النقد الخالد

يعتبر النقد من أهمّ الأدوات التي تتقدّم بها الأمم، وترتقي بها الحضارات، فهو أداة تقويم وتوجيه وتصحيح مسار، وكلّما ارتفع وعينا بأهميّته، واتّسعت صدورنا له، كلّما كان ذلك مؤذناً بحلول نهضتنا واستعادة حضارتنا، والنقد هنا نعني به التحليل الموضوعيّ للسلبيّات والإيجابيّات والبحث في الجذور والأسس المنتجة للمشاكل، وربّما اكتشاف الحلول والمسارات البديلة … بحيث توضع أمام ناظري أصحاب المشاريع والمؤسّسات والمبادرات ليستفيدوا منها ويتطوّروا في ضوئها.. وربّما كان هذا الكلام مفهوماً ومقبولاً.. لكن.. ترى هل يمكن أن يكون هناك نقد لا يشتمل على ذكر السلبيّات والإيجابيات معاً؟ أي يركّز فقط على السلبيّات؟ وهل من المقبول أن يكون هذا النقد علناً أمام الملأ؟.

لقد رأيت في قرآننا نوعاً نقديّاً يتفاعل مع الأحداث، ولا يستحي من إبراز هذا النقد على الملأ، وفي هذا السياق لن أتحدّث عن نقد القرآن للصحابة، بل سأتناول ما هو أهمّ، نقد القرآن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذلك النقد الذي اتّسم بسمتين أساسيّتين:

أمّا السمة الأولى فهي حديث ينقد بعض الممارسات اتجاه وقائع بعينها، دون أن يثني بالضرورة في نفس الآيات على مكرمات الرسول صلّى الله عليه وسلّم في السياق ذاته.

والسمة الثانية أنّه نقد علنيّ، يمكن أن نسميه: النقد الخالد. لأنّه خُلّد إلى يوم القيامة رغم انتهاء الحدث.

فإذا تتبعنا بعض الآيات القرآنية التي وجّه فيها الله سبحانه وتعالى نبيّه توجيهاً نقديّاً لوجدنا أنّ موقفنا من النقد يتطلّب إعادة نظر، فها هو الله تعالى يخاطب نبيّه قائلاً في قرآن يتلى على مسامع الدنيا مسلمها وكافرها:

“يأيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك. تبتغي مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم” {التحريم: 1}، إنّها في عرف اليوم “قضيّة رأي عامّ”، ربّما يجد الكفّار منها ثغرة للنيل من المصطفى، لكنّ القرآن الكريم يؤسّس لمشروع النقد الذي كان يجب أن يستمرّ، فلا يستثني كبيراً أو صغيراً.

وإذا عشنا مع مشاعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ووضعنا أنفسنا مكانه، لنتخيّل شعورنا تجاه هذه الآيات لوجدنا عجباً، فهذا ليس تأنيباً في جريدة لا تلبث أن يخبو صيتها، بل هي آيات نقديّة، تتلى إلى قيام الساعة رغم انتهاء المواقف، لقد كان بالإمكان أن يوحي الله تعالى إلى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم هذا النقد بغير طريق القرآن، أن يُسرّ إليه به بدلاً من أن يتلى إلى قيام الساعة، وكان من الممكن بعد عتاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر الله تعالى مكرماته، حتّى لا يستغلّ الكفّار النقد للنفاذ إلى شخصه الكريم والنيل منه، لكنّها جرعة نقدية مركزة، يذوب تأثيرها إن اقترنت بمديح.

وإذا رأينا نموذجاً آخر من النقد الخالد وهو قول الله تعالى: “وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه”{الأحزاب: 37} أيّ نقد هذا؟ وأيّة عظمة تلك في ذلك الدين العليّ، الذي يؤسّس فلسفة النقد.

ربّما لو كنّا مكان الرسول لقلنا: ما جدوى استمرار الآيات! رغم انتهاء الأحداث، ما جدوى أن يردّد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها “عبس وتولّى”، بل ولأن تسمّى السورة “عبس”، ترى كيف ستكون نفسيّتنا؟!.. كنّا سنقول لقد انتهى الحدث، ولا داعي لاستمرار التذكير به، على هذا النحو، والنصيحة لا يجب أن تكون على الملأ.

إنّنا يجب أن نميّز بين نقد الأشخاص بعيداً عن شخصيّتهم الاعتبارية، وهذا يفضّل أن يكون في الإسرار، وبين نقد الشخصيّات باعتبارها قيادات، وهذا يسعه أن يكون في العلن، فالنقد موجّه للشخص باعتباره قائداً، ويمكن القول إنّ نقد الأفعال والأقوال مطلوب، بينما نقد الأعيان يجب التحرّز منه. فشتّان بين نقد القول والفعل العلنيّ، بخاصّة فيما هو من قضايا رأي عام، وبين الفضاء الشخصيّ الذي يحسن ان يكون شخصيّاً وخاصّاً …إنّ هذا النقد العلنيّ الخالد للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام شاهد على عظمة هذا الدين، الذي يرسّخ مفهوم النقد ولو كان موجهاً لخير أهل الأرض، وممّن؟ من ربّ السموات العلا، ويوم يُحْيي المسلمون بذور النقد العلميّ، ونظريّة النقد المنهجيّ يكونون قد أحيَوْا تلك الإشارات القرآنية من ربّ العزّة الموجهة للمبدأ الذي هو أهمّ مقوّمات الحضارة الانسانيّة.

إنّنا حين ننظر للنقد في القرآن نجده شاملاً للبشر… للمسلم والكافر وللصالح والطالح…ونجده شاملاً للزمان، ينقد ما مضى من الأحداث ويعقّب عليها، وينقد ما هو قائم، ويحذر ممّا سيكون … إنّ مطلب القرآن النقديّ ومنهجه واضح، فهل استفاد منه المسلمون وحوّلوه إجرائيّاً؟ أم التفّوا عليه وحوّروه هرباً من استحقاقاته؟

انتهى.