لماذا يحاربون التنوير الإسلاميّ؟

تقوم القاعدة الأساسيّة لحركة نهضة الشعوب على تغيير طبيعة الأفكار التيّ تخلّقت في زمن التخلّف، والتيّ عملت السلطة على ترويجها وتثبيتها في المجتمع، كلّ مجتمع، عبر التاريخ الإنسانيّ، ومن ذلك، بل من أهمّها، إسقاط فكرة القيم، ومفاهيم العدالة الإنسانيّة التيّ تحتويها رسالة أيّ دين، وفيّ وحيّ القرآن الكريم، نصوص عن علاقة الفساد، وتغيير معالم الدين، بين السلطة والرهبنة الدينيّة، فالتزوير الدين ذاته هو أحد أهم مفاتيح قمع الشعوب، وتسخير الآلة الوعظيّة ضدّهم، وتبديل قيم الحقوق التيّ تضع الحكم تحت مساءلة الضمير الأخلاقيّ، بصورة مستمرّة، والمحاسبة الشعبيّة، التيّ وردت مواقفها متتالية في عهد المسلمين الراشد، هيّ من صلب الشريعة الإسلاميّة.

لذلك، كان الاستبداد العربيّ (والعثمانيّ) يلجأ إلى تشويه أيّ دعوة إصلاح، تعيد هذا المفهوم إلى حاضر العالم الإسلاميّ، عبر مشروع الالتفاف على شخصيّات (وحركة) الإصلاحيّين وتشويههم، وقد يتمّ تفويج الصراعات المذهبيّة، وإيجاد نموذج مذهبيّ أو فكريّ، ثمّ إطلاق الناس عليه، ضمن الخطّة نفسها، التي كانت تهدف في الأصل إلى خنق الفكر التحرّري، الذي يقود إلى نهضة الشعب، عبر شراكة شعبيّة فاعلة، لا يتحمّلها هذا الاستبداد.
أو تفويجاتٍ موسميّة، بعثها الغرب الاستعماريّ، مستثمراً ردّة الفعل، أو حتّى ضمن خلافات الفلسفتين، القديمة والحديثة، غير أنّ جزءاً كبيراً من بعض هذه الرؤى، كان بالإمكان أن يستوعب في الحوارات العلميّة والفكريّة، ويردّ عليه، وربّما انتهى مبكّراً، أو اعتبر ضمن مساحة الآراء التي يحويها العالم الإسلاميّ الواسع الأفق، في تجربته الاجتماعيّة، لكنّ المستبدّين لم يقبلوا ذلك، ولذلك يروّجون الصراع الفكريّ، ويشجّعون منابره، لا للجدل الحضاريّ للوصول إلى وعي الفكرة الإسلاميّة. 

فهل التنوير الإسلاميّ يحقّق تقدّماً اليوم، أم أنّه يتراجع في ظلّ انهيار الأوضاع في الوطن العربيّ، السياسيّة والاجتماعيّة، التي لا تلقي ظلالها على المشهد الثقافيّ وحسب، وإنّما تخنقه حتّى يصمت أو ينحاز لإطارها الأيديولوجيّ، أو مربّعات المستبدّين، وما أكثرها؟
ومع كثرة الجدل والتشويش المتعمّد، والتوظيف السياسيّ الضخم لمصطلح التنوير الإسلاميّ، فإنّ إعادة التذكير بمعالمه الكبرى من الضرورات اليوم، كما أنّ التنوير الإسلاميّ ذاته ضرورة قصوى لمعالجة خلل التخلّف، وتمكّن الاستبداد من حاضر العالم الإسلاميّ، وهو تخلّفٌ لم يعد مربوطاً بقواعد الجهل العام، بل قد تجد أكاديميّين وشيوخاً وأساتذة موجّهين، يمارسون الجهل والتجهيل في سؤال النهضة، فهم في أحيانٍ كثيرة، عائقٌ صلب يمنع فكر النهضة من التواصل، وتحقيق المرحلة الانتقاليّة التي يعتني بها لمرحلة زمن اليقظة، أي التهيئة لواقع ثقافيّ، يعي فيه الإسلاميّون، وغيرهم مساحة نقد ونقض العقود الماضيّة، وبناء الرصيف الذي نحتاجه نحن العرب، أو حاضر العالم الإسلاميّ.
لندخل إلى بناء النهضة المدنيّة التي عبرها تقوى دول الشرق المسلمة ومجتمعاتها، بل ويقوى خطاب الفكر الإسلاميّ المدنيّ أينما حلّ، بخاصّة في المهجر الغربيّ الحيويّ اليوم، في التناقل الثقافيّ والرسائل بين الغرب الذاتيّ والموزاييك الغربيّ لمواطنيه، حيث يمثّل المسلمون فيه شريحة تحت الأنظار، والتفاعل والاستهداف في الوقت نفسه.
هنا نحدّد معالم التنوير الإسلاميّ الذي يخوض معركتين مُرّتين شرستين: الأولى في تكسير صخر الجهل الذي بني باسم التديّن، وما تراكم عليه من أمراض سلوكيّة، وتخلّف أخلاقيّ، ارتدّت عن تعاليم الإسلام، وزاد تسعيرها جانبان سيئان: الأوّل: حاجات الناس تحت فقدان الضمان المعيشيّ، والأمن السياسيّ، الذي تحوّل إلى التمسّك بروح العزل لأيّ قدرة إبداع، عن أي موقع أو منصّة ثقافيّة، متاح لها أن تقدّم رؤية حواريّة للوعي العربيّ الجديد، خشية من تهديد مصالحها. الثاني: الاستقطاب السياسيّ الحاد بعد سقوط الربيع العربيّ، وقيام قاعدة شعبيّة جديدة مؤيّدة للربيع بمخزون إيديولوجيّ حادّ، وليس قناعة تفكيك فكريّة، يستبصرون بها خلل المواقف والبنية الثقافيّة القديمة لديهم، وعليه تزداد روح التكتّل والاحتقان، فيتيه المعنى في ظلّ الغضب الذي تحوّل بسبب الاستبداد والإخفاق الذاتيّ إلى نفس ضيّق حادّ، يكره أيّ دعوةٍ إلى التأنّي في سبيل صناعة الفكر الجديد، وكيف يفقه المسلم المعاصر رسالة الإسلام اليوم، ببعديها المدنيّ والروحيّ.
وهنا تبرز الأبعاد الثلاثة للتنوير الإسلاميّ:

أوّلاً: هو تنوير استراتيجيّ، وليس رفاهية، وهو يعتمد على فهم معالم الرسالة الإسلاميّة، وآثارها في نهضة الإنسان والعالم.

وأنّها الجسر بين القيم والحقوق والحياة المدنيّة التي يحتاجها كلّ إنسان، وليس الإنسان العلمانيّ وحده، بحسب التفكير الدينيّ المعاصر، وهو في الحقيقة تنوير للعالم، لا المسلمين وحسب. 

الثاني: أنّ (التنوير الإسلاميّ) الملامس للاستبداد العربيّ، ليس فكراً ولا منهجاً، ولا جسراً قيميّاً على الإطلاق، هو مجرّد لعبة شراكة دوليّة مع مصالح الاستبداد الغربيّ، ولفت النظر عن عدائه الفكر الإسلاميّ، أو معاركه مع المتديّنين، ليصبغها بديكورٍ مزيّف، قد يتورّط فيه بعض الصادقين، أو قد تكون شراكتهم ضمن الحديث الفكريّ الذي عبر على هذه المنصّة، وإن لم يؤيّد مشروعها. 

الثالث: أنّه مهما قيل من تشويه، أو هجوم على التنوير الإسلاميّ الأصيل، فهو في الحقيقة، يحمل سرّ القوّة والنهضة المدنيّة التي تؤسّس لأيّ فكر حقوقيّ وسياسيّ، وعلى الرغم من حملة الدعايات المزدوجة من المستبدّين الذين يعتقلون ويقمعون الإصلاحيّين التنويريّين، وحملة الدينيّين المتشدّدين، فإنّ رحى معركة التغيير الناجحة لا يمكن أن تتمّ من دون هذه المفاهيم التي ضحّى من أجلها علماء وقادة فلسفة ونهضة.
وهنا نقف اليوم عند الشمس المشرقة لأفق التنوير الإسلاميّ، وهي تلهّف الشباب من الجنسين وحرصهم، على معرفة هذا الكفاح، وأين يقف بهم الدرب المضيء، وكيف يُجمع شتات قلوبهم، ويحشدهم فكراً لا عاطفة مشحونة ضدّ بعضهم، ليشكّلوا معالم النهضة، ولو طال الطريق، بعد أن تهتف مهجهم: لقد وجدتُ الحقيقة.

المصدر العربيّ الجديد.