الثورة السورية وفشل النخب

يبدو أن نجاح الفرد السوري وفشل من يتصدون لقيادته، من الأمور التي يشهد التاريخ
بتكرارها؛ ولا تشكل الثورةالسورية المجيدة أي استثناء في هذا.
إن ما قدمه السوريون من تضحيات وما تحملوه من أذى من أجل كرامتهم وحريتهم يشكل
نبراسا للأجيال القادمة على امتداد العالم!
لكن من المؤسف جداً أنه لا يكافئ ذلك سوى فشل القيادات التي تصدت لقيادة الثورة مع
استثناء القليل منهم!
حين يفشل من يُظن أنهم قادة في تحديد أولويات المرحلة فهذا لا يعني شيئاً سوى النزاع
والضياع والمزيد من الاستنزاف
للثورة والبلد عامة.
أستطيع القول في هذا السياق إن للثورة أولويتين اثنتين: الخلاص من النظام المجرم بوصفه
شرطا لإقامة نظام حكم تعددي صالح و الحفاظ على وحدة البلاد.
كلا الأولويتين يحتاج إلى توافق وطني بين قيادات الثورة و نخبها.
التوافق يقوم على الرضا بالحد الأدنى من المطالب لكل فريق لأنه لا يمكن أن نلتقي في
وسط الطريق إلا بهذا.
المشكل هو تمترس نسبة لا يستهان بها من الإسلاميين والعلمانيين حول مطالب هي موضع
نزاع شديد بين الفريقين.
سورية أشبه ببناء كبير وهو مملوك لكل أبنائه بالتساوي ولا بد من الاتفاق بين الملاك على
طريقة صيانته وحمايته وسبل الانتفاع به…
إن لكل واحد من ساكني ذلك العقار أن يقوم بما يحلو له داخل بيته ولكن بشرط عدم إيذاء
جيرانه وإيذاء المظهر العام لذلك المبنى.
إن اختلاف النخب الثورية حول شكل الدولة ودستورها قد أخر سقوط النظام المجرم وزاد
في معاناة السوريين إلى الحد الأقصى وما كان لذلك أن يحدث لولا تجاهل الروح الأولى
للثورة وهي روح وطنية بامتياز .
الثورة قامت من أجل الحرية والعدالة والكرامة وضدالظلم والفساد والاستبداد
لا أكثر ولا أقل.
الثورة لم تنطلق لتاسيس دولة الشريعة مع أن كل مطالبها شرعية إسلامية ولم تنطلق لتشيّد
صرحا للعلمانية أو الإلحاد وإن كان من حق الجميع أن يعبر عن آرائه وأفكاره في إطار
الدستور وما يتم على هامشه من توافقات.

البساط الوطني وحده هو الذي يتسع لنا جميعا ولا بديل عنه وقد آن لنا أن نؤجل الكثير من
اختلافاتنا حتى نحقق أولويات الثورة وبعدها يمكن أن نختلف كما يختلف كل سياسيي
العالم.
إني أناشد كل من يشعر بآلام تشرد السوريين في الأرض أن يعملوا على بلورة ما يكفي من
المفاهيم المشتركة بين القيادات الثورية قبل ضياع كل شيء لصالح القتلة والمجرمين.




فيّ النقد الذاتيّ للثورة السوريّة

فيّ النقد الذاتيّ للثورة السوريّة

الثورة، هي نوع من انفجار النظام السياسيّ القائم، حين يفقد شرعيّته
وصلاحيّته، بسبب ما يرتكبه من فضائح وجرائم تفوق طاقة
المواطنين على التحمّل.
نحن نعرف أنّ الثورة السوريّة، قامت في سياق الربيع العربيّ، حيث
أشاع التونسيّون في أرجاء العالم العربيّ الأمل بالخلاص من النظم
المستبدة والطاغية، ونحن نعرف كذلك أنّ السّوريّين كانوا قبل الربيع
العربيّ في حال من اليأس التامّ من أيّ خلاص، أو تغيير لما خبروه
من بطش آل الأسد، وتمسّكهم بالسلطة، ولهذا فإنّ انطلاق الشرارة
الأولى للثورة السوريّة في (18/3/2011) كان تعبيراً عن شجاعة
السّوريّين وحبّهم للتحرّر، كما أنّه يشكّل في حدّ ذاته نوعاً من
النصر، حيث تمّ خلال الشهور الأولى للثورة تهشيم ثقة النظام
بنفسه، وتهشيم فبضته الأمنيّة أيضاً.
إنّ انطلاق الثورة -بقطع النظر عن أيّ اعتبار- يعبّر عن درجة من
النضج الفكريّ والشعوريّ والأخلاقيّ لدى السّوريّين على طريق
الخلاص من الاستعباد والفساد، وهذا النضج غير قابل للتراجع مهما
كانت الأمور التي ستفضي إليها الثورة.
يعلّمنا تاريخ الثورات أنّه لا وجود لنصف ثورة، فالثوّار الذين لا
يمضون بثورتهم حتّى النهاية، يسلّمون رقابهم للطغاة حتّى ينصبوا
لهم أعواد المشانق، وهذا كان واضحاً غاية الوضوح لدى الشعب
السوريّ، وهو في الحقيقة سرّ التضحيات الهائلة التي قدّمها الشعب
الثائر، حيث كان الخلاص من النظام المجرم هو المسوّغ لكلّ أشكال
البذل المذهل الذي رآه العالم دون كلل ولا مِنَّة على أحد.

2

قامت الثورة في سوريّة، ولدينا سذاجة كسذاجة الأطفال، حيث كنّا
نظنّ أنّ العالم بأسره لن يكون له أيّ موقف، إلا المؤازرة والمساندة
لثورات تنادي بقيم يدندن حولها الإعلام العالميّ في الليل والنهار:
قيم الحرّيّة والعدالة والكرامة، ونصرة المظلوم، وحقّ الشعوب في
اختيار من يحكمها…
كنّا نظنّ أنّ العالم ليس له باطن وظاهر، وأنّ حكوماته تؤمن بنفس
القيم التي تؤمن بها الشعوب، وهذا الظنّ هو سبب النشوة العارمة
التي كنّا نشعر بها من بداية الثورة، حتّى آخر عام 2012، لكنّ ذلك
كلّه انتهى حين ظهرت الأمور على حقيقتها، مع الأسف الشديد!
المراجعة النقديّة مهمّة جدّاً للحفاظ على أهداف الثورة وأخلاقيّاتها،
والحفاظ على مساندة الحاضنة الشعبيّة لها، كما أنّها مهمّة من أجل
الحفاظ على سمعة الثورة، وتضامن شعوب العالم معها.
إنّ غياب النقد عن أنشطة ثوريّة كأنشطة الثورة السوريّة لا يعني
شيئاً سوى الضياع، أو غياب الشعور بالمسؤوليّة، وأنا أؤمن مع هذا
بأنّ النقد الذاتيّ يحتاج إلى مراعاة بعض الحساسيّات والتوازنات،
ومراعاة ما تبقّى من إجماع وتوافق ثوريّ، لكن لا يجوز أن تبلغ
المراعاة المطلوبة حدّ طمس الحقائق والمواقف، وتغييب الشفافيّة…
في اعتقادي أن تراجع جماعة، أو فصيل عسكريّ، أو حزب
سياسيّ، عن بعض المواقف الخاطئة، لا يُنهي المشكلة، فنحن نتكلّم
عن تاريخ ثوريّ، حيث خرَّبت المنطلقات والمواقف الخاطئة جزءاً
من البناء الوطنيّ المنشود، وحيث تضرّر آلاف الناس الأبرياء من
ذلك، ولهذا فإنّ التوبة قد ترفع المسؤوليّة الشرعيّة في الآخرة عن
ذنب من الذنوب، أمّا على المستوى التاريخيّ، فقد حدث مالا يمكن

3

محوه، أو تلافي آثاره، وماذا نصنع لأيتام عشرة آلاف شخص مدنيّ
قُتلوا خلال مجابهات ومناوشات بين أطراف ثوريّة عتيدة؟!
ليس في المدارس والجامعات مواد دراسيّة تعلّم الشباب كيفيّة القيام
بثورة ناجحة، ولهذا فإنّ وجود الأخطاء في الثورات بوصفها تجارب
شعبيّة جديدة وهائلة، أمر طبيعيّ للغاية، لكنّ الشيء غير الطبيعيّ
هو الاستمرار في الخطأ، وتكراره!.
الحال السوريّة حال متطوّرة، واللاعبون في ساحاتها من دوليّين
وإقليميّين كثيرون، ولهذا فنحن في حاجة إلى إعادة بناء الوعي
الثوريّ، وتجديده باستمرار، حيث يتطلّب الوضع (الجيوسياسيّ)
الشديد التعقيد لبلدنا التعاملَ مع المعطيات الجديدة بذكاء وتفتّح ذهنيّ،
إلى جانب الإصرار على بلوغ الثورة لأهدافها النهائيّة، مهما طال
الأمد.
لعلّي بعد هذه المقدمة ألقي الضوء على بعض أوجاع الثورة
السوريّة، وبعض ما يجب القيام به للخلاص منها:
أوّلاً – الروح الأولى للثورة: يمكنني القول بثقة: إنّ جميع ثورات
الربيع العربيّ، كانت لأسباب ودوافع موحّدة، وكان لها بالتالي طبيعة
ومبادئ ومطالب موحَّدة، حيث لا يخفى أنّ الاستبداد والفساد،
والإخفاق في إدارة الشأن العامّ، وتهميش المعارضين، والتعذيب في
السجون، وسوء التعامل مع المستجدّات المعاصرة، وأموراً أخرى
من هذا القبيل، أدّت إلى بحث الشعوب العربيّة عن طريق للخلاص،
فعثرت على التظاهر والاحتجاج والاعتصام، والعمل على كسر هيبة
النظم الحاكمة، بوصفها بداية الطريق.

4

وقد عبّرت الشعارات الثوريّة بوضوح عن جوهر هذه الثورات،
فهي لم تقم من أجل رغيف الخبز، ولا من أجل عدم تطبيق الشريعة،
ولا للخلاص من الدستور، أو الوزير الفلانيّ… فحسب، فهذه مطالب
صغيرة في نظر الشعوب الثائرة.
إنّ الروح الأولى للثورة السوريّة عبَّرت بوضوح عن ضرورة
الحفاظ على وحدة البلاد، شعباً وأرضاً، وإسقاط النظام القائم بكلّ
رموزه ومراكز قوّته ومقولاته، كما عبّرت عن حرصها على
السلميّة، وبناء دولة تقوم على مبادئ العدالة والحرّيّة والكرامة
والتداول النزيه والشفّاف للسلطة.
الروح الأولى للثورة، كانت شديدة التوق إلى العيش في بلد ينعم
بالأمن والرخاء والاستقرار، على غرار ما هو موجود في الدول
المتقدّمة.
هذه القيم والمعاني بكلّ تجسيداتها وتعبيراتها، أغرت الجماهير
العريضة بالخروج إلى الشوارع بمئات الألوف، ومن كلّ أطياف
المجتمع السوريّ ومكوّناته، فالمآسي التي أوجدها النظام المجرم
عبر ما يقارب خمسة عقود، كانت عامّة وشاملة، وإن كان للسُنَّة
النصيب الأكبر منها.
نبل المطالب الثوريّة ولّد مواقف في الشهامة والتضحية والتكاتف…
يمكن وصفها بأنّها تاريخيّة واستثنائيّة، حيث تبلورت ذات سوريّة
عظيمة ورائعة – وربّما المرّة الأولى في تاريخ سوريّة – وعلى هذا
النحو من العمق والشمول، وهذا كلّه جعل العالم يشيد بالشعب
السوريّ وعطائه وقدرته على البذل والتضحيّة، من أجل القيم
والمبادئ التي يؤمن بها.

5

ثانياً – عسكرة الثورة:
1- لم يكن السوريّون يوماً مغرمين بالعنف وسفك الدماء، ولم يفوّتوا
فرصة للتعبير عن مطالبهم بالإصلاح بشكل سلميّ إلا استغلّوها،
ولكن النظام أحسَّ بخطر يهدّد وجوده، بعد أن رأى المظاهرات
الحاشدة تجتاح المدن السوريّة، فقابلها بالعنف الجسديّ، مستخدماً
شبّيحته في البداية من بعض موظّفي الدولة، وبدأ باستخدام
الرصاص الحيّ، وقتلِ المتظاهرين بشكل تدريجيّ منذ الأسبوع
الثالث للثورة.
نعم قد استطاع النظام السوريّ المجرم استدراج الثورة السلميّة إلى
التسلّح والعسكرة استدراجاً، بسبب القتل، والاعتقال التعسفيّ،
والتعذيب، وانتهاك الأعراض.
قد كانت بداية التسلّح من أجل الدفاع عن النفس، ومن أجل حماية
المتظاهرين، ولكن بما أنّه ليس هناك خطّ فاصل بين الدفاع
والهجوم، فقد صار لدى الثوّار كتائب مسلّحة تباغت جيش النظام،
وتهاجمه حين تتاح لها الفرصة…
إنّ العسكرة كانت في الحقيقة نقطة انتصار للنظام على الثورة، بل
كانت نقطة تحوّل في تاريخ الثورة، حيث صار الرهان على الأعمال
العسكريّة عوضاً عن التظاهر والاحتجاج المدنيّ، إذ يصعب الجمع
بين القتال والتظاهر، وهذا أدّى إلى انسحاب أعداد كبيرة من الثائرين
من النشاط الثوريّ، وتقلّص الحاضنة الشعبيّة للثورة.
لم يمض وقت طويل على تحوّل الثورة من سلميّة، إلى مسلّحة، حتّى
أخذت الكتائب والفصائل العسكريّة بالتشكّل، وبدأ جيش النظام
بالتفكّك من خلال انشقاق الآلاف من الضبّاط والجنود، لكن مع

6

الأسف لم يصبح للثورة جيش واحد تقوده قيادة عسكريّة واحدة، وما
سمّي بقيادة الجيش الحرّ كانت شكليّة جدّاً.
يمكن أن نعدّد من سلبيّات عسكرة الثورة الآتي:
1- خسارة تعاطف الكثير من الناس مع الثورة، في الدّاخل والخارج،
لأنّ الناس يتعاطفون مع الأطفال والنساء والمدنيّين العزّل، وليس
مع المقاتلين الذين صاروا بعد عسكرة الثورة هم الواجهة البارزة
للثوّار.
2- ظلّت معظم كتائب الجيش الحرّ في قراها وأحيائها، والقليل منها
استطاع بناء معسكرات خارج المدن والقرى، وهذا أدّى إلى
مشكلات جمّة، منها تهجير الأهالي، وهدم المساكن والبنية
التحتيّة، وكان ذلك مسوّغاً عند النظام والعالم، فهو لا يهدم المدن،
وإنّما يقاتل إرهابيّين احتلّوا تلك المدن، وطردوا أهلها منها، على
حدّ زعمه طبعاً.
3- تشكّل خلال سنة من عسكرة الثورة جيوش من المقاتلين، حيث
وصل تعدادها قرابة مئة وخمسين ألفاً في بعض المراحل، هذه
الأعداد الهائلة المدافعة عن المدن والبلدات المحرّرة، تحتاج إلى
طعام ولباس وعتاد وذخيرة ووقود للتحرّك، وقد بذل كثير من
السّوريّين أموالهم في هذا الشأن، لكن اتّساع الحاجات جعل
الجيش الحرّ وكلّ الكتائب العاملة على الساحة السوريّة تحت
رحمة المانحين، من دول وجماعات وأفراد، وهذا جعل سير
العمليّات العسكريّة، لا يخضع في بعض الأحيان لمصلحة الثورة،
وإنّما لرغبات ومصالح الداعمين!.
4- لم تتمكّن كتائب الجيش الحرّ من تشكيل قيادة موحّدة، ولم تستطع
تكوين قوّة مركزيّة متحرّكة لمناصرة الجبهات الضعيفة، وهذا
شجّع النظام على أن يعيد السيطرة على المناطق المحرّرة الواحدة

7

تلو الأخرى، وخلال عمليّات الكرّ والفرّ، والتحرير، وإعادة
السيطرة كانت هناك الهجرات المتعدّدة للأهالي، والمزيد من
الهدم للمساكن والمرافق.
5- عدم وجود قيادة موحّدة، وعدم وجود شرطة عسكريّة قادرة على
ضبط سلوك العسكريّين، بالإضافة إلى وجود تنافس شديد على
موارد شحيحة، ووجود أسباب أخرى..، إنّ ذلك كلّه أدّى إلى
الاقتتال بين الكثير من الفصائل الثوريّة، وقد خسرنا بالفعل ألوف
الرجال في خضمّ النزاعات المسلّحة البينيّة، ممّا أوهن الثقة لدى
القريب والبعيد في قدرة الجيش الحرّ والكتائب الإسلاميّة على
ضبط الأمن العام للبلاد، في حال سقوط النظام القاتل.
6- لعلّ من أخطر ما تسبّبت به عسكرة الثورة، اجتذاب عناصر من
خارج سوريّة إلى المشاركة في القتال، حيث إنّ النشاط المدنيّ
يظلّ دائماً محلّيّاً، لكن القتال قادر دائماً على استقدام عناصر
شبابيّة تملك الغيرة والحماسة وحبّ التضحيّة، مع القليل من
الوعي بمآلات الأمور، وهذا ما حدث في أفغانستان والشيشان
والبوسنة وغيرها.
إنّ الشباب القادم من خارج الحدود قد حسم أمره، فهو جاء لإعلاء
كلمة الله تعالى، ونصرة إخوانه، وسيكون مستغرباً من شيء اسمه
مفاوضات أو تسويات أو مقاربات سياسيّة، فهو قام للنصر البيّن أو
الشهادة الكريمة، وليس لأيّ شيء آخر.
الخلاصة التي ننتهي إليها هي: أنّ العسكرة هي إحدى المصائب
الكبرى التي حلّت بالثورة، مع التسليم بأنّ النظام هو من ألجأ الثوّار
إليها، وهو من يتحمّل الكثير من عواقبها، لكنّ النظام لا يتورّع عن
استخدام أيّ أداة من أجل هزيمة الثورة والبقاء في الحكم؛ والحرب
خدعة.

8

إنّ العسكرة وإن كانت بشكل من الأشكال ردّاً على ضعف الأداء
السياسيّ، إلّا أنّها جعلت الكلمة للقوّة، وليس لصوابيّة الثورة
ومشروعيّتها، وهذا من الناحية الرمزيّة والشعوريّة مؤذٍ للمعاني التي
كانت سبباً في انطلاق الثورة!.
ثالثاً – شخصيّة سوريّة ممزّقة:
لولا وجود قدر هائل من الغيرة والشجاعة والحماسة، لما أمكن
للثورة السوريّة أن تتفجّر، وأعتقد أنّ هذا ليس موضع جدل، لكنّنا
نقول من وجه آخر: إنّ الذين يقتَلون ويعذَّبون وينهَبون،
ويغتصَبون… إنّ هؤلاء أيضاً سوريّون، وكثير منهم يفعلون ذلك بدم
بارد، وهدوء تام، وكأنهم من طينة أخرى غير طينة أولئك الذين
عرَّضوا حياتهم للمخاطر من أجل سوريّة حرّة كريمة وقويّة، فهل
نحن أمام شعبين؟، أم أمام حالة يصعب توصيفها؟
الحقيقة المؤلمة هي أنّه ليس هناك (هُويّة) على درجة كافية من
الوضوح، يمكن أن نسمّيها الهويّة السوريّة، كما أنّه ليس هناك
شخصيّة سوريّة، أو شعب سوريّ واضح القسمات، وإنّما لدينا
مجموعات وجماعات عرقيّة وإثنيّة ودينيّة ومذهبيّة.. تعيش على
أرض واحدة، اسمها (سوريّة) وهذا يعود إلى أنّ سوريّة، ظلّت نحواً
من أربعمائة سنة جزءاً من الدولة العثمانيّة، ومن ثمّ فليس لدى
السّوريّين أمجاد وبطولات وطنيّة، تشكّل عمقاً تاريخيّاً لهم، كما أنّ
التنوّع الموجود في سوريّة يحتاج إلى إدارة بالغة الدقّة والحذر، وقد
قام حكم آل الأسد على سياسات ترسِّخ الطائفيّة، وتثير مشاعر
غضب بعض السّوريّين تجاه بعضهم الآخر، كما أنّ أدبيّات (القوميّة
العربيّة) دقّت إسفيناً بين العرب والأكراد في سوريّة على نحو

9

أساسيّ، ولهذا فإنّنا نستطيع القول: إنّ الـ (أنا الاجتماعيّة العليا)،
والتي تشكّل محور الهويّة وعمقها الدلاليّ، مفقودة في سوريّة إلى حدّ
بعيد، إنّ الهويّة تقوم على الشعور بالوحدة والانتماء والتكامل، كما
أنّها تقوم على مشاعر الابتهاج والفخر، حين يحقّق واحد من أبناء
الشعب أو الوطن إنجازاً عظيماً، وتقوم كذلك على الاستنفار
المشترك لدى جميع المواطنين، حين يتعرّض جزء من الوطن
للتهديد أو الاحتلال، أو يتعرّض لزلزال أو إعصار، إنّه إحساس
الجسد الواحد بكلّ عضو من أعضائه، هذا كلّه في سوريّة ضعيف،
وقد يكون في بعض مفرداته مفقوداً مع الأسف الشديد!.
هذا الوهن في الهويّة والشخصيّة السوريّة، قد تسبّب في تأخير نجاح
الثورة، وفي سهولة افتراء المكوّنات بعضها على بعض، على نحو
فظيع!.
رابعاً – ثورة من غير قيادة:
هذه أكبر ثغرة في الثورة السوريّة، حيث إنّ ما يقرب من نصف
قرن من الحكم الاستبداديّ الظالم ألجأ كلّ الإصلاحيّين والناشطين
السياسيّين إلى الاختباء والتخفّي، ولهذا فإنّ الثورة التي انطلقت
بمبادرة شعبيّة خالصة، وجدت نفسها بعد مدّة في حاجة إلى قيادة
سياسيّة تتولّى تدبير شؤون الأراضي المحرّرة، وتوجيه النشاط
العسكريّ والتفاوضيّ..
لكنّ الثوّار لم يجدوا الشخصيّة التي تتمتّع بما يكفي من الرمزيّة
والجاذبيّة المحبوبة، والخبرة لقيادة الثورة – أو هكذا ظنّوا – والنتيجة
مؤلمة للغاية، وهي جسم ثوريّ كبير ومتنوّع يمثّله أمام الدول التي
تعترف به ائتلافٌ يعكس إلى حدّ ما التنوّع الثوريّ، لكن دون أن

10

يتمكّن من قيادة الثورة، في الداخل، أو السيطرة على الأنشطة
العسكريّة، كي تكون داعمة للقرارات السياسيّة، وضامنة لإجبار
النظام على الاستجابة لها.
قد كانت لدى الثورة فرصة عظيمة لتشكيل قيادة ثوريّة وازنة، حين
تمّ تشكيل (المجلس الوطنيّ) في 2/10 / 2011حيث اعترفت به
معظم حكومات العالم، لكن المجلس الوطنيّ لم يتمكن من القيام
بالمهمّات المنتظرة منه، وتمّ التحوّل عنه في 11/11/ 2012 إلى
(الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة) ولكنّ الائتلاف الوطنيّ
تعرّض للمشكلات التي تعرَّض لها المجلس الوطنيّ نفسها، حيث
العجز عن بلورة قيادة فعّالة وموضع ثقة لدى الثوّار.
إنّ ضعف التواصل بالداخل، والخضوع للدول الداعمة للثورة،
عاملان أساسيّان في عدم بروز قيادة ثوريّة جامعة وفاعلة، ولا
ننسى ما فعلته (أدلجة الثورة) من سهولة تخوين كثير من الناشطين
الثوريّين للقيادات السياسيّة، واتّهامها بالوقوع في أحضان الدول
والاستجابة لمطالبها بعيداً عن الاحتياجات الحقيقيّة للثورة.
قد حصلت خلال السنوات الخمس الأخيرة محاولات كثيرة لإبراز
قيادة موحّدة للثورة، لكن دون جدوى، وهذا شيء مؤسف ومحزن
للغاية، وهو من أهمّ أسباب تعثّر الثورة، وعدم تمكّنها من بلوغ
أهدافها المأمولة!.

5- أدلجة الثورة:

11

المقصود بالأدلجة هنا: مجموعة الاجتهادات التي يتوصّل إليها
المنظّرون لتيّار أو مذهب أو اتجاه… حيث يقومون بمنحها درجة من
القطع واليقين، تجعل من يقرؤها، أو يسمعها يظنّ أنّها من القطعيّات
والأصول المتّفق عليها.
الأدلجة قد تقوم على أساس دينيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ أو قوميّ…
إنّ المقصود الأساسيّ بالأدلجة هو: تحفيز الناس على الانخراط في
تيّار أو مذهب … معيّن، وجذب المزيد من الأتباع، ولهذا يمكنني
القول: إنّ كلّ أدلجة تقوم على عنصرين أساسيّين:
الأوّل هو: تحويل أفكار ومفاهيم ظنّيّة واجتهاديّة إلى قطعيّات،
تتعالى على النقاش.
الثاني: دعاية مكثّفة ومبالغ فيها، لتلك الأفكار والمفاهيم، بعيداً عن
العقلانيّة والموضوعيّة.
الثورة السوريّة والأدلجة:
1- إنّ الثورة السوريّة حين انطلقت، كانت في أمسّ الحاجة إلى
الإجماع الشعبيّ، أو أكبر قدر منه، وذلك حتّى تواجه القوّة
الباطشة للنظام المجرم وتحصل على دعم دوليّ وإقليميّ واضح،
ولهذا فإنّ الذين أشعلوا فتيل الثورة، كانوا يطالبون في البداية
بالتغيير والإصلاح، وليس بإسقاط النظام، لأنّه في ظنّهم أقرب
إلى الإمكان، ولما يئسوا من ذلك صاروا إلى المطالبة بإسقاط
النظام، بوصفه شرطاً لقيام دولة الحريّة والكرامة والعدالة، وهذا
تفكير صحيح، وقد استطاعت الثورة فعلاً أن تجذب إليها – بنسب
متفاوتة – من المكونات الدينيّة والعرقيّة كلّها… لأنّ ظلم النظام

12

كان عامّاً وشاملاً للجميع دون استثناء، وإن كان أهل السُّنّة –
والملتزمون منهم بخاصة – في بؤرة عدوان النظام وتجاوزاته.
إذن النَّفَس الأوّل للثورة لم يكن إسلاميّاً، ولم يرفع شعارات إسلاميّة،
وإن كانت مطالب الثوّار الأولى إسلاميّة بامتياز، والمطالبة بها
مشكورة مأجورة.
2- من المهمّ جدّاً أن ندرك أنّ المنازع والاتجاهات والتفصيلات هي
أوسع بكثير ممّا تتسع له ثورة شعب متنوّع الأعراق والمذاهب..
وأوسع ممّا يتّسع له أيّ نظام سياسيّ، فالأديولوجيا بوصفها
معتقدات اجتهاديّة تقسّم ولا تجمع، بل هي تقسّم المقسّم، وتجزّئ
المجزّأ، وقد رأينا اختلافات شديدة أدّت إلى سفك الدماء بين
فصائل عسكريّة تنتمي إلى تكوين أيديولوجيّ واحد، ولهذا فإنّ
ثورات العالم الناجحة كلّها، ركّزت على الحقوق والأهداف
المشتركة للشعب، أي على ما هو موضع إجماع واتفاق.
3- إنّ أدلجة الثورة أدت في الحقيقة إلى خسارة الأساس الفكريّ
للثورة، لأن الأهداف تتحوّل مع تحوّل الأسس والمنطلقات، وحين
نقول: إنّ الثورة علمانيّة، أو إسلاميّة، أو قوميّة، فهذا يعني أنّها
ترمي إلى تأسيس نظام علمانيّ…أو قوميّ أودينيّ.. وهذا إن راق
لمكوّن من مكوّنات البلد، فإنّه لا يروق لمكوّنات أخرى، وهذا ما
حدث فعلاً، ثمّ إنّ الذين يتعاطفون معنا من الإقليم أو العالم، هل
سيراهنون على نجاح ثورة كرديّة أو عربيّة أو إسلاميّة…؟!
إنّنا من خلال أدلجة الثورة، نرسل للعالم رسائل مضطّربة، ونقول
له: إنّ البديل عن سوريّة الموحّدة التي يتحدّث عنها النظام في حال
نجاح الثورة، هو دول عقائديّة، وشركاء متشاكسون، يصعب الوثوق
بهم وبإدارتهم لهذه المنطقة الحسّاسة من العالم، ولهذا انفضّ عنّا
القريب والبعيد، وتركنا، نقارع النظام من غير مخالب ولا أنياب!.

13

4- أدلجة بعض الإسلاميّين للثورة جاءتنا بشيء خطير هو النفخ في
(الطائفيّة) وعلينا في البداية القول:
لا شكّ في أنّ النظام طائفيّ بامتياز، وقد اعتمد على طائفته في
ضمان استمرار الحكم، من خلال الهيمنة شبه الكاملة على الجيش
والأمن، لكنّ النظام لم يتحدّث عن الطائفيّة، ولا أطلق شعارات
طائفيّة، بل هو على العكس من ذلك؛ إذ إنّه لا يتحدّث إلا عن الوطن
والمواطنين، لكنّ الذين أدلجوا الثورة لم يكونوا كذلك، فهم أطلقوا
عبارات التكفير على جيش النظام، وطالما وصفوه بأنّه نصيريّ
كافر- مع أن أغلبيته سنّيّة – وجعلوا مقاومة إيران، ومنع نشرها
للتشيّع هدفاً من أهداف الثورة، كما أنّ أدلجة الثورة جعلت كلّ الثوّار
من غير السُّنّة، والثوّار السنيّين غير الملتزمين كلّهم موضع شكّ في
ولائهم للثورة، وصلاحيّتهم لمناصرتها.
إنّ هذا كله أباح لمن يريد الصيد في الماء العكر أن يقول: هذه ليست
بثورة وطنيّة تنشد العدالة والكرامة، وإنّما هي فصل من فصول
الصراع بين السّنّة والشيعة، أو بين السُّنّة والفرق الباطنيّة، وهذا مؤذٍ
جدّاً للثورة، حيث يتمّ طمس مركز الصراع بين الثوّار والنظام، كما
أنّه يشوّش على مطالب الثورة وأهدافها الكبرى.
إنّ النظام مسرور جدّاً لهياج وحش الطائفيّة، وقد أسهم في ذلك
بطرق مختلفة، حيث يمكنه الادعاء في أيّ وقت بأنّه بنزعته القوميّة
والعلمانيّة يوقف الاقتتال الطائفيّ في سوريّة!.
5- تديّن السّوريّين عامّتهم هو تديّن معتدل وسطيّ، حيث تركت
المدرسة الفقهيّة الشاميّة المتسامحة بصماتها على معظم الشباب

14

الملتزم، وهي تؤمن بالتفاوض الاجتماعيّ وتنزع نحو التوافق
الوطنيّ على نحو عام، لكن الذين أدلجوا الثورة من الإسلاميّين لم
يكونوا كذلك، إنّهم في الحقيقة أقرب إلى فكر الخوارج، والذي
يتمثّل في توجهات داعش والقاعدة، وقد كان لامتناع العديد منهم
عن رفع علم الثورة تأثير سيّئ للغاية، وحين تمكّن بعضهم من
حكم بعض المناطق أظهروا من الغلظة والقسوة في التعامل مع
المواطنين، ما يتنافى كلّيّاً مع سماحة الإسلام، ومع روح ثورة
جاءت لتكريم الإنسان وتحريره!
إنّ الأدلجة فتحت الباب فعلاً لتحرّك عناصر محسوبة على الثورة،
لكنّ سلوكيّاتها، تنافي روحها ومنطلقاتها وأهدافها!
6- لعب المال السياسيّ دوراً سيّئاً في أدلجة الثورة، والحقيقة أنّ
العلاقة بين المؤدلجين والداعمين علاقة جدليّة، فقد حدث أن أعلن
بعض الإسلاميّين الذين ينتمون إلى اتجاه معيّن (هو غالباً الاتجاه
السلفيّ) عن تشكيل فصيل مقاتل، فسارع إلى دعمه بعض
أصحاب رؤوس الأموال، ممّن يثقون بقائد الفصيل أو توجّهه،
وحدث كذلك أن اشترط بعض الداعمين تشكيل فصيل عسكريّ
يحمل اسماً معيّناً ويقوده شخص أو أشخاص من التوجّه ذاته الذي
يثق به الداعم، ومعظم هذا كان في الحقيقة من المؤيّدين
والداعمين الشعبيّين للثورة، وقد كان لبعض الدول الداعمة أيضاً
شيء من هذا، بل إنّ تنظيماً كالقاعدة تلقّى دعماً ليس باليسير من
بعض الدول ممّا أسهم في زيادة الأدلجة.
المال الذي بُذل في العسكرة أدّى إلى أن يكون لدينا مئات الفصائل
العسكريّة التي يرأسها مدنيّون، ليس لديهم خبرة عسكريّة كافية،
وأدّى كذلك إلى عزل مئات الضبّاط الأحرار الذين انشقّوا عن النظام
عن ساحات المعارك، حيث تمّ رفضهم بسبب نقص في التزامهم، أو

15

أنّهم رفضوا أن يكونوا تحت إمرة مدنيّين لا يملكون أيّ مؤهّلات
قياديّة.
إنّ إقصاء الضباط الأحرار عن قيادة الفصائل، أدّى إلى وقوع
أخطاء فادحة تسبّبت في قتل الألوف من شباب الكتائب المسلّحة،
وهذا كلّه من آثار أدلجة الثورة، مع الأسف الشديد!.
7- لم تكن أدلجة الثورة من نصيب الإسلاميّين وحدهم، فقد ساهم
كتاب ذوو نزعة علمانيّة في ذلك، من خلال الكثير من المقالات
والتصريحات التي تنظّر لدولة علمانيّة، بل صار هناك حديث عن
المثليّة، وتغيير قانون الأحوال الشخصيّة، لصالح المساواة
المطلقة للمرأة بالرجل، وأمور أخرى مما يثير حفيظة الشارع
الثوريّ والحاضنة الشعبيّة.
إنّ ممّا لا يخفى أنّ أهل السنّة في سوريّة هم الجسم الأساسيّ في
الثورة، وهم أكثر من ضحّى، وبذل، والملتزمون منهم بخاصّة
يشكّلون العمود الفقريّ للكتائب المسلّحة، وهم في سوريّة وغيرها
المصدر الأساسيّ لتمويل الثورة على المستوى الشعبيّ، ومن ثمّ فإنّ
الحديث عن دولة علمانيّة يستفزّهم، بل يهينهم، مع العلم بأنّ معظم
الناس لا يفرّقون بين العلمانيّة والإلحاد، بل إنّ منهم من لا يفرّق بين
الديمقراطيّة والكفر.
خلاصة القول هي: أنّ الأدلجة على أيّ وجه كان، مازالت هي
الخنجر المسموم الذي طُعنت به الثورة، وإنّ العودة إلى
البساط الوطنيّ، والإرادة الثوريّة الشعبيّة، هي الحلّ الوحيد
لذلك.

16
الثورة السوريّة وآفاق المستقبل:
أنا أؤمن بقوّة أنّ هناك دائماً فرصةً ما للتغيير والنجاح والخلاص؛
والله تعالى يقول: (( فإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً )) لكن
بشرط؛ أن نمتلك من الإدارة والشجاعة ما يمكِّننا من تسمية مشكلاتنا
بأسمائها وتوصيفها بما هي عليه فعلاً، وقد حاولت في الصفحات
السابقة القيام بشيء من ذلك على أنّني لم أقل ما يجب أن يقال كلّه.
أعتقد أنّ سبع سنوات عجاف من عمر الثورة قد أوجدت قدراً من
الوعي بمستقبل الثورة، واشتراطات نجاحها، وأعتقد أنّ مئات
الألوف من السّوريّين الداعمين للثورة، يتشوّقون إلى يوم الخلاص
من النظام القاتل، وإقامة دولة الحريّة والعدالة، وهذا يدفعنا جميعاً
إلى تلمّس آفاق جديدة لنجاح الثورة:
1- لدينا اتجاهان مدمّران في سوريّة:
الاتجاه الأول هو ذلك الاتجاه العابر للوطن والوطنيّة، إنّه ذلك
الاتجاه الذي يتجاهل ظروف البلد ومكوّناته وجغرافيّته وهمومه،
ويتّجه إلى الحلم ببناء كيان إسلاميّ عالميّ، كالخلافة مثلاً، أو دولة
الإسلام العابرة للأقطار…
إنّ من يفكّر بهذه الطريقة غارق في الأوهام اليوم لأنّه يحلم بإقامة
إمبراطوريّة في زمان الدولة القطريّة، والتحالفات الإقليميّة، والأهمّ
من هذا أنّ المنتسبين إلى هذا الاتجاه لا يستطيعون التفاعل مع القوى
الثوريّة على الأرض، من أجل ولادة سوريّة الجديدة، لأنّ هذا
باختصار لا يشكّل أحد همومهم ومشاغلهم!.

17

الثاني كيانات وأطياف ومكوّنات ما دون وطنيّة، إنّها ذات نزعات
مناطقيّة وعشائريّة ومذهبيّة….حيث الاهتمام والتفكير بدوائر ضيّقة،
ومرتدّة إلى ما قبل الدولة الحديثة.
إنّ دمج هذين الاتجاهين في المشروع الوطنيّ أو تجاوزهما عند
الضرورة، يشكّل شرطاً لولادة سوريّة الجديدة، القويّة والموحَّدة.
2- شهدت وتشهد الثورة انسحابات متتابعة من أنشطتها السياسيّة
والإعلاميّة والعسكريّة والحقوقيّة، وهذه الانسحابات تكون في
العادة، إمّا في اتجاه العزلة، وإمّا في اتجاه الأعمال الإغاثيّة
والتعليميّة والإنسانيّة عامّة، وهذه الانسحابات متوقّعة، وذلك
بسبب طول العهد والأمد، وبسبب اهتراء الأطر الثوريّة الجامعة
على الصعيد السياسيّ والعسكريّ، على نحو خاص حيث التنازع
والاختلاف والتشرذم في أسوأ الأشكال والصور!
كثيرون جدّاً الذين ينادون بإصدار وثيقة جامعة للثورة، وتشكيل
قيادة موحّدة لها، وأكثر من كتب في هذا هم المنتمون للتيّار
العلمانيّ والديمقراطيّ، ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التنظير
والتحفيز، وظلّت المبادرات العمليّة للوصول إلى ذلك قليلة،
والتفاعل معها ضعيفاً، وربّما أدّى الإخفاق المتكرّر في ذلك إلى
القنوط، والحقيقة أنّ معظم المبادرات لإيجاد قيادة موحّدة للثورة
كان يجمع بينها انخفاض درجة اهتمام وإصرار الذين أطلقوها،
وقصر نفَسهم في العمل، وإلا فليس هناك شيء مستحيل.
3- بدأت الثورة السوريّة بثقة عالية جدّاً بالنفس، ومع هذا فقد كانت
طلبات الثوّار الأوائل عقلانيّة وطنيّة، وكانت تتمحور حول
العدالة والحريّة والكرامة، ونبذ الطائفيّة، وإعلاء شأن سوريّة
الواحدة القويّة، ثمّ جاء من يزيد عليها مطالب جديدة، من نحو

18

كون سوريّة فيدراليّة أو علمانيّة أو إسلاميّة، وهناك من يريد
إقامة دولة الخلافة فيها، والانطلاق نحو تحرير القدس وفلسطين،
وهناك وهناك…
هذا كلّه أوجد انقسامات داخليّة كبيرة في صفوف الثوّار، وخوَّف
الإقليم وإسرائيل والعالم من مآلات سقوط بشار الأسد، وصيرورة
السلطة إلى هؤلاء الطارئين على النظام العربيّ والإقليميّ والعالميّ.
لا بدّ من العودة إلى الأهداف والمبادئ الأولى للثورة، واختصارها
إلى ثلاثة أو أربعة، وأعتقد أنّ أهدافاً مثل الحرّيّة والعدالة، وتساوي
السوريّين أمام القانون كافية لتوضيح هويّة الثورة، وكافية لتوجيه
الثائرين، وجمع كلمتهم.
4- من المهمّ هنا أن نعي أنّ مشكلتنا الأساسيّة لم تعد مع نظام مجرم
قاتل، بل مع قوى محتلّة اتخذت من سوريّة مسرحاً لاختبار
أسلحتها، ونشر أيدولوجيّاتها، وتأكيد هيمنتها على نحو ما تفعله
إيران وروسيا وإسرائيل، وصار الدم السوريّ خارج كلّ
الحسابات بعد أن تفاهمت الدول الكبرى مع بعضها، وبعد أن
سحبت معظم الدول الإقليميّة يدها من القضيّة السوريّة.
هذا يوجب أن نعلنها ثورةً للتحرّر من النظام الذي لا يستحي من
إعلان التبعيّة الكاملة لإيران وروسيا، وثورةً للتحرّر الوطنيّ من
الاحتلال الخارجيّ.
هذه الوضعيّة تمنحنا الفرصة لحمل نفس الروح، ونفس المعاني التي
حملها آباؤنا، حين احتشدوا لطرد الفرنسيّين من بلادنا.
5- إنّ إبعاد الأدلجة عن مسار الثورة، لا يعني نسيان القيم الكبرى
التي يجب أن نلتفّ حولها، حيث إن الهويّة السوريّة – على

19

وهنها – متشبّعة بالكثير من القيم العظيمة التي كانت بمثابة
الضمير للعيش المشترك عبر القرون، ويقف على رأس تلك القيم
قيم الرحمة، والدفاع عن المظلوم، ونصرة الضعيف، والإحسان
إلى الجار، واحترام كبار السنّ، وتقدير التضحية، ورعاية اليتيم،
وحسن العهد، والوفاء لتراث الآباء والأجداد، وتفهّم مدلولات
ورمزيّات التنوّع الثقافيّ والعرقيّ والدينيّ…
هذه القيم قيم إنسانيّة وإسلاميّة وعربيّة ووطنيّة بامتياز، وهي تشكّل
صمّام أمان، حين يشتدّ الصراع العرقيّ والطائفيّ في أيّ بلد من
البلدان.
إنّ استحضار هذه القيم لا يكون عبر الشعارات، ولكن عبر الممارسة
والسلوك اليوميّ، لكلّ أولئك المهتمين بمستقبل سوريّة الموحَّدة
والقويّة.
6- ذكرت من قبل ضعف حضور الهويّة، أو الوطنيّة السوريّة في
وجدان السوريّين، وهذا سببه بشكل أساسيّ التاريخ.
بعض السّوريّين ينظر إلى سوريّة على أنّها إحدى الدول العربيّة،
وهي في نظر بعضهم جزء من الأرض التاريخيّة للشعب
الكرديّ، أو هي ولاية من ولايات الخلافة العثمانيّة، وسوريّة لدى
كثيرين ليست سوى كيان وجِد نتيجة مؤامرة حيكت قبل مئة عام!
إنّها أشبه بالوطن المؤقّت أو العابر، ومن هنا فإنّ على السّوريّين ألّا
يعوّلوا كثيراً على التاريخ، في بلورة هويّتهم، أو بناء مشروعهم
الوطنيّ، وعليهم أن يقفوا أمام أنفسهم ليكتشفوا أهدافهم المشتركة،
وأهمّها أن لهم مصلحة عظمى بأن يعيشوا مواطنين أحراراً على
أرضهم، دون شعور بآلام الغربة والتشرّد، وآلام اللجوء وامتنان
الآخرين بالإيواء والمساعدة، أي أن يتخيّلوا الكوارث التي يسبّبها

20

الاقتتال والاحتراب والتمزّق والكوارث التي يسبّبها التظالم والفساد
والاستبداد.
لا شكّ مع هذا في أنّ لدى السّوريّين عقائد ورمزيّات ومفاهيم غير
ملموسة، وعادات وتقاليد كثيرة مشتركة، تساعد كثيراً في بناء
هويّتهم الوطنيّة، وإطلاق مشروعهم الوطنيّ، والأمر يحتاج إلى
تغيير في بنية التفكير، وإلى خطاب جديد يقوم على تكريس الحرّيّة
والعدالة وكرامة الإنسان، وتفهّم الخصوصيّات العقديّة والعرقيّة،
وفوق ذلك كلّه سيادة القانون، وتساوي جميع المواطنين أمامه.
7- تحتاج سوريّة المستقبل من جميع أبنائها أن يتشبّعوا بثقافة
الاعتراف بالذنب، حيث إنّ ما ارتكبه النظام وشبّيحته والموالون
له، من جرائم ضدّ السّوريّين فظيع جداً، بل لا يوجد من الكلمات
ما يعبّر عنه، كما أنّ الفصائل والكيانات الثوريّة، وقعت في
بعض الأخطاء التي أضرّت بالناس، وأضرّت بالثورة.
إنّ أيّ مرحلة جديدة تبدأ بعد زوال النظام الأسديّ المجرم، لا بدّ
أن يكون فيها اعتراف واضح بما تمّ ارتكابه من أخطاء، وإذا
كانت محاكم العدالة الانتقاليّة ستحاسب كبار المجرمين فقط،
فهناك عشرات الألوف الذين يحتاجون إلى الإقرار والاعتراف
بما سبّبوه من أذيّة لغيرهم، وهذا الاعتراف، له العديد من الفوائد،
أوّلها هو إيقاف ادّعاء الصواب فيما قام به المذنب، وإيقاف
التمادي في الخطأ، ومنها تطييب نفوس الذين آذتهم الأخطاء
المرتكبة، ومنها التخفيف من عمليّات الثأر والانتقام، التي قد
تستمرّ سنوات أو عقوداً، حتّى بعد بداية عهد جديد، ومنها فتح
الطريق لتكريم وتعويض المجنيّ عليهم…

21

الدول التي جرت فيها نزاعات داخليّة كلّها، بدأت مراحلها الجديدة
بالاعتراف والاعتذار، حيث لا تتصوّر بدايات حقيقيّة من
غيرهما.
لفلفة الأمور، وطمس معالم مرحلة من أقسى المراحل التي يمكن
لبشر أن يمرّ بها، لن تسهم في المسح على الجراح، ولن تساعد
في المضيّ نحو العافية والشفاء.
8- مارس النظام الأسديّ، بدعم من حزب البعث، سياسات الإقصاء
والتهميش للمعارضين، ولم يكن العقاب الظالم ليقتصر على من
يجهر بسياسات أو آراء معارضة، وإنّما يتعدّاه إلى أهل بيته
وأقربائه، وأحياناً الأصدقاء والمعارف والزوّار (قانون 49
القاضي بإعدام كلّ من ينتسب للإخوان المسلمين أحد الشواهد)
كما أنّ النظام ترك القوّة الخشنة بأيدي طائفته وحكراً عليها،
وجعل الهيمنة لها على مفاصل الدولة كلّها ومؤسّساتها، وهكذا لم
يكن الإقصاء على الصعيد الرسميّ أو الاجتماعيّ فقط، وإنّما امتدّ
إلى جميع جوانب الحياة على ما يعرفه جميع السوريّين، وبما أنّ
الثورة انفجرت لقطع كلّ الأوضاع البائسة التي أوجدها النظام
المجرم، فإنّ السّوريّين يحتاجون إلى ثقافة جديدة بديلة عن ثقافة
التخوين والتهميش والتحيّز، ثقافة تقوم على التفهّم والاندماج،
والتسامح والإحسان.
إنّ لتأليف القلوب سهماً في الزكاة، وإنّ صدقة التطوّع تعطى للمسلم
وغير المسلم، وقد أُمرنا بالإحسان إلى الجار، بقطع النظر عن ديانته
ومعتقده وتوجّهه السياسيّ، وإنّ العمل الخيريّ يستطيع أن يعبر كلّ
الانقسامات العقديّة والاجتماعيّة، لصالح الحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ
المشترك، وهو أداة مجرّبة لتقريب القلوب من بعضها، ولبناء الثّقة

22

الاجتماعيّة، ونحن في حاجة ماسّة إليه، عند إعادة بناء سوريّة التي
نتطلّع إليها.
على مستوى المهمّات والمسؤوليّات والمناصب، نحن نحتاج حتّى
نتخلّص من الإقصاء، إلى اعتماد معياري الكفاءة والأمانة، على حدّ
قول ابنة شعيب: ((يا أبتِ استأجره إنّ خير من استأجرتَ القويُّ
الأمينُ)) (1) القصص 26.
نعم سمتان فقط: الكفاءة والقدرة على القيام بمهمّات المنصب،
وإنجاح العمل، ونظافة اليد واستقامة السيرة الماليّة.
أمّا السلوك الشخصيّ لمن يلي منصباً من المناصب، فلا شكّ في أنّ
الجميع يفضّلون الأشخاص الأكثر نقاء، والأكثر تمثيلاً للقيم العليا
التي نؤمن بها، لكنّنا لن نحصل على هذا في كلّ وقت، ولهذا فلا بدّ
من غضّ الطرف عن السلوك الشخصيّ للمسؤول، ما دام في إطار
القانون، فسوريّة بلد متنوّع ولا بدّ لتنوّعه من أن يظهر في سلوك
أبنائه.
نحن ننادي بوحدة سوريّة، ولكن هذه الوحدة، تظلّ باهتة وهشّة من
غير وحدة شعبها، ووحدةُ شعبها تحتاج إلى جهود مضنية من أجل
إرساء ثقافة معايشة جديدة.
9- نحن نشهد اليوم ظروفاً في منتهى القسوة، حيث إنّ دخول
الطيران الروسيّ في الصراع المسلّح مع النظام، قد قلب
المعادلات كلّها، فهو يكسر ظهر المقاتلين عن طريق قصف
عنيف لهم، ولأهلهم من المدنيّين، وللبنى التحتيّة أيضاً، وعلى
رأسها المدارس والمشافي، إنّ هذا الذي جرى ويجري قد جعل

23

رقعة الأرض التي يسيطر عليها الثوّار تنكمش إلى حدّ بعيد، وقد
أخذ اليأس يدبّ في قلوب الجميع…
في حال كهذه، حيث التراجع على الصعيد العسكريّ، ينفتح أفق
العمل السياسيّ والإعلاميّ والحقوقيّ من جديد، وهذا يتطلّب
الانتقال من حال الشرذمة على مستوى القيادة السياسيّة والفصائل
العسكريّة، إلى وضعيّة التوحّد والتعاضد.
قد يكون ما نحتاجه اليوم عاجلاً هو (مرجعيّة سياسيّة) تتكوّن من
40 إلى 50 شخصاً من القيادات الثوريّة، وإنّ واجب هذه
المرجعيّة هو أوّلاً الحفاظ على مبادئ الثورة وأهدافها من
الانتهاك الذي تتعرّض له عبر مسارات الأستانة وجنيف، وعبر
المصالحات التي تتمّ في مناطق التصعيد، كما أنّ على المرجعيّة
السياسيّة تمثيل الثورة في المحافل الدوليّة، وإعادة الثقة للناس،
بإمكانيّة النصر والتحرّر، وهناك في الحقيقة مطالبات كثيرة بهذا
لكنّ المشكل دائماً في المبادرة، وفي من يعلّق الجرس!.
إنّ في إمكان المجلس الإسلاميّ السوريّ – وهو مجلس وطنيّ
ثوريّ أيضاً- مع بعض الشخصيّات المرموقة من المعارضة،
إطلاق مبادرة لتشكيل تلك المرجعيّة، وإمكانيّة النجاح متوفّرة، إذا
ما تمّ أخذ الملاحظات التي أشرت إليها بعين الاعتبار.
إنّ علينا أن ننظر إلى مرحلتنا هذه على أنّها مرحلة للعطاء غير
المشروط، كما أنّ علينا أن نكفّ عن النظر إلى سوريّة المستقبل
على أنّها (غنيمة) كلّ طيف ومكوّن يريد الاستحواذ على أكبر
قدر منها.

24

إنّ الوصول إلى حالة وطنيّة نصف مُرضيّة، أقلّ ضرراً من
التشرّد في الأرض، من غير وطن ولا هويّة، لكنّنا مع هذا نصرّ
على أنّ سقوط النظام القاتل يشكّل البداية لكلّ تحوّل إصلاحيّ في
سوريّة الحرّة القويّة.
د.عبد الكريم بكّار
25/7/2018




تخفيف الصراع السنيّ الشيعي

بسم الله الرحمن الرحيم
تخفيف الصراع السنيّ الشيعي

الخلاف السنيّ الشيعيّ قديم وعميق ومتوسّع، عقديّ وتاريخيّ
وجغرافيّ وقوميّ وسياسيّ، يلبس من كلّ مرحلة من ثيابها ما
يناسبها.
ولكنّ المتدبّر في تاريخ وعنف هذا الصراع، يجد مركزيّة
السلطة واضحة في مخيّلة المتصارعين، بل نستطيع أن نقول:
إنّ السيوف التي سلّت ما سلّت للخلاف الفقهيّ ولا العقديّ،
وإنّما لحسم ملفّ السلطة، ويمكن القول إنّ هذا ليس حديثاً، بل
من بواكير الافتراق التاريخيّ بين السُّنَّة والشيعة، بعد معركة
كربلاء، التي لم تنقض حمولتها بعد.
ولقد اختلفت الأساليب، ومن الطرفين، أيّ التعاطي مع هذا
الصراع، فظنّ قوم أنَّ التقريب بين المذاهب هو الحلّ، فانشؤوا
لذلك مجمّعات التقريب، وولائم العمائم، ومؤتمرات العلماء
التي لم تؤدّ إلا إلى زيادة في التباعد والتباغض، حتّى إنّ
تنظيماً بروتوكوليّاً مثل الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، لم
يستطع أن يدير وجود الشيعة مع السُّنَّة في تنظيم تشريفيّ أكثر
منه تنفيذيّ، وظنّ قوم أنّ الدعوة والتبشير هي الحلّ، فصار
كلٌّ منهم يجنّد دعاته لإقناع الآخر، والمحصّلة هي: سُنيّ يتشيّع
من أجل الطعام هنا، وشيعيّ يتسنّن على قناة فضائيّة هناك،
دون حصول تغييرات حقيقيّة على مستوى البنيّة الصلبة.
وظنّ قوم أنّ الحرب هي الحلّ، ولكنّ السُّنَّة والشيعة ليسوا
وحدهم في العالم، فاستلم إدارة الحرب الغرب، الذي ليس من
مصلحته حسم الصراع، وبالتالي فهو يدعم السُّنَّة بشرط ألا

2

ينتصروا، ويدعم توغّل الشيعة بشرط: ألا يتمكّنوا بالكليّة، حتّى
تبقى إمكانيّة التدخّل في مصير الأمّة واسعة الأبواب.
لن أستطيع في مقالتي هذه تلمّس العلاج، ولكن أزعم أنّ
التحليل الجيّد للصراع يدفعنا لتخفيف وطأة الصراع.
الصراع في كلّ الدنيا، – وليس عند السّنّة والشيعة فحسب- هو
صراع مصالح ونفوذ واستحواذ على السلطة والمقدّرات، هذا
هو الهدف الحقيقيّ لأيّ صراع، ويأتي في المرتبة الثانية
الصراع الدينيّ، وهو على أهميّته.. يشكّل الخطّ الداعم
والحاشد والمشرعن للحرب، ومن الخطأ عند حلحلة الصراع
أن نتّجه للخطّ الداعم والحاشد، ونقدّم علاجه على الخطّ
المنشئ والباعث المؤسس على الصراع،
وفي حال السُّنَّة والشيعة وخلافهم التاريخيّ على السلطة
والسيطرة، فما قام خليفة إلا وانتصب له إمام ينازعه،
ويستدعي كلّ فريقٍ ما يمكنه من الأدلّة النقليّة والعقليّة، على
شرعيّته السياسيّة بتصدّر المسلمين.
والغريب أنَّ القرون تطاولت، ولمّا يحسم أحدهما ملفّ
الشرعيّة إلا بالسيف في مناطق سيطرته.
إنّ تخفيف الصراع بين السُّنَّة والشيعة يبدأ من عقلنة مسألة
السلطة، وإبعادها عن النظرة المذهبيّة أو الدينيّة المسبقة،
فالسلطة ليست لسنيّ ولا لشيعيّ، وليس لأحد أو عند أحد نصّ
من الله ورسوله على ولايته على الناس، وإنّما السلطة حقّ
الأمّة، تسندها بالرضا لمن تشاء من أبنائها.

3

طالما أنَّ هناك شيعيّاً ينظر ويرقب في حكومته الانحياز على
أساس مذهبيّ، فستبقى عيونه على خراسان، ينتظر خروج
الرّايات السود على يد كسرى جديد، سواء كان كسرى هذا
سنيّاً كأبي أم شيعيّاً كإسماعيل الصفويّ، أم باطنيّاً كالحسن بن
الصباح أم ظاهريّاً كالخمينيّ.
وما قلناه عن الشيعيّ وارد، في حقّ السًّنيّ، وأمّا إذا وجد كلّ
منهما نفسه أمام حكومة حياديّة وظيفيّة، تحفظ أمنه، وتسعى
بهمّه، وتكفل له حقوقه، دون النظر إلى دينه أو مذهبه، فلا شكّ
أنّ مناعته ستزداد ضدّ دعوات التمذهب المسلّح والصراع
الطائفيّ.
ثمّ عند بسط أجواء الحريّة ودولة القانون، والمساواة بين
الناس، يمكن أن يكون العمل على ملفّ الصراع الثاني
(العقديّ)، ولكن بلا سيوف ولا دماء، وإنّما يوضع بزاويته
الصحيحة والمناسبة.
إنّ السماح للقوى المجتمعيّة بالتعبير عن نفسها، والحديث عن
نسبتها، في دائرة القرار العامّ، من خلال عمليّة انتخابيّة حرّة
ونزيهة، تسمح بوصول الممثّلين الحقيقيّين لأيّ مجتمع لدائرة
السلطة، هو الحلّ الأمثل والأنجع لإدارة الخلاف على السلطة،
وهذا ما سلكته الدول المتحاربة تاريخيّاً ومذهبيّاً في الغرب،
حتّى ملّت من الصراع، فلجأت إلى تمكين المنظومة
الاجتماعيّة في التعبير عن نفسها في تشكيل السلطة، فانتهت
حروب المائة عام، والثلاثين عام، وسبعة الأعوام، وبدأت
مسيرة الاتحاد الأوربيّ والولايات المتّحدة وغيرها.

4

إنّ إرساء قيم المواطنة والتعدديّة والتشاركيّة، والحريّة، وسيادة
القانون، وحرّيّة الاختيار السياسيّ والثقافيّ، وتمكين الشعب
من حقّه في السلطة، هو الآليّة الممكنة والقابلة للقياس، التي
تكفل دفع أكبر قدر من الهواجس، وتحقيق أكبر قدر من
الرغبات للأمّة الإسلاميّة، بشقّيها السنيّ والشيعيّ.
حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام.




إسلاميّو العرب بين البرامجيّة والشعاراتيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

إسلاميّو العرب بين البرامجيّة والشعاراتيّة

بشكل شبه دائم نلتقي بوجوه العمل الإسلاميّ، من العالم العربيّ،
بخاصّة بعد مطاردة الثورة المضادّة لهم، واضطرارهم للهجرة إلى
تركيّا، أو أولئك الذين نرصد أفكارهم وتنظيرهم على مواقع
التواصل الاجتماعيّ، ولا يخفى كم لهؤلاء من فضلٍ وسابقة في
بذلهم الكثير من جهودهم ومقدراتهم، بل ومن حياتهم وأمنهم في
سبيل تخليص مجتمعاتهم من غوائل المستبدّين والانقلابيّين
والطائفيّين، مع ما تكبر فيهم من همّة وتفانٍ وقدرة على الحشد
والتأثير، ورغبة في البذل والتضحية، بقدر ما ترى عند الكثير من
نمطيّة مكرّر،ة وأفكارٍ معلّبة كانت سبباً ذاتيّاً في إرهاقهم، وتعطيل
مشاريعهم في بلادهم، عدا عن الأسباب الموضوعيّة الكثيرة التي تقع
على عاتق المستبدّين والظالمين وأجهزتهم المخابراتيّة.
ومثال على ما ترى فيهم، هذا التناقض بين إعجابهم الكبير، وتأييدهم
المنقطع النظير، للتجربة التركيّة ورائدها حزب العدالة والتنمية،
وكيف أنّ الإسلاميّين العرب في غاية الانسجام مع مشروعه، بل
ربّما يعتبرونه من ثمرات تنظير أجدادهم، ويستعدّ الكثير منهم
لخدمته والتشبيك معه، وهذا كلّه مرحّب به، ويدعو للتفاؤل، ولكنّك
في الوقت نفسه تسمع منهم – عندما يتحدّثون عن بلادهم في سوريّة
أو العراق أو مصر أو اليمن أو ليبيا أو الخليج – فيكادون يجمعون
على أنّ التجربة الديمقراطيّة والبرامجيّة التي أوصلت العدالة
والتنمية للحكم في تركيّا غير صالحة لبلادنا، بل لا بدّ من طرح
مختلف في البلاد العربيّة، لا بدّ من التنصيص على إسلاميّة

2

المشاريع الحزبيّة والإصرار على دسترة مصدريّة التشريع، وأنّ
لبلادنا خصوصيّة لا تقبل التجربة الديمقراطيّة، ولا بدّ من التفريق
بين الديمقراطيّة من حيث هي فلسفة، وبين الديمقراطيّة من حيث هي
أداة، ولحين أن تفرّق بين ما هو فلسفة وما هو أداة، يكون اللصّ قد
حاز الخزينة، ونصب سوراً حول المنطقة الخضراء، واجتذب
الأغلبيّة الصامتة، وأدخلنا في معارك التخوم.
لك أن تعجب من هذا عجباً لا ينقضي: ما هو حلال في تركيّا
وماليزيا، هو حرام علينا، وما نهض بالسويد وبلجيكا، نكص بنا، وما
جاز لأردوغان ومهاتير، حرّم علينا.
لماذا تمجّد البرامجيّة في تركيّا وماليزيا؟ وتمجّد الشعاراتيّة عند
العرب؟ لماذا يحوز الإسلاميّون في تركيّا وماليزيا على دعمنا، رغم
أنّهم لم يرفعوا شعاراً دينيّاً، ولا هويّاتياً واحداً، أو لم يتمركزوا
حوله؟ لماذا نصرّ على خوض معركة الشريعة والهويّة والحسبة،
دفعة واحدة في مصر وسوريّة وبلاد العرب؟
لماذا نشعر بغاية الانسجام مع ما تمنحه الحرّيّات العامّة والخاصّة
من الأجواء المتحرّرة والشهوات المباحة، تحت طائلة فقه
الضرورات الخاصّة، وهو مشروع ولاشكّ، وتمنع الأمّة المعذّبة من
تراخيص الضرورة، رغم أنّ الضرورة في حقّ الأمّة آكد، بل
الحاجة في حقّ الأمّة تنزل منزلة الضرورة؟
سأمرّ بكم على نصّ مقتبس من برنامج (حزب العدالة والتنمية) في
تركيّا، وانظروا إلى روح البرامجيّة:

3

( لن يعجز شعبنا – مادام الحلّ في يده – كما قال أتاتورك الكبير: “إنّ
القوّة التي ستنقذ الأمّة هي أبداً ودائماً عزيمة الأمّة وإصرارها”.
إنّ حزبنا الذي هو صنيعة الشعب، ولسان حاله، سيقوم بإعادة
ترسيخ الشعور بالثقة لدى المجتمع، وإكساب المواطنين الثقة في
المستقبل، والشعور بتقدير واحترام المجتمع لهم.
ولدينا مفهوم جديد للإدارة؛ ييسّر ولا يعسّر، ويحتضن ولا يطرد،
ويوحّد ولا يفرّق، ويحمي الضعفاء المظلومين من الأقوياء الجائرين،
ومن أجل تحقيقه سيقوم الحزب بما يلي:
• إرساء مفاهيم تستند على الحقوق والحرّيّات، وفق المعايير
العالميّة، في جميع المجالات.
• حلّ المشكلات المزمنة، التي تواجهها تركيّا حلّاً جذريّاً.
• تحويل بلدنا إلى بلد مستديم الإنتاج والنموّ، من خلال توظيف
الموارد البشريّة والطبيعيّة المعطّلة منذ سنوات.
• القضاء على الفجوة في توزيع الدخل، وبهذه الكيفيّة يتمّ رفع
مستوى الرفاهية لجميع أفراد شعبنا.
• تحقيق التعاون الوظيفيّ في المجتمع من خلال إشراك المواطنين
ومنظمات المجتمع المدنيّ في الإدارة العامّة.
• نشر مفهوم الشفافيّة التامّة والمساءلة في كلّ مجال من مجالات
الحياة العامّة.

4

• تقديم برنامج سياسيّ عصريّ، وعقلانيّ واقعيّ، وقابل للتنفيذ،
في مجالات مثل: الاقتصاد والسياسة الخارجيّة والثقافة والفنّ،
والتعليم والصحّة والزراعة وتربية الحيوان.
ولدينا اعتقاد راسخ بأنّ هذا البرنامج قادر على حلّ مشكلات تركيّا،
وفتح آفاق التقدّم أمامها.
إنّ أهم خاصيّة لهذا البرنامج تتمثّل في قراءته للحاضر قراءة
صحيحة، واستشرافه المستقبل. ونأمل أن يكون هذا البرنامج الذي
نقدّمه لشعبنا بمثابة نقطة انطلاق جديدة لتركيّا.
وبعون الله سيصبح كلّ شيء بنا وبكم أفضل حالًا).
انتهى الاقتباس، ولقد رأينا سعياً لتحقيق مطالب بشريّة يطلبها كلّ
البشر، ويسعى لنيلها كلّ إنسان، لم يتحدّثوا عن تطبيق الشريعة، ولا
عن فتح روما، ولا عن تخمير النساء، ولا عن ملاحقة الخمر، ولا
عن تنميط المجتمع، كلّ ما في الأمر أنّهم سمحوا لهذا المجتمع أن
يتحدّث عن نفسه، ولا شكّ أنّه سيتحدّث بما يؤمن به، وبما تربّى
عليه.
ماذا لو حاولت كإسلاميّ أن تكتب مثل هذا الكلام في دستور حزب
إسلاميّ في بلاد العرب، سيحدث لك ما حدث للغنّوشي والترابيّ،
من تهم التمييع والتضييع والتلاعب بالهويّة والثوابت، ومحاباة
للعلمانيّة والحداثة، فكيف إذا أردت أن تكتب (أتاتورك الكبير)!
سيقولون لك: وهل قدّمنا ملايين الشهداء حتّى نعود إلى ما قبل مائة
عام؟.

5

ونقول: وهل قدّمنا ملايين الشهداء لنبقى في التخوم، ويستفرد المستبدّ
بمفاصل الأمن والقرار السياديّ في منطقته الخضراء، مستغلّاً
تخوّف من لم يفهمنا، أو من يتخوف منّا، فاستمالهم لطاعته، وخوّفهم
على أمنهم من سيفنا، وعلى حرّيّتهم من مشروعنا؟.
إنّ الشعارات جميلة، والاندفاع الروحيّ خلّاق، ولكنّه مؤقّت
ومكلف، ومن الخطأ بناء المشاريع السياسيّة المستدامة على وهج
السطع العاطفيّ، أو الوهج الإيديولوجيّ، لأنّه سرعان ما يخبو بفعل
الزمن، من فقد المؤسّسين، وسيطرة النفعيّين، وكلفة الاستمرار،
وتحفّز الأعداء، واستمالة الرماديّين لبريق المصالح.

انتهى




الفيلسوف والفرّان

بسم الله الرحمن الرحيم
الفيلسوف والفرّان

لا تخفى على البصير أهميّة الإصلاح الفكريّ، من تشخيصٍ نقدٍ،
ومعالجةٍ وتخطيطٍ وتنظيرٍ، وضرورة رسم الصورة المستقبليّة
لمسيرة الأمّة، وهي في طريق تلمّسها سبل الخلاص، ولا يعاب على
أحدٍ أن يبدع في نظريّاته، وتخطيطه لمراقي الفلاح، ومعارج الأمم،
للتقدّم والرقيّ، فذلك كلّه مطلوب بإلحاح،
ولكنّه مطلوب بعد إدراك طبيعة عالم الأفكار والنظريّات، فهذا العالم
أسير لكثير من الطبائع والظروف المتعلّقة بالرجل المسمّى:
فيلسوف، أو منظّر، أو مفكّر أو داعية، فهو عالم يتّسم بالنخبويّة
والمثاليّة والتردّد والمراجعة والتغيير والتأثّر بأسبقيّات العقول، من
عقيدةٍ وبيئةٍ ودوافع شخصيّة ومطامع ذاتيّة، والأخطر من ذلك كلّه؛
هو عدم حساب الوقت، والتقليل من أهمّيّته، فترى من السهل أن
يلوح لك المنظر بالحاجة لعدّة أجيال لتطبيق نظريّته على الأرض،
فهو يحيلك إلى مكان مجهولٍ، بالنسبة إليك، وخالي المسؤوليّة
بالنسبة إليه، فهو بعد أجيال سيكون تحت التراب، بلا رقيب ولا
حسيب، في حال فشلت نظريّته، أو أنّها أرهقت معتنقيها.
نعم هنا تنقلب الفلسفة والحكمة إلى شيءٍ قريب من السفسطة، من
حيث نظرةِ الناس إليها، لا من حيث قيمتها الذاتيّة، ومن هنا تأتي
قابليّة أن يستسلم الناس للمشاريع المزجاة، والبرامج المقولبة
والجاهزة، ولو لم يقتنعوا بأهليّتها أو أحقيّتها،

2

ولكنّهم يرون ثمارها جنىً يتوقّعون قطافه ولو كحمرة على وجنات
التفّاح، وقد بدا صلاحه، فكيف ينتقل الفيلسوف من عزلته، ويقرّب
فكرته إلى سامعيه، ولا يضيع الحكمة في مستقبل الأضغاث، عندما
يدرك علاقة الناس بالخبز، فالناس ليست مستعدة – على ما فيها من
دوافع وبواعث، وما تواجه من تحديّات وعقبات، وما تتعرّض له
من ضغوط وفتن، وما تتشوّف له من رغبات وغنائم، وما تتوجّس
منه من مخاوف ومحاذير – ليست مستعدّة لأن تنتظر من الفيلسوف
أن يفرغ من النقد والتشخيص والمراجعة والتغيير، حتّى تنهل منه ما
تحتاج، ولكن هذه الشعوب تنتظر الفرّان كلّ يوم من أجل الحصول
على حقّ البقاء، ودوام الكفاح،
إنّ إدراك الفيلسوف لأهميّة العلاقة بين الإنسان والفرّان، وبين
الإنسان والضرورة، وأنّ الإنسان عنده جهاز حسّاس يوازن به بين
الأولويّات، عندها يدرك المنظّر كم هو بحاجة للنزول للهمّ اليوميّ،
ولو بجزءٍ من جهده، لأنّه إن لم يفعل فأوّل المتضرّرين هم أولئك
الذين يحرص بنظريّاته على إسعادهم، فهو بعزلته وعاجيّته
ونرجسيّته يزيد من توحّلهم وتعثّرهم واحتباسهم في دوّامة الرغيف،
منشغلين تماماً عن تبصّر النور في آخر النفق.
وهنا اسمحوا لي بالانتقال إلى الذين نحبّهم، ونختلف معهم من
المنظّرين للمشروع الإسلاميّ، أو الدعاة له، والذين وقعوا فيما وقع
به الفيلسوف المسكين من إحالة الناس إلى مجهول أو غائب، فعندما
ترى أقلام العمل الإسلاميّ دائماً مشغولة بالتنظير لدولةٍ تحكم
بالشريعة، ويتساوى فيها الناس أمام حكم الله، فيستبشرون بها الخير،
لعلّهم يتخلّصون من أوحال الاستبداد، ولكنّهم مع حبّهم وتشوّفهم
يحبّون تلمّس شيءٍ قريب ممّا يطمحون إليه، كقليلٍ من الكرامة

3

الآدميّة والحريّة السياسيّة، والرفاه الاقتصاديّ، ومأسسة الرقابة
والمسؤوليّة، ولكنّهم يفاجؤون بأنّ هذا قد لا يحصل بالقريب العاجل،
وإنّما قد يستلزم مثلاً انهيار النظام العالميّ، وسقوط الهيمنة الغربيّة،
حتّى تستطيع هذه الأمّة التعبير عن نفسها، هكذا قال لهم (أبو مصعب
السوريّ)، وربما يطلّ آخر فيقول: لا تصلح هذه الأمّة إلّا بما صلح
به أوّلها، وإنّما صلح أوّلها باتباع الهدي النبويّ الشريف، ولا عودة
للأمّة لما كانت عليه إلّا أن تكون على ما كان عليه محمّدٌ صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابه، ثمّ يشقّ طريقه محارباً البدع ومحيياً السنن،
وربّما يمضي عمره ويستفرغ قوّته، ولا يستطيع إقناع جيرانه إلا
بسيف من نجد، ومنهم من يقول: لا صلاح لهذه الأمّة إلا بوصل
القلب مع الجبّار، والتجرّد من الأغيار، والتحقّق بالصدق
والإخلاص، والبعد عن السياسيّة والأدناس، فيمضي العمر حبيس
الخلوة، ومنهم من ينتهض فيقول: لا عودة إلا بخلافة راشدة، وأمير
واحد من جاكرتا لطليطلة. ويمضي عمره ولا يجد إلا في بلاد الكفر
مأمنه، ونتابع مع هؤلاء الذين نحبّهم كيف يحيلون على المجهول،
ويرمون على المستقبل بلا أيّ محاولة للتفكير بحاجة الناس اليوميّة،
وربّما لا يسأل أحدهم نفسه عن همّ الناس، وكيف يدمى الحصان من
حديد السرج، بدون أن يشعر هذا الفارس المقبل على فتح روما، أو
ذلك الذي ينتظر تطهير الأرض من القبور المشرفة، أو ذلك الذي
وقذه الذكر عن التذكر.
في حين أنّه في الوقت نفسه يخرج على الناس كلّ يوم من يعدهم
بخبز الاستحقاق، بعد شهر وعام، ويرقم لهم إنجازات الأمن
والاقتصاد والتعليم، ويبسط أمامهم خارطة الحلول الناجزة والقريبة،
فينساق الناس له، مع علمهم بفساد طويّته، وسوء بطانته، أو حتّى

4

اختلاف دينه، وما ذاك إلا لأنّه عقلن لهم الطرح، وجعله قابلاً
للتداول والتفكير، وسهّل لهم – ولو على زيف – قيم التشارك والتعدّد،
فما وعدهم بروما، ولا منّاهم بخليفة، ولا تدخّل لهم في نمط، وإنّما
أشعرهم بضرورة أن يتوجّهوا لنافذة الفرن، من أجل الحصول على
الضرورة،
لا نريد ألا نحدّث الناس عن الجنّة، ولا نريد أن نتخلّى عن الدعوة،
ولا نريد أن نتهاون في العبادة، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولكنّا نريد أن
نفهم السّنن، وندرك سعة مساحة التأويل عند البشر، فإنّهم يؤوّلون
تقصيرهم في خدمة المبادئ بسهولة، مقابل خشيتهم من فوات
المصالح، فعلى من عقل مسافة ما بين الناس والمبدأ، وما بين الناس
والمصلحة، وما بين الناس والضرورة، وما تبيح من سعة التأويل أن
يأتي للناس من باب المصالح والبرامج، محتفظاً بدوافع الحماسة،
ومستعيناً بعدالة القضيّة في خدمة المبادئ، وعندما يرى الناس
المصالح المحسّنة، سيتسهلون الطاعة والصبر على ما تقتضيه
المواقف الأخلاقيّة المتطلّبة للبذل والإيثار.




إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة

بسم الله الرحمن الرحيم
إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة

هذه حقيقةٌ يعيشها المسلمون اليوم، بين نبلِ الشعارات، وصفاءِ
النيّات، وعظيم التضحيات من جانب، وبين الناتج المحدود،
والجدوى المختزلة لتلك التضحيّات، والعمل المضني، بعد عقودٍ من
الكفاح للإصلاح والتغيير.
فما من شكّ أنّ الإسلاميّين وهم روّاد المسلمين في الجهاد المسلّح، أو
السياسيّ أو الخيريّ، مافتؤا يجودون بالغالي والنفيس في سبيل
إزاحة صخرة الاستبداد عن صدورهم، وتخليص البلاد – بخاصّة
العربيّة منها – من حكم الأنظمة الاستبداديّة، والانقلابيّة والطائفيّة.
ولكن مع هذا كلّه لم يستطيعوا حتّى اليوم أن يقدّموا بشكل عمليّ
تطبيقيّ نظرتهم للإصلاح السياسيّ والإداريّ، ونستطيع أن نقول:
إنّهم لم يستطيعوا أن يستلموا السلطة بشكل فعليّ كامل، في بلدٍ من
البلدان حتّى الآن، إلّا إذا اعتبرنا أنّ حكومة العدالة والتنمية في تركيّا
من تيّار الإسلاميّين بمفهومه الشامل، قد قطعت خطوات بهذا الشأن.
طبعاً كلّ ما يمكن أن يقال عن مؤامرات وسحق وتنكيل وفظائع
المخابرات بالتيّارات الإسلاميّة موجود، ولكنّها أيضاً ليست هي
الأسباب الوحيدة لانتكاسات التيّار الإسلاميّ، لأنّ كلّ ضعف وهزيمة
تلامسها أسباب موضوعيّة، وأسباب ذاتيّة، أمّا الأسباب الموضوعيّة
فتكلّمنا عنها في مقالات سابقة، بل إنّ ثورات الربيع العربيّ هبّت من
أجل الإطاحة بهذه المنظومات الاستبداديّة الضاغطة،
وهنا سنتكلّم عن بعض الأسباب الداخليّة التي تقوم بتدمير التيّارات
الإسلاميّة من الداخل، ومنها الأسلمة المرهقة.

2

أمّا الإسلام فهو دين الله تعالى، الذي ارتضاه لعباده لهدايتهم، في
الحياة الخاصّة والعامّة، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من آدم عليه
السلام لخاتم النبيّين محمّد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)
وهذا الدين العظيم لم يكلّف اتباعه فوق طاقتهم، وترك لهم تقدير
الظروف التي يستطيعون التحرّك ضمنها، بأقلّ الخسائر، فقال لعبد
خائفٍ (وَلْيَتَلَطَّفْ)، وقال لأمّةٍ مضطّرةٍ منهم: (إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)
وخيّرهم في سياسة أمورهم، فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وجعل
القرآن مصدر إلهامٍ، لا مصدر شقاء،: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) ويسّر عليهم ممارسة الدين، فقال: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) وأناط التكليف الشرعيّ بالاستطاعة، فقال:
(فاتقوا الله ما استطعتم).
والإسلاميّون بالعموم، رغم أنّهم يصدرون عن مرجعيّة الوحي
المبارك، لا يلاحظ عليهم التروّي عند هذه القيم الهادية، وإنّما
تتعرّض لاختزال في معانيها، أو تحييد لآثارها، والاكتفاء بمنظومة
مقتبسة ومجتزأة من سياقها، وتحويلها لمشروع حزبيّ يسمّى:
مشروع تطبيق الشريعة. وهذا ما أسمّيه: (الأسلمة المرهقة)، فهو
محاولة للزجّ بالتصوّر الإسلاميّ بصيغة موحّدة، وغير قابلة للتدرّج
أو التجزئة، بدون النظر للظروف المحيطة، والشروط المناسبة.
فما من حركة مهما قلّ عدد شبابها، ولو كانوا عصبةً صغيرة،
فبمجرّد حصولهم على حزمة بنادق، وبعض صناديق الذخائر، إلا

3

طرحوا مشروع القتال من أجل تحكيم الشريعة، والتجارب المرّة
البارزة تغني عن تكرار ذكرها.
وما من حزب ينطلق للنضال السياسيّ، مهما قلّ مناصروه، أو
ضعفت إمكانيّاته، إلا وأوّل مشروع يطرحه هو: تطبيق الشريعة،
وتأتي هذه الهديّة الثمينة جاهزة، على طبق من ذهب للدولة العميقة،
فتطوف بها على المرأة، وتقول لها: أنت نصف المجتمع، وسيحرمك
الإسلاميّون من حقّك بالولاية.
وتطوف على الأقليّات وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم
عقد الذمّة. وتطوف على أصحاب المصالح الماليّة، وتقول لهم: إنّ
الإسلاميّين سيطبّقون عليكم عقوبة مانع الزكاة. وتطوف على
العلمانيّين وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم حدّ الردّة.
وهكذا… بشيطنة إعلاميّة بسيطة، تستطيع الدولة العميقة الالتفاف
على مشاعر الجماهير، وجذب الكتل الانتخابيّة لصالحها، هذا عدا
عن قيام أجهزة المخابرات التابعة لها بعمليّات تزوير الإرادة
الشعبيّة، هذا إذا كانت المعركة انتخابيّة، فما بالك إن كانت عسكريّة!
والسؤال المطروح: من الذي يلزم الإسلاميّين بهذا العناء الدائم؟ ومن
هو الذي كلّفهم بتطبيق الشريعة، وهم مستضعفون في الأرض،
وبالكاد يستطيعون التحصّل على حقّ الحياة أو الكلام؟ هذا عدا عن
الغموض والتردّد في طرح المشروع الإسلاميّ، بصفته مشروعاً
برامجيّاً قابلاً للتداول، وإنّما فقط حزمة من الشعارات الدينيّة التي لا
تنعكس في كثيرٍ من الأحيان، حتّى على سلوك حامليها، حامليها
المؤسّسين، فضلاً عن المدعوّين لحملها.
إنّ إصرار الإسلاميّين على تقديم التصور الإسلاميّ على أنَّها كتلة
واحدة غير قابلٍ للتجزئة، وإمّا أن يقبل المجتمع بها كلّها، أو يرفضها

4

كلّها، أرهق هذا الدمج عضد الجماعات الإسلاميّة، بل سرى ذلك
للحاضنة الشعبيّة التي طالما دفعت الضريبة من حسابها.
يقول الدكتور بشير نافع: (إنّ أسّ المشكلة في الحركيّة الإسلاميّة هي
إصرار الحركات الإسلاميّة على اقتباس صورة نمطيّة، تتصوّرها
في مخيّلتها، مرّت بمرحلة تاريخيّة سابقة، وتريد أن تعيدها مستبعدة
ما مرّ من تغيير هائل على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في العالم
الإسلاميّ، منذ ظهور التنظيمات القوميّة في القرن التاسع عشر)،
ا.ه.
وهذا ما نراه عندما تبني الحركة الإسلاميّة مشروعها، منطلقةً من
أنّها ستحصد التأييد الاجتماعيّ، باعتبار أنّ الشعوب مسلمة، ولكنّها
لا تقيس مدى هذا التأييد وجودته وصلابته، فلقد رأينا أنّ الكثير من
التأييد الإعلاميّ والجماهيريّ محكوم بالوقتيّة والمحدوديّة، سرعان
ما يرجع الناس لبيوتهم، تحت الاغترار بالوعود المزيّفة، أو وطأة
آلات القمع والتنكيل.
ومن هنا يقتضي الانتباه لضرورة عدم تحميل الحاضنة ما لا تتصوّر
تبعاته، وما لا تطيق تحمله، وخرط الناس المتديّنين بدلاً من ذلك،
مثل غيرهم في البرامج الانتخابيّة، والهموم السياسيّة، ومحاولة تنمية
وعيهم بعالم المشاريع، وليس الاقتصار فقط على عالم الأفكار
والدعوة.
إنّ الإسلام من عهد آدم عليه السلام، إلى عهد رسول الله عليه
الصلاة والسلام دين موحّد العمق الاعتقاديّ والقيميّ، لكنّه متنوّع
الشرائع والشعائر والأدوات، وبخاصّة في مجال التعاطي السياسيّ.

5

والذي يميل قلبي إليه في الأمر السياسيّ أنّ الإسلام لا يؤسّس لنظرة
مسبقة وجاهزة عن نظام الحكم وإدارة السلطة، وإنّما يدفع بقيمه
وأخلاقه لفعل الأصلح للبشريّة.
وأنّ الإسلام دين هداية وتوجيه، وليس دين مباشرة وتنفيذ، وأنّ
الاسلام إصلاحيّ اجتماعيّ، يراكم التجارب، ويعطي وزناً لأبعادها،
ومستوى نضجها، وليس سياسيّاً انقلابيّاً يفرض رؤيته الجاهزة.
إنّ مقاصد الإسلام ليس معنيّة أساساً بمزاحمة النظم البشريّة، ولكن
عندما يمتزج مع الواقع، فإنّما يفعل ذلك ضمن قواعد التعاقد أو
الاشتباك الممكنة، دون نظرة كاملة مسبقة، فعندما يقول المسيح عليه
السلام:( فردوا مال قيصر لقيصر) هي تعاط ضمن الممكن، وعندما
يقول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّيّ حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) في حكومة وثنيّة، هو تعاط ضمن الممكن، وعندما يقول
سليمان عليه السلام: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ
أَنتَ الْوَهَّابُ) هو تعاط ضمن الممكن، وكلّ هذا إسلام لاشكّ،
وبتوقيع أنبياء الله،
فالإسلام يشارك ويواجه وينازل، ويصبر ويؤسّس، ويقبل ويرفض،
مثله مثل غيره من الكتل البشريّة، دون أن يكون له مشروع مستقلّ،
وهذا دليل كمال، ويعني أنّه دين منفتح، لا يُكْره الناس على أسبقيّات
أو قبليّات، وإنّما يسير معهم وفق قواعد التغيير الاجتماعيّ الطبيعيّة.

انتهى




مشوشات حول الديمقراطيّة

بسم الله الرحمن الرحيم
مشوشات حول الديمقراطيّة

ليس المقصود بهذا المقال التزلّف للغرب، كما يشاع عند أيّ حديث عن
الديمقراطيّة.
ولكنّ المقصود هو إعادة النظر في طريقة تعاطينا النمطيّ المجتزأ مع
الأفكار والمنظومات السياسيّة ذات المنشأ الغربيّ، إن صحّ التعبير،
وبخاصّة بعد هذه الخسارات الكبرى التي نكبت بها الحركات الاسلاميّة، إن
كانت هذه النكبات لظروفٍ موضوعيّة، أو لعوامل ذاتيّة، وهي الأكثر
خطورة لتعقّد التحليل والعلاج.
ومن هذه العوامل الذاتيّة الإصرار على ضبابيّة المشروع السياسيّ
(الإسلاميّ)، وطرحه بطريقةٍ رماديّة وفق فقه الضرورات، وخوضه
بأدوات غير رقميّة، أو قابلة للقياس، ممّا يؤديّ إلى الشتات والتشظيّ،
وكثرة الانشقاق والتصدّع،
عندما نذكر كلمة (الديمقراطيّة) ليس حبّاً بهذا المصطلح المركّب، ولا بأصله
اليونانيّ، ولا بفلسفات لوك وروسو وهوبز..
نحن فقط ننظر إليه بصفته مدخلاً ممكناً للاختيار السياسيّ من غير وصاية
ولا إكراه، كحقٍّ سياسيّ لكلّ مواطن، في بلدٍ يريد أن ينهض بمنظومته
الاجتماعيّة ومسيرته التنمويّة، شفافيّة بالمال وسيادةٌ للقانون، وضمانٌ
للحرّيّات، وهذا لن يتمّ بدون تعاقدٍ اجتماعيّ على أساس المواطنة، كصيغةٍ
قانونيّة تكفل التساوي بالحقوق والواجبات…
نرضى أو لا نرضى… حقّ الاختلاف الفكريّ معتبر…
ولكن هذا هو الاستحقاق السياسيّ الذي طالما هربنا منه، بألفاظ التعميمات
واستنساخ تجارب التاريخ.
ومن مشوّشات الديمقراطيّة:

أوّلاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي دِين، وبالتالي ليس لمسلمٍ أن يترك دين
الإسلام، ويتّبع دين الديمقراطيّة، وبهذا اللفظ البسيط الكفاية لإخراج كمٍّ هائلٍ
من الأمّة من الإيمان إلى الكفر، بل وتكفير كلّ المشاركين السياسيّين في أيّ
عمليّة ديمقراطيّة في العالم، إذ إنّهم بهذا يشاركون في التبشير بدينٍ غير دين
الإسلام يسمّى (دين الديمقراطيّة).
ويكفي للردّ على هذا الكلام أنّ الديمقراطيّة لا تنتمي لدينٍ ولا لمذهب، ولا
تؤصل أساساً للعلاقة بين الإنسان ومعبوده، وليس في كلّ أدبيّاتها أيّ
محتوًى دينيّ، وإنّما هي مجموعة من العمليّات المنسجمة التي تهدف
لممارسة العمل السياسيّ في جوٍّ من الحرّيّة والرضا الشعبيّ، وهي تأخذ
الطابع الدينيّ في كلّ بلدٍ من دين أهل ذلك البلد، فهي بوذيّة عند البوذيّين،
ومسلمةٌ عند المسلمين، ومختلطةٌ عند الخلطاء.
ثانياً: يقولون إنّ الديمقراطيّة تتنافى مع تطبيق الشريعة؛ لأنّها تضع
الحاكميّة للشعب، وليس لله.
والجواب عن هذا: إنّ الحاكميّة شيء، وتطبيق الشريعة شيءٌ آخر،
فالحاكميّة هي وجوب رجوع المسلم للشريعة في أحواله كافّة، ولكنّه في
الوقت نفسه محكوم بظروف القدرة والاستطاعة، ومنها تطبيق الشريعة،
فقد لا يستطيع المسلمون في كلّ زمن أن يطبّقوا الشريعة، إمّا لضعفٍ أو
لعجزٍ، ولكنّ هذا لا يمنعهم من أن يمارسوا العمل السياسيّ، لتقليل المفاسد
والأخطاء، ومناهضة الظلم والاستبداد، وهم بغير الدخول في قواعد اللعبة
السياسيّة القائمة على الخيار الديمقراطيّ، لن يستطيعوا فعل ذلك.
ثالثاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي الحريّة المطلقة، وهي تبيح فعل جميع
المنكرات، بل وشرعنتها، وممكن أن يصوّت في الديمقراطيّة على أمور
تناقض صريح القرآن، وهذا الاعتراض أيضاً غير مسلّمٍ به، فالشعب
عندما يحكم نفسه بنفسه يحكم بما يؤمن به، وبالتالي فإنّه ما من حرّيّة
مفتوحة السقوف، يفعل الإنسان ما يشاء، حتّى في أعرق الديمقراطيّات
العالميّة، فالحريّة مقيّدة بالأعراف الدستوريّة وأسس الدولة والمجتمع،

وهويّة الشعب الذي انتخب هؤلاء النواب أنفسهم، فلا يمكن في بلد مثل
بريطانيا أن يتمّ احتقار سلطة الملكة، أو السخرية منها، ولا يمكن التصويت
على قتل إنسان خارج أسوار القضاء، ولا يمكن في دولة مثل الهند أن يتمّ
التصويت على ازدراء آلهة الهنود، التي يعبدونها، وكذلك الأمر في البلاد
الإسلاميّة، فكيف بمجتمع مسلم ينتخب معظم نوّابه من المسلمين، ثمّ
يتصوّر أن يصوّتوا على أمر يناقض الشريعة، فإن حصل ذلك فمردّه إلى
أمرين، أمّا الأوّل: أنّهم عاجزون، وقدّروا المصلحة في ذلك، وهم مبتعثو
الأمّة، والأقدر على تقدير الموقف.
والأمر الثاني: أنّهم ليسوا مؤتمنين على مصالح الأمّة ودينها ورسالتها،
وعلى الشعب الذي انتخبهم أن يعيد النظر في اختياراته، وأن يرقى بوعيه
السياسيّ ليختار أولي الأمر منه بما يحفظ رسالته.
رابعاً: يقولون إنّه لا ديمقراطيّة حقيقيّة، وإنّ المال والإعلام هو الذي يخدع
الشعوب، ويدفع بالفاسدين والمستبدّين، وشراء أصوات الفقراء أو
المنتفعين، وهذا أمر وارد، ولكنّ علاجه لا يكون بإلغاء الخيار
الديمقراطيّ، ولا الانسحاب منه، وإنّما بالسعي لتحسينه وضبطه بالقانون،
بحيث يؤتي ثمرته في تنظيم الاختيار السياسيّ بأقلّ الخسائر، والبشريّة
يوماً بعد يوم تحاول سنّ التشريعات الدائمة لإصلاح الخلل في النظام
الديمقراطيّ، ومنه لم تقتصر على الانتخابات الرئاسيّة، بل والبرلمانيّة ثمّ
النقابيّة ثمّ الانتخابات المحليّة والبلديّة، وذلك كلّه لتوسيع قاعدة المشاركة
الشعبيّة في صياغة الرأي العامّ.
تبقى الديمقراطيّة تجربة بشريّة حافلة بالعثرات والأخطاء، وتستحقّ النقد
والتصويب، مثلها مثل أيّ نظام سياسيّ بشريّ آخر، ولكنّ هذا التصويب
يكون متزامناً مع الممارسة للعمل السياسيّ، لأن السياسة في كلّ يومٍ لها
استحقاق جديد والناس لا ينتظرون حتّى ينتهي المفكّرون من التنظير
السياسيّ، أو يتوافقوا على مشروع جامع، بل يحتاجون القيادة الدائمة لهم،
التي هي رائدة العيش المشترك، ومحقّقة الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ،
والحارسة لمصالحهم من الضياع والفوضى.

حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام
12/2/2018




إسلاميّ وعلمانيّ في وجه الاستبداد

بسم الله الرحمن الرحيم
إسلاميّ وعلمانيّ في وجه الاستبداد

تنتمي هذه المقالة إلى (الجغرافيّة السياسيّة) ولا تنتمي إلى التحليل الفلسفيّ، ولذلك
لن نذهب إلى تأصيل (معنى إسلاميّ) أو (علمانيّ)، وإنّما سنستخدم المعنى الشائع
بين الناس.
فإذا قلنا: إنّ الإسلاميّ هو من يحمل تصوّراً شاملاً عن مشروع سياسيّ مستمدّ من
الشريعة الإسلاميّة، ديناً ودولة عقيدة وشريعة ومنهج حياة بمرجعيّة سماويّة.
وإذا قلنا إنّ العلمانيّ من يحمل تصوّراً أنّ الدولة يجب أن تكون حياديّة من جميع
الأديان، وتمشي بقانون وضعيّ بشريّ ومرجعيّة بشريّة
كيف لهؤلاء أن يكونوا سويّة في مكافحة الاستبداد؟.
لو افترضنا أنّ الإسلاميّ في الربيع العربيّ سيأتي ويحمل معه حمولته كاملة،
ليخوض بها معركة الحريّة، فسوف يفرّق أكثر ممّا يجمع، وسوف يضرّ أكثر ممّا
ينفع، لأسباب كثيرة منها:
أوّلاً: عدم وجود برنامج مكتوب ومتداول بين الأطياف الإسلاميّة، قابل للإقناع
السياسي لجماهير الربيع العربيّ، وإنّما هي في الغالب أدبيّات تنظيميّة، ونظرات
حزبيّة متفاوتة في التنظير، ومختلفة في التطبيق.
ثانياً : رغم اتساع جمهور الإسلاميّين، وقدرتهم على الحشد والتأثير، إلا أنّهم
يخسرون كثيراً من قوتهم في معارك جانبيّة بين: سلفّيّ وصوفيّ، وسنيّ وشيعيّ،
وتقليديّ وحركيّ .. ممّا يؤدّي لانقسام جمهورهم ودخولهم في صراعات بينيّة.
ثالثاً: الشعوب لا تنتظر الفلاسفة ريثما يفرغون من تنظيراتهم، لأنّها لا تنتهي،
والشعوب مشغولة بالهمّ اليوميّ الذي يتراكم عليها: من تضحيات، وفوات الأنفس،
وهلاك المصالح.. وهي تريد شيئاً ناجزاً، أكثر منه شيئاً صحيحاً إن كان بعيد المنال.
ولذلك ولأسباب أخرى عجزت القوى الإسلاميّة وخلال 80 عاماً تقريباً من
النضال، أن تقنع الجماهير بجاهزيّة مشروعها ونضوجه.
طبعاً ولاشك إنّ هناك أسباباً موضوعيّة: مثل القمع والتنكيل والاختراق… ولكن
تبقى هذه الأسباب مكمّلات للضعف، والشتات الداخليّ..
ولو افترضنا أنَّ الطرف الآخر العلمانيّ سيأتي بحمولته كاملة، ليخوض بها معركة
الحريّة من الاستبداد، فإنّه سيفرّق الصفوف أكثر ممّا يجمع، ويمزّق أكثر ممّا هو
ممزّق، وذلك لأسباب عديدةٍ أيضاً منها:

2

أولا : تجربة الأنظمة العسكريّة القمعيّة المريرة التي دفعت ببلادنا للتخلّف والدمار
والتبعيّة، التي حسبت بشكل أو بآخر على أنّها أنظمة علمانيّة تعادي هويّة الأمّة،
وتعمل على تغيير ثقافة الشعوب قهراً.
ثانياً: بقاء التوجّه العلمانيّ ضمن طبقة نخبويّة مثقّفة غير متجذّرة ضمن الجماهير،
ممّا يجعلها شبه معزولة، وتنسج حولها هواجس المؤامرات والتبعيّة للغرب،
ومعاداة الدين، بل أصبحت عند الكثير قرينة للإلحاد والانحراف الأخلاقيّ.
3-شأن العلمانيّين شأن الإسلاميّين، من حيث التفرّق، وعدم وضوح المشروع،
والدخول في صراعات وانشقاقات حزبيّة قوميّة ويساريّة، مع دخولهم مع
الإسلاميّين في جدلٍ واسع منع من التحالف والتآزر، وجعل الطرفين عرضة
للاستهداف والإقصاء، من قبل أركان النظام الاستبداديّ.
طبعاً سيجد كلا الفريقين الشهيّة الكافية للحوار والنقاش، بل وللصدام، ولكن ليس
هذا هو الحلّ، لشعوب مغلوبة مقصوفة مدمَّرة يسرح المستبدّ فيها طولاً وعرضاً،
كما قال الكواكبيّ: (المستبدّ يضغط على العقل، فيفسده، ويضغط على الدين، فيفسده،
ويضع كعب رجله في حلوق الملايين ليسكت أنينهم).
والحلّ يبدأ من صفقة وتعاقد سياسيّ واجتماعيّ عام بين المكوّنات الإسلاميّة، وبين
النخب العلمانيّة… أن يتنازل كلّ منهما عن بعض حمولته الفكريّة والسياسيّة لصالح
القاسم المشترك بين الناس، وللصالح العامّ الذي فيه مصلحة الشعب، فيجتمع
الفريقان على مواجهة الاستبداد، وحسم معركة الحريّة، وتحكيم الشعب من قرار
السياسة والأمن، وضمان حقّه في التمثيل السياسيّ لنفسه في دائرة القرار، ضمن
عمليّة سياسيّة، وانتخابات حرّة نزيهة، ترسم خارطة الأقليّة والأكثريّة السياسيّة، في
المجتمع، وبعدها يمكن أن تنطلق مسارات التعاون، بين المكوّنات في بناء وطن
واحد حرّ قويّ كريم.. يشعر جميع مواطنيه بالحقوقيّة والمواطنة، ذاتها دون إقصاء
أو تمييز…
فلا هو مقبول من الإسلاميّ أن ينظر للثورة على أنّها من نتاج مدرسته، فيقيم لجان
الاحتساب، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويفرض على النّاس نوعاً
معيّناً من التوجّه الفكريّ، أو الالتزام الدينيّ أو يتدخّل في حرّيات النّاس الخاصّة.
ولا هو مقبول من العلمانيّ أن يصادم هويّة المجتمع وثقافته، أو يستنسخ كلّ ما
ناسب شعوباً أخرى، ويجعلها من مسلّمات شعبه، ويحاول أن يفرض ذلك دستورياً
أو ما فوق دستوريّ.
إنّ عقد صفقة سياسيّة بين الإسلاميّين والعلمانيّين، على أن يتابعوا النضال ضدّ
الاستبداد حتّى إسقاطه، ومن ثمّ تحكيم الشعب من نفسه، وفق العمليّة الديمقراطيّة،

3

ليختار قانونه ودستوره وطريقة إدارة السلطات، هو الحلّ الممكن الذي يجمع بين
أطياف الثورة، ويقلّل ساحة الاختلاف، وما يتبقّى من أمور يقع فيها تفاوت وجهات
النظر، تحلّ في قبّة البرلمان، ولجان التشريع، والاستفتاء الشعبيّ وغيره من وسائل
الاختيار الحرّ، بلا وصاية ولا ضغط.
إنّ تمكين الاختيار السياسيّ والثقافيّ للمواطن، هو هدف مشترك بين التصوّر
الاسلاميّ الصحيح، وبين العلمانيّة الحقيقيّة، الذي يدعم وجود تعاقد سياسيّ طويل
الأمد، بين شعبٍ متصالح على القيم المشتركة.

حسن الدغيم
باحث
مؤسّسة رؤية للثقافة والإعلام

انتهى




عبوّات ناسفة بربطة عنق

بسم الله الرحمن الرحيم
عبوّات ناسفة بربطة عنق

لم يعد خافياً على منتسبي (الربيع العربيّ) خطورة التنظيمات
التكفيريّة التي هي أشبه ما تكون -أو هي حقيقةً- بالعبوّات الناسفة
التي انفجرت في وجه ثورة الحريّة والكرامة، فكانت الألغام التي
بترت أقدام الثائرين، والعصا الغليظة التي دقّتهم على جماجمهم
غدراً وبغياً، ومعلوم ماجرّ التنظيم الباطنيّ المسمّى (تنظيم الدولة)
على المنطقة من كوارث، ليس أقلَّها التدميرُ والتهجير، بل تتجاوز
لزرع الشكوك في قدرة وفعاليّة أيّ مشروع إسلاميّ مستقبليّ، لو لم
يحفظ من إسلاميّته إلا الاسم أو الشعار، وذلك لما ورَّثه هذا التنظيم
الضالّ في الفكر والسلوك لغيره من مكوّنات المجتمع المسلم،
ولكن الذي يخفى على كثيرٍ حتّى الآن أنّ هناك نوعاً من المفخّخات
والعبوّات التي ساهمت بتدمير ربيعنا العربيّ، ولكنّها لا تستخدم
السيفور ولا البارود، ولا الأحزمة والستر الناسفة، وإنّما ترتدي ثياب
المنظِّرين والمحلِّلين، ويحتلّون مساحة واسعة في فضائيّات تلفزيونيّة
كبرى، ولهم من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الألوف،
ويطرحون أنفسهم كشخصيّات متديّنة معتدلة مؤمنة بالحريّة
والكرامة، ومعارضة الأنظمة الاستبداديّة، ولكنّهم يمزُجون بذلك –
عن قصد واحتراف- السمَّ الناقع في ثنايا إطلالاتهم وحساباتهم،
بالدسم.
ما معنى أن يمضي المحلّل أياماً طويلة وهو يتغنّى بانتصاراتٍ
موهومة لتنظيم داعش في تدمر؟ بنفس اليوم الذي كان فيه تنظيم
داعش يحاصر مدينة مارع، ووصلت مفخّخاته لداخلها؟ بل وقتل

2

الثوّار خلاياه النائمة بين الأزقّة، وكادت أيقونة الشمال، ومدينة عبد
القادر الصالح تسقط مرّات عديدة ولا تسمع لهؤلاء همساً ولا حرفاً؟!
بمجرّد هجوم محسوب التوجّه والمسار، تشنّه داعش على مستودع
ذخيرة ضمن سياقٍ مألوف ومعروف، بات الصغير قبل الكبير
يعرفه، يخرج هؤلاء المحزّمون مهلّلين ومكبّرين بإنجازات دواعشهم
المسلّحين، طبعاً ولا يهمّهم استهداف الغلاة لمدنيّين هاربين من دير
الزّور، وقتلهم وحرقهم على يد جماعة البغداديّ، فالمهمّ عند الألغام
الملفوفة بربطة العنق، هو أن يمضي وقت البرنامج، وقد أفرغوا
سمومهم على الجيش الحرّ، وعلى الفصائل التي قاتلت داعش، وعلى
من اضطرتهم الأحوال وقسوة الحرب للتفاوض والمناورة مع
عدوّعم.
منذ أفغانستان وقف هؤلاء المثقّفون المفخّخون يطوفون حول
شخصيّة (ابن لادن)، وتزيّنونها، ويحلّلون أقوالها، وجعلوا منه منارة
أمام الشباب المرهق، على الرغم من أنّ هذا الإنسان لا يحظى بأيّ
ميزة إضافيّة، لا في فكرٍ ولا في منطقٍ، سوى أنّه ورث عن والده
أموالاً طائلة، كافية للإنفاق على متسوّلي الدينار والدرهم بمقالاتهم
ومقابلاتهم.
ثمّ تابعوا السيرة ذاتها مع تمجيد (القاعدة) وانتصاراتها على الشعوب
المسلمة، وضربها للمقاومة العراقيّة، وقتلها للشعب اليمنيّ،
وتدميرها للنسيج المجتمعيّ في الجزائر، وتحطيمها لأيّ محاولة
لنهوض الصومال، إلى أن حطّت بهم الرحال في الثورة السوريّة،
وانبرى الاعلاميّون الكبار ممجّدين فتوحات الفاتح الجولانيّ، وتشبيه
الغلاة بسيف الله المسلول، وصحابة رسول الله، وتسويغ أخطائهم،
وتعظيم خطايا غيرهم، وإظهارهم كأنّهم منارات السماء، وقناديل في

3

وسط الظلام، وهم يعلمون يقيناً أنّ الفاتح الجولانيّ الذي أمضى
سيرته في سوريّة في بيعةٍ، وحلّ وربطٍ، وفكّ وعقدٍ ونكث، مع
محضنه القاعديّ لم يفتح في سوريّة إلا قبراً لثوّارها، وسوقاً سوداء
لسلاح مجاهديها، وأكمل مهمّته بكلّ إخلاص، في وأد ثورة الكرامة
والحريّة، لصالح المصير الأسود، الذي اختتمت به كافّة ثورات
الحريّة، من تأهيل الأنظمة، وترسيخ المستبدّين.
إنّ من أهم وسائل تطويق الغلوّ والتطرّف ومحاربته، هو نزع ثوب
السندس المبهرج عن كومة الخناجر المسمومة، التي تنغرس في
صدور الشباب، ظنّاً منهم أنّهم وصلوا إلى الفردوس المفقود، ولا
يمكن هذا إلا بتقليم الأصابع التي تلمّع هذا الثوب وتبهرجه، وتزيّنه
للناظرين، وتعرية خطابهم، لاسيّما أنّ الشرائح العمريّة الصغيرة
ومن هم في سني المراهقة، لا يميّزون بين المنظر الحسن، والفكر
الرديء، ويظنّون أنّ أيّ مثقّف يجيد الكلامَ ورصفَ التغريدات هو
مرجعيّة فكريّة وقامة سامقة، ولا يدركون الأبعاد الاقتصاديّة
والسياسيّة، بل والاستخباراتيّة وراء هؤلاء الملبّسين على الناس.

انتهى




ربيع إيران المنتظر

ربيع إيران المنتظر 

بدأ ربيع إيران الأول  منذ زمن بعيد في بداية القرن العشرين بما عرف بالحركة الدستورية وتحويل إيران من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية ولكن الحروب العالمية حالت دون تمام إنجازات هذه الحركة حتى أواخر الأربعينيات وبعد خروج إيران من الحرب العالمية الثانية أسفرت مطالبٌ شعبية عن إجراء إنتخابات فاز بها الدكتور محمد مصدق (زعيم الحركة الوطنية الإيرانية ورئيس الوزراء الإيراني في أوائل الخمسينات) و وصل للسلطة و كان معروفاً  بنزاهته وإخلاصه للشعب الإيراني حيث سعى لوضع حد لسلطات الأسرة الحاكمة وتعميق الملكية الدستورية في البلاد واستقلال قرار الشعب الإيراني

ولكن ذلك لم يدم طويلاً حيث أطيح بحكومته في انقلاب 19 آب عام 1953 وعودة نظام الشاه محمد رضا بهلوي الديكتاتوري إلى السلطة وإزالة جميع مكتسبات الحكومة الديمقراطية ، واستمرفي الحكم بمساعدة جهاز الإستخبارات العسكرية السرية  المعروف ب (السافاك) والذي قامت بتدريبه وتجهيزه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية 

بعد إنقلاب 1953 وإزاحة مصدق عن الحكم بدأ الشعب الإيراني من جديد يفكر بالثورة على نظام الشاه والسافاك بسبب القمع والظلم والإضهاد والإرتهان الكامل للغرب 

وإيران كغيرها من الشعوب العربية والإسلامية تأثرت بموجة الصحوة الإسلامية بعد عام 1967 وإحتلال إسرائيل للقدس حيث زاد نشاط الجماعات الدينية في إيران وبروز صوت رجال الدين ومنهم الخميني في مدينة قم الإيرانية والذي كان من ضمن المعارضين لنظام الشاه البهلوي

وكان الفصيل الأبرز يومها هو منظمة مجاهدي خلق الإيرانية والتي تم قمعها بكل وحشية من قبل نظام الشاه في عام 1972 وإعدام قادتها باستثناء مسعود رجوي الذي أفرج عنه بعد عام 1979 ونجاح الثورة 

توسعت الإحتجاجات الشعبية في أواخر السبعينيات وكانت الثورة الإيرانية ثورةً شعبية تشبه لدرجة كبيرة الثورات العربية التي إندلعت بعد عام 2011 في أهدافها وبساطتها ومكوناتهاحيث شارك بها الإسلاميون والعلمانيون واليساريون وجميع فئات المجتمع ومثلت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية مثالاً وسطاً للشعب الإيراني بأرضيتها المتدينة وأهدافها السياسية المعاصرة في إقامة الدولة الديمقراطية 

بينما كان الخميني يحاول إجتذاب القوى المتدينة لصالح رجال الدين المؤمنين بنظرية ولاية الفقيه والتي تنص على إنه لابد من إقامة حكومة إسلامية يرأسها الفقيه الأكبر نيابة عن المهدي الغائب حسب الرواية الشيعية! ، 

إلا أنه وبنفس الوقت ولدهائه ونصائح المستشارين الغربيين له كان لايجهر بذلك حتى لايخسر تحالفاته الثورية مع العلمانيين واليساريين وحتى مع الإسلاميين المتنورين 

ويمكن أن نقول أن الثورة غنقسمت ىإلى مرحلتين 

المرحلة الاولى دامت تقريباً من منتصف 1977 إلى منتصف 1979، وشهدت تحالفاً مابين الليبراليين واليساريين والجماعات الدينية لإسقاط الشاه.

و المرحلة الثانية، غالباً ما تسمى (الثورة الإسلامية)، شهدت بروز( آيات الله) وتعزيز السلطة والقمع وتطهير المعارضة من كل منافس للخميني، 

وفي 16 كانون الثاني 1979 غادر الشاه إيران نزولاً عند طلب رئيس الوزراء شاهبور بختيار الذي أعلن حل الشرطة السرية المعروفة ب (السافاك)، وأفرج عن السجناء السياسيين، ووعد بانتخابات حرة وأمر الجيش بالسماح للمظاهرات الشعبية. وطلب من الخميني  تأسيس دولة مثل الفاتيكان في قم وتبقى طهران عاصمة للدولة الحديثة ، إلا أن الخميني  رفض طلبه وقام  بتسلم السلطة وقام بإزالة كل أعداءه أوحلفائه الذين باتوا عقبة أمامه وكل من يرفض تطبيق نظام ولاية الفقيه في جمهورية إسلامية يقودها بنفسه.

استخدم الخميني  أسلوب التكفير للتخلص مع معارضيه حيث كان يوجه تهمة حرب الحكومة الإسلامية لكل معارض له وأنه بذلك يحارب الإسلام كما أنه استخدم الحرب مع العراق ذريعة لقمع المجموعات المعارضة بما في ذلك التعذيب والسجن غير القانوني بتهمة الخيانة .

وهكذا استطاع الخميني خطف الربيع الإيراني من ثورة شعبية تطالب بالحقوق الإنسانية من العدالة والحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة إلى دولة كهنوتية تكفيرية تسعى لاسترجاع ثارات الماضي ونبش عوامل الهدم الثقافية للأمة في إيران ومحيطها العربي والإسلامي 

والآن وبعد أقل من 40 عاماً بقليل وبعد آلاف الكوارث التي أنزلها حزب الخميني على الشعب الإيراني من قتلٍ وتهجير وإفقار وزجه بحروب طائفية مقيتة في العراق وسوريا واليمن ولبنان 

هل سيعود الشعب الإيراني لربيعه الثاني في تخليص نفسه وشعوب المنطقة من أعتى أنظمة التاريخ غدراً وقهراً وباطنية وطائفية 

هذا ماستجيب عنه الأيام القادمة في شوارع إيران من جديد ولاسيما بعد الإستلهام الموفور من ثورات الربيع العربي 

  حسن الدغيم 

      باحث 

في مؤسسة رؤية 

للثقافة والإعلام