تجريم الاستبداد

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستبداد منظومة متراكمة من السعي للسلطة عن طريق التغلّب، وإدارتها بطريقة التفرّد والاستحواذ، وقمع المخالف، والتنكيل به، والخوض في المقدّرات العامّة، مع التخطيط لتوريث هذه المنظومة للقريب والشبيه، في إصرار على خنق روح المساءلة والمحاسبة، وتعويم الفساد.

#حسن_الدغيم

الاستبداد لا يحتاج لشيطنة، لأنّه الشيطان نفسه، فما من فتنةٍ إلا قرع على طبولها، وما من رذيلةٍ إلا نفخ في مزاميرها، وهو الشجرة الخبيثة الحاوية بين أخاديد جذعها، صنوف الحيّات والعقارب، لتلدغ المستظلّين بظلٍّ من يحموم، لا بارد ولا آمن ولا كريم. 

#حسن_الدغيم

إنّ الجهد الفكريّ مطلوب بذله بإلحاح، لتجريم الاستبداد، وفضح منظوماته، وذلك للوصول إلى اعتبار الاستبداد -عند مختلف الشعوب- جريمة ً سياسيّة تستهدف الشرعيّة، وجريمة دينيّة تستهدف الشريعة، وجريمةً أخلاقيّة تستهدف قيم الحضارة والتقدّم، ويصير المستبدّ -أينما كان- عارياً من ثياب الخداع. #حسن_الدغيم

يجب الانتباه في أثناء مواجهة الاستبداد إلى أنّ هذا الداء يقبل التوارث بين الفاسدين، ولا يتأثّر باختلاف هويّاتهم، لأنّه مع قمع الرقيب، وتزييف الوعي يستطيع المستبدّ التغرير بأتباعه، وإيهامهم بأنّ وجوده مرتبط بمصلحتهم الدنيويّة والدينيّة، بل وبأنّه الأقدر على حراسة دينهم ودنياهم.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عدوان على مبادئ الدّين، فهو النسف العمليّ لمبدأ الشورى، فالشورى في أبسط صورها تضمن أن يعطي الناس رأيهم فيمن يحكمهم، ويرعى مصالحهم، وفيما يشاور الناس إن لم يؤخذ رأيهم في معقد القرار السياسيّ والعسكريّ والاجتماعيّ، وصورة الدولة ورمزها.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عدوان على تعاليم الرسل والنبوّات، ومادعت إليه من ردّ أمور الأمّة لقرارها (وأمرهم شورى بينهم)، ووجوب حفظ الأمانة بتولية القويّ الأمين: (إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين) وكيف تصحّ المشاورة (وشاورهم في الأمر) مع حاكم يبطش بالأرواح ويكتم الأنفاس.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على مقاصد الشريعة، وكليّات الملّة، لأنّه ميدان التفريط بكلّ فضيلة، وجالب كلّ دسيسة، وهو بعكس مقاصد التشريع القائمة على جلب المنافع ودرء المفاسد، فلا حياة للنفس مع حاكم لا حسيب عليه ولا حريّة ولا فكر، ولا مالٍ مأمون عليهِ، ولا عرض ٍ مصون.

#حسن _الدغيم 

الاستبداد عدوان على مكارم الأخلاق، ومنارات التقدّم والرفاه، فهو يقرب الفاسد الموالي، ويبعد الناقد الصادق، بل يستهدف حياتهم ويشيطنهم ليتفرّد بفضاء الآخرين، مع كهنته وسحرته، فيسود النفاق، وتشرعن التقيّة، ويكتم الشفوق رأيه في صدره، مخافة السيف والنطع.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على العلم، لأنّه لا يرى تشجيع العلوم، إلا تلك التي تزيد من تحكّمه بمصائر الشعوب، وزيادة حجم ترسانته العسكريّة، في الوقت الذي يسعى لتطويق العلوم والمعارف التي من شأنها تحصين الوعي، وتوسيع المدارك، وذلك خوفاً من أن تنكشف أوراقه وأباطيله.

#حسن_الدغيم

الاستبداد عائق لحركة الفكر، لأنّ الفكر ينمو بالتقادح والتمازج، وفي الوقت الذي يقف فيه الاستبداد حائطاً صلداً ضدّ هذا التموّج، فإنّه يرسّخ للانطوائيّة والانغلاق، ويدجّن شعوباً عريضة كالقطعان السادرة، تآكلت إنسانيّتها، وقاربت العجماوات في جمودها. 

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عدوان على العقل محطِّ التكريم الإلهيّ، لأنّ المستبد يرى نفسه صاحب الأوليّة الحصريّة على العقول، فهو المؤمن والحريص الأعلم والأفضل، ولأنّه ليس بذاك.. فهو يعمد على طمس عقول غيره، بالترهيب والنكال والتشويه، حتّى يتفرّد أمام المنخدعين بسطوته، ويظهر لهم كحكيمٍ وقور.

#حسن_الدغيم 

الاستبداد عارٍ من كلّ فضيلة، لا يستطيع أن يغطّيَ شينه بمنجزات الوهم، أو الأمن المزعوم، ولذلك يلجأ لبعض الأقلام والعمائم التي تطيعه، وتسبّح بحمده، ويخلع عليهم من مال الرعيّة ما يشتري به ضمائرهم، وأمّا أولئك الذين لا يخشونه فلهم سياط القهر، وظلمات السجون.

#حسن_الدغيم

لا يورطنّ أحدٌ نفسه بشرعنة الاستبداد، بذريعة وجود مستبدّين عادلين مرّوا على حكم الناس، لأنّ القيم لا تبنى على الاستثناء، وعلى فرض أنّهم كانوا، فليس لأنّهم طلبوه، ورغبوا فيه، بل ربّما قصرت بهم أدوات الحكم، وحالت إكراهات الواقع عن بلوغ الأفضل. 

#حسن_الدغيم 

لا يزعمنّ أحدٌ من المستبدّين أو مروّجيهم أنّ أحداً ما مفوض بمصادرة رأي الناس في حكمهم، فالسلطة من حقّ الأمّة، تسندها بطريقة تراها الأقوم، ليصل قرارها إلى تشكيل منظومتها، وليس بيد أحد حقّ إلهيّ، أو نصّ نبويّ، أو أمر دينيّ، أو عقد لازم يخوّله تجاوز رأي الناس فيمن يحكمهم.

#حسن_الدغيم

مامن أحدٍ ذاق ويلات الاستبداد أكثر من أصحاب الفكر والدعوات، ورغم ذلك ينتهض دعاةٌ مساكين ومخلصون بسطاء، ليدافعوا وينافحوا عن منظومة الاستبداد، ويستدعوا لها ما يجمّلها من الروايات والاجتهادات، بحجّة الخوف على الدين، ونسوا بأنّ المستبد شرُّ من حمل الأمانة. 

#حسن_الدغيم

إنّ تطويق الاستبداد يبدأ من تجريمه، فمادام هناك من يسكّن ألم الناس منه، ويدعوهم للصبر عليه، ويصرف جهادهم عن إسقاطه، ويضعهم بين خيارات الفوضى، ونار الاستبداد، فإنَّ الاستبداد باق، والفوضى باقية، والظلم باق، وليست الحريّة عملة تدفع لشراء الأمن، أو حقّ الحياة.

#حسن_الدغيم

إنّ صرح الاستبداد يترنّح في اليوم الذي يصل الوعي بالناس أن يغضبوا من المستبدّ، ويجرّموه مثلما يجرّموا من يعتدي على أعراضهم، فإن كان السائل على عرض الفرد مجرماً، فالمستبدّ صال على أعراض ودماء ومقاصد أمّةٍ بأكملها، يخوض في مصيرها بما يشتهي. 

#حسن_الدغيم

إنّ الحريّة قيمة الإنسان، وجوهر تكليفه وتكريمه، وأساس لعيشه وكرامته، وهي ليست عوضاً يبذل للمستبدّ مقابل الأمن، أو العيش، أو سلامة البدن، بل الأمن والرعاية واجبة للمواطن، وهو بكامل حرّيّته لا يحدّ منها إلا بما يكفل مثلها للآخرين.

#حسن_الدغيم

إنّ نظام الاستبداد لا يعرف حسن النوايا، ولا يترك للطامحين في التغيير فرصةً لالتقاط أنفاسهم، ويبادرهم إن تركوه، لأنّه فاقد للشرعيّة، كمغتصبٍ لدرةٍ نفيسة، ويظنّ أنّ صاحبها مدركه لا محاله، فهو لا يسرقها فقط، وإنّما يحاول قتل صاحب الحقّ. 

#حسن_الدغيم

 إن حملت الثورة خطأ ًعابراً، ونزفاً مؤقّتاً، وفوات مهجٍ، وهلاكَ حاضرة، فإنّ الاستبداد خطيئة محيطة، وفتنة مستدامة، وعذابٌ واصب، يقطف الرؤوس انتقاء، ويخنق الأرواح تقسيطاً، وما يُضَنُّ به أن يدفع مع الحريّة جملةً، سيدفع أضعافه مع العبوديّة تفصيلاً.

#حسن_الدغيم

السلطةُ سيّدة الشهوات، وهي حسناء خادعة، من أجلها تسفك الدماء المعصومة، وتهتك الحرمات المصانة، وتنهب الأموال المحرزة، وعقلنة هذه الشهوة الجامحة مسؤوليّة الأمّة في أن تضع ضوابط إسنادها، وإدارتها بصناعة المؤسّسات لا بأمزجة المستبدّين.

#حسن_الدغيم.




ماذا يعني تجديد الخطاب الدينيّ

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا يعني تجديد الخطاب الدينيّ؟ 

إنّ كلمة تجديد (الخطاب الدينيّ) تحدث بشكلٍ فوريّ جدلاً واسعاً بين أطياف عدّة من المهتمّين بالفكر الدينيّ والفلسفيّ، ومن عدّة زوايا، فيراها المحافظون تفريطاً، ويراها السلفيّون ابتداعاً، ويراها التقليديّون استشراقاً واختراقاً، ويراها المجدّدون تنويراً، وتترافق الدعوات للتجديد بالتزامن مع التحوّلات السياسيّة والتاريخيّة الكبرى، مثل ظهور القوميّات، وولادة الدولة الوطنيّة، والانكسارات العسكريّة، أو تلك التي تحدث تحوّلات فكريّة وسياسيّة كحملة (نابليون) على مصر، أو إلغاء منصب الخلافة العثمانيّة 1924، أو نكسة عام 1967، وكذلك دمويّة الأنظمة الاستبداديّة وقمعها للربيع العربيّ. 

و تستند الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ على نقطتين، 

الأولى:  

أنّ الشعوب بغالبيّتها متديّنة، وتتوارث كمّاً متماسكاً من القيم الدينيّة التي تحمل الإجابات عن الأسئلة المصيريّة، وبالتالي عندما تجد هذه الشعوب مفارقة بين ما تعتقد، وبين ما يحدث، فتعود بالمراجعة لاعتقاداتها، و كون أكثر المؤمنين في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ينطلق إيمانهم من التسليم الكامل بعصمة النصّ الدينيّ عن الخطأ، فإنّهم يتّجهون بالتهمة للطبقة الناقلة، أو الفاهمة، أو المفسّرة للنصّ، ومن هنا تنشأ الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ من قبل المؤمنين.

النقطة الثانية الداعية للتجديد: 

لا تتناول الطبقة المبلّغة للدين، أو المفسّرة له، بل تدعو لتجديد الدّين نفسه، وهم على مراحل، فمنهم من يدعو لنزع القداسة عن النصّ نفسه، فلا ضير في تعريضه للنقد، ومنهم من يدعو لوضع النصّ في موضع تاريخيّ؛ كان له فيه دورٌ وانتهى، ومنهم من يدعو لقراءة معاصرة للنصّ.

وكلّ مرحلة من هذه المراحل تجدها تتحوّل بفعل السيلان الشبكيّ إلى تيّارات ومناهج متوالدة ومتناقضة، وكلٌّ يلقي بحمولته في الفضاء، ويتلقّفه الشباب التائه والمصدوم من مآلات الانكسارات العسكريّة أو السياسيّة، التي تحدث تغييراً جوهريّاً في عالم الأفكار والمشاريع والعلاقات. 

والتجديد ليس مفهوماً حادثاً، بل قد ورد (تجديد الدّين) في الحديث النبويّ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).

رواه أبو داود (رقم/4291) وصحّحه السخاويّ في “المقاصد الحسنة” (149)، والألبانيّ في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599). والخلاف في تفسير حديث التجديد واسع، فمن جعل المجدّد واحداً في كلّ مائة عام، ومن جعله جماعة، ومن جعله كلّ مائة عام حصراً، ومنهم من جعله في كلّ وقت، ويرجع للاطلاع على هذا الخلاف إلى كتب شرّاح الحديث، لأنّ الذي سنميل إليه من الحديث عن تجديد الدين، هو محاولة تنويريّة تلطيفيّة لهذا المصطلح الذي يثير المعارك الفكريّة الصاخبة، ويقسم الناس بين (تقليديّين وأحرار، وبين سلفيّين وحداثيّين، وبين متزمّتين ومتنوّرين)، وسأضع هذه الإشارات في نقاط متتعدّدة، وأجزم مُسبقاً بأنّها ليست كافية، ولكنّها قد تقدح المزيد من الأفكار في هذا الميدان البالغ الحساسيّة، ويمكن أن ألخّصها في الإشارات التالية: 

  • إنّ الدعوة لتجديد الخطاب الدينيّ ليست دعوة لترك النصوص الدينيّة ولا هجرانها، وليست لقراءتها بغير القواعد التفسيريّة المعتبرة باللسان العربيّ، كما أنّها ليست اتهاماً مسبقاً للنصّ نفسه، بأنّه المسؤول عن التخلّف أو الهزيمة أو سوء حال المسلمين، بل هي دعوة للتمييز بين النصّ المقول المعنى، والنصّ المتمحّض للتعبّد، مثال ذلك: النهي عن سفر المرأة وحدها بدون محرم، هل هو معقول المعنى؟

أي: هل هو معلّل بسلامتها وأمنها، فينتفي النهي حال ضمان الأمن والسلامة؟ أم هو عبادة لازمةٌ بكلّ حال؟ 

  •  الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّ الدينيّ الذي يعطي حكماً عامّاً أبديّاً مثل: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وبين النصّ الذي يعطي حكماً في حال معيّنة، وبسياقٍ معيّن مثل: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فهذا لا يعني أن يكون لعدد الشهور اعتبار في الهدن السياسيّة.
  • الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّيّ الدينيّ قطعيّ الثبوت والدلالة، وبين قطعيّ الثبوت، ظنّيّ الدلالة، وبين ظنّيّ الثبوت والدلالة، وكم بنيت أحكام قطعيّة على أصول تبيّن أنّها ظنّيّة.
  • الدعوة للتجديد تشمل ضرورة وضع تعريفات ضابطة للمصطلحات الشرعيّة والفقهيّة، بحيث تحدّ من تعميمها واشتمالها على مالا تشتمل عليه، فكم من المسلمين اليوم يمزج بين الحرام والمكروه، وبين المندوب والواجب، إن لم يكن في تأصيله ففي تطبيقه.
  • ومن التجديد تحليل مصدريّة الأحكام العمليّة لصاحب الرسالة  وعدم النظر لما صدر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بنظرة موحّدة دون التمييز بين ما صدر عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام من أفعال وأقوال، بعضها زمنيّ يخصّ عصره كحاكم للناس، وبعضها كقاضٍ بين الناس، وبعضها كرسول للعالمين، وبعضها كاجتهادٍ مرحليّ.
  •  الدعوة لتجديد الخطاب الديني تشمل الدعوة للتمييز عند تنزيل النصوص بين الواقعيّة والمثاليّة، وبين حال الاستضعاف وحال التمكين، وبين الاعتقاديّ المطلق والعمليّ المقيّد، وبين فقه النوازل وبين الفقه المستدام، وكم هو الفرق كبير  بين العمل السياسيّ القائم على التشاركيّة؛ من مناصفة وتدرّج، وتأثّر بظروف العصور المتغيّرة، وبين العمل الدعويّ القائم على منهجيّة الرسالة الإسلاميّة، في إصلاح الفرد والمجتمع، التي لا تقبل أنصافَ الحلول، بل كم وقعنا في غوائل التعصّب من مزجنا الدائم بين الإسلام ديناً، وبين الإسلاميين حملةً لهذا الدين، بل المزج بين الإسلامّيين قادةَ مشروع متصدّرين، وبين المسلمين الذين يشكّلون الأمّة كلّها. 
  • الدعوة للتجديد تعني منع المزج بين الوحيّ الإلهيّ، والتاريخ الإسلاميّ، فكم حسبت مواقف تاريخيّة كأنّها مصادر تشريعيّة،  فالضرورة قائمة للتمييز بين عصمةِ الوحي الإلهيّ، وبين إمكانيّة وقوع الخطأ بالتفسير البشريّ.
  • الدعوة للتجديد هي دعوة لأنسنة المسلمين، فالمسلمون مثل غيرهم تجري عليهم سنن الله في القوّة والضعف، والنصر والهزيمة، والاستخلاف والابتلاء، وقد يتعرّضون للنكبات والنكسات العسكريّة الكبرى، وليس لهم ميزة خاصّة تحصنّهم، أو خوارق تنجّيهم. 
  • هي دعوة للتمييز بين فقه الأولويّات، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وتأثير ذلك على الفتوى وإصدار الأحكام، ومدى علاقة ذلك بالواقع، ومناسبتها للظرف، ومقياس ما يترتّب على الإخلال بهذه الموازين، من مفاسد تعود على حملة الشرّيعة بالبوار.
  • هي دعوة للمرونة في التعاطي مع العمليّة السياسيّة، من انتخاب وترشيح وممارسة ومشاركة ومعارضة، وسلطة ضمن المتاح والممكن، حماية لمصالح الناس، وعدم الانزواء عن العمل السياسيّ، بسبب عدم إقامة نظام إسلاميّ مَرْضِيّ من قبل الإسلاميّين.
  • هي دعوة لعدم الانسحاب من مواجهة التحدّيات بإطلاق فتاوى التحريم فقط، بل بمنازلة التحدّيات، والتمييز بين ما ينفع وما يضرّ، وبين ما ينفع مع ضرر قليل، وبين ما يضرّ مع نفعٍ قليل، إذا لم يكد توجد وسيلة متمحّضة للصلاح، إلا شابها شيء ممّا ننكر، وبخاصّة قضايا الشأن العام.
  • هي دعوة لإحياء مقاصد الشريعة، ووضعها في زاوية التناول الأصليّ، وليس الثانويّ، التي بها يستبان النسق العامّ للتشريع الإسلاميّ، ومراد الله من عباده، وذلك ليستنير المجتهد في صناعة الفتوى، بمنارات الغايات، ولا ينغلق في التفصيلات،
  • هي دعوة لاعتبار أصليّة الخلاف الفقهيّ، وحتّى العقديّ على مستوى الفروع، وإنّ هذا الاختلاف ليس هو الحال الشاذّة، بل هو الأقرب لطبيعة التشريع الإسلاميّ، وبذلك تنتفي غوائل التعصّب المذهبيّ المقيت.
  • هي دعوة لإعادة اعتبار العقل ودوره في فهم النص الشرعيّ، وإنّ باب (الاجتهاد لأهله) لا يغلق، وإنّ العقل ليس حصراً على طائفة، حتّى يحيد بتحييدها، فالعقل أداة الاستنباط، وليس هو المعتزلة، كما لو غلا قوم بإمام، فإنّ هذا لا يعيبه.
  • الدعوة للتجديد هي أولويّة ماسّة، بخاصّة في قضايا الشأن العامّ، ونظام الحكم وسياسة الدولة، وإدارة السلطة والمعارضة، والجهاد وفق المنظومات المعاصرة، وما طرأ من تغييرٍ هائل، في بنية الدولة، وتركيبتها السياسيّة والاجتماعيّة.
  •  الدعوة للتجديد دعوة لإعادة النظر ببعض الأحكام الفقهيّة المعلّلة بظروفها الزمانيّة، كولاية المرأة في الشأن العامّ، وطريقة المشاركة السياسيّة مع المختلفين بالدين والمذهب، في بلادٍ لا تحكم كما نريد، ووفق ما نؤمن.
  • دعوى التجديد الدينيّ ليست لإقصائه، ولا لتمييع أحكامه، ولكنّها دعوة لتفعيل دوره، وتعزيز حضوره في حياة الأمّة من جديد، بعد أن تمّ قصر دوره على المسجد، بيد العسكر تارةً، وبسبب التحجّر الفقهيّ والتعصّب المذهبيّ، والاقتتال الطائفيّ تارة ً أخرى.
  • ودعوى التجديد ليست مفتوحة لكلّ أحد، بل هي متاحة لأهل التخصّص المباشر، أصحاب الكفاءة والقدرة على تقليب المسائل، وإعادة قراءة الأحكام الفقهيّة وتفسيرها، والاجتهاد في تنزيلها، مع فهم الواقع وفق فقه الأولويّات، والموازنات والمآلات.

  فإن لم ينهض لها العلماء المتخصّصون، العارفون بمقاصده وأصول التشريع، سينهض لها الهواة غير المتخصّصين، إمّا بحسن نيّة، وإمّا بسوء طويّة، ولا مناص حينها من الردّ عليهم، فالأولى من ذلك مبادرة أهل العلم.

حسن الدغيم 

رؤية للثقافة والإعلام.




القدس بين التحرير والارتزاق

بسم الله الرحمن الرحيم

القدس: بين التحرير والارتزاق

منذ إعلان دولة اسرائيل، هرعت الجيوش العربيّة لخوض معركة 1948 مع إسرائيل، والتيّ توّجت بنكبة 1948، واستقرّت بعدها الأوضاع على لاءات العرب، وخطب الملوك والزعماء، في الوقت الذيّ كانت فيه إسرائيل تزيد من حجم المكوّن اليهوديّ، وتستقدم الهجرات من شتّى أنحاء الأرض، حتّى أكملت احتلال القدس، عام 1967، وهزيمة الجيوش العربيّة، ومنذ ذلك الوقت والقدس ترزح تحت الاحتلال الإسرائيليّ المباشر، ولم يتغيّر شيء يذكر عند النظام العربيّ الرسميّ، إلا ما أضيف له بعد قيام ثورة الخمينيّ عام 1979، حيث زاد في أدبيّات المقاومة ضخاً متزايداً من الخطابات والشعارات التي تتوعّد بتدمير إسرائيل، وهزيمة أمريكا، ورفعت شعارات: (الموت لإسرائيل)، وتشكّلت: فيالق تحرير القدس، وجيوش الأقصى، وسمّي يوم القدس العالميّ، وشهر القدس، وأسبوع القدس، وصنعت باسمها الصواريخ، وطبعت باسمها الطوابع، وسُكّت بصورتها العملات، ورسمت قبّتها المذهّبة على شارات البلاد، ولكن على أرض الواقع شيء ما لم يتغيّر، فلا تزال القدس محتلّة، والشرطة الإسرائيليّة على مشارف أبواب الأقصى، وقطعان المستوطنين تداهم الحرم الشريف بين الفينة والأخرى، بمن فيهم جزّار (صبرا) و(شاتيلّا) المجرم (أرييل شارون) رئيس الوزراء الإسرائيليّ السابق …

لماذا لم تتحرّر القدس حتّى الآن؟

ليس لأنّ إسرائيل دولة قويّة، تملك ترسانة كبيرة من الأسلحة فقط، وليس فقط لأنّ إسرائيل تمتلك (جيش الدفاع الإسرائيليّ) الذي تصفه بأنّه: (الجيش الذي لا يقهر)، وليس لأنّ إسرائيل مدعومة غربيّاً، وأمريكيّاً على وجه الخصوص .. هذه الأسباب كلّها كانت في كلّ حرب، وفي كلّ زمان، ولم تمنع من التحرير، وإنّما تجعل ثمنه مُكلفاً فقط..

السبب الحقيقيّ في عدم تحرير القدس هو: الرغبة الحقيقيّة في بقائها محتلّة من قبل غرفة التجارة بالقدس، المشكّلة من منظومة الأنظمة الاستبداديّة والطائفيّة في المنطقة..

التجّار الذين فقدوا شرعيّتهم الشعبيّة في تولّيهم مقاليد الحكم في بلادهم، فبين من آل إليه الحكم في عقد زواج أبيه وأمّه، فلا لشعب رجع، ولا لشورى استشار، ولا انتظر أمّته يوماً بأن تقرّه، فضلاً عن أن تحاسبه، بل ويشعرها بفضله وكرمه أن تحمل عنها المسؤوليّات الصعاب، وقدّم نفسه للخدمة العامة.

وبين من قام بانقلاب عسكريّ، وجاء للسلطة على ظهر الدبابة، وقتل كلّ معارض، وخنق كلّ حرّ، وجعل البلاد مزرعة له، وورّثها لوريث قاصر، لا يرى (القدس) إلا في كتم أنفاس أطفال (الغوطة)، و(خان شيخون) المخنوقة بغاز (السارين)، ولا يراها إلا من خلال العظام البارزة من صدور أطفال (الرستن) و(دير الزور)، بل ويستعين برأس محور المقاومة والممانعة الملتحي بالزور، ليستقدم شبّيحته ويحاصر أبناء (القصير) و(مضايا) و(الزبدانيّ)، فيتضوّروا جوعاً، ويساوموهم على وطنهم، ويجبروهم على ترك بلادهم، ويتركوهم للشتات في الأرض.

وبين جيش لم تتحرّك جرّافاته منذ ثلاثين سنة باتجاه القدس، إلا عندما دعت لها الحاجة لسحق المدنيّين المحتجين في (ساحة رابعة)، مطالبين بعودة رئيسهم الشرعيّ.

هؤلاء بعض أعضاء غرفة التجارة الذين نعوّل عليهم في تحرير القدس… ولماذا يحرّرونها؟ هل من أحد يُتْلف رأسَ ماله وحصّالة رزقه؟!.. هؤلاء ستبقى القدس مصدراً لشرعنة حكمهم، من أجلها تصرف الموازنات الضخمة على وزارات الدفاع، بحجّة الأمن القوميّ، وتجيّش (فيالق القدس) لاحتلال (الرقّة) و(دير الزور)، وتحريرها من أهلها، بحجّة تنظيف طريق القدس، ومن أجل القدس تدمّر (سوريّة) وتغزوها عشرات الميلشيّات، التي تلطم على (الحسين) وتقتل آل (بيت محمّد) وتدّعي المظلوميّة، وترتكب أفظع صور الظلم بحقّ شعب خرج مثل كلّ شعوب العالم، بحثاً عن حقوقه الإنسانيّة…

كم ستكون الصدمة كبيرة لو وضعت صناديق الزجاج يوماً في (القدس)، وقيل لأهلها: من تختارون أن يحتلّ بلدكم؟… 

قائد فيلق القدس؟ أم زعيم حزب الله؟ أم قائد الجيش السوريّ؟ أم (حسن روحانيّ)؟ أم الجيش الإسرائيليّ … ماذا تتوقّعون النتيجة؟ بالتأكيد إنّ أهل القدس لن يختاروا محتلّاً على محتلّ، ولن يبيّضوا لإسرائيل صفحة، بحجّة جرائم (إيران)، ومع هذا أنا متأكّد أنّ الأوراق التي ستوضع في الصناديق ستكون بيضاء على أقل تقدير، فكيف سيقبل أهل القدس أن تغزوهم فيالق وجيوش قتلت شعوبها وسامتها سوء العذاب، وخنقت أطفالها بالغاز؟ وليس في سجلّاتها إلا المسالخ البشريّة، والبراميل المتفجّرة، وعمائم الموت للعرب والمسلمين، من نظام (الملالي) كبير القراصنة وشهبندر اللصوص…

القدس طاهرة لا تقبل إلا طاهراً، وجميلة لا تريد أن يجوس في ساحتها السفّاحون، 

بل يبدأ طريق القدس حقيقةً من تطهير البلاد من أنظمة العمالة والاستبداد والطائفيّة، التي تمنع الشعوب من التعبير عن وجودها ومصيرها، في دائرة التأثير السياسيّ.

انتهى




الفرار من الجغرافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الفرار من الجغرافية

تحت وطأة الصدمات الكبرى، والهجمات المتلاحقة، يلوح خيار الانسحاب من المشهد، والتحيّز لفئةٍ مناصرة، أو التحرّف لخطّةٍ بديلة، ولكن يبقى هذا مفهوماً ضمن الظروف المعتبرة، والأماكن المجاورة لشنّ الهجوم المعاكس، ولا يقبل بتغيير الأرض، والتسليم بالواقع المرّ، قبل استنفاد جميع الوسائل الممكنة.

تذكّرت هذا العنوان من حالنا السوريّة عند مناقشة مآلات الثورة السوريّة، والمشاريع المطروحة من الصفّ الثوريّ الإسلاميّ، بداية من الخلافة إلى الدولة، إلى الإمارة، ثمّ الجبهة، ثمّ تتصاغر الطموحات تحت ضربات العدوّ برّاً وبحراً وجوّاً، حرباً وكيداً، وعندها تبدأ تنبعث ظاهرة المراجعات والتأمّلات، ووضع الخطط البديلة، وهذا طبيعيّ لو كان في نفس حدود الحدث، ولكنّها للأسف تعود للماضي السحيق، أو تستشرف مستقبلاً متخيّلاً، لا معطيات له في الواقع المنظور.

وهذه الطروحات تأتي في مقابلة أفكارٍ أو منظورات سياسيّة، أكثر قرباً من الإقناع والمعقوليّة كالتشاركيّة والمواطنة والديمقراطيّة، وطبعاً هذا كلّه بعد الأمل في حسم معركة الحريّة.

سنتعمّق قليلاً لنقول إنّ أحد أكبر مشكلاتنا في مواجهة التحديات هي الفرار من الجغرافية الحاكمة والواقعة، إلى التاريخ الحالم، أو المستقبل المنتظر، ولك أن تتأمّل النكبات التي نتعرّض لها، وبخاصّةٍ العسكريّة منها، وضحاياها من النساء والبنين والمخطوفين، وما لا يستطيع القلب تحمّله، وما يرافق ذلك من دعاوى تظنّها نظريّات علميّة أو فكريّة، لكثرة حبكها وصياغتها وأدلّتها، بل ومشابهتها للواقع، وذكرها للأماكن، ولكنّها في الحقيقة ليست سوى آهات نفسيّة، وجمر الباطن يظهر دخاناً على السطح.

فمثلاً بعد إنهاء العمل بنظام الخلافة، والذي تزامن مع وقوع غالب الدول العربيّة والإسلاميّة تحت وطأة الاستعمار، كان الفرار من الجغرافية إلى التاريخ، وبدلاً من مواجهة التحدّيات الماثلة أمامنا، من احتلالٍ وفرقةٍ، وظهور النزعات القوميّة والوطنيّة، صارت الدعاوى تنادي باستعادة الخلافة كحلٍّ وحيدٍ وفوريّ لتخلّف المسلمين، وإعادتهم سادة للعالم، بل ونشأت أحزاب وحركات بنت المشروع الأساس على فكرة عودة الخلافة، كحزب التحرير، وأنّها بعودتها سينتهي الاستعمار والاستغلال والفرقة، وسينسى الناس عصبيّتهم وقبليّتهم، وهذا التصوّر غيرُ سديد، فلقد كانت الخلافة وكان في كثير ٍ من أحيانها يغزو أرضها المستعمرون، ويعتدي على حصونها ومقدّساتها ورعاياها كلّ غازٍ ومنتهب، ولم تستطع الخلافة على تاريخها الطويل من حلّ مشكلة العصبيّة القبليّة بين القيسيّة واليمانية، أو العرب والفرس، فضلاً أن تحلّ العصبيّات المناطقيّة والوطنيّة.

والفرار من النوع الآخر للمستقبل بدلاً من الماضي، يشبه فرار الشيعة في القرن الهجريّ الأول والثاني، بعد هزيمتهم أمام الحكم الأمويّ والعباسيّ، وعدم استطاعتهم تأسيس دولة، أو انتزاع السلطة ففرّوا للمستقبل ينتظرُون خروج ( المهديّ المنتظر من ولد فاطمة)، ليملأ الدنيا عدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ولايزالون ليومنا هذا ينتظرون ذلك الغائب في السرداب ليخرج ويسلّمهم السلطة.

ولكن هذا الفرار ليس مقتصراً عليهم، بل كثير من منظّرينا ومفكّرينا ما إن يبادر للكلام عن أيّ مشروع سياسيّ، يخفّف حال الاشتباك التي نعيشها، ويحاول تطويق سعار الطائفيّة والاحتراب، بمشروع سياسيّ تعاقديّ بين الصفّ المعارض على أقلّ تقدير، إلا ويندفع الطرف الحالم بطريقة غريبة، إمّا إلى الماضي ليأتي بحمولة عودة الخلافة وتفاصيلها الزمنيّة، وإمّا أنْ يفرّ للمستقبل ليبشّر بفردوس موعود، يرعى فيه الذئب مع الغنم.

وإذا ما دخلت معه في عمق الأجوبة عن الاستحقاق السياسيّ الواقع، والجغرافية التي لا ترحم وتنتظر من الشعب المنكوب الجواب المؤقّت باليوم والشهر، ونظرتنا للحكم والدستور، وطبيعة المشاركة السياسيّة والمواطنة والديمقراطيّة وغيرها من قضايا العصر، اختزل لك هذا كلّه بأنّه عندنا؛ أي الإسلاميّين، نظام إسلاميّ ومشروع متكامل، وبدأ يحدّثك عن قدرة أهل الحلّ والعقد على إعادة نظام الخلافة من جديد، أو بناء الدولة الإسلاميّة على الأقلّ، طبعاً بتراكيب عموميّة تستشعر وأنت تسمعها أنّ سوريّة والعراق ليس فيها إلا مجموعة من القبائل الصالحة المطيعة لله ورسوله، وتنتظر فقط الإشارة للاجتماع على دولة إسلاميّة، وأنّها ليست مجمعاً لعشرات الطوائف الإثنيّة والعرقيّة والمذهبيّة الممتنعة بشوكة السلاح، والتحالفات الدوليّة مع الدول العظمى، التي تتّخذ منها بوابات للتدخّل في مصيرنا.

وعندما يطول الحديث، وتفشل النظريّات، وينخفض منسوب المدّ والاندفاع الأيديولوجيّ، يقوم الطرف الحالم بالفرار إلى المستقبل الموعود، أمام الصابرين، وأنّ الشّام محفوظة ومكفولة ولن تضيع أبداً.

نحن هنا لا نريد الدخول في معركة السَّنَدِ والمتن، ولا بعلم الرجال والآثار.. ولكنّنا نريد الاعتبار بأمر القرآن (فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي: قيسوا الأحداث ببعضها، ونحن مثلنا مثل غيرنا، جرى علينا ما جرى على شعوبٍ كثيرةٍ، واجهت التحدّيات، كالألمان والفرنسيّين واليابانيّين والأمريكان، وكلّ هذه الشعوب تعرّضت إمّا لاحتلال أو استبداد أو احتراب، واستطاعت بمواجهة التحديّات، وصياغة نظريّات العقد السياسيّ والاجتماعيّ والوصول لانتظام القضاء، ودسترة الدولة، والقضاء على التمييز، ولو بشكل نسبيّ، وتقرير حقوق المواطنة، والتشاركيّة والديمقراطيّة، استطاعوا أن يعبروا مأزق التناحر والتخلّف، وصاروا في مصافّ التنمية والرفاه، بدون أن يعيدوا سلطة الكنيسة، ولا حكم الامبراطور، ولا الممالك التي لا تغرب عنها الشمس، ولم ينتظروا مخلّصهم المنتظر…

طبعاً لكلّ شعبٍ ثقافته وخصوصيّته.. ولكن هذا الذي وصلوا إليه هو تراكم خبرات البشر، والحضارات الإنسانيّة ونموّ الوعي السياسيّ والاجتماعيّ، الذي ضيّق على نظم الاحتكار والتوارث لصالح نظم التعاقد والتدوال، ونحن شعب نعتزّ ونفتخر بالقيم الإسلاميّة الرفيعة، فيجب أن نختصر الكثير من الطريق الذي سلكوه، بفضل المخزون القيميّ المتوافر بين أيدينا، لا أن نشوّشه بنظريّات الفرار من الزحف، إلى صناعة فردوسٍ موهومٍ نخدّر به أعصابنا المرهقة. 

حسن الدغيم 

باحث في مؤسّسة رؤية 

للثقافة والإعلام 

بتاريخ 31/1/2018




الجهاد معركة أمنية لا دينية

بسم الله الرحمن الرحيم

الجهاد سياسة أمنيّة أم تبشيريّة؟

الجهاد مثله مثل بقيّة مبادئ وتعاليم الإسلام، كالعدل والشورى والكرامة والأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستخلص فهمه من السياق العام للوحي الرساليّ بجانبيه؛ القرآنيّ والسننيّ، ولا يمكن تعريفه أو تفصيله بطريقة انتقائيّة لبعض النصوص، وسحبها من سياقها، أو تضخيم مدلولها على حساب مقارباتها ومفسراتها النصّيّة والعمليّة. 

كمن اتخذ من (آية السيف) ناسخة لكلّ آيات الرحمة والصفح والسلام، مع المخالفين في الدين، وهي -أي آية السيف- بقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة براءة 

ولو صحّ هذا الاجتزاء والانتقاء لضربت نصوص القرآن بعضها ببعض، ولاحتجنا في فهم القرآن وإثباته -وهو المتواتر لفظاً والثابت قطعاً- لأخبار الآحاد، التي ولو صحّت لا تقوم مقام النسخ لنصوص القرآن، لأنّها حجّيّة وقطعيّة، إلا إن بلغ من النصّ الخبريّ مبلغ التواتر، كأن كان سنّة ًعمليّة مُتواترة، يمكن حينها اللجوء للتفسير، وإيجاد المخارج لتعارض الأدلّة، وهذا التعارض بالقطع فيما يظهر لنا بحسب قدرتنا البشريّة.

وحتّى لومشينا على قول من يقول بالنسخ، بهذا التوسّع في آية السيف، فلا يمكن للنسخ أن يسري على النسق العام للتشريع، بل وعلى مبادئ الدين الحنيف قطعيّة الثبوت والدلالة والاعتبار، مثل مبدأ حرّيّة العقيدة، وقوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله تعالى (لا إكراه في الدين) وهذا من أصول الدين ومرتكزاته، ولا يجري عليه النسخ، لأنّه يناقض أصل التشريع القائم على الاختيار، لا على القسر والإجبار، وأيّ إكراه أكثر من ان تقاتل المخالفين في الدين وهم مسالمون!

طبعاً سيأتي بعضهم بالحوادث التاريخيّة، ومحطّات من السيرة، ليدلّل على عكس هذا الكلام، ولكن بالمقابل، السيرة والتاريخ حافلان أيضاً بما يبرهن أنّ الجهاد لم يكن مشرعاً ضدّ كلّ كافر، لأنّه كافر فقط، فكثير من الكفّار عاشوا بسلام وأمان داخل الجزيرة العربيّة وخارجها، دون أن يُكرهوا على تغيير دينهم، بل بقي المجوس – وهم الوثنيّون الذين يعبدون النار، ولا يحرّمون الزواج بأمهاتهم وبناتهم – بقوا في أطراف الجزيرة، حتّى أفناهم الدهر، إمّا موتاً وإمّا إسلاماً من طيب أنفسهم.

وهنا يقتضي لزاماً أن ننظر في أساس التشريع الإلهيّ المتعلّق بالجهاد ومقاصده العليا، التي نراها في كتاب الله تعالى وافرة، في أنّ الجهاد عمليّة أمنيّة، وتعاطٍ سياسيّ باستخدام القوّة، لحمايّة الحقوق، وليس للقضاء على الكفّار. 

نعم الكافر المحارب والمعتدي لا قرار له، والجهاد مشروع ضدّه، ولكن ليس لأنّه كافرمحض، بل لظلمه وعدوانه وترصّده، وفي هذا يشاركه المسلم الباغي، أو الصائل أو المحارب قاطع الطريق، فإنّ إسلامه ليس بحصن له من العقوبة والقتال، إذا ظلم أو بطش او امتنع عن النظام العامّ، وهذا أوضح دليل على أنَّ القتال في أساس التشريع الإلهيّ، هو لدرء الحرابة والبغيّ والظلم، وردّ الاعتداء، وليس موجّهاً للمخالف في الدّين، إلا إذا تلبّس بإحدى الجرائم الجنائيّة، 

قال تعالى (وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة البقرة /190 / ، فهذه الآية تشرّع القتالَ ضدّ من يقاتل، لا ضدّ من يكفر، وكذلك البيان الإلهيّ في ( عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ) سورة الممتحنة.

قال الإمام الطبريّ بعد عرضه التفسيرات التي قال بعضها بنسخ هذه الآية: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إنّ الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميع من كانت تلك صفته، فلم يخّصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ. 

لن تتّسع هذه المقالة المحدودة لسبر كلّ النصوص ولابعضها، وإنّما هي إشارة للحاجة في إعادة التروّي، والتريّث في سحب النصوص الشرعيّة من مستقرّاتها المقاصديّة والسببيّة، إلى ساحات التجاذب والتخاصم السياسيّ المعاصر، وتعزيز نظريات المفاصلة الشاملة والعداء الصفريّ، وتقسيم العالم لمعسكرين للحرب لا أمن فيه ولا أمان، ولا تعاهد ولا تعاقد، ولا استقرار ولا نهضة، ولا تعاون ولا تفاهم…

إنّ السياق العام للتشريع الإسلاميّ يركّز في العلاقة مع المخالف في الدين على جملة من المبادئ التالية، والتي هي بعمومها وشموليّتها واتساقها حاكمة على النواحي التفصيليّة، والاجتهادات المرحليّة، ويمكن الإشارة لهذه المبادئ بالتالي: 

أولاً : لا إكراه في الدين، كما أنّ الإيمان حقّ لا يجوز منعه، فإنّ الكفر حقّ لا يجوز منعه، وحساب الكافرين على الله يوم القيامة.

ثانياً: إنّ حريّة العقيدة مستندٌ للكرامة الآدميّة الموهوبة من الله تعالى لعباده من بني آدم، فكرامة الإنسان لعقله، والعقل لا يجوز أن يصادر بالسيف، وإنّما يسلم لاختياره.

ثالثاً: إنّ القرآن الكريم، والسّنّة النبويّة الشريفة القوليّة منها والعمليّة، تؤكّد مبدأ حرّيّة الاختيار الدينيّ، وبالتالي هي تقبل التعدّديّة ضمن الدولة الواحدة، ومع الدول الأخرى، ومادامت تقبله فإنّها تحميه أيضاً، وكما لا يجوز للكافر أن يفتن المسلم عن دينه بالقوّة، فليس للمسلم أن يفتن الكافر عن دينه بالقوّة. 

رابعاً: من مقاصد الدين الإسلاميّ مدّ جسور الدعوة للعالم كلّه، وليس تأسيس إمبراطوريّة مسيّجة خاصةٍ بالمسلمين دون غيرهم، وهذا يقتضي إشاعة أجواء السلام العالميّ، لتسهيل تحرّك الدعاة لدين الله، ليظهروا دين الله في الأرض.

خامساً: تختلف قواعد الاشتباك تبعاً للتطور البشريّ، فالحرب منذ ألفي عام، وألف عام، ليست كحربنا اليوم، وفي كلّ زمن تحاول البشريّة سنّ القوانين وإحراز التفاهمات، لتضييق سبل الاقتتال، وأخطارها على البشريّة، والمسلمون بذلك أَوْلى، لأنّ السلم أقرب للإسلام من الحرب (وإنْ جنحوا للسَّلمِ فاجنحْ لها)، كما أنّه لا يجوز الاقتباس من حالات تاريخيّة لها ظروفها وقواعدها، التي كانت مقبولة من قواعد الحرب، لعصر قطعت فيه البشريّة مساراً كبيراً في تقنين الحروب، على المستوى النظريّ على الأقلّ. 

سادساً: حتّى من باب الضرورة، وفقه الاستضعاف، أين مصلحة المسلمين اليوم من هذا التضخيم الإيديولوجيّ لمفهوم الجهاد، وتحويله من وظيفته في ردع الحرابة، إلى قتال مخالف الدين مهما كان موقعه أو صفته؟ ولا يتوقّف ذلك إلا على قوّة المسلمين، أو ضعفهم أو إذن إمامهم. 

إنّ العقيدة القتاليّة الإسلاميّة لا تختلف عن العقيدة القتاليّة الإنسانيّة، التي تطوّرت وتهذّبت بتعاليم رسل الله أجمعين، والتي لا تخرج عن الردع المكافئ للظلم، فنقاتل من يقاتلنا، ونترك من يتركنا، ونسالم من يسالمنا، ونترصّد من يترصّدنا، 

قال تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)) سورة البقرة 

وكلّما كان الأمر أقرب للسلم، كان للإسلام أقرب، ولكنّه ذلك السلم الذي يأمن فيه المظلوم من الظالم، ويستعاد فيه الحقّ المغتصب، وليس سلام الوهن والضعف.

قال تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) سورة آل عمران.

والحمد لله رب العالمين 

حسن الدغيم 

باحث 

في مؤسسة رؤية 

للثقافة والإعلام 

انتهت




التداول ينسخ التوارث

بسم الله الرحمن الرحيم

التداول ينسخ التوارث

قال تعالى في كتابه العزيز: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيّة أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ/ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ / أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

هذه الآيّة الكريمة تدلّ على وقوع النسخ بين شرائع الأنبياء، وهذا الموضوع استهلك مساحات واسعة من الخلاف بين العلماء حول وجوده وتوصيفه وكمّيّته وآثاره، وليس هذا موضوعنا، ولكنّا سنسترشد هنا بمقاصد وجود النسخ، ومنها أنّ البشريّة في حركة مستمرّة لاتقف عند حدّ من التطوّر، في المجالات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكان من حكمة الله مخاطبة كلّ عصرٍ بما يناسبه من أدوات المعرفة للتدليل على رسالة التوحيد، ومراد الله من عباده في صلاح دنياهم وآخرتهم.

 وعلى جلالة هذه الآيات الباهرة، والمعجزات الخارقة، كانت موسومة بالمحدوديّة في الزمان والمكان، وكان يأتيّ زمنٌ تنسخ فيه وتمحى، بحسب التطوّر البشريّ والتراكم المعرفيّ للإنسان، ولذلك جاءت التوراة مصدّقة لما بين يديها من رسالات السماء، في المقاصد الكلّيّة، ولكنّها ناسخةٌ لما قبلها من الشرائع التفصيليّة، ثمّ جاء الإنجيل بعد التوراة، ثمّ جاء القرآن ناسخاً لما قبله من الشرائع، مصدّقاً لما قبله من البيّنات الثابتة التي لا يأتيّ عليها النسخ ،كالتوحيد والتسليم بأركان الإيمان .. هذا كان في كتاب الله المنطوق، وهو الذكر الحكيم، فماذا عن كتاب الله المنظور في الكون، والإنسان والحياة ؟!.

إنّ النسخ كما هو موجود في كتاب الله المنطوق، فهو موجود في كتاب الله المنظور، بحسب التطوّر البشريّ أيضاً، فانظر معي – هداني الله وإيّاك – كيف تنسخ النظم السياسيّة بعضها بعضاً، فانظر للنظام الملكيّ النبويّ بصورتيه، الأولى حيث كان النبيّ  هو من يؤسّس الدولة ويسوسها، كما هو العهد عند داوود وسليمان عليهما السلام، أو الصورة الثانية حيث كان ذلك الملك ينشأ عن السلطة البشريّة، كما كان حال بلقيس وزنوبيا وكسرى وقيصر، وكلا الصورتين كانت تتماشى مع سدّ الحاجة البشريّة في تشكيل السلطة وسياسة الرعيّة.

وكان المطلوب من الملوك فقط أن يكونوا عادلين، ليسوا جبّارين ولا مفسدين، ولم يكن المطلوب منهم أن يسلّموا السلطة للشعب، بانتخابات حرّة ونزيهة مثلاً، لأنّ النضج البشريّ والمعرفيّ للناس، كان يقبل أن تتوارث عائلة الحكم، ضمن أبنائها، حتّى لو ظلم أحدهم، وقامت عليه ثورة، في غالب الأحيان كان يؤتى بابنه أو قريبه ليسدّ مسدّه في استلام السلطة.

وحتّى بعد ظهور الإسلام، الدين الخاتم، والشريعة الناسخة، لم يصطدم مع العرف السياسيّ، وإنّما عني بالجانب القيميّ، بالتأكيد على قيمة الشورى والعدالة والأمانة والاستقرار، وأسّس لأرضيّة معرفيّة تتعزّز فيها سلطة الجماعة، وإرادة الأمّة (وأمرهم شورى بينهم )، ولكنّه لم يقعّد للنّاس بذلك دستوراً أو نظاماً… وإنّما تركهم للاجتهاد الجماعيّ، وحتّى فكرة التوارث لم ينهَ عنها، لأنّه اعتبر مصيرها مرتبطاً بآيات الله الكونيّة في التغيير السياسيّ، وليس بأحكام الله الشرعيّة التي تركز على القيم والثوابت المعرفيّة والأخلاقيّة، ولم يكن النبيّ عليه الصلاة والسلام في مراسلاته مع الملوك يشترط عليهم التخلّي عن الملك، ولا عن التوارث بل أبقى (باذان) صاحب اليمن على ملكه، الذي ورّثه لابنه شهر بن باذان عند موته، وعندما جاء أجل عمر بن الخطاب ونصحوه بأن يسلم السلطة لعبد الله بن عمر لم يستنكر الفكرة لذاتها، وإنّما ورعاً وتقوى، وكان الحسن بن عليّ أوّل من ورِثَ الحكم، ثمّ معاوية ورّثه لابنه يزيد، مع اختلاف بالطريقة من شورى الجماعة، لشورى الصفوة، وتتابع التوارث في استلام السلطة، ولا يخرق إلا بالتغالب، وكان هذا على مستوى المركز العاصمة، وعلى مستوى الولايات أيضاً كمصر والشام والمغرب، ومن فضول القول إنّ هذا أيضاً كان عند الدول الأخرى غير المسلمة.

ومع بداية النهضة الأوربيّة، وبداية ظهور المشاريع العلميّة الصناعيّة والعسكريّة، والنظريّات المعرفيّة والبحوث التطبيقيّة، وانتشار الطباعة والصحافة والنشر، وزيادة حجم التواصل الإنسانيّ، وظهور أفكار الحريّة والفرديّة والديمقراطيّة والمدنيّة، بدأت الشخصيّة الإنسانيّة تبتكر لها هويّات جديدة غير هويّة الرعيّة والراعي، وصار النظام الملكيّ عاجزاً وقاصراً بنظرته الاستبداديّة وتوارثه الكلاسيكيّ، وتركّز السلطات بيد أفراد قليلين، فصار قاصراً عن مواكبة التحدّيات والمسؤوليّات التي دفعت بها عجلة التراكم المعرفيّ، والتطوّر البشريّ، فبدأ هذا النظام تتصدع أركانه، وهو يدافع عن نفسه بشراسة، ومازال في كثير من دول العالم حتّى الآن يحاول شدّ عصبه، وتثبيت أركانه، أمام النظام الجمهوريّ أولاً، ثمّ الديمقراطيّ ثانياً.

وباستقراء القرون الثلاثة الأخيرة يتبيّن لنا أنّ آيةَ التداول السياسيّ تنسخُ آيةَ التوارث، فإمّا أن تحوّلها من ملكيّة مطلقة، إلى ملكيّة دستوريّة، مثل بريطانيا وبلجيكا واليابان، وإمّا تحوّلها إلى جمهوريّات ديمقراطيّة مثل فرنسا وتركيّا.

 ولاتزال حركة النسخ تسري في ساحة الحضارة الإنسانيّة، وبحسب الاستنتاج المبنيّ على الاستقراء السابق، يتّضح أنّ المعركة ستحسم في النهاية لصالح الحياة التداوليّة والتشاركيّة، على حساب الملكيّات التقليديّة، كلّما زادت الحاجة للحدّ من سلطات الفرد الشخصانيّ، لصالح الفرد العامّ، وقد يدفع لذلك النظام الملكيّ نفسه، عندما يزيد من حجم تدخّله في مصائر الشعب من حوله، متحكّماً بأنفاسهم ومواردهم وأفكارهم، حتّى يهيّئَهم للانفجار، أو يقوم هذا النظام بحكمة وتدرّج بالانكفاء على نفسه ضمن مساحة شرفيّة وبروتوكوليّة، تضمن لمجتمعه الانتقال السليم للعصر الديمقراطيّ التداوليّ، دون الاضطرار لتدمير البلاد، وإشاعة الفوضى، ومن الضروريّ الانتباه إلى أنّ التداول لا يعني فقط التداول الاسميّ والشكليّ، مع بقاء الموارد والمفاصل السياسيّة بيد قلّة قليلة من كبار العسكر، أو النخبة، باسم النظام الجمهوريّ الذي يستخدم الانتخابات المزيّفة، أو المزوّرة، كالحال في معظم الدول العربيّة التي أنشأت أنظمة جمهوريّة، جعلت الشعوب العربيّة تتمنّى عودة المماليك إليهم، فهي خير لهم من أنظمة كهذه الأنظمة، بل المقصود هو التداول الدستوريّ العميق الذي يتيح انتقال السلطة التنفيذيّة الفعليّة من حزبٍ منتخب، إلى حزبٍ منتخبٍ آخر، يستطيع أن يطبّق فيها برامجه بلا وصاية، ولا تعطيل، إلا من رقابة البرلمان المنتخب..

لقد كان الربيع العربيّ سُنّةً من سنن التغيير، للانتقال من عصر التوارث لعصر التداول، أسوةً بشعوب العالم الحرّ، ليس في ذلك منّةٌ لسلطانٍ أو زعيم، وإنّما هي سُنَّةٌ من سنن الله في كونه، يبتلي بها عباده: (وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

حسن الدغيم 

باحث 

مؤسّسة رؤية للثقافة والإعلام.




الإسلاميون وفخ الهوية

بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلاميّون وفخّ الهُويّة

يتصدّر الإسلاميّون طليعة المطالبين بالتغيير والإصلاح السياسيّ، منذ مائة عامٍ
تقريباً، بطرقٍ عديدةٍ، وتيّاراتٍ كثيرةٍ، متوافقةٍ ومتباينةٍ، بل ومتحاربةٍ أيضاً،
فينهج الإخوان نهج ما بات يعرف بـ (الإسلام السياسيّ)، أي الوصول للسلطة عن
طريق قواعد اللعبة الديمقراطيّة والانتخابيّة المعاصرة، مع احتفاظهم بالمطالبة
بسقف مرجعيّ دستوريّ، يعبّرون عنه بأنّه دولة مدنيّة بمرجعيّة إسلاميّة.
بينما ينقسم السلفيّون إلى تيّارين؛ أوّلهما ما بات يطلق عليه اسم (السلفيّة الجهاديّة)،
فيرى أنّ الإصلاح يبدأ من الرأس، سواء كان هذا الرأس حاكماً أو حكومةً أو ملكاً
أو برلماناً.. كلّ هذه المنظومات طاغوتيّة، خارجة عن نهج الشريعة، لابدّ من
إسقاطها، والانقلاب عليها، وتحكيم الشريعة، وهذا التيّار في صدام دائم مع المحيط،
سواءً السلطة أو الشعب، لأنّه يتبنّى دائماً فرض نظامه الإيديولوجيّ على من حوله،
وهذا التيّار تكلّمتُ عنه موسّعاً في كتابي (الغلوّ السياسيّ).
وأمّا التيّار الثاني، فهو يتبنّى النهج السلميّ، ويجعل بداية الإصلاح من القواعد
الشعبيّة، وهذه لا تصلح بحسب قولهم إلا بما صلح به أوّل الأمّة، وهو ما كان عليه
النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولذلك ينشطون في الوعظ والدعوة، وعلوم
الحديث، ومحاربة ما يسمّونه بـ (البدع)، ويهادنون –غالبيّتهم- السلطات الحاكمة، إذ
يرون أنّ الإصلاح لا يكون من القمّة، ويطلق على هذا التيّار اسم (السلفيّة العلميّة)
أو الدعويّة.
مجمل التيّارات الإسلاميّة التي تتبنّى العمل السلميّ إلى حدّ ما، من إخوان وسلفيّين
ومحافظين وصوفيّين.. مهما كانت التسمية، يشكّلون تقريبا السواد الأعظم من
المسلمين المحافظين، الذين يحملون دائماً لواء الشريعة، منهجاً للإصلاح الشامل،
ولكنّ هذا التيّار العريض المطالب بالإصلاح، وقع في فخٍّ كبير، ضمن مسيرته،
وهي ما أسمّيه (معارك التخوم)، فبدلاً من تقديم معركة الحريّة، وتعزيزها في
المجتمع، صاروا إلى تقديم معركة الهويّة الإسلاميّة في الدستور، ومعارك التخوم
هذه التي لو انتصر فيها الإسلاميّون، يبقى انتصارهم هامشيّاً، أو متجاوزاً الأحداث،
بعيداً عن مركز العمّق في السلطة، والنفوذ والتوجيه، وعادةً تنتهي معركتهم بأن
يكتب في الدستور مادّة تنصّ على أنّ: (دين الدولة الإسلام)، أو أنّ: (دين رئيس
الدولة الإسلام)، أو أن يمنع الاقتراب من بعض القوانين الشخصيّة، أو أن يكتب: أنّ
المادّة الثانية من الدستور تنصّ على أنّ: (الشريعة الإسلاميّة هي مصدر التشريع)،
أو (المصدر الرئيسيّ للتشريع)، وبعد هذا يظنّ الإسلاميّون أنّهم انتصروا وحافظوا
على هويّة الدولة، وصورتها الثقافيّة والتاريخيّة، بينما تستمرّ النخب الفاسدة الطائفيّة

2

أو الانقلابيّة مستحوذة على مركز العمق، وتفرض سيطرتها على الإعلام والجيش
والأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجيّة، وبالكثير تتصدّق على بعض خصومها
بوزارات ومقاعد إداريّة وخدميّة، ثم تستثمر الدولة العميقة المنتصرة بعد التمكّن من
مفاصل الدولة، باصطناع الهجوم على فصيل (سلفيّ جهاديّ) باسم مكافحة
الإرهاب، وضبط أمن الدولة، وحماية الدستور، وتقوم بشنّ حملات عسكريّة أو
أمنيّة تطال النخب والشخصيّات التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير، مع اسطوانة
التهم الجاهزة، والملفّات التي تنتظر التحويل فقط إلى المحاكم العسكريّة، ليساق
هؤلاء إلى السجون.
جرى أن يتمسّك الإسلاميّون في كلّ فترة تحوّلٍ أو تغييرٍ، من مطلع الخمسينيّات،
بالنصّ في أيّ دستور، على مرجعيّة الشريعة الإسلاميّة، وأنّها مقدّمةً على كلّ ما
سواها، وهي شرطهم لدعم أيّ حكومة تغيير، أو السكوت عنها، وقد تمّ لهم ذلك في
الكثير من البلدان العربيّة، مثل سوريّة ومصر وليبيا والسودان واليمن والعراق
وغيرها، ولكن مع فقد مبدأ الحريّة السياسيّة، لم تغنِ الكلمات الدستوريّة بتطبيق
الشريعة أو الإقرار بالهويّة الإسلاميّة شيئاً، عن زجّ آلاف الإسلاميّين في السجون،
وتعرّضهم لأبشع ألوان التعذيب، دون رقابة قانون، ولا إعلامٍ، فضلاً عن الضمير،
بعد كلّ حدثٍ سياسيّ، ثورةً كانت أو احتجاجاً أو ربيعاً، أو صداماً عسكريّ أو
تغييراً في نظام حكم، أو إصلاحاً… تقوم قوى الثورات المضادّة، وجنرالات
الانقلابات العسكريّة، بزجّ الإسلاميّين في معركة الهويّة والدستور، فيستنفدون
قواهم فيها، تطاحناً واختلافاً بين بعضهم، وبينهم وبين العلمانيّين، وبين المسلمين
وغيرهم، وتستغلّ السلطة العميقة هذه الضفاف المليئة بالجراح، لتتحالف مع خصوم
الإسلاميّين، طارحة شعارات التقدّم والحداثة والحريّة، وأنّها هي من تحمي الحريّات
الشخصيّة، والأقليّات والخصوصيّات الثقافيّة، وتجلب حولها قطاعاً كبيراً، صدع
الإعلام رأسه بهواجس التخوّف من الإسلاميّين ومشاريعهم، التي ما أسهل أن
توصف بالداعشيّة والقاعديّة والتطرّف والإرهاب، وبخاصّة مع رؤيتهم الشارع
واللافتات والمظاهرات المطالبة بتحكيم الشريعة، بل وسيّارات الاحتساب، وهيئات
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشرطة الدينيّة التي تتحرّك بدون غطاء من
أيّ سلطة…
معركة مفتعلة خاسرة خاضها الإسلاميّون، فدفعوا ضريبتها، أوّلاً من دمائهم،
وأبنائهم، وعلاقاتهم ضمن الصفّ الداخليّ، ثمّ تدفعها الشعوب الطامحة للحريّة
بسبب عطب التيّار الرئيسيّ في الزخم الشعبيّ، وهو التيّار الإسلاميّ، وإشغاله في
معركة الدستور، وهويّة الدولة.
إنّ تعزيز قيم الحريّة والكرامة، وتجريم الاستبداد، مهما كان مصدره وتوجّهه
وثوبه، وتجريم الانقلابات العسكريّة على الحكومات الشرعيّة، والعمل على الوقوف

3

بحزم أمام الحكومات الطائفيّة، هذا هو الطريق للحفاظ على الهويّة والثقافة، وليس
كلمات في دستور مرقوم، لا يقرؤه إلا المتخصّصون.
حتّى لو وجدنا غبناً شرعيّاً في دستور لا يعترف بسيادة الشريعة، ويتحاكم
للوضعيّات في كلّ شأنه، ويتّخذ -ولو زوراً- قوانين الشرعة الدوليّة، أو نموذجاً من
القوانين الغربيّة، ولو حصل هذا مع حكومة ممثّلة النّاس، عادلة في شؤونها،
يستطيع الإسلاميّون العمل ضمن أروقتها، فهو أفضل وأنجع للشريعة والهويّة
والثقافة والدعوة من أن يستنزفوا قوّتهم في معارك مفتعلة، من أجل كلمة أو مادّة أو
قانون،
الحريّة أوّلاً، نعم، وليس الهويّة، فالهويّة هي العمق الذي يتنفّس في مناخ الحريّة.

انتهى




التجربة الإسلامية المغربية

أكتب هذه المقالة من مدينة مراكش في زيارتي الثالثة للمملكة المغربية، والتي حاولت فيها أن
أستمع لشهادات مختلفة عن التجربة الإسلامية في هذا البلد العريق والمتميّز بثقافته الجامعة بين
أصالة (أمير المؤمنين) وحداثة (النظام الديمقراطي)، مع مسحة حضاريّة ملموسة في السلوك
والتعامل اليومي ومفردات التعبير البياني والعمراني.
في لقاءات وجولات متنوعة اكتشفت حجم تشوّق (المغاربة) لأخبار أشقّائهم (المشارقة)
وتواصلهم مع كلّ المتغيّرات والأحداث والمفاجآت التي تعصف بهم، شعب مثقّف ومطّلع،
ويحمل قدرا كبيرا من الوفاء، لقد كانوا يسألونني في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان عن
أستاذنا الدكتور محسن عبدالحميد لأنه كان يدرّس عندهم قبل عقود من الزمن! تذكرت حينها
كلمة كان يرددها الدكتور محسن: (لما ذهبت إلى المغرب كنت أحدث نفسي هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في بغداد، ثم لما عدت من المغرب حدثت نفسي: هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في الرباط؟)!
في زيارة سابقة دعانا الأستاذ الكبير عبدالكريم الخطيب -رحمه الله- وهو أحد أعلام المغرب،
دعانا إلى بيته للغداء، وسألني كثيرا عن العراق وقطر ثمّ قال لي مازحا: أقول لك معلومة لا
تقلها لأحد! إني عراقي، كيف يا شيخنا؟ قال: (نعم مرّت بنا ظروف سياسيّة وأمنية قاسية فلجأت
إلى العراق فأكرمونا غاية الإكرام، وقالوا: هل تأمر بشيء؟ قلت: أحتاج وثيقة أتنقل بها، قال
فأحضروا لي جواز سفر، وما زلت محتفظا به)، وقد فاتني أن أسأله في أي عهد كان ذاك، لكن
الظاهر أنه يتكلم عن فترة انخراطه في جيش التحرير المغربي أواسط الخمسينيات.
في تلك الزيارة أيضا شهدت احتفالية كبيرة في ملعب واسع ضمّ آلاف المشاركين، تنازل فيها
الخطيب عن قيادة (العدالة والتنمية) وتم انتخاب الأستاذ سعد الدين العثماني أمينا عاما، ومعه
أسماء ووجوه قيادية جديدة، وقد رأيت كيف يقوم الذين لم تتح لهم فرصة الفوز بتهنئة الفائزين
بروح أخوية وأجواء أسريّة مريحة وغير متكلّفة، حتى أنك لا تستطيع تمييز الفائز عن غيره،
وقد أتيحت لي حينها فرصة التحدث عن الوضع العراقي، وكان هناك مجموعة من الشباب
يستوقفونني ليهتفوا بكلمات (العراق) (بغداد) (الفلوجة) بأهازيج حماسيّة لم أتمكن من حفظها،
وكان العلَم العراقي يغطي مساحة واسعة من المدرّجات ويتنقل فوق رؤوس الجماهير.
تمعنت كثيرا في العنوان (العدالة والتنمية) وفي (المصباح) بشكله التراثي الموضوع دائما جنب
العنوان كشعار للحزب، وتذكرت العدالة والتنمية التركي ومصباحه كذلك، وحين سألتهم عن سرّ
هذا التوافق أكّدوا لي أنّ الأتراك هم الذين اقتبسوا من المغاربة الاسم والمصباح مع تحديث بشكل
المصباح فقط! ولا شك أن هذا يعني الكثير، فالتجربة المغربية كأنّها أصبحت مثالا يحتذى، وهذا
بحدّ ذاته يدعو للتأمل والدراسة.
إن التجربة المغربية لا تنحصر بالعدالة والتنمية، فهناك لافتات قويّة ومؤثّرة اتخذت طابع التربية
والدعوة والتعليم الشرعي ولها من العمق والتأثير في هذه المجالات ما للعدالة والتنمية في المجال
السياسي.
إن أهم ما يميّز التجربة المغربية هو ديناميكيّتها العالية، وقدرتها على التغيّر والتطوّر ومراجعة

2

الأخطاء وإعادة الحسابات على مختلف الصُّعُد، ويكفي هنا أن أضرب مثالا واحدا: سنة 1979
كان هناك تجمّع لدعم الجهاد الأفغاني، فتقدّم الصفوف رجل أخذته الغيرة وأصرّ أن تكون له
كلمة، وحين أتيح له ذلك أخذ يهتف بالمحتشدين: (إن تحرير أفغانستان يبدأ بتحرير الرباط من
الطواغيت)، ما سبّب حرجا للمنظمين وللمسؤولين أيضا، هذا الرجل أصبح اليوم رئيسا للحكومة
في ظل العرش الملكي، وهو الذي يقول اليوم: (إن المغرب يجدد التأكيد على التزامه المتواصل
بتعاون دولي متضامن لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وإن ظاهرة الإرهاب التي لا
يمكن ربطها بدين معيّن تستدعي نبذ كل أشكال التطرف والعنف من خلال نشر مبادئ الاعتدال
والتسامح والانفتاح وهو ما فتئ يقوم به أمير المؤمنين).
في ثقافتنا (المشرقية) يرجعون هذا التبدّل -في الأغلب- إلى عوامل سلبية كالانتهازية والمزاجية
وضعف المبادئ والانحراف عن الجادّة، أما (المغاربة) فقد أحبّوه في الحالتين، ورأوا فيه عنصر
الصدق، فهو يتكلّم بما يمليه عليه ضميره وما يتوصّل إليه اجتهاده، ولا يمنعه قول سابق حشد له
العباد أن يغيّره بقول لاحق ولو كان فيه خسارة الجمهور، لكن الجمهور المغربي مختلف إلى حدّ
ما عن جمهورنا، فالثبات عندهم في غير الثوابت والضروريّات القطعية هو نوع من الجهل
والجمود والتعصّب المقيت، وأن التغيّر هو علامة الصدق والموضوعية و (التكوين المستمر)،
فالمعيار ليس النوايا والقصود الخفيّة ولا السير على (مثبّت السرعة)، بل قراءة الوقائع
والمستجدات والمآلات والاحتمالات، والمراجعة الجادّة للتجارب والمواقف والأفكار، وعبقريّة
المفكر مهما كانت فإنها ستعزله عن المجتمع الذي لا يتمكن من مواكبة كل هذه الحيثيات، إلا إذا
غلبت على المجتمع نزعة التقليد الأعمى كحال الشيعة مع مرجعياتهم.
في هذا السياق أيضا يذكر الدكتور أحمد الريسوني كيف أنه ومجموعة من الشباب كانوا يعملون
مع جماعة الدعوة والتبليغ، وفي الوقت ذاته كانوا يقرؤون كتب الإخوان المسلمين ويعجبون
بأدبياتهم حتى أنه حفظ (معالم في الطريق) عن ظهر قلب، ولذلك أطلق عليهم اسم (التبليغ
مودرن)، وفي ذلك الوقت أيضا كانوا مهتمين بطروحات الداعية الكبير الشيخ عبدالسلام ياسين
حتى أنهم استنسخوا له خطابا موجّها إلى الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- ووزّعوه لما
فيه من شدّة بلغت حدّ (الإزعاج والاستفزاز)، وحين يتذكّر الريسوني تلك المرحلة يقول: (إنها
مرحلة الإعجاب بالبطولات والأعمال الجريئة)، وبعد هذا أبحر الريسوني في (فقه المقاصد) ثم
في (فقه التقريب والتغليب)، ومع كل هذه التغيّرات اللافتة والارتباطات المتنوعة بقي الريسوني
كما بقي عبدالإله بنكيران وسعد الدين العثماني والمقرئ الإدريسي أبو زيد وعبدالسلام بلاجي
وغيرهم الكثير في قلب الحاضنة الجماهيرية، وهذا دليل يضاف إلى وعي هذه الحاضنة،
وتطلّعها هي أيضا للتغيير والتكوين المستمر، ونبذها للجمود والانغلاق والتعصّب المقيت بكل
أشكاله.
يلخّص الأستاذ سعد الدين العثماني -وهو الذي قاد العدالة والتنمية بعد الخطيب ثم تسنّم وزارة
الخارجية المغربية- رؤيته الكلّية التي أسهمت في نقل الحركة إلى أفقها الأوسع على الصعيدين

3

الفكري والتنظيمي: (كنت وقتها أرى أن هناك مفاهيم وسلوكيّات لدى الإسلاميين تحتاج إلى هزّة
عنيفة لتتغيّر وتتكيّف مع متطلبات الرؤية الإسلامية المستنيرة).
على الصعيد الفكري أذكر أننا اشتركنا في مؤتمر (فقه الدولة) المنعقد في اسطنبول العام الماضي
وقد طرح العثماني أفكارا في غاية القوّة والجرأة، وكان أحد الإخوان العراقيين حاضرا فالتفت
إلى إخوانه وطمأنهم أن هذه الكلمات إنما هي (تقية سياسية)! لم يستطع الرجل وهو أخ كريم
ومميّز بين أقرانه أن يستوعب هذه الهزّة إلا على أنها تقية! مع أن الدكتور العثماني قد أحدث هذه
الهزّة منذ سنين، وكتاباته في هذا موثقة ومنشورة قبل مشاركته الوزارية، وهذا مثال للتفاوت بين
الثقافتين المشرقية والمغربية.
في الجانب التنظيمي يكفي أن نقرأ هذه الاقتباسات التي حاول العثماني فيها مبكّرا أن يسقط
مفهوم (القائد الأسطورة) والمحور (الذي يدور عليه كل شيء) والذي هو (فوق المراجعة والنقد)
والذي (يملك وحده حق النظر للحركة وتقويم خطّها وإصدار الاجتهادات والفتاوى) (ولذلك كانت
قناعتي أن هذا العطب فضلا عن كونه من مخلفات عصور الانحطاط فإن من شأنه… أن يشلّ
طاقات إسلامية كثيرة ويمنع قيام عمل إسلامي حقيقي)!
العثماني هنا أذكره كنموذج فقط، وإلا فإن هذه المقولات لو كانت له وحده لكانت كفيلة بعزله
وإخراجه من الحركة، لكنه الوعي العام داخل الحركة وداخل المجتمع أيضا، وخطاب العثماني
هذا تبنّاه وهو جندي وتبناه وهو قائد، تبنّاه ونشره على الملأ ليقرأه القريب والبعيد والصديق
والعدو، وقد كان في هذا تمتين لبناء الصف الداخلي وتعزيز لمكانة الحركة في المجتمع، بخلاف
الحركات الأخرى التي ما زالت تتخوّف من الوضوح والنقد والمراجعة والتي ما زالت تعاني
بسبب هذا وغيره من عزلة اجتماعية وانشقاقات ومشاكل داخلية.
لقد انطلق المغاربة من مقولة تأصيلية كبيرة (أن كل شيء ما عدا الكتاب والسنّة قابل أن يحرق
ويراجع وينسخ ويلغى ويعدّل) وهذه ليست صرخة واعظ بل هي منهجية عميقة ودقيقة، يقول
الدكتور الريسوني شارحا لها ومبينا أسباب فرقة المسلمين وضعف القابلية على الانسجام
والتوحّد: (لأن كثيرا من الجماعات الإسلامية تلتقي وتفترق على غير الكتاب والسنّة… على
المواقف الآنية والاجتهادات الفكرية والسياسيّة… كانت الاجتهادات والأفكار الخاصة فيما قبل
هي التي توحّد أو تفرّق، وكان الشعار هو: قل لي ما موقفك من النظام أو من الانتخابات أقل لك
هل يمكن أن أسير معك أو لا)، وفي هذا يسجل الأستاذ محمد الحمداوي شهادته التاريخية: (كنا
نتحفّظ على كل شيء، فلم نكن نقبل أن نسمع مسألة الانفتاح على الشيخ المكي الناصري أو
العلماء الرسميين، بل لم نكن نتقبل أن يتحدّث عن هؤلاء بكلام إيجابي، ولم نكن نتقبل أن يلتقي
عبدالإله بنكيران برئيس المجلس العلمي.. ولم يتمكن الإخوة من التخلّص من هذا التحفّظ حتى
سنة 1984) وهكذا يستمر التشخيص الدقيق على هدي الوحي كتابا وسنّة، فالمقبول ما يقبله
الوحي، والمرفوض ما يرفضه الوحي أيضا، والولاء لكل مسلم مقبول في دائرة الإسلام بغض
النظر عن موقفه من الجماعة أو موقف الجماعة منه، وهذا هو الذي استقرّت عليه الحركة
تأصيليا وتطبيقيا، يقول المقرئ الإدريسي أبوزيد: (العلاقة الأخوية هي فوق العلاقة التنظيمية) و

4

(أننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين) وهذه نتيجة لمراجعات فكرية عميقة وجريئة
(وكنا نعيش حالة من الالتباس بسبب الفكر التنظيمي الذي تأثرنا به من الإخوان المسلمين؛ أننا
ننشئ الجماعة الإسلامية على هدي الجماعة الإسلامية الأولى، فلم يكن عندنا تكفير صريح
للمجتمع ولكننا ضمنيا كنا نرى نوعا من الطهرانية الداخلية في مقابل حالة الانحراف الخارجية)
ثم يقول: (وهذا قد وقانا من شرور التكفير والمفاصلة والانعزالية والمنابذة والسرية).
إن تلك المراجعات الفكرية التأصيلية قد قادت بالفعل إلى الوضوح في كل شيء ونبذ السرّية،
يقول الأستاذ الحمداوي أيضا: (تأكّدنا أن السرية ليست هي التي تحمي العمل وتحصّنه، بل
العكس، يمكن أن تأتي عليه من القواعد وتهدّه)، ومن لطائف ما يذكره الحمداوي بهذا الصدد أنهم
استفادوا من تجارب إخوانهم المشارقة، لكنها -على ما يبدو من السياق- استفادة على سبيل
الاتعاظ لا الإعجاب (خاصة التجارب التي اصطدمت مع الأنظمة) على حد تعبيره.
وكما تحرر المغاربة من ثقافة الانغلاق ومن دهاليز العمل السرّي تحرّروا كذلك من ربقة العمل
المركزي، وهي العقدة الأشد على ما يبدو؛ حيث استغرق العمل عليها من 1994 حتى سنة
2006، بحسب شهادة الحمداوي، وهذا الوقت الطويل لم يكن بسبب المنافسات أو الإشكالات
التنظيمية بل لأنه (لا تتوفر الكفاءات البشرية لتطبيق اللامركزية)، وهذا يؤكّد أن تلك المراجعات
كانت بمستوى المسؤولية العملية وليست فكرة طارئة أو شهوة نقدية جامحة.
لقد تزامن كل هذا مع مراجعات جريئة لبعض المفاهيم الدينيّة القاصرة، يقول العثماني: (قطعنا
أشواطا في التأصيل لمفهوم السياسة الشرعية وتصحيح ومراجعة جملة من المفاهيم غير
الصحيحة، ومن ذلك مسألة الولاء… التي جعلها كثيرون متكأ لإدانة أي خطوة يتعاون فيها دعاة
الإسلام مع غيرهم… والتي تؤدي إلى معاداة الواقع أو الانعزال عنه).
أما انعتاقهم الواعي من أي صيغة تنظيمية نحو (التنظيم الدولي) فقد وفّر لهم حماية داخلية عن
أي مصادمة أو إشكالية غير محسوبة، كما وفّر لهم غطاء قانونيا سليما، هذا على مستوى
التنظيم، أما على مستوى الوعي والفكر والتواصل مع هموم الأمة، فلا شك أنهم بالأساس
ينطلقون من ثقافة الأمة وهويتها وعقيدتها.
إن هذه الإطلالة السريعة على ضفاف الأطلسي لن تعطي الصورة الكاملة عن ذلك المحيط
الزاخر، بل هي تحفيز للعاملين هنا من كل اللافتات أن يتواصلوا مع هذه التجربة المتميّزة،
والتي وقاها الله من أدواء الانغلاق والانشقاق والتطرف، وكانت كذلك سببا في حماية بلادها من
موجات الفوضى والعبث التي تعصف بأغلب بلدان المنطقة.




أنسنة المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

أنسنة المسلمين

لماذا اجتاحوا فسطاط المسلمين؟ ولماذا لا تنزل الطير الأبابيل؟ 

على شواطئ البحار الهادرة، وعلى وقع صدمات الأمواج العاتيّة، ومع كل محنةٍ تحاصر جزءاً من جغرافيّة المسلمين، فتوقع أبناءها بين قتيل وجريح ومُهجَّر، ووطن مدمَّر، ودولةٍ فاشلة، تتصاعد الأصوات من الحناجر المبحوحة: 

  • لماذا لم ينصرنا الله؟ لماذا سقطت كابول وبغداد وصنعاء ؟

لماذا سقطت غوطة دمشق، وخرج الثوّار منها؟ وهي فسطاط المسلمين وخيرة بلاد الله يجتبي إليها خيرته من خلقه؟ وأين أجنحة الملائكة المبسوطة على بلاد الشام؟ بل أين حفظها في الكنانة، ورمي من رامها بسوء!؟ بحسب ما ورد في بعض الآثار؟.

وأمام هذا الضغط الهائل من الأسئلة يبتدر الدعاة للتعليق عليها بجواب موحّد تقريباً، وهو رمي الكرة في مرمى السائلين، وذلك باستحضار قوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وباعتبار أنّنا لم ننصر الله، فنحن لا نستحقّ نصره، هكذا يلقي الداعية الهمّ عن نفسه كأنّه قضى المهمّة المطلوبة منه، ولكنّ نفس السائل ستبقى تغرق في بحار من الريبة والشكّ، في مصداقيّة الجواب، وذلك لعدّة أسباب: 

أوّلها: أنّ نصر العباد لله ليس برنامجاً قابلاً للقياس، فهناك عشرات الجماعات التي تسلك مشاريع العمل لنصرة الله، والدعوة لسبيله، وإعلاء كلمته، ورغم ذلك فإنّها لا تنجح، ولا يمكن محاسبتها، للجهل بالمعيار الذي من خلاله يحدّد ما إذا كان هذا المشروع نصرةً لله أم لا. 

ثانيها: أنّ المسلمين على تقصيرهم يفوقون أعداءهم بمراحل، بمحبّة الله والتضحية في سبيله، والغالبيّة منهم حتّى الآن يستظهرون بالشعائر، ويحتكمون في غالب شؤونهم إلى الشرائع، وأمّا أعداؤهم ففي منحدر خطير من الكفر والإلحاد، بل وتحدّي الله، وحرب دينه وعباده، فلماذا استحقّوا النصر أكثر من المسلمين؟

ثالثها: أنّ هؤلاء المسلمين المظلومين عندما يحصلون على دعم عسكريّ قويّ يستطيعون الصمود، وعندما يحرمون الدعم لا يستطيعون، رغم أن حالهم الدينيّة عقيدةً وسلوكاً لم تتغيّر قبل الدعم وبعده، ممّا يرجّح عدم ارتباط النصر بالمعتقد، فلو ملك ثوّار سوريّة مضاد الطيران لانقلبت الموازين.

وغير هذه الثلاثة هواجس كثيرة تعصف اليوم بأذهان الشباب المسلم، بعد الانكسارات العسكريّة أمام الغزاة، أو أنظمة الاستبداد، وأحببت من تسمية هذا المقال بـ (أنسنة المسلمين) تطبيع الأمر وتحكيمه على أرض الواقع المشاهد، حتّى يستطاع فهمه، فالحقيقة أنّ المسلمين مثلهم مثل غيرهم من الناس، يجري عليهم ما يجري على بني الإنسان، ينتصرون مرّةً ويهزَمون مرّةً أخرى، وكذلك الكفّار ينتصرون ويهزمون، المسلم يقتَل والكافر يقتَل، والحقّ لا يعصم الناس، كما أنّ الباطل لا يبيح قتلهم.

قد يهزم الحقّ، ويسحق أهله، ويشرّدون ويمزّقون في الأرض، وقد ينتصر الباطل ويسود، فلطالما جزّت رؤوس الأنبياء، ومزّقت أجساد الأتقياء، بل يروى أنّ رأس (يحيى بن زكريّا) قطف وقدّم مهرا ً لبغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، وليس خافياً علينا ما حدث لمنتسبي أهل البيت، من التقتيل والتشريد في الأرض، وهم من خيرة الناس.

في الحقيقة ليس هناك عصمة لحامل حقٍّ من الهزيمة أو النكال، وليس هناك أطواق نجاةٍ خاصّة تنجي المؤمنين، ومطارق تزهق أرواح الكافرين، وليس هناك انتصارات تكتب للمصلّين، وهزائم تلحق بتاركي الصلاة، والسواك ليس من أسباب النصر، وعدمه ليس من أسباب الهزيمة. 

إنّ الحديد يفلّ الحديد، وإنّ السيف يقطعه السيف، وإنّ العزم يوهنه العزم، وإنّ القويّ يبطش بالضعيف، بغضّ النظر عمّا يحمل كلٌّ منهما من المبادئ… 

طيّب… فما الجواب عن موجبات النصر الدينيّة في القرآن والسنة ؟

نقول: إنّ الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن نصر المؤمنين، هي جزء من غيرها من النصوص الواضحة، التي تربط فاعليّة الإيمان بالأسباب الجغرافيّة والسياسيّة، فقوله تعالى: ( كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً ) هي نتاج لمرحلة عسكريّة طويلة، من كفاءة القائد، وحضوره بين جنده، ومراحل التدريب والصقل، والمسير والثبات رغم الصعاب، وقوله تعالى: ( إن تنصروا الله ينصركم ) مرتبط بالبأس الشديد: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)، فليس لنا أن نقتطع نصّاً من سياقٍ عامّ متكامل، ثمّ نبني عليه ما يجب بناؤه، على عموم النسق القرآنيّ الهادي لأقوم الطرق. 

ثمّ إنّه لا يخفى دور الإيمان من حيث هو قوّة خفيّة بالبداية، ولكنّها تتحوّل لإرادة معنويّة كبرى، تعدل ميزان القوى غير المتكافئة، ولا شكّ أنّ الحرب المعنويّة لها الأثر البالغ في تحقيق النصر، ولكن… مع هذا نقول: إنّ هذا ليس مقتصراً على المسلمين، فأيّ جماعة تؤمن بمعتقدٍ ما، وتكوّن منه إيديولوجيا حاكمة وملهمة ستبث فيهم هذه الطاقة والقوّة، وهذا ما نراه عند الوثنيّين واليساريّين والمتطرّفين الدينيّين، بل بعضهم تصل به الشجاعة لتفجير نفسه وهو يضحك، منسجماً مع الإيديولوجيا التي يحملها بغضّ النظر عن موقعها من الحقّ والباطل.

أمّا بالنسبة إلى الآثار الواردة في حفظ بعض البلدان وكفالة أهلها، فكعادتي لا أدخل في قضيّة التصحيح والتضعيف، لعدم تخصّصي في هذا العلم، ولكن هذا لا يمنعني أيضاً من التأمّل، بأنّ هذه النصوص – إذا سلّمنا بثبوت بعضِها سنداً- كحديث فسطاط المسلمين في الشام، أو كفالة الله للشام، أو أنّ الملائكة باسطةٌ أجنحتها على بلاد الشام، وغيرها، فإنّ الواقع الشاهد أو التاريخ الغابر يقول غير هذا، فهذه البلاد تمتاز بكثرة الهرج والقتل والفتن والتشظّي، والحروب المزلزلة، وكم هجّر أهلها، وكم قتّلوا، وكم عذِّبوا… ويكفيك ما حدث لهم في هذا العصر و(لفسطاط المسلمين) الغوطة، كما يفسّرها بعضهم بالذات، من أكبر كارثة تقتيل وخنق وتهجير… لم تحدث إلا في الحروب العالميّة الكبرى، وهذا دليل على أنّ المراد ليس الحفظ الماديّ والمشاهد على الأقلّ، وربّما يتعلّق ببركات خفيّة لا تفهم عبر مدركات البشر وعقولهم، شأنها شأن الأمور الغيبيّة التي نؤمن بها دون اشتراط يقين العقل بها، أو توافقها مع مقاييسه، فلا نجعلها من أسباب النصر ولا الهزيمة، فالشام مثل الأرجنتين مثل المكسيك مثل اليابان، تنتصر بما تنصر به تلك الدول، وتهلك بما تهلك به تلك الدول، وقد يقوى أهل الشام – كزمن بني أميّة – فيحكمون العالم، وقد يضعفون، كيوم احتلّتهم فرنسة، وهذا كلّه ضمن الاعتبارات الكونيّة التي تجري على الناس كلّهم، فليس بفضل بلاد الشام فتحت الأندلس، وليس بقرن الشيطان في نجد سقطت الأندلس، ولو ملك ثوّار سوريّة اليوم مضاد الطائرات لخرج الطيران الروسيّ عن المعركة، وسحقت الميلشيات الطائفيّة، وسقط النظام في دمشق، 

لقد هزمنا لأنّ عدوّنا متقدّم علميّاً وتكنلوجيّاً علينا، وليس لأنّه أقرب لله ورسالاته، وهنا أدعو إلى عدم تحميل الدين ولا نصوصه مسؤوليّة هزيمتنا أو انكسارنا، بل نحن مع الحقّ ولو سحق، ومع أهل الحقّ ولو هزموا، والنصر لا يعطي قيمة مضافةً وجوهريّة للحقّ والهزيمةُ لا تسلب منه فضيلة، وكذلك الباطل، لا يشرّفه نصر، ولا يعزّزه تفوّق، بل هو زاهق في عالم الأخلاق والقيم، ولو حقّق الانتصار العسكريّ.

انتهى




استراتيجيّات للتعامل مع المشكلات

استراتيجيّات للتعامل مع المشكلات

تعرّف المشكلة بأنّها: كلّ موقف غير معهود، لا يكفي لحلّهِ الخبرات السابقة والسلوك المألوف، وهي عائق في سبيل هدف منشود.

ولأنّ الإنسان يتعرّض في حياته للعديد من الأحداث، والمواقف الجديدة، يعدّ تعرّضه للمشاكل أمراً بدهيّاً، وهذا ما ينبغي علينا أن نوطّن أنفسنا عليه، فلا أعلم أنّ إنساناً ما عاش حياته بدون التعرّض للمشاكل أو التحدّيات في حياته.
ومن ناحية أخرى فإنّ الحياة الدنيا في عقيدة المسلم، هي دار ابتلاء واختبار، وهذا يقتضي أنّ وجود المشكلات أمر بدهي، مادام أكبر خصائص الحياة الاختبار.

فإذا علمنا ذلك كان لابدّ لنا من الاستعداد لمواجهة المشاكل على اختلاف أنواعها.

فكيف نستعدّ؟ وماهي الاستراتيجيّات للتعامل مع المشاكل؟

لكلّ مشكلة استراتيجية معيّنة لحلّها، ويجب أن يتمّ اختيار الاستراتيجيّة التي تتناسب معها، حتّى تعتبر خطوة أولى في الوصول إلى الحّل، الذي يساهم في إنهاء وجود المشكلة.

ويمكن لنا تحقيق ذلك عبر الخطوات التالية:

  1. الشعور بالمشكلة: والإحساس بها.
  2.  تحديد المشكلة: التي نريد حلّها.
  3. جذور وأصول: معرفة جذور المشكلة وأصولها، وسبب نشأتها.
  4. مظاهر وآثار: معرفة مظاهر المشكلة وأثارها.
  5.  مشاكل متراكمة: قف قليلاً وتأمّل، فقد يكون حلّ هذه المشكلة متوقّفاً على مشكلة أخرى!
  6. جمع المعلومات: الكافية عن المشكلة، ثمّ تحديد أهمّ المعلومات وأكثرها صحّة.
  7. صياغة المشكلة: عدّة صياغات، لأنّها تحدّد فهمنا لها، بشكل جيّد حتّى تتفّق رؤيتنا للمشكلة مع من يشاركنا في حلّها.
  8. تقسيم المشكلة إلى أجزاء: رئيسة وأجزاء ثانوية، وهي خطوة هامّة جدّاً حتّى لا نتعامل مع المشكلة ككتلة واحدة معقّدة.
  9.  الأولويّات: التأكد  بأنّ حلّ هذه المشكلة، مدْرجٌ في سُلّم الأولويّات لدينا.
  10. الاطلاع على التجارب السابقة: الاطلاع على المشكلات المشابهة  التي مرّ بها السابقون من العظماء والعلماء، وعلى طرق حلّهم لها.
  11. حلول خاطئة: قد يكون هناك آراء سابقة خاطئة حول المشكلة، ممّا يؤدّي إلى وجود عوائق في طريق الحلّ.
  12. إيجاد الأفكار: إنتاج أفكار متنوّعة غير عاديّة ثمّ تحديد الأفكار الملهمة التي تساعد على الحلّ.
  13. الحماسة والمرونة الذهنيّة: الاندفاع في مواصلة التفكير والعمل، مع التحلّي بالكثير من الصبر والمرونة الذهنيّة، فليس بالأمر اليسير أن نصل إلى حلّ مرضِ تماماً.

(علينا أن نعترف أنّ لكلّ جيل سقفاً معرفيّاً لا يستطيع تجاوزه).

  1. النظر من عدّة زوايا: عليك ألّا تستنفد احتمالات الحلّ كلّها في اتجاه واحد، بل لا بدّ من الانتقال من بضعة احتمالات في اتجاه معيّن، إلى احتمالات أخرى في اتجاه آخر، إلى احتمالات جديدة باتجاه ثالث.
  2. طبيعة المشكلة: عليك أن تفكّر بطبيعة المشكلة، فبعض المشاكل تتطلّب تفكيراً جماعيّاً، فلا يمكنك أن تصل إلى الحلّ إلّا عن طريق التفكير الجماعيّ، بين مجموعة متجانسة ثقافيّاً وفكرّياً، أو متقاربين ملمّين بالمشكلة أيضاً.
  3. اختيار الحلّ الأنسب والأمثل: اختيار الحلّ الأكثر ملاءمة للمشكلة والظرف المكانيّ والزمانيّ.
  4. تنفيذ الحلّ: تطبيق الحلّ وتنفيذه على أرض الواقع.
  5. اختبار الحلّ: اختبار مدى ملاءمة الحلّ للواقع، ومدى الفائدة المتحقّقة من تطبيقه.
  6. توثيق الحلّ: تدوين الحلّ وتوثيقه، حتّى يتمّ الرجوع إليه، وتحويل الحلّ إلى قواعد وقوانين.

وفي الختام لا بد من ملاحظات صغيرة:

  1. لا يشترط أن يتوصّل إلى الحلّ الناجح من خلال الخطوات السابقة فقط، فكلّ ما سبق هو مقدّمات وخطوات  لتحقيق حلّ ناضج وجيّد.
  2. فكّر في الحلّ، ثمّ أعد التفكير، فإنّ الأناة في إصدار الأحكام والصياغة الدقيقة، غاية في الأهمّيّة.
  3. ينبغي ألّا تنسى أمراً هامّاً هو: أنّ كثيراً من المعطيات التي نمتلكها لحلّ ما، تكون غير يقينيّة، ممّا يجعل الحكم في النهاية ظنّيّاً، فلا بدّ لنا من بيان ذلك، فليس من العلم في شيء أن ( نولّد نتائج قطعيّة، من مقدّمات ظنّيّة) أو أن نسوق النتائج، مساق القطعيّات، وهي في الأصل ظنون وتخمينات.
  4. أخيراً لا تخفْ!!
    إنّ تصريحك بأنّ الحكم هو ظنّيّ، وغير يقينيّ، ليس ضعفاً في الحلّ، أو حطّاً من قدر النتائج، بل إنّ ذلك يمنح الحلّ إمكانات إضافيّة في صيغته وتطبيقاته والتوليد منه، وتلك من ميزات الحلّ الناجح.