقه السوسيولوجيّ. لذا لا بدّ من إعمال الوعي التاريخيّ النقديّ، فهذا الوعي الغائب هو الشرط المنهجيّ الأوّل لفهم الحداثة بوصفها نبتة ذات جذور وبيئة خاصّة بها، وأتساءل: هل حقّق الفكر العربيّ بالفعل هذا الشرط المنهجيّ ولو في أدنى صوره؟ للأسف ليس ثمّة إنجاز فعليّ لهذا الشرط المنهجيّ؛ ويكفي دليلاً على ذلك أن نراجع المكتبة العربيّة، حيث سنفاجأ بكمّ هائل من المقالات والكتب التي تعرض لمنتجات العقل الغربيّ بحسّ الاندهاش والانبهار، مع تغييب الفكر النقديّ القادر على فهم التجربة الغربيّة وإدراك خصوصيّتها، ونقد مزالقها، والتأسيس لإمكانيّة الاعتبار بها والاستفادة الواعية منها لا تقليدها، ليس في مكتبتنا المعاصرة إلا كتب تقرّظ الغرب إن لم نقل تدعو إلى تبجيله، وما عندنا من بحوث تستلهم الحسّ النقديّ المطلوب، هي بسبب قلّتها دليل يحقّ أن يدرج ضمن الاستثناء المؤكّد للقاعدة.

إنّ ما ينقص الفكر العربيّ في قراءته لمشروع الحداثة الغربيّة هو الوعي التاريخيّ، فماذا أقصد بالوعي التاريخيّ؟ وما وجه ضرورته؟ وما ثمار تشغيله في قراءة الحداثة الغربيّة؟ نقصد بالوعي التاريخيّ ذاك الأسلوب في التفكير الذي يعامل الفكرة بوصفها نتاج لحظتها التاريخيّة، ومشروطة بأفق تلك اللحظة وأحلامها وإخفاقاتها. ولا نقصد بالمشروطيّة هنا ذاك المعنى الآليّ الذي يجعل علاقة الفكر بالواقع علاقة متبوع بتابع، أو علاقة معلول بعلّة، فتلك النظرة الفلسفيّة التي ترجع الفكرة إلى المادّة نظرة مختلة في طبيعة فهمها للفكر وللمادّة على حدّ سواء، فالفكر لا يتأثّر بالواقع فقط، بل يؤثّر فيه أيضاً، ويغيّره ويتجاوزه بطاقة التخييل والاستبصار، لكن مهما كانت هذه القدرة التجاوزيّة يظلّ الفكر في نشأته وتبلوره وصيرورة تطوّره متعلّقاً بشرطه التاريخيّ، ومستجيباً لهواجسه وأسئلته، الأمر الذي يبرّر بل يفرض معاملته وتحليله ضمن سياقه المجتمعيّ وصيرورته التاريخيّة، وفيما يخصّ الحداثة باعتبارها مشروعاً ثقافيّاً نحتاج إلى هذا الوعي التاريخيّ أشدّ الاحتياج، إذ به نتحرّر من النظرة الماهويّة الأفلاطونيّة للحداثة، بوصفها مقولات مثاليّة مفصولة عن سياقها التاريخيّ، وقابلة من ثمّ للتكرار في كلّ سياق مجتمعيّ مهما اختلفت الظروف والشروط، إضافة إلى هذا فإنّ الوعيّ التاريخيّ يعلّمنا أنّ كلّ مجتمع له خلفيّته التاريخيّة التي تعبّر عن خبرته وتراكمات تجاربه ومثله ورموزه، تلك الخلفيّة التي لا بدّ من وعيها واستثمارها في كلّ فعل يستهدف النهوض بالمجتمع، ودفق حوافز النموّ داخله. ومن ثمّ فإنّ الوعي التاريخيّ يدفعنا إلى إعادة قراءة الحداثة الغربيّة بوصفها نتاج واقع وتجربة تاريخيّة خاصّة، ومن هنا يغدو السؤال ضروريّاً حول الصيرورة التاريخيّة لمشروع الحداثة الغربيّة، أي نشأتها ولحظات تطوّرها.