الجبريّة في العالم الإسلاميّ

بسم الله الرحمن الرحيم

من أسباب انهيار حضارتنا شيوع مبدأ الجبريّة بين الناس، فالمرء لا حول له ولا طَول، ولا قدرة ولا إرادة، وإنّما هو يحيا بتوجيه خفيّ، أو جليّ من مشيئة الله، التي تدفع به ذات اليمين أو ذات الشمال، والتي تهيّئ له حياة العسر، أو حياة اليسر برغمه.

وقد يذكر من باب التغطية أو الاعتذار عن الشرع (!) أنّ للإنسان كسباً أو اكتساباً، والحقيقة أنّه مسلوب الإرادة على حدّ قول الصوفيّ: ” أنا قلم، والاقتدار أصابع”!

وما يصنع القلم وحده؟ إنّه أداة وحسب، أو كما يقول الجبريّون أنفسهم في بيان حال الإنسان مع الأقدار الغالبة:

  • كريشة في مهبّ الريح حائرة .. لا تستقرّ على حال من القلق.

ولا يزال أغلب المسلمين إلى يومنا هذا يرون أنّ الطاعة والمعصية، والغنى والفقر، حظوظ مقسومة، وأنصبة مكتوبة، وأنّ المرء مسيّر، لا مخيّر.

ونشأ عن ذلك أنّ الشخصيّة الإسلاميّة اهتزّت، وسيطر عليها لون من التسليم والسلبيّة… والسبب في ذلك علم الكلام، والتصوّف، وبعض مفسّري القرآن وشرّاح السّنن.

إنّ التربية الصحيحة تقوم على حقائق واضحة، وعلى تقرير حاسم للمسؤوليّة الإنسانيّة، ولا يجدي في هذا المجال جدل ولا لعب بالألفاظ.

ومذهب الأشعريّ الذي اعتنقه جمهور المتأخّرين، يتحدّث عن المسؤوليّة الشخصيّة بأسلوب غامض، لا تتّضح معه عدالة التكليف حتّى قال الظرفاء فيه: أخفى من كسب الأشعريّ!

أمّا الصوفيّة.. فقد محقوا الإرادة البشريّة، وجعلوا الإنسان مشدوداً بخيوط إلهيّة إلى مصيره المجهول أو المعلوم..

وكذلك فعل بعض علماء التفسير والحديث، وهم يشرحون النصوص المتّصلة بالقدر، ولا بدّ من تخليص العقل الإسلاميّ من هذا القصور والتخبّط، بحيث يُقْبِل المسلم على الحياة وهو موقن بأنّه مكلّف بحسب استعدادات حرّة، وأنّ له قدرة وإرادة يملكان قدراً من الاستقلال، يُسال به عمّا يفعل، وأنّه لا جبر ولا افتيات ولا تمثيل في قصّة هذه الحياة التي نحياها..

• المسلمون وقانون السببيّة:

وينضمّ إلى شيوع مبدأ الجبر، ضعف الصلة أو انقطاعها بين الأسباب والمسبّبات، فعدد كبير من المربّين والموجّهين أشعروا الأمّة بأنّ النار قد توجد ولا يوجد الاحراق، وأنّ الماء قد يوجد ولا يوجد الريّ، وأنّ السكّين قد توجد ولا يوجد القطع.. وأنّ الواجبات العاديّة قد تتخلف، وأنّ قانون السببيّة – على الإجمال – غير ملزم ولا مطّرد..

وعلماء الكلام الذين مالوا إلى هذا الرأي، أرادوا الردّ على بعض الفلسفات الإغريقيّة التي تجعل الأسباب خالقة، وتنسب إلى الطبائع ما يقع هنا وهناك..

وكلام اليونان أنّ الطبيعة تخلق، وأنّ السبب – من ذاته – يفعل، كلام لا وزن له، ولا دليل عليه، بيد أنّ الردّ لا يكون بنفي ما أودع الله في الأشياء من خواصّ، وما ناطه بها من آثار، فإنّ الأسباب – بقدر الله فيها – تؤتي نتائجها حتماً، أمّا خوارق العادات فلها شأن آخر، وتعليلات فوق المعارف المعتادة، وهى إذا صدقت شذوذ يؤكّد القاعدة ولا يهدمها..

لكنّ المسلمين – خصوصاً في القرون المتأخّرة – جعلوا الدنيا لا تضبطها قاعدة، ولا يحكمها قانون، ومن المقبول عقلاً وشرعاً أن يتزوّج رجل في المشرق بامرأة في المغرب، وأن تلد منه على بعد الشقة، لأنّه قد يكون من أهل الخطوة!! أي ربّما انتقل من المحيط الهنديّ إلى الأطلسيّ في لحظة مّا من ليل أو نهار..!!

وهذا التصوّر المخبول لا ينضج معه علم، ولا يصحّ فيه بحث، ولا يملك أصحابه الأدوات التي يحقّقون بها نجاحاً عمليّاً في هذه الحياة.

والمقرّر في العلوم الكونيّة والتجريبيّة والإنسانيّة وغيرها أنّ قانون السببيّة محترم، وأنّ رفضه جنون.

والغريب أنّ كتابات دينيّة كثيرة جعلت “الولايّة” مقرونة بخرق العادة، ولمّا كان في كلّ قريّة شيخ مشهور بالصلاح، ولمّا كان لا يخلو زمان من هؤلاء الأشياخ العظام (!) ولمّا كان خرق العادة يقع منهم أحياء وأمواتاً، بطريقة تعتبر إنكارها جرماً، فإنّ سيلان الخوارق زحم العالم الإسلاميّ، وجعل قانون السببيّة لغواً…

وكان لذلك أثر محزن في انهيار حضارتنا، واختلال ثقافتنا…

وقد تدارك العلماء هذا العوج وألّفوا رسائل في دعم قانون السببيّة، وضرورة احترامه..

والشيء الذي نقف عنده قليلاً هو هوس بعض الكاتبين في إثبات الولايات وخوارقها، كأنّ الرسالة الإسلاميّة ما جاءت إلا لإثبات هذه القضيّة!!

والذي بدا لي أنّ هذا الهوس يرجع إلى التعلّق بغير الله تعالى، ودعاء المقبورين لعمل العجائب.

فإذا قلت: رجل مات، ما تنتظرون منه؟

قيل: إنّه – حيّاً أو ميّتاً – يفعل بقدر الله.. فالتعلّق به لا ينكر.

فإذا اعترضت، جاء الاتهام السريع: أتنكر كرامات الأولياء؟!

وأمّة يدور تفكيرها في هذه القوقعة، كان لا بدّ من أن تنهار أمام أعدائها.




رأي الشيخ الغزالي في تولي المرأة للحكم

من كتاب “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” للعالم الجليل الدكتور محمد الغزالي (1917-1996) في باب “المرأة والأسرة والوظائف العامة”.

أكره البيوت الخالية من رباتها! إن ربة البيت روح ينفث الهناءة والمودة في جنباته ويعين على تكوين إنسان سوي طيب.. وكل ما يشغل المرأة عن هذه الوظيفة يحتاج الى دراسة ومراجعة…

وإلى جانب هذه الحقيقة فإني أكره وأد البنت طفلة، ووأدها وهي ناضجة المواهب مرجوة الخير لأمتها وأهلها.. فكيف نوفق بين الأمرين؟.

لنتفق أولاً على أن احتقار الأنوثة جريمة، وكذلك دفعها إلى الطرق لإجابة الحيوان الرابض في دماء بعض الناس…

والدين الصحيح يأبى تقاليد أمم تحبس النساء، وتضيق عليهن الخناق وتضن عليهن بشتى الحقوق والواجبات، كما يأبى تقاليد أمم أخرى جعلت الأعراض كلأً مباحاً، وأهملت شرائع الله كلها عندما تركت الغرائز الدنيا تتنفس كيف تشاء…

يمكن أن تعمل المرأة داخل البيت وخارجه، بيد أن الضمانات مطلوبة لحفظ مستقبل الأسرة ومطلوب أيضاً توفير جو من التقى والعفاف تؤدي فيه المرأة ما قد تكلف به من عمل..

إذا كان هناك مائة ألف طبيب أو مائة ألف مدرس فلا بأس أن يكون نصف هذا العدد من النساء والمهم في المجتمع المسلم قيام الآداب التي أوصت بها الشريعة، وصانت بها حدود الله، فلا تبرج ولا خلاعة، ولا مكان لاختلاط ماجن هابط، ولا مكان لخلوة بأجنبي (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون»..(30«.

على أن الأساس الذي ينبغي أن نرتبط به أو نظل قريبين منه هو البيت، إني أشعر بقلق من ترك الأولاد للخدم أو حتى لدور الحضانة.

إن أنفاس الأم عميقة الآثار في إنضاج الفضائل وحماية النشء.

ويجب أن نبحث عن ألف وسيلة لتقريب المرأة من وظيفتها الأولى وهذا ميسور لو فهمنا الدين على وجهه الصحيح، وتركنا الانحراف والغلو..

أعرف أمهات فاضلات مديرات لمدارس ناجحة، وأعرف طبيبات ماهرات شرفن أسرهن ووظائفهن وكان التدين الصحيح من وراء هذا كله..

وقد لاحظت أن المرأة اليهودية شاركت في الهزيمة المخزية التي نزلت بنا وأقامت دولة إسرائيل على أشلائنا، إنها أدت خدمات اجتماعية وعسكرية لدينها.

كما أن امرأة يهودية هي التي قادت قومها، وأذلت نفراً من الساسة العرب لهم لحىً وشوارب في حرب الأيام الستة وفي حروب تالية..!

وقد لاحظت في الشمال الإفريقي وأقطار أخرى أن الراهبات وسيدات متزوجات وغير متزوجات يخدمن التنصير بحماس واستبسال!.

ولعلنا لا ننسى الطبيبة التي بقيت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وهي تهدم على رؤوس أصحابها وتحملت أكل الموتى من الحيوانات والجثث، ثم خرجت ببعض الأطفال العرب آخر الحصار لتستكمل معالجة عللهم في إنجلترا..

إن هناك نشاطاً نسائياً عالمياً في ساحات شريفة رحبة لا يجوز أن ننساه لما يقع في ساحات أخرى من تبذل وإسفاف.

وقد ذكرني الجهاد الديني والاجتماعي الذي تقوم النساء غير المسلمات به في أرضنا أو وراء حدودنا، بالجهاد الكبير الذي قامت به نساء السلف الأول في نصرة الإسلام.

لقد تحملن غربة الدين بشجاعة، وهاجرن وآوين عندما رضت الهجرة والإيواء، وأقمن الصلوات رائحات غاديات إلى المسجد النبوي سنين عدداً، وعندما احتاج الأمر إلى القتال قاتلن.

وقبل ذلك أسدين خدمات طبية ـ أعنَّ في المهام التي يحتاج اليها الجيش ـ.

وقد ساء وضع المرأة في القرون الأخيرة، وفرضت عليها الأمية والتخلف الإنساني العام…

بل إنني أشعر بأن أحكاماً قرآنية ثابتة أهملت كل الإهمال لأنها تتصل بمصلحة المرأة، منها أنه قلما نالت امرأة ميراثها، وقلما استشيرت في زواجها!.

وبين كل مائة ألف طلاق يمكن أن يقع تمتيع مطلقة.. أما قوله تعالى «وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين»(31) فهو كلام للتلاوة..

والتطويح بالزوجة لنزوة طارئة أمر عادي، أما قوله تعالى «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها…»(32) فحبر على ورق..

المرأة أنزل رتبة وأقل قيمة من أن ينعقد لأجلها مجلس صلح! إن الريبة في طردها لا يجوز أن تقاوم..!!

وقد نددت في مكان آخر بأن خطيئة الرجل تغتفر أما خطأ المرأة فدمها ثمن له!!.

وقد استغل الاستعمار العالمي في غارته الأخيرة علينا هذا الاعوجاج المنكور، وشن على تعاليم الإسلام حرباً ضارية! كأن الإسلام المظلوم هو المسئول عن الفوضى الضاربة بين أتباعه..

والذي يثير الدهشة أن مدافعين عن الإسلام أو متحدثين باسمه وقفوا محامين عن هذه الفوضى الموروثة، لأنهم ـ بغباوة رائعة ـ ظنوا أن الإسلام هو هذه الفوضى! والجنون فنون والجهالة فنون!! إن الأعمدة التي تقوم عليها العلاقات بين الرجال والنساء تبرز في قوله تعالى: «لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض»(33) وقوله: «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»(34) وقول الرسول الكريم: «النساء شقائق الرجال«.

وهناك أمور لم يجئ في الدين أمر بها أو نهي عنها، فصارت من قبيل العفو الذي سكت الشارع عنه ليتيح لنا حرية التصرف فيه سلباً وإيجاباً. وليس لأحد أن يجعل رأيه هنا دينا، فهو رأي وحسب!. ولعل ذلك سر قول ابن حزم. إن الإسلام لم يحظر على امرأة تولي منصب ما، حاشا الخلافة العظمى!.

وسمعت من رد كلام ابن حزم: بأنه مخالف لقوله تعالى: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم…»(35) فالآية تفيد ـ في فهمه ـ أنه لا يجوز أن تكون المرأة رئيسة رجل في أي عمل! وهذا رد مرفوض والذي يقرأ بقية الآية الكريمة يدرك أن القوامة المذكورة هي للرجل في بيته، وداخل أسرته..

وعندما ولي عمر قضاء الحسبة في سوق المدينة للشفاء، كانت حقوقها مطلقة على أهل السوق رجالاً ونساء، تحل الحلال وتحرم الحرام وتقيم العدالة وتمنع المخالفات…

وإذا كانت للرجل زوجة طبيبة في مستشفى فلا دخل له في عملها الفني، ولا سلطان له على وظيفتها في مستشفاها..

قد يقال: كلام ابن حزم منقوض بالحديث «خاب قوم ولوا أمرهم امرأة..«

وجعل أمور المسلمين إلى النساء يعرض الأمة للخيبة فينبغي ألا تسند إليهن وظيفة كبيرة ولا صغيرة…

وابن حزم يرى الحديث مقصوراً على رياسة الدولة، أما ما دون ذلك فلا علاقة للحديث به…

ونحب أن نلقي نظرة أعمق على الحديث الوارد، ولسنا من عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات! إننا نعشق شيئاً واحداً، أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان في الأمة… وقد تأملت في الحديث المروي في الموضوع، مع أنه صحيح سنداً ومتناً، ولكن ما معناه؟.

عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكية مستبدة مشئومة. الدين وثني! والأسرة المالكة لا تعرف شورى، ولا تحترم رأياً مخالفاً، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء، قد يقتل الرجل أباه أو إخوته في سبيل مآربه، والشعب خانع منقاد.. وكان في الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية أمام الرومان الذين أحرزوا نصراً مبيناً بعد هزيمة كبرى وأخذت مساحة الدولة تتقلص أن يتولى الأمر قائد عسكري يوقف سيل الهزائم لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثاً لفتاة لا تدري شيئاً، فكان ذلك إيذاناً بأن الدولة كلها إلى ذهاب..

في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفاً للأوضاع كلها..

ولو أن الأمر في فارس شورى، وكانت المرأة الحاكمة تشبه «جولدا مائير» اليهودية التي حكمت إسرائيل واستبقت دفة الشؤون العسكرية في أيدي قادتها لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة..

ولك أن تسأل: ماذا تعني؟ وأجيب: بأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قرأ على الناس في مكة سورة النمل، وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الإيمان والفلاح بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي!.

كانت بقليس ذات ملك عريض، وصفه الهدهد بقوله: «إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم»(36)، وقد دعاها سليمان إلى الإسلام، ونهاها عن الاستكبار والعناد، فلما تلقت كتابه، تروت في الرد عليه، واستشارت رجال الدولة الذين سارعوا إلى مساندتها في أي قرار تتخذه، قائلين «نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين»؟(37)، ولم تغتر المرأة الواعية بقوتها ولا بطاعة قومها لها، بل قالت: نختبر سليمان هذا لنتعرف أهو جبار من طلاب السطوة والثروة أم هو نبي صاحب إيمان ودعوة؟، ولما التقت بسليمان بقيت على ذكائها واستنارة حكمها تدرس أحواله وما يريد وما يفعل، فاستبان لها أنه نبي صالح، وتذكرت الكتاب الذي أرسله إليها: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين»(38) (ثم قررت طرح وثنيتها الأولى والدخول في دين الله قائلة: «رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين«)(39).

هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس؟ إن هذه المرأة أشرف من الرجل الذي دعته ثمود لقتل الناقة ومراغمة نبيهم صالح «فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر»(40).

ومرة أخرى أؤكد أني لست من هواة تولية النساء المناصب الضخمة، فإن الكملة من النساء قلائل، وتكاد المصادفات هي التي تكشفهن، وكل ما أبغي، هو تفسير حديث، ورد في الكتب، ومنع التناقض بين الكتاب وبعض الآثار الواردة، أو التي تفهم على غير وجهها! ثم منع التناقض بين الحديث والواقع التاريخي.

إن إنجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة «فيكتوريا» وهي الآن بقيادة ملكة ورئيسة وزراء، وتعد في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي، فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟.

وقد تحدثت في مكان آخر عن الضربات القاصمة التي أصابت المسلمين في القارة الهندية على يدي «أنديرا غاندي» وكيف شطرت الكيان الإسلامي شطرين فحققت لقومها ما يصبون!. على حين عاد المرشال، يحيى خان يجرر أذيال الخيبة!!.

أما مصائب العرب التي لحقت بهم يوم قادت «جولدا مائير» قومها فحدث ولا حرج، قد نحتاج إلى جيل آخر لمحوها! إن القصة ليست قصة أنوثة وذكورة! إنها قصة أخلاق ومواهب نفسية..

لقد أجرت انيرا انتخابات لترى أيختارها قومها للحكم أم لا؟ وسقطت في الانتخابات التي أجرتها بنفسها! ثم عاد قومها فاختاروها من تلقاء أنفسهم دون شائبة إكراه!.

أما المسلمون فكأنهم متخصصون في تزوير الانتخابات للفوز بالحكم ومغانمه برغم أنوف الجماهير.

أي الفريقين أولى برعاية الله وتأييده والاستخلاف في أرضه؟ ولماذا لا نذكر قول ابن تيمية: إن الله قد ينصر الدولة الكافرة ـ بعدلها ـ على الدولة المسلمة بما يقع فيها من مظالم؟.

ما دخل الذكورة والأنوثة هنا؟ امرأة ذات دين خير من ذي لحية كفور!!

والمسلمون الآن نحو خمس العالم، فكيف يعرضون دينهم على سائر الناس!

ليتهموا قبل أي شيء بأركان دينهم وعزائمه وغاياته العظمى! أما ما سكت الإسلام عنه فليس لهم أن يلزموا الناس فيه بشيء قد ألفوه هم أنفسهم من قبل!!.

إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب!.

والأمم تلتقي عند الشئون المهمة! هل أن الإنكليز يلزمون الجانب الأيسر من الطريق على عكس غيرهم من أهل أوروبا، إن ذلك لا تأثير له في حلف الأطلسي ولا في دستور الأسرة الأوروبية!.

وإذا كان الفقهاء المسلمون قد اختلفت وجهات نظرهم في تقرير حكم ما، فإنه يجب أن نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم..

والمرأة في أوربا تباشر زواجها بنفسها، ولها شخصيتها التي لا تتنازل عنها، وليست مهمتنا أن نفرض على الأوربيين مع أركان الإسلام رأي مالك أو ابن حنبل إذا كان رأي أبي حنيفة (41) أقرب إلى مشاربهم فإن هذا تنطع أو صد عن سبيل الله..

وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة أو سفيرة، فلهم ماشاءوا، ولدينا وجهات نظر فقهية تجيز ذلك كله، فلم الإكراه على رأي ما؟.

إن من لا فقه لهم يجب أن يغلقوا أفواههم لئلا يسيئوا إلى الإسلام بحديث لم يفهموه أو فهموه وإن ظاهر القرآن ضده…




التفريق بين الحكمة والميزان عند الشيخ: محمّد الغزاليّ.

أشرت إلى أمرين في بعض كتبي:

 الأمر الأوّل: ما يسمىّ بالحكمة.

والأمر الثاني ما نسمّيه بالميزان.

مستهدياً بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) الشورى.

 لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد.

 ما هو الميزان؟ 

الحكمة وردت في القرآن في نحو من عشرين موضعاً تقريباً، مفردة أو مع الكتاب: `الكتاب والحكمة`.. من قال: إنّ الحكمة هي السنّة النبويّة، فهو مخطئ.. لأنّك تقرأ قوله تعالى: 

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) آل عمران 

كيف تكون الحكمة هنا هي السنّة النبويّة؟ والكلام هنا يقصد به عيسى بن مريم

عليه السلام.

وفي قوله عن لقمان عليه السلام “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) لقمان. 

وقال تعالى: ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39) الإسراء. 

وقال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54) النساء. 

ففي نحو عشرة مواضع في القرآن، لا يمكن أن تكو ن الحكمة هي السنّة النبويّة. بل هي ما يستفاد من التعاليم القرآنيّة، أي وضع الأمر في موضعه. 

وهنا أقول: إنّ الميزان هو الناحية العمليّة، والحكمة هي الناحية النظريّة في ذلك.

مجموعة الآيات التي وردت فيها الحكمة والميزان، تعطينا منهجاً أنّ الأمّة لابدّ أن يكون لها من الرؤية القرآنيّة التي تستنبطها أو تستدركها من مجموع الآيات سياسة قرآنيّة: 

كيف تُحكم الشعب؟، وكيف تنزلها على واقع الناس؟ أي كيف ينزل الفكر القرآنيّ على واقع عملي؟ قد يرى الإنسان أن كلمة `ميزان ` تعنى فيما تعنى تنزيل الأمر على واقع الناس… فالكتاب هو القيم والمبادئ الموحى بها، والميزان هو التجسيد العمليّ، أو الواقع التنفيذيّ البرامجيّ لهذه القيم والمبادئ. نعم. لأنّ الميزان لا يمكن أن يكون معنى حسّيّاً فقط.

والتوازن الاجتماعيّ فيه المعنى نفسه…. فلابدّ من الميزان. والميزان هنا يشترك فيه الأخلاقيّون والقانونيّون، وتشترك فيه شؤون ماديّة ومعنويّة. 

الذي ألفت النظر إليه: أنّ الربط الذي يراه أحدنا في تفسير آية، أو استنباط حكم، هو اجتهاد. 

لا يوجد إمام من الأئمّة الكبا ر في فقهنا ألزم الناس باجتهاده. 

بل كلام أبي حنيفة واضح: كلامنا هذا رأي، من كان عند ه خير منه فليأت به.. و(مالك) كان يرفض أن يعتبر رأيه ديناً، بل معروف من حكمة الرجل أنّه رفض -وهو صاحب الموطّأ- أن يفرضه على الناس، لأنّه قد تبدو للناس علوم أو معارف أخرى، وهذا من صميم ديننا الإسلاميّ، والذي يلزم الناس بأنّ ما عنده هو الدِّين فهو إمّا جاهل أو قاصر أو مريض مصاب بجنون العظمة، أو به شيء يحاسب عليه، أو يجب إصلاحه. فجعل الاجتهادات ديناً، لا… إنّما المهمّ أنّه لابدّ من إعمال النظر في تنزيل القرآن، على واقع عمليّ، وإذا لم يكن هذا هو الاجتهاد، فما هو الاجتهاد الذي نريده؟ وأنا في رأيي الآن أنّ أفضل شيء للأمّة أن يكون الاجتهاد جماعيّاً. 

ولا أزال أدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد في العبادات؛ يكفينا في أمور العبادات ما ورثناه من أقوال في الصلاة والحجّ والصيام وما إلى ذلك، ويكو ن الاجتهاد بعد هذا في المعاملات الدوليّة، والمعاملات الاجتماعيّة والإداريّة وغيرها.

القرآن كتاب مفتوح، يقول تعالى: 

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) آل عمران 

 لكن يبقى المطلوب: كيف نعيش بهذ ا الإيمان؟ فلننقل منطق الإيمان إلى كلّ شيء، ومنطق الإيمان منطق واسع، له مواصفات في العادة… وليس له شكل معيّن عمليّاً وإنّما أوصاف معيّنة، وهذا ما يمكن أن نسميه ” القيم “ .

فالقرآن الكريم جاء بقيم تحدّد المسارات العامّة، أو قواعد أو مبادئ عامّة، ولم يجئ ببرامج إلا في القضايا التي لا تتطوّر ولا تختلف فيها الفهوم، كما أنّها لا تختلف من زما ن إلى زمان، ومن بيئة إلى أخرى، ومن طبيعتها أن تكون توقيفيّة.

 نعم، ما عدا هذه القضايا فهو متروك للزمن ومتروك للناس.

كأنّي أرى الخلاصة في هذا: 

أنّ الأصل أن تبقى القيم القرآنيّة هي الضابطة لمسيرة الحياة في إطار عريض، وأنّ الحركة والاجتهاد ضمن إطار القيم هو متروك لاجتهادات الناس بحسب ظروفهم ومشكلاتهم التي تتبدّل بحسب الزما ن والمكان. 

المهمّ ألّا تخرج الاجتهادات عن الإطار الذي رسمه القرآن، وفى ذلك متّسع للزمان والمكان بمقتضى الخلود والخاتميّة.

قلت في بعض كتبي: إنّ هناك وسائل ثابتة……. فإذا قيل إنّ الصلاة لابدّ لها من وضوء، يبقى الوضوء وسيلة محدّدة، لكنّ الأمّة محتاجة للجهاد.

 كان رباط الخيل يوماً ما هو وسيلة الجهاد، وانْبَنَى على ذلك أنّ الفارس يأخذ ضعفين، أو ثلاثة أضعاف -على اختلاف المذاهب- ما يأخذه الراجل، وأقيمت الأوقاف في رباط الخيل. 

و الآن لا يمكن الأخذ بهذا الاجتهاد، لأنّ رباط الخيل انتهى من عمليّة الجهاد.. هناك إمكانا ت أخرى هي: الدبّابات والمدرّعات وغيرها. الوسائل تختلف ليس فقط في الجهاد وإنّما في العدالة أيضاً… 

العدالة قيمة لابدّ أن تضبط الأمور بميزان العدل.. الآن، قد يمكن أن أجعل

محاكم عسكريّة، ومحاكم للقاصرين، ومحاكم للأحداث، وأجعل المحاكم في الوقت نفسه درجات: محاكم ابتدائيّة، ومحاكم استئناف، ونقض وإبرام وتمييز… كلّ ما يعين على تحقيق العدالة، أجتهد فيه كيف أشاء، كذلك التعليم، فكونك تقيم معاهد ومدارس لها مواصفات معيّنة لتعليم الأمّة كلّها، أو تجري إحصاء عامّاً للأمّة كلّها بحسب سنيّ العمر، كي تتعرّف على أعداد الطلاب الذين لابدّ أن تفتح لهم مدارس، فهذه كلّها مسائل حضاريّة لابدّ منها، وهي تدخل في إطار ما عندنا من قيم، وهي جزء من الحكمة والميزان الذي أشار إليهما القرآن الكريم، ولابدّ منها لبناء المجتمع… القيم تضبط، والقيم صفات، لا برامج وأعمال…

وليست لباساً معيّنا، فمثلاً: الإسلام يقول للمسلم: البس اللباس الساتر للعورة الذي لا يشتمّ من لابسه الكبر والخيلاء؛ لكنه لا يقول: يجب أن يكون هذا اللباس: جلابيّة، أو جبّة، أو غيرها، وإنّما يترك له التصرّف؛ فهناك مواصفات وضعها الإسلام للحياة الاجتماعيّة…

وقد تحدّث فيها القرآن باستفاضة دون نصوص خاصّة، أو برامج خاصّة لذلك…. يمكن أن تتدخّل الحكمة هنا لينشئ الناس قوانين تفي بالمطلوب للأمّة، ولذلك، أنا ممّن يرون أن تكثر الاجتهادات ضمن الصورة الإسلاميّة؛ فمثلاً: الإمام أبو حنيفة يجتهد في أن تعطى المرأة حقّ أن تعقد على نفسها، وغيره من المجتهدين يرى غير ذلك، وأن تعطى الحقّ في أن تخالع زوجها، ويحكم القاضي بالحكم المناسب، وأن تعتلى القضاء… هذه برامج واجتهادات… ومن هنا أنا اخترت ترجيح مذهب المالكيّة في أن تقسيم الغنائم ليس تقسيماً ملزماً.

أي أنّ التخميس هو صورة ممّا يمكن أن تقسّم به الغنائم، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يلتزمه عندما وزّع غنائم هوازن وثقيف، فقد حرم بعض الصحابة `الأنصار`، ورأيت أنّ هذا ما صنعه عمر رضي الله عنه عندما رفض أن تقسّم الأرض المفتوحة، وفرض عليها الضرائب، وأعطى الفاتحين أنصبة، أو مرتّبات، من هذه الأرض المفتوحة. 

وهكذا تجد أنّ الإسلام ليس مجموعة صور محدّدة ومعيّنة للنظام، وليس هو

قوالب ثابتة، وإنّما هو قيم ثابتة، على ضوئها ننتقي الشكليّات، أي نشكّل ما نريد.. 

وإدارة شؤون الدنيا أعطانا الإسلام فيها فسحة: “أنتم أعلم بأمور دنياكم ” (مسلم) .. أي أنتم أعلم بالتنظيمات الدنيويّة…. والمهمّ أن تكون هذه التنظيمات ضمن سياج محكم من القيم والقواعد الموجودة في القرآن والسنّة.

الشيخ محمد الغزاليّ – من كتاب: كيف نتعامل مع القرآن الكريم. صفحة 103- 106