بين المفكّر والحركيّ

لا شكّ أن الحركة بركة، والعمل واجب وأن الإيمان لا ينفع ما لم يُشفع بالعمل الصالح، وأنّ التنظير يبقى كلاماً ما لم يُترجم إلى واقع ملموس.

ولا ريب أنّ بعض الكُتّاب والمفكرين يجلسون في بروج عاجيّة ويخاطبون الناس من علٍ، دون ملامسة لهمومهم ودون اكتراث بمعاناتهم؛ فلا يتألّمون لآلام الناس، ولا يحلمون بآمالهم.

لكن: هل هذا يسوّغ لنا أنْ نعمّم القول بتفضيل العاملين على العلماء، والحركيّين على المفكرين، والميدانيّين على المنظّرين؟!

وأنْ نهاجم كلّ منظّر أو مفكّر أو كاتب؟! ينقد بعض ممارسات العاملين أو تصوّراتهم وأفكارهم؟ أو حتّى ينقض النظريّة كلَّها التي تأسّس عليها عملهم؟! 

فهل يُلام من يقدّم النصح والتوجيه؟! 

وهل من تثريب على من يفكّر ويبحث ويقرأ ويتأمّل، ثمّ يكتب ما توصّل إليه من نتائج، يراها مهمّة ومفيدة وينشرها؟! 

هل يجب أن يطبّق الكاتب ما يقوله ويكتبه كلّه؟، حتّى فيما يخصّ الشأن العامّ في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والحضاريّ؟! وهل يتأتّى له ذلك فيما لو أراد ذلك؟!

من المؤكد أنّ الجمع بين التطبيق والتنظير أفضل، لكنّ الحقّ ينبغي أن يقال، وهو أنّ الجمع بين التنظير الدائم والحركة والتنفيذ أمر لا يتيسّر إلا للنوادر من الرجال، بل أزعم أنّ أحدهما ينبغي أن يطغى على الآخر في حال الجمع بينهما، أي: (التنظير والعمل) فإما أن يطغى العمل والميدان على التنظير والكتابة، وإمّا أن يغلب التنظير والفكر على التطبيق.

الحقيقة أنّ مهمّة العالم والكاتب والمثقّف والمنظّر أن يقدّم أفكاراً وحلولاً فينقد ما يراه، منكراً أو خطأً أو قاصراً، حتّى إنّه قد ينقد الحسن لنفعل الأحسن والأَولى والأَجود والأنسب.

إذ يفترض أنّنا نطمح للتطوُّر والتميّز في عالَم يتنافس بالجَودة وفق أدقّ المعايير.

العالم يتنافس اليوم في امتلاك المعرفة والمعلومات والتقنيّة، وكلها نتاج المنظّرين والعلماء والمفكّرين والمخترعين، سواء في الجانب التطبيقيّ الماديّ أو في المجال الاجتماعيّ الإنسانيّ.

ونحن عندنا شحٌ في المفكّرين والعلماء والباحثين، إلا إذا اعتبرنا كلّ من يتكلّم وينقُد ويهرف بما لا يعرف من عامّة الناس منظّراً!

من مظاهر تخلّفنا نفورنا من التخطيط والتنظير والتفكير والنقد، واندفاعنا للتنفيذ والحركة والعمل، فكم من أعمال ومشاريع انطلقت دون تفكير ودراسة وتخطيط كافٍ، فكانت النتائج كارثيّة، وكم من تفكير عميق وخطط رائعة لم تتحوّل إلى عمل، فبقيت حبيسة الكتب!

ومن مظاهر نفورنا من التنظير وصف (الفكر بالبرود)، وهنا ملاحظة مهمّة ينبغي الانتباه إليها، وهي أنّ المفكّر ينبغي أن يوائم بين معرفة هموم الواقع واحتياجاته، وبين أن ينغمس في العمل والتطبيق، فعليه أن يبتعد عن سخونة التنفيذ والعمل والحركة، فالواقع له تغيّرات ومشكلات وضغوطات، وإلا عاش حال (طوارئ التنفيذ) فيتشوّش ولا يعود قادراً على الإبداع والتفكير الحرّ، وتصبح أفكاره تحت ضغط الواقع، فينقلب إلى ميدانيّ تنفيذيّ تستغرقه التفاصيل وإطفاء الحرائق.

وهنا لا بدّ من أن يوازن بين رفرفة الفكر الاستراتيجيّ، وواقعيّة الفكر التكتيكيّ.

ففي المعارك الكبرى يتركون القيادة العليا بعيدة عن ساحة المعركة، في مكان آمن، حتّى يفكّروا للمعركة بعيداً عن ضغطها.

ومن عجائبنا أنّنا نندب حظّنا ونشكو قلّة مراكز البحث والتفكير، ثمّ نلوم من يتفرّغ ويكدّ في البحث والتنقيب والتفكير، وينتج (معرفة باردة) كما يصفها بعضهم.

وننسى أو نتناسى أنّ أصل كلّ حركةٍ ومشروعٍ وعملٍ فكرةٌ، فـ “وراء كلّ مشروع عظيم.. فكرةٌ عظيمة”.

وكثيراً ما تبقى كتابات بعض العلماء مهجورة غير منتفَع بها، وبخاصّة إذا كانت سابقة لزمانها، فالوعي بها يكون ضعيفاً في زمان كاتبها، ثمّ يأتي أوانها، وتعرف الأمّة قيمتها، ومدى الحاجة إليها، فتقبل عليها، وتنتفع بها أشدّ الانتفاع، بل إنّ كثيراً من الحركيّين يستفيدون من كتابات المنظّرين، ولا يعلنون ذلك.

قد يقول قائل: لكنّ الكُتّاب والمنظّرين عندنا كثيرون، فما أكثر المنظرين عندنا، وما أقلّ العاملين!!

فنقول: هذا الكلام غير دقيق، فكثيراً ما تعترضنا مشكلات وعقبات وتحدّيات تحتاج إلى منظّرين، يقدّمون فيها حلولاً فلا تكاد تجد أحداً، -دعك من الثرثارين ممّن يهرف بما لا يعرف- ممّن لو طبّقتَ كلامهم لازداد الأمر سوءاً.

ثمّ إنّ إحصاءات إنتاج الكتب وطباعتها وقراءتها في عالمنا العربيّ تشير إلى أنّنا في ذيل أمم الأرض.

هذا من حيث الكمّ، أمّا من حيث النوع فحدّث ولا حرج، فالتكرار يكاد يكون السمة العامّة للكتب، كأنّنا تواطأنا ألا يخالفَ بعضُناً بعضاً في أطروحاتنا.

ثمّ إنّنا نستطيع تقسيم الكُتّاب والمفكّرين والمنّظرين وصُنّاع الرأي في المجتمعات كلّها إلى ثلاثة أقسام، فلو رسمنا هرماً وقسّمناه أفقياً إلى ثلاثة أقسام، قمّة الهرم الضيّقة، ووسطه، وقاعدته الواسعة، فإنّنا نضع في قمّة الهرم أرباب العقول الكبيرة؛ وهم درجات كذلك، ففي ذروة القمّة الفلاسفةُ العظام أصحاب النظريّات الكبرى، ثمّ العلماء الكبار الذين يؤسّسون علوماً ومدارس فكريّة، والمخترعون والمبدعون، ثمّ المفكّرون الذين ينتجون أفكاراً ونظريّات صغيرة، ثمّ العلماء الذين يشرحون ويكمّلون ما أسّسته الطبقة السابقة، وهكذا ينتهي القسم الأوّل وهو قمّة الهرم، ويمكن أن نطلق عليهم لقب: (منتجو المعرفة).

ثم يأتي القسم الثاني؛ وهو وسط الهرم، ويمكن أن نسميَهم (صنّاع الرأي العامّ)، وهم طبقات ومراتب كذلك، بين مقلّ ومكثر، ومتعمّق وسطحي، فمنهم من يعلو حتّى يقترب من القسم الأوّل في قمّة الهرم، ومنهم من يسفل فيقترب من عامّة الناس، وهي الطبقة السفلى من الهرم، وهذا القسم الثاني يشمل الكتّاب والصُّحُفِيّين والإعلاميّين والعلماء والمدرّسين والخطباء وأساتذة الجامعة، وكلّ من يؤثّر في الرأي العام من المثقفين والعلماء، ممّن يحتكّ بعامّة الناس ويقنعهم بأفكاره وينشر العلم والوعي بينهم، فهذه الطبقة تأخذ أفكارها وعلومها من قمّة الهرم، من (منتجي المعرفة) وينشرونها في المجتمع، فهم وسطاء بين قمّة الهرم وأدناه.

والطبقة الأخيرة: عامّة الناس، ممّن يتلقّى العلم والرأي من القسم الثاني، من (صنّاع الرأي)، وهم كذلك طبقات منهم من علمه ووعيه وثقافته تؤهّله أن يقترب من الطبقة الثانية، ومنهم الأميّ الذي يقع في أسفل الهرم.

وهنا نتكلّم عن العلم والفكر والوعي العقليّ ولا نتكلّم عن التفضيل والمكانة الاجتماعيّة، ولا عن المكانة الأخروية، فميزان التفاضل في الآخرة: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإن كان للعلم مكانة في التفاضل، فقد أخبرنا الله تعالى أنّه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]

من خلال التقسيم السابق يظهر لنا أنّ أكثر الكتابات والأحاديث تكون من القسم الثاني، فالمبدعون (من القسم الأوّل) من أصحاب النظريّات الكبرى أندر من الكبريت الأحمر، فهؤلاء يدور في فلكهم، ويقتات على فكرهم جمعٌ غفير من الناس، فيشرحون ويوضّحون ويفصّلون ويطبّقون ويحلّلون ويرّكبون ويأتون بأمثلة وحجج ودلائل، ويردّون على الاعتراضات والتساؤلات وينشرون ذلك كلّه بين الناس.

أمّا مؤسّسو الحركات والجماعات والأحزاب فغالباً ما يكونون من القسم الثاني، ممّن يحمل الفكرة ويطوّرها وينشرها، ثمّ يجمع الناس عليها، ونادراً ما يكون من القسم الأوّل المنتج للمعرفة، إلا إن كان قائد تيّار فكريّ أو علميّ، وليس له جهد جماهيريّ اجتماعيّ.

لأنّ التنفيذيّين غالباً ما يبدعون بالنشر والترويج، وجمع الناس وتنظيمهم والحركة بهم. 

ولعلّ هذا من حكمة الباري سبحانه وتعالى ليتكامل الناس ويتخادَموا ويتعاونوا.

وهنا تظهر مشكلة عويصة؛ وهي جمود الأتباع عند اجتهادات المؤسّس، فلا يتهيّأ -في كثير من الأحيان- منظّرون للجماعة على مستوى المؤسّس في الفكر أو في الشجاعة، أو في قبول الأتباع لتحديثاته وتطويراته وتغييراته، فتقع الجماعة بالجمود، لتغيّر الواقع الذي نشأت فيه، وحاجتها لمن ينقلها لمواجهة مرحلة جديدة في حال فشل الوسائل القديمة، أو في حال النجاح واستنفاد أغراض وأهداف الوسائل القديمة، والحاجة لتجاوز المرحلة السابقة، والإعداد للمرحلة الجديدة، والاحتياجات الجديدة.

وهنا يظهر داخل الجماعة التنظيميّون الذين غالباً ما يغلبون المفكّرين المجدّدين، وذلك لأنّ التنظيميّين متفرّغون لإدارة الجماعة، فهم المسيطرون عمليّاً، بينما المنظّرون منصرفون للبحث والقراءة والتفكير والتنظير، وهذا غالباً ما يعزلهم عن مواضع القرار.

 فيهيمن التنظيميّون على القرار، وهؤلاء مثل الضباط والمدراء التنفيذيين يغلب عليهم فرض السمع والطاعة والانضباط، فيضيقون ذرعاً بأصحاب الفكر والتنظير.

 فيكون مصير المنظّرين: إمّا تركهم يتكلمون دون تنفيذ لاقتراحاتهم، أو يتمّ منعهم من النقد و(التشويش) على الجماعة، أو تجميدهم وإبعادهم وشغلهم بمهامّ أخرى، أو الفصل من الجماعة، للتخلّص من (تشويشاتهم).

أو يخرج المنظّر بنفسه من التنظيم، وبالتالي تصبح بيئات التنظيمات والجماعات بيئات طاردة للمبدعين.

وهذا يؤدّي إلى تجمّد الجماعة، وتركها تعاني من المشكلات والانتكاسات، وحتّى عند وجود المراجعة والتجديد، فإنّ تلك المراجعات والنقد الداخليّ تبقى في مستوى التنفيذ والإدارة وآليّات الحركة، ولا تتجاوزها إلى الاستراتيجيّات والأفكار المؤسِّسة، والأهداف العليا، فتكون النتيجة العمليّة دوراناً بالمكان نفسه!

كما أنّنا نخشى من الوقوع في التكبّر لو أعرضنا عن سماع الناصحين من داخل الجماعة أو من خارجها.

ومن أسباب عدم الاهتمام بالنقد: الوثوقيّة العالية بالمنهج والأفكار، والجمود عندها.

ويمكن تلخيص الحلول المقترحة في النقاط التالية:

1- معرفة أهميّة المنظّرين لأيّ مشروع وحركة وجماعة.

2- لا أقول بقبول النقد فحسب، بل وجوب البحث عن النقد، بقصد التطوير والتحديث والتصحيح، فيما اقتنعنا به من النقد، فليس كلّ نقد صواباً، وليس كلّ صواب يصلح للتطبيقِ الآن.

3- التعامل مع العمل الجماعيّ على أنّه وسيلة وليس غاية، فقد يحقّق فرد نتائج أفضل من جماعات، فلا يجوز استصغار أيّ مشروع فرديّ أو الاستهانة به.

4- الخروج من عقلية أبيض وأسود؛ وإمّا هذا أو هذا، فكثيراً ما يكون الصواب بهذا وذاك معاً، أي: إمّا أن يؤسّس المفكّر جماعة أو مشروعاً، وإلّا فكلّ عمله لا قيمة له، لماذا لا نقول: اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له.

ختاماً: لا يقلّل من قدر العلماء والمفكّرين والمنظّرين إلّا مخطئ، ها هي الحكومات المستبدّة تتعامل بحزم مع كل صاحب قلم حرّ، لأنّها تعرف قوّة الكلمة.

الذي نحتاجه حقّاً هو: تلاحم العلم مع العمل، والمنظّرين مع الفاعلين، والمختبَر مع المصنَع، والمهندس مع المنفّذ، فينطلق العمل من عقول العلماء والمفكّرين إلى أرض الميدان، ويعود الحركيّون دائماً إلى العلماء والمفكّرين بنتائج أعمالهم ليعدّلوا ويصوّبوا ويصحّحوا ويطوّروا المسار، فيحصل الإبداع والتميّز، فلا بدّ من تحالف أولي الأيدي مع أولي الأبصار، والله الموفّق.




المنقذ من الجمود الديني

الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمود.

ولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب علينا أن نقوم بالخطوات الأربعة الآتيّة:

الخطوة الأولى: ترك مهاجمة من يترك التقليد:

ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام.

لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً.

صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار.

أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت.

يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟

 بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.

الخطوة الثانية: نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد:

لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار.

فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:١١١]  أوّلاً، ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟!! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع.

وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟ 

فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟!!

بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة!

ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر.

أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر.

وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل.

ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم.

كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها.

الخطوة الثالثة: الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين:

من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟!

 ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال.

لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة.

الخطوة الرابعة: نشر الاجتهاد المقاصدي:

هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).

نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان.

 فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان.

أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة.

هذه خطوات أربعة لعلها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج.

والله من وراء القصد.




التطبيع ونقض المنهج السياسي

توظيف خطيئة التطبيع
فيّ نقض منهج الإسلام السياسيّ

في البداية دعونا نعترف أنّ موافقة حزب العدالة والتنمية المغربيّ
على التطبيع مع إسرائيل كان خطأ كبيراً، ينبغي تنزّه حزب العدالة
منه، وقد خسر من رصيده الكثير، بل ربما تكون غلطته هذه هي
التي ستطيح به (أقول: ربما)، فيكونون -حاشاهم-كمنديل يُرمى في
سلّة المهملات عند اتساخه، وانتهائه من مهمّته.
وهنا تطالعنا ظاهرة المنظّرين والرموز الإسلاميّين الذين يمارسون
السياسة (مثل: الأستاذ الغنّوشي والدكتور سعد الدين العثمانيّ
وغيرهم) وفي هذا ثلاث ملاحظات:
1-لا شكّ أنّ كتابات أولئك المنظّرين كتابات مفيدة، فيها تجديد مفيد،
بما قدّموه من أطروحات تناسب عصرنا وتواكب تطوّراته، وتتوافق
مع مبادئ ديننا وتطلّعات شعوبنا.
2-ليتهم تفرّغوا للتنظير والتواصل المستمرّ مع المباشرين للسياسة،
وبهذا يُبقون على أَلَقِهم وسمعتهم، ويَستفيدون ويُفيدون بالتواصل مع
السياسيّين المحسوبين عليهم، يستفيدون من اختبار أفكارهم على
أرض الواقع، فيطوّرونها بسبب احتكاكها بالواقع، ويُفيدون
السياسيّين بفكرهم، والمحافظة على الخطّ الاستراتيجيّ عند
السياسيّين، حتّى لا تنحرف بوصلة السياسيّين نتيجة انهماكهم
بيوميّات ومجريات السياسة اليوميّة وضغوطاتها وإكراهاتها
وبراغماتيّتها.
3-على كلّ حال (عَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لعلّ من
المفيد مستقبلاً أنّ المنظّرين يمارسون السياسة حالياً، حتّى يقعوا
ببعض ما يلومهم به الناس، فيكونون مثالاً في المستقبل على من

2

ينكر على السياسيّين أيّ خطأ، أو الإذعان للإكراه، وحتّى لا يأتي
زمان يُقال فيه: (لو كان المنظّر الفلانيّ هو المسؤول، لما فعل كذا،
أو لفعل كذا وكذا)، فيكون الردّ حاضراً وهو: أنّ أولئك المنظّرين
الإسلاميّين حينما يمارسون السياسة يقعون بمثل أخطاء السياسيّين
العاديّين الشرفاء.
وهنا نفترض أنّ (الاستبداد والظلم والخيانة والعمالة) مستثناة في
كلامنا، فهذه الجرائم لا عذر فيها لأحد، ومن ثبت عليه ذلك ففي
مشروعيّة منصبه نظر أصلاً! وفي السكوت عليه وعدم تغييره خَوَر
لا يجوز.
والآن نعود لأصل الموضوع؛ وهو استغلال جماعات العنف لأخطاء
جماعة الإسلام السياسيّ في (نقض) منهجهم، فكثيراً ما يتمّ استغلال
الأحداث والنصوص الدينيّة والرموز والمواقف في نصرة الفكرة
والآيديولوجيّة، وحديثنا هنا عن استغلال الأحداث في (نقض)
الآيديولوجية المخالفة!
فالنقد لا أقول مشروع فقط، بل هو مطلوب ومفروض، وهو من
واجبِ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لكن… هناك (نقد)
وهناك (نقض) وبينهما بونٌ شاسع.
فأهمّ تيّارين إسلاميّين يسعيان للسلطة بجِديّة هما:
1-التيّار الإصلاحيّ السياسيّ: الذي يؤمن بنجاعة وضرورة التغيير
السلميّ السياسيّ عبر الآليّات الديمقراطيّة، ويؤمن غالبيّة هؤلاء
بالإقناع في تطبيق القوانين الشرعيّة، عبر الآليّات الديمقراطيّة، وهم
تيّار (الإسلام السياسيّ).
2-التيار الثاني: هو الريديكاليّ القتاليّ: الذي لا يرى نجاعة التغيير
بالأسلوب الأوّل، بل لا بدّ من امتلاك القوّة، ولا مانع من استخدام
العنف والسلاح في التغيير بداية، لفرض السيطرة بعدها، وغالباً

3

هؤلاء لا يجيزون إخضاع القوانين للتصويت، وغالباً لا يجيزون
التعدّديّة الحزبيّة، بخاصّة الأحزاب غير الإسلاميّة، فرؤاهم شموليّة،
وهم تيّار دعونا نصطلح على تسميته بـ (الإسلام القتاليّ).
قلت (غالباً): لأنّ تفاصيل الرؤى تختلف ضمن كلّ تيار من التيارين.
والحقيقة: إنّ القوّة (نَعَم) قد تلزم لمرحلة تخلّص الدولة من الظلم
والاستبداد والحصول على الديمقراطية (إنْ تعذّر التغيير السلميّ).
لكن بعدها ينبغي حصر دور القوّة في حماية الوطن من العدوّ
الخارجيّ، وداخليّاً من أن ينقلب مستبدّ جديد على اختيارات الشعب،
ويتغوّل على الدولة، ويفتئت على الأمّة.
وكما أنّ الحصول على الديمقراطيّة يحتاج نضالاً وقوّة، فإنّ الحفاظ
عليها يحتاج أضعاف تلك القوّة، فالطامعون بالحُكم كثيرون في
الداخل والخارج!
فجماعات العنف يمكن أن يُسقِطوا نظاماً لكنّهم يستحيل أن يبنوا دولة
قابلة للوجود والاعتراف الإقليميّ والدوليّ، وأن تستقرّ الدولة
وتستمرّ، وتنمو تزدهر دون خطط تنمويّة وانفتاح على المحيط.
الطريف بالموضوع أنّ أحداثاً مثل التطبيع في المغرب وإعلان تأييد
الحزب الحاكم له، يجدها أصحاب التوجّه القتاليّ فرصة لنقض
نظريّة التيّار الأوّل كلّها؛ (نقض المنهج السلميّ والديمقراطيّ
والسياسيّ، والعمل ضمن حدود الوطن، وفصل الدعويّ عن
السياسيّ إلى آخره..) فالخصم بالزاوية ووجهه مكشوف.. فهي
فرصة لتسجيل نقاط على الخصم.. ومحاولة إسقاطه بالضربة
القاضية! وادعاء الاستعلاء الآيديولجي.
والحقيقة: لا تلازم بين انتهاج الإسلام السياسيّ، وبين ارتكاب هذه
التنازلات!
فقد يتنازل تيّار (العنف) أو دعاة استخدام (القوّة) أكثر من هؤلاء
السياسيّين، لكن بطريقة أكثر دهاء.. ومن يتابعهم ويعرف كواليسهم

4

يعرف ذلك جيّداً، فما زلنا نتابعهم في سورية ونعرف مزاوداتهم
وتنازلاتهم في سبيل بقائهم مسيطرين على مناطقهم.
فخطابهم خياليّ حالم في حال الحروب، وإدارة التوحّش، أو عند
بقائهم في المعارضة، والغرف المظلمة، حيث رفع السقف لأعلى
عليّين (فالكلام ليس عليه جمارك) كما يقولون في المثل الشعبيّ
الساخر ممن يقول كلاماً موغلاً في الخيال.
ففرق كبير بين الكلام في الفراغ، وبين تنفيذ ذلك على أرض الواقع..
وقد رأينا وسمعنا مزاودات المتشدّدين أيّام الحروب و(إدارة
التوحّش) كيف تدرّجوا بالتنازلات والمراجعات طرديّاً مع اقترابهم
من جعل مناطقهم آمنة ومستقرّة، ومازال مسلسل التنازلات مستمرّاً
على أمل الاعتراف بهم دوليّاً!
فمن اللؤم استغلال مشاعر الناس المنكِرة لذلك القرار (التطبيع) في
توظيف ذلك (آيديولوجيّاً) من قِبَل تيّارات العنف في نقد الإسلام
السياسيّ، ونقد المشاركة السياسيّة.
ويتغافل هؤلاء عن أنّ الديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة دونها
السجون وأعواد المشانق، والقذف بالدبّابات والراجمات، وهجوم
الطائرات والمصفّحات!
ويتناسى أولئك أنّ الطغاة يُطلقون من سجونهم رؤوس الغلوّ والتشدّد
من دعاة العنف، حتّى يكفّروا الديمقراطيّة ويغتالوا المشاركين
بالعمليّة السياسيّة!
لأنّ المستبدّين يتمنّون أنْ يدفنوا كلمة (ديمقراطيّة)، ويغتالوا
(المشاركة السياسيّة) حتّى تسلم لهم السلطة فينفردوا بها!
وبعد الانتهاء من مهمّتهم الحالية في ضرب الإسلام السياسيّ
والقضاء على التحول الديمقراطيّ في بلداننا، عندها ما أسهل سجن
دعاة العنف باسم (مكافحة الإرهاب)، فكلّ حكومات العالم تؤيّدهم
به، أو يرسلونهم لمهمّة أخرى في بلد آخر، أو يسجنونهم ويتم

5

تخزينهم لمهمّة جديدة مستقبليّة، في ضرب عدوّ مشترَك (كما تمّ
توظيفهم في قتال روسيا سابقاً)، وكما يتمّ إعدادهم حاليّاً لضرب
الصين في ساعة الصفر المرتَقبة!
والله المستعان.




التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد

التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد؟!!
كثر الحديث في أيامنا عن التجديد الإسلاميّ، وكثر التساؤل عن ضوابطه وملامحه
وتأييده، والقول بوجوبه وضرورته، وبالمقابل الريبة منه والتشكيك فيه وبدعاته،
فهل ديننا يحتاج حداثة أو تحديثاً أو تجديداً أصلاً؟!
كما كثر الحديث عن ظاهرة الإلحاد الجديد وأسبابها وطرق علاجها.
ومن العجائب أنّ الإسلاميّين أنفسهم يتراشقون التهم، فالتجديديّون الميسِّرون يرون
المتشدّدين سبباً للإلحاد (فهم غلاة منفّرون)، كما أنّ الجامدين والمتشدّدين يرون
الميّسرين سبباً في الإلحاد فهم (مميّعون يجعلون الناس يتحلّلون من تعاليم الإسلام)!
مع أنّ الواقع يقول: إنّ الغلوّ يسبب الإلحاد، ولم نسمع بمن ترك الدين بسبب
التنويريّين أو المجدّدين أو الميسّرين!
سأحاول بهذا المقال وضع مقدّمات للجواب عن هذا الإشكال، وبيان دور التجديد
المقبول في الحدّ من ظاهرة الإلحاد.

الإلحاد الجديد:
ممّا لم يعد يخفى على أحد انتشار ظاهرة الإلحاد بين المسلمين، بل أزعم أنّ ظاهرة
الإلحاد ما يظهر لنا منها: (رأس جبل الجليد) فقط، وما خفي كان أعظم، وما نراه
من مظاهر إلحاديّة أمر بسيط بالنسبة إلى الحركة الإلحاديّة التي ستأتي وتزداد نوعاً
وكمّاً، وأسأل الله تعالى أن أكون مخطئاً في توقّعاتي!
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أسباب الإلحاد الجديد كثيرة، أحصيتُ في محاضرة
لي منشورة على اليوتيوب بعنوان: (أسباب الإلحاد وطرق المواجهة)، ستّة عشر
سبباً، فمن الإجحاف تحميل سبب واحد كامل الظاهرة، كما ننبّه إلى أنّ شبهات
الإلحاد الجديد كثيرة وجديدة، بل ومتجدّدة فكلّ يوم هناك جديد، فلا تكفي الكتب
القديمة للمواجهة، ولا يكفي علم لمواجهتها، فهناك شبهات من العلوم النظريّة
والتطبيقيّة كلّها، وهذا يجعلنا نحتاج كلّ الخبرات والكفاءات والتخصّصات.
وما يعنيني هنا من أسباب الإلحاد الجديد الكثيرة سبب مهمّ، وهو الخطاب الإسلاميّ،
وبعض الاجتهادات الإسلاميّة المشكلة على عقليّة إنسان عصرِنا، عصرِنا الذي
أضحت فيه الفلسفات والأنظمة والدول تتنافس بخدمة ورفاهية وحماية ورعاية
الإنسان، كلّ الإنسان.

2

فهذا الانفتاح المتسارع على العالم في زمن الإنترنت وسهولة التواصل، جعل عَقْدَ
المقارنة بيننا وبين بقيّة أمم الأرض المتحضّرة ممّا يتيسّر لأيّ إنسان، وهو جالس
ببيته، وبالصوت والصورة كذلك!
وهذه الموجة الإلحاديّة ستساهم -بما يترتّب عليها من جدل وتأثير متبادل بين
الملحدين من جهة، وبين الدعاة والعلماء من جهة مقابلة- في ترقية (خطابنا
الإسلاميّ)، وبالتالي بتحسين (نوعيّة التديّن) فسننتقل من التديّن الشكليّ الطقوسيّ
إلى القيميّ الأخلاقيّ الذي يركّز على المعاملة الحسنة، والذي لا يهمل الطقوس
طبعاً، فـ(لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خيرٌ لكم).
ويمكن التنبيه على بعض الخطابات الإسلاميّة المنفّرة على سبيل المثال لا الحصر:
أ- خطاب إسلاميّ متشدّد يجعل الاستمساك بأهداب الشريعة الغرّاء يستلزم أن يعيش
المسلم على هامش الحياة، فدائرة المحظورات تغطّي معظم جوانب الحياة في ذلك
الخطاب!
ب- خطاب كراهية وحقد داخل مجتمعاتنا، مقابل مبادئ التسامح والتعايش في
المجتمعات الراقية، طبعاً أتكلّم هنا عن ثقافتهم داخل دولهم ومجتمعاتهم، وهذا لا يعني عدم
وجود خطاب كراهية في تلك المجتمعات، نتيجة وجود اليمين المتطرّف، ولا يلغي ذلك
السياسات الخارجيّة المصلحيّة البعيدة كلّ البعد عن مبادئهم الداخليّة التي يلتزمون بها مع
مواطنيهم!
ولكن نتكلم عن الثقافة العامّة المنظَّمَة والممنهجة التي يحميها التعليم والإعلام
والقوانين والأنظمة في تلك الدول.
ج- خطاب إسلاميّ يفصل بين الحكم الشرعيّ وبين حِكمته وفائدته والغاية والهدف
منه في حياة الناس ودنياهم، فمهما كان الحُكم المستنبَط غريباً يجب أن تسمع وتطيع
فالاجتهاد مشتَق من نصٍّ مقدّس، وهنا نقول على عجالة: “هذا فهمك واجتهادك،
وليس مراد الشارع الحكيم!.

الإنسانيّة ليست اختراعاً ماديّاً:
جعل الله تعالى الإنسان محور الكون، وسخّر له سمواته وأرضه، ونفخ فيه من
روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل له رسله وأنزل عليه كتبه (إنّي جاعل في
الأرض خليفة)، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}

3

وشرع الله تعالى للإنسان من القيم والأخلاق والأحكام وأرشده ووجّهه بما يكفل له
سعادته وأمنه في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دعوة مبكّرة للنزعة الإنسانيّة مقابل
الأديان القديمة التي كانت تهدر الإنسان قرباناً لآلهتهم! فالإنسانيّة ليست اختراعاً من
الفلسفة الماديّة، فقد سبق الدين الخالد لها!
وهنا لا بدّ من إبراز موقف الإسلام المشرّف تجاه حقوق الإنسان، ومراعاة تلك
الحقوق عند الاجتهاد والترجيح والفتوى والخطاب المعاصر.

بين الفقيه والمفكّر:
سنتحدّث هنا عن الفروق بين الفقيه والمفكّر، أو بين الكلّيّات والجزئيّات، أوبين الفقه
والأخلاق، فهناك فصام نكد –أحياناً- بين الاجتهادات الفقهيّة الفرعيّة والرؤية الكلّيّة
من جهة، وبين الفروع الفقهيّة وبين الأخلاق من جهة أخرى!
فكثير من عامّة المسلمين ومثقّفيهم استمعوا للخطباء أو قرؤوا للمفكّرين، فأعجبهم
الإسلام الذي يحترم القيم وينادي بالأخلاق ويحافظ على المبادئ، وله فلسفة تشريعيّة
حكيمة متناسقة ومتناسبة ومنتظمَة.
ولكنّهم يتفاجؤون عندما يحتكّون ببعض الفقهاء فيجدون هذه المنظومة القيميّة
الرائعة قد اختلطت وغابت -في كثير من أحيان- فالأحكام مشتّتة هنا، تشدّد فيما
يستحقّ التيسير، وهنا تساهل فيما حقّه التشديد!
وما ذلك إلا لأنّ المفكّر ينظر في الكلّيّات ويسلّط الضوء على جماليّات الإسلام
ونُظُمِه وقواعده الكلّيّة، بينما الفقيه ينغمس في الجزئيّات منشغل –في كثير من
الأحيان- بالنصوص الجزئيّة والاشتقاقات اللغويّة ودلالاتها، ويسهو عن المقاصد
الكلّيّة والمبادئ الأساسيّة والقيم الإسلاميّة.
وبالتالي يحبّ الناس الإسلام القيميّ الأخلاقيّ كما يذكره الخطباء والمفكّرون، وهم
لا يعرفون بعض الاجتهادات التي تضادّ الكلّيّات الجميلة، ويصطدمون بها عندما
تطفو على الإعلام، ويستشكلونها كثيراً، والحقّ معهم!
مثلاً: الزواج بنيّة الطلاق، ولا يُعلم الخاطبُ البنتَ ولا أهلَها.. فلو ناقشتهم في حرمة
ذلك، لأنّه خيانة مبيّتة -مع سبق الإصرار والترصّد- لقالوا لك: هو ينوي الطلاق
والطلاق مباح، كما أنّ النيّة لا يُحاسب عليها الإنسان؟!

4

ونسي القائل حديث: (أترضاه لأختك؟ وأتراضاه لأمّك؟) ونسي أنّ الأصل في العقد
التأبيد، وأنّ الأهل أعطوا ابنتهم ورضيت الفتاة بناء على أنّها ستبقى مع هذا الرجل
مدى الحياة، إلا إنْ طرأ طارئ وتعذّرت الحياة بينهما، فعندها تطرأُ نيّة الطلاق
وفعله.
فلو كانت الفتاة تعرف أنّ هذا الرجل ينوي الزواج بها مدّة ثمّ سيتركها، (بعد أن
يُفقدها عذريّتَها) لما قبلت الارتباط به أصلاً!
فهنا نَظَرُ الفقيه انحصر بآليّات إجرائيّة (مباحة) تمّ تركيبها مع بعضها (نيّة مكتومة
غير محاسب عليها، لفِعْلٍ مباح وهو الطلاق) وغفل عن حيثيّات المسألة ومآلاتها
ونتائجها الكارثيّة على الفتاة المطلّقة في أغلب البيئات في زماننا هذا!
فهنا الفقه انفصل عن الأخلاق تماماً في هذه المسألة، أين الصدق؟ فالمعروف عرفاً
كالمشروط شرطاً، أين الأمانة؟ أين الشهامة؟ أين حفظ أعراض الناس ونسلهم؟ أين
الحفاظ على نفسيّة الفتاة وأهلها؟.. هذه المعاني كلّها تُهدر في هذا الاجتهاد القاصر.

الشرع يراعي مصالح العباد وييسّر عليهم:
عندما نقول: (الدين جاء لإسعاد الناس في دنياهم وآخرتهم)، قد يقول قائل: ليس من
الضروريّ أن يسعد الإنسان في الدنيا، بل يكفي أن يفوز بالسعادة الأخرويّة..
ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عباداتنا وطاعاتنا، فلا
تضرّه معصيّة، ولا تنفعه طاعة، لكنّه أنزل لنا شرائع وتعاليم الدين لتنظيم علاقات
البشر، وسائر شؤون حياتهم في عالم الغيب والشهادة، لحماية الإنسان ورعاية
مصالحه وسعادته: ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)) ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
[النحل : 97]
وبالمقابل: ))وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا، وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ
أَعمى(([طه: 124]

النكد ليس شرطاً في التديّن:
مع الأسف هناك تصوّر أن المتديّن كلّما كان غير مرتاح، كان أقرب إلى الله،
فالأصل بالمؤمن البلاء والعيش الضنك والمشقّة والعسر والضيق، وكأنّ المشقّة

5

مقصودة لذاتها، وبهذا التصوّر الخاطئ يتمّ تسويغ كلّ الاجتهادات المتشدّدة
المرهِقة..
بينما النصوص التي تذكر جزاء المشقّة والمصائب تذكرها لتهوينها على نفس من
يصيبه بلاء، مواساةً وتخفيفاً عن العباد، لا كما قد يتوهّمه بعضهم، من أنّ المشقّة
مقصودة لنيل الثواب، كما ذكر لي أحدهم مرّة: (ينبغي أن نسلك الطريق الأبعد إلى
المسجد، لكونه أكثر ثواباً!!) ونسي الأخ أنّ التبكير في دخول المسجد له ثواب،
وانتظار الصلاة له ثواب، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسُه.
فذِكْر الشارع الحكيم ثواب المسير للمسجد وحسنات كلّ خطوة، لكيلا يستثقل
الذاهب للمسجد طول الطريق أو مشقّته في البرد أو الحرّ، ويعلم أنّ كلّ مشقة تصيبه
في أثناء ذهابه للمسجد له به أجر.
وهكذا كلّ ما ذُكر من ثواب للمصائب والأمراض والهموم وغيرها.. للمواساة
وكرماً منه سبحانه، حتّى يخفّف عناء عباده المبتَلِين، وليس المقصود أن المصائب
مقصودة مطلوبة، نسأل الله العفو والعافية!
فمن حيث تعاليم وأحكام ديننا، فالعَنَت والمشقّة والحرج والشقاء كلّه مرفوع في
شريعتنا.
والأصل في الأشياء الإباحة في شريعتنا، ما لم يرد نهي عن شيء ضارّ للنفس أو
للمجتمع، ولكنّ نفراً من الفقهاء كان مزاجهم التشدّد، وهذا الغالب على فتاويهم حتّى
سمّى بعضُهم منهجَ أولئك الصنف من الفقهاء بـ(فقه النكد) فكلّ لهو أو ترويحٍ حرامٌ،
وكلّ فنّ أو توسّع حرام، والأصل في معاملات الناس الشكّ والريبة والحُرمة!!
فقلبوا القاعدة فأصبحت: (الأصل في الأشياء المنع ما لم يرد نصّ)!
مع أنّ النبيّ ☺ كان متشوّفاً نحو إبقاء دائرة التحريم ضيّقة، لذلك نهى عن كثرة
السؤال، وأخبر أنّ أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء فحُرّمَ من أجل مسألته 1 ،
وكان يخشى أن تُفرض بعضُ السنن على المسلمين، لذلك كان يتركها أحياناً ولا
يداوم عليها، ويقول: (خشيتُ أن تُفرض) فهل مزاج وعقول وقلوب أولئك الفقهاء
المتشدّدين مثل رسول الله ☺؟!
بل بعضهم تشعر أنّه يتلذّذ بتحريم الأشياء على الناس، بينما روى لنا علماؤنا الثقات
عن بعض علمائنا الورعين الصالحين أنّهم كانوا يبحثون عن أسهل الأقوال، ويفتون
1 تخريج؟؟

6

بها الناس توسعةً وتيسيراً، ومنهم شيخ مدينتي في حمص الشيخ محمود جنيد رحمه
الله المعروف بالزهد والورع والصلاح (كان متقناً للمذهبين الحنفيّ والشافعيّ
المنتشرين في ديارنا) روى لنا تلامذته أنّه عندما وجد قولاً في المذهب الحنبليّ فيه
سعة وتيسير حيث يجيز معاملة ماليّة راجت في مدينتي، كاد الشيخ أن يرقص من
الفرح!
فمقصود الشارع الحكيم التيسير على عباده ورفع الحرج والمشقّة عنهم: نصّ على
إرادته ذلك صراحة بنحو قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))
وانتبه إلى قوله تعالى: (يريد) فهو مقصود صراحة، [البقرة: 185] ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج : 78]
فكلّ اجتهاد فقهيّ يوقع الناس في الحرج والعنت والمشقّة، ينبغي البحث عن سواه،
فلم يُخيّر رسولُ الله ☺ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً 2 .
طبعاً ليس ذلك قاعدة مطّردة، فما كان فيه هضم لحقوق الآخرين فنحتاط فيه، لأنّنا
في هذه الحالة نكون قد أوقعنا الطرف الثاني في الحرج، وما كان فيه تقحّم في
المحرّمات القطعيّة نبتعد عنه أيضاً ونحتاط فيه، لأنّ الشارع الحكيم لم يحرّمها إلا
وفيها مفسدة لنا، وقد فصّلت في ذلك في كتابي: (ضوابط التيسير في الفتوى، وهو
منشور على الشبكة).
يقول ابن القيم ؒ: “فصل في بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد:
هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من
الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي في
أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة
كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها
بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه،
وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله  أتمّ دلالة وأصدقها” 3

2 ؟؟
3 إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، ابن القيّم، (3 / 2)

7
لا تخلط بين اجتهادك وحكم الله تعالى:
من الظواهر المنتشرة عند الاعتراض على معقوليّة ومنطقيّة وحِكمة وفائدة بعض
الاستنباطات والاجتهادات، يتم استدعاء نصوص السمع والطاعة، واتباع الله ﷻ
ورسوله ☺، وعدم اتباع الهوى..
وهنا نقول: هم لا يعترضون على أحكام الله تعالى، بل على اجتهادك في معرفة
مراد الشارع الحكيم، فما كان من المحكمات والثوابت من المسائل التي نُصّ عليها
وعُرفت في الشريعة من غير اجتهاد ولا استنباط، مِن المعلوم من الدين بالضرورة
كأمّهات الواجبات والمحرّمات، هذه يمكن أن نستدعي لها نصوص السمع والطاعة،
أمّا الاجتهادات الظنيّة (وأغلب الاجتهادات ظنيّة) التي اختلف فيها الفقهاء أصلاً،
وأنكر بعضُهم فيها على بعض! بل ردّ بعضهم فيها على بعض! هذه يسعنا الانتقاء
منها والاختيار فيها، لكن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، وقيم ومبادئ الإسلام
وليس بحسب الهوى!

قراءتان لأحكام الإسلام: بين التعليل والتوقيف:
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك قراءتين لأحكام الإسلام:
القراءة الأولى: قراءة تجعل تعاليم الإسلام غير معقولة المعنى وهو ما يعبّرون عنه
بأنّ الأصل فيها التوقيف (تعبّديّة) يجب الالتزام بها تعبّداً، أي امتثالاً واستجابة
للأمر، وليس معرفة بالهدف والغاية والفائدة، فالأحكام الشرعيّة الأصل فيها ذلك،
وبالتالي يمكن وفق هذه القراءة أن تصبح كلُّ آية كريمة وكلُّ حديث صحيح الإسناد
مبدأً ومصدراً للأحكام والتشريع، بغضّ النظر عن السياق والحال والظرف
والخصوصيّة، لعدم وجود قواعد مستنبَطة حاكمة بأنّها الأصل، وما يخالفها خارج
عن القاعدة، فعند القول بتعليل الأحكام نستنبط من عللها وحِكمها قواعد ومبادئ
ومقاصد نجعلها أصلاً، فما خالفها نلجأ للتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ أو
عدم العمل به..
فعند من يقول إنّ (الأصل عدم التعليل) كلُّ نصّ دينيّ مبدأ مستقِلّ قابل للتطبيق
بغضّ النظر عن بقيّة النصوص، يكفي أن تكون الآية واضحة الدلالة، والحديث
صحيحاً حتّى يُعمل بهما، وبالتالي أنت أمام نصوص كثيرة جدّاً لا ينظُمها شيء
بنظر هؤلاء.
طبعاً الكلام بالعموم وليس بالإطلاق، فالكلّيّات العامّة متفَق عليها، وهي ما يسمّى
“ما يُعلم من الدين بالضرورة” أي يعرفه كلّ مسلم يعرف الإسلام، فمن مقتضيات

8

هذا المذهب (الأصل في الأحكام عدم المعقوليّة) ما يؤدّي لقراءات للإسلام لا
تنتهي، فالنصوص-عندهم- كأحجار البناء، يستطيع كلّ بنّاء تشكيلها كما يشاء،
وبالتالي ظهرت اجتهادات (ليس أوّلَها ولا آخرها داعش).
قراءات قد تهلك الإنسان مقابل إرضاء الإله (بزعمهم)، وقد تجعلك تعادي
العالمين، وتعلن حرباً مفتوحة عليهم، بل قد تقتل أقرب الناس إليك بذريعة الردّة!
وينطبق على هذه القراءة –برأيي- قولهم: (الاتّباع الأعمى)، فهو اتّباع دون معرفة
الفائدة أو الحكمة أو العلّة من الحُكم.
وأيّ واحد يعترض على هذه القراءات، فالاتّهامات جاهزة، فهو إمّا: منبهر بالغرب،
أو عميل لهم، أو متقاعس أو جبان، أو مرتدّ أو يقدّم عقلَه على النصّ، أو قرآنيّ!
كما ظهر بالمقابل قراءات استخدمت النصوص دون قواعد ولا منهج ناظم فتحلّلت
من الإسلام ونقضته عروة عروة، باستدلال من الكتاب والسنّة كذلك!
وأيّ واحد يعترض، كذلك التّهم جاهزة: تقليديّ رجعيّ متشدّد داعش جامد..
أمّا القراءة الثانية ترى أنّ تعاليم الإسلام الأصل فيها التعليل والمعقوليّة وظهور
الحِكمة والغاية والهدف والفائدة.. وللأحكام أنساق وقواعد واضحة ترعاها
النصوص وتؤكّد عليها، وبالتالي فتعاليم الإسلام متناسقة متفهّمة ترعى مصالح
العباد، وتحفظ حقوقهم وتنظّم حياتهم بما يكفل سعادة الجميع.

السؤال: بأيّ هذه القراءات نأخذ؟
عند اختلاف القراءات أو الاجتهادات القديمة والحديثة، بأيّ هذه القراءات
والاجتهادات نأخذ؟
ينبغي ترجيح القراءة الثانية، فالفقه هو الفهم، وكلّما علا كعب الفقيه كان ملتزماً
بالقراءة الثانية أكثر.
وتطبيقات هذه القراءة ليست منحصرة بمذهب فقهيّ معيّن، فعندنا ثروة فقهيّة رائعة،
وكلّ فقيه له فتوحات وإشراقات اجتهاديّة لا تخطئها عين الباحث.
وهنا نحتاج مرجّحات أو ضوابط، وأقترح ما يلي:
1- القيم الكبرى التي جاءت تعاليم الإسلام لترسيخها كالحقّ والخير والعدل
والشورى والرحمة والجمال والتعاون على الخير.. والتضييق على الشرّ.

9

2- مراد الشارع الحكيم ومقاصده وأهدافه من التشريع، أي ما يسمّى مقاصد
الشريعة الكلّيّة وهي ستّة تمثل أمّهات حقوق الإنسان، وهي حفظ دينه ونفسه وعقله
ونسله وعرضه وماله، أو ثمانية، بإضافة: العدل والحرّيّة.
3- مقاصد الشارع الجزئيّة وذلك بمراعاة مقاصد الشارع في كلّ باب فقهيّ، ثمّ
مقاصد الشارع في كلّ مسألة فرعيّة، فالشريعة متكاملة متعاضدة تنظمها قواعد، فلا
يضرب بعضها بعضاً، كلّها مسحوبة بخيوط نحو مقصد كلّيّ واحد؛ هو مراعاة
مصالح العباد، وتحقيق السعادة لهم في الدينا، ومن يلتزم بها يجازيه الله تعالى
بسعادة الآخرة.
4- التيسير ورفع الحرج والعنت والمشقّة، بما لا يتعارض مع المقاصد السابقة.
فخلاصة القول: نحن مبتلون بتيّار تجديد دون ضوابط، وتيّار ضوابط دون تجديد،
والمطلوب تجديد أو تحديث بضوابط، ولا مشاحة بالاصطلاح إذا اتفقنا على
المعانيّ، والمدلولات، والمرجّحات في التجديد الفقهيّ الذي نراه:
(معقوليّة) الأحكام المتمثّلة بالتعليل ومراعاة المقاصد و(إنسانيّة) الأحكام المتمثّلة
برعاية مصالح الإنسان والتيسير عليه.
بذلك نكون ساهمنا في القضاء على سبب هام من أسباب الإلحاد الجديد، وقبل ذلك
نكون قد أرضينا ربّنا واتّبعنا مراده وشريعته كما يحبّ ويرضى، والله الموفّق.




الهجرة النيوية وصناعة الأمل

ثلاث محطات على طريق الهجرة النبوية المباركة كانت قد بلغت من الخطورة
حدّها الأقصى، المحطّة الأولى كانت في ذلك البيت المتواضع الذي أحاطت به
سيوف القبائل، ولم يكن في داخله إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن
عمه الفتى المضحّي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبالمنظور المادّي
كانت فرص النجاة معدومة، بيد أن النبيّ خرج من بينهم دون أن يشعر به
أحد، ولم ينتبهوا إلا على خيبتهم وخيبة من أرسلهم، ولم ينج النبيّ فقط بل
نجا علي أيضا الذي كان قد نام بفراش النبي ليوهمهم أنه هو النبي وأنه ما
زال تحت أنظارهم! ففوجئوا به، لكن الله صرفهم عنه ولم يدر في خلدهم
التفكير بالانتقام منه وهو بين أيديهم وتحت سيوفهم!
أما المحطّة الثانية فكانت في ذلك الغار المختبئ بين تلك الجبال، حيث بقي
النبي وصاحبه الصدّيق ثلاثة أيام، ليس لهما من حارس إلا عناية الله، وقد
وصلت خيول المشركين بالفعل إلى هذا الغار، رغم كل الاحتياطات، حتى قال
أبو بكر -رضي الله عنه-: (لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا)، لم ينظر أحد إلى
قدميه، ولم يجرّب أحدهم الدخول في الغار ولو على سبيل الفضول بعد أن
بذلوا كل ذلك الجهد، وجابوا كل تلك المسافات! 
المحطة الثالثة كانت في تلك الوهاد المكشوفة والفضاء المفتوح لكل ناظر
وسامع، حيث انطلقا من الغار مع دليلهما باتجاه المدينة، وقد كانت قريش قد
رصدت مائة من الإبل لمن يأتي بهما، وهو عرض مغر -لا شك- فاندفعت
الخيول والسيوف كلّ صوب، مع وجود الوقت الكافي للبحث، فالمسافة بين
الغار والمدينة كانت تستغرق أياما عديدة، وكان من بين هؤلاء اللاهثين وراء
الجائزة سراقة بن مالك، الذي تمكن بالفعل من الوصول إليهما حتى كان
يسمع صوت النبي الكريم وهو يقرأ القرآن ولا يلتفت لا إلى سراقة ولا إلى
غيره، بينما كان الصدّيق يكثر الالتفات خوفا على رسول الله، ولم يبق بينهما
وبين الموت غيلة على يد سراقة إلا ذلك القدر الخفي الذي كان يرافقهما من
بداية الرحلة حتى نهايتها، والذي حوّل سراقة من مشرك حريص على قتلهما
إلى مؤمن مدافع عنهما وحارس لهما!
في تلك المحطات المتوالية والمتقاربة غابت كل الأسباب المادّية، فقد فضّل

2

الرسول -صلى الله عليه وسلّم- أن يؤمّن هجرة أصحابه أولا، فهاجروا جميعا
إلا أبا بكر وعليا وبعض المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة، فلم يكن معه
في تلك الرحلة عمه الحمزة ولا خاله سعد ولا عمر بن الخطاب ذاك الذي
تهابه قريش، ولا أولئك الشباب الذين يفدونه بأرواحهم كزيد وجعفر ومصعب
وعمار وبلال وصهيب، كلهم قد هاجروا، إلى الحبشة أولا ثم إلى يثرب! إنها
الحالة التي لا تحيط بوصفها الكلمات، لكن كلمات الوحي خلّدتها (ثاني اثنين
إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).
اليوم ونحن نستذكر تلك السيرة العطرة بمناسبة العام الهجري الجديد، نرى
أن الفتن قد أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم، وأن (المجتمع الدولي) قد
أسلمنا لسيوف الحقد وسكاكين الغدر، حتى تجمّعت الأحزاب علينا رغم ما
بينها من تناقض وخلاف، وأصبحت صاد الصهيونية وصاد الصليبية وصاد
الصفوية كأنها صاد واحدة، وكلهم يرموننا عن قوس واحدة، ونحن في
المقابل لسنا صفا واحدا، ولا جسدا واحدا، بل لكل وجهته، ومصلحته، وولاؤه
وبراؤه.
بدأت عواصمنا تتساقط، وحصوننا تتهاوى، وتلفتنا يمنة ويسرة فلم نجد حليفا
ولا مناصرا، واكتشفنا فجأة أن فرقنا الفنّية والرياضية وجيوش المسارح
والملاعب التي بذلنا لها أموالنا وأوقاتنا وعواطفنا لا تستطيع اليوم أن تدفع
عنا شيئا، وقد كان يكفينا بعض ذلك لمحاصرة الحوثي في صعدة، وحسن
نصر الله في الضاحية، والتعجيل بإسقاط بشّار ومحاصرة التغول الإيراني في
العراق، وكان أيضا بإمكاننا معالجة الفكر التكفيري وأدواته الإجرامية بأقل
الكلفة، لكن أولوياتنا لم تكن كذلك!
اليوم ما زالت أمامنا فرصة أو أكثر لكسر الطوق وفرض الحل الذي نريد، ما
زالت عندنا الموارد البشرية والاقتصادية الضخمة، وعندنا الإحساس بالخطر،
والاستعداد للتضحية.
إننا لسنا اثنين في غار، بل نحن أمة تمتد من المحيط إلى المحيط، ولسنا
جياعا نطلب اللبن من شاة أم معبد، بل نحن نمتلك النيل ودجلة والفرات
ونمتلك شطر ثروة العالم من النفط والغاز والمعادن الثمينة.

3

إن كل الذي نحتاجه اليوم أن نقولها بصدق كما قالها معلّمنا وأسوتنا الأول (لا
تحزن إن الله معنا)، فالله هو رب السموات والأرض ومن فيهن وهو الخالق
لكل شيء والذي بيده ملكوت كل شيء، والله لم يتنازل عن سلطانه هذا
لأوباما ولا لبوتن ولا لأحد من هؤلاء الصغار الذين يظنون أنفسهم كبارا. إن
كل الذي نحتاجه أن نرتقي بأنفسنا إلى مستوى التحدي، فطالما أنه استهداف
واضح للأمة إذاً فلنواجهه باسم الأمة وبروح الأمة، لنخرج من خنادقنا
الضيقة المحكومة بالجنسيات وجوازات السفر والشعارات والرايات إلى
الميدان الأوسع الذي نلتقي فيه كما نلتقي في صفوف الصلاة وعلى صعيد
عرفات، لنخرج من الأحزاب الإسلامية إلى الإسلامية، ومن فصائل الثورة إلى
الثورة، ومن جماعة النور إلى النور، ومن الإخوان المسلمين إلى المسلمين،
لنكن جميعا في الصفّ الذي يريده الله، وتحت الراية التي يريدها الله، فإذا
أردنا أن يكون الله معنا فلنكن نحن أولا مع الله.




السواك نموذجاً لإشكالية التعامل مع التراث

قبل أيام جمعتنا ندوة علمية تحدَّث فيها أحد الأساتذة الفضلاء، وكانت عبارة
عن تطواف في تاريخنا الإسلامي بمسحة إيمانية ووعظية ظاهرة، وكانت
الفكرة المحورية التي يدور حولها المتحدث أن أجدادنا أنجزوا ما أنجزوا من
فتوحات وانتصارات بسبب تمسكهم بالدين، وبالمقابل فكل الهزائم والمحن
التي تحيط بنا اليوم سببُها البعد عن الدين، ثم راح يسرد من أوراقه ومن
ذاكرته الثرية عددا ليس قليلا من الحوادث والقصص، كان منها ما نسبه إلى
الصحابة -رضي الله عنهم – أنهم في إحدى المعارك قد أبطأ عليهم النصر،
فحثهم قائدهم على التدقيق في سلوكهم وعباداتهم إذ ربما أغفلوا سُنة من
السنن، وحينما نظروا في أنفسهم وجدوا أنهم قد نسوا سُنة السواك فبادروا
إليها، فلما رآهم العدو هربوا جميعا من دون قتال، ظنا أن المسلمين يحدُّون
أسنانهم لأكلهم! ثم راح يؤكد أننا – نحن المسلمين – لا ننتصر بالعدة ولا
بالعدد، إنما ننتصر بالله.
حينما نعرض هذا الكلام على بساط النقد، فإننا في الحقيقة لا ننقد هذا الكلام
بنفسه، وإنما ننقد هذه الظاهرة الطاغية في خطابنا الديني، فأستاذنا الفاضل –
جزاه الله خيرا – إنما هو ابن هذه البيئة التي ألِفت مثل هذا الخطاب حتى
أصبح جزءا من ثقافتها السائدة، فأنت تسمع مثل هذه القصة على منابر
الجمعة وفي مجالس الوعظ وبرامج التواصل وغيرها.
بدايةً، يمكننا الجزم بأن هذه القصة لا أصل لها، فهي باطلة من حيث السند
والمصدر، أما مضمونها فهو متهافت دينيا وعلميا وواقعيا، ومجرد التصديق
بها يعني أن هناك مشكلة كبيرة في عقل المسلم المعاصر من حيث قدرته على
التعاطي مع الأخبار والروايات التاريخية.
من الناحية الدينية، لا أدري إلى أين سنصل بتفكيرنا حينما نعتقد أن الله
يحجب نصره عن المسلمين إذا هم قصروا في مستحَب من المستحبَّات؟ مع
أن تعريف المستحب أو المندوب أو السُّنة أو النافلة – وكلها بمعنى متقارب –
: ما يُثَاب المسلم على فعله ولا يُعاقَب على تركه، فكيف يعاقب الله المسلمين
هذا العقاب ويؤخر عنهم النصر لتركهم نافلة من هذه النوافل؟ مع أن السواك
خاصةً قد توسع فيه علماؤنا، فهو يحصل عندهم بكل ما ينظف الفم ولو

2

بالإصبع الخشنة، كذا نص الإمام النووي وغيره، لكن الأهم من هذا: هل فعلاً
كانت كل الانتصارات الإسلامية خالية من الذنوب والمظالم مما هو معهود في
السلوك البشري؟ وهل العصمة مطلوبة من المسلمين لتحقيق النصر؟ ثم ألا
يرسخ مثل هذا الخطاب حالة اليأس والإحباط؟ إذ إن أكثر الدعاة تفاؤلا لا
يستطيع أن يتخيل مجرد خيال أن حال الأمة سيتحسن بالمستوى الذي تنشده
هذه القصة حتى بالنسبة لمجتمع الدعاة والمشايخ أنفسهم فضلا عن غيرهم.
أما ذلك الجيش الذي يفر من السواك ولا يفر من الرماح، ويخاف من العض
أكثر من السيف! فلا أدري أي جيش هذا؟ وأما قصة أن أسنان البشر تُحَد كما
تُحَد السكاكين لتكون أقدر على العض، فهذه لا تحتاج إلى تعليق، لكنها مؤشر
واضح على غياب الحس النقدي لدى القارئ، ولدى السامع أيضا. إن الخطاب
الديني ينطلق أساسا من عقيدة غيبية، لكن تصورات المتدينين عن علاقة
الغيب بعالم الشهادة ليست واضحة ولا تضبطها منهجية متفق عليها، إضافة
لاختلاط هذه الدائرة بالروايات والقصص والأساطير التي تحل لدى بعضهم
محل العقائد كما في قصة السواك مثلا.
كنت قد سمعت عن أحد الخطباء أنه حذر المصلين من دخول سبعة آلاف جني
يهودي أرسلتهم إسرائيل لتخريب عقول المسلمين بالمس ونحوه! ذهبت إليه
وسألته عن مصدر هذا الخبر؟! فأكد لي أنه سمعه عن شيخ ثقة كان يعالج
ممسوسا فنطق الجني على لسانه وأخبره بذلك، وأن هذا الجني واحد من
السبعة آلاف!
تصديق الشيخ بمثل هذا لا شك أنه مبني على مقدمات منها أنه يرى الجني
ولو كان يهوديا مصدرا موثوقا للمعلومات الغيبية! وأن الجن باستطاعتهم
التحكم بعقول البشر والعبث بها متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ومن ثم لا بد من
فتح مراكز لبث (الوعي الجني) على غرار الوعي السياسي والاقتصادي..إلخ
ثم فتح (عيادات جنية) لمعالجة آلاف البشر من ضحايا الغزو الجني، ولك أن
تتصور حال الناس في مثل هذه الفوضى العقلية والنفسية، ومدى اختلاط
الحق بالباطل، والناصح بالنصاب، والمعلومة الصحيحة بالخرافة..إلخ ثم ما

3

ردود فعل الآخرين من غير المتدينين الذين يرون أن كل هذه الفوضى كانت
بسبب الدين أو التدين؟
المشكلة لا تقف عند هذا، فهناك فوضى أخرى وخراب ودمار امتزجت أيضا
بالخطاب الديني، حيث تصدت مثل هذه العقول للشأن العام، وصار الناس
يسمعون فتاوى وبيانات ومواقف لا يمكن فهمها، وعلى سبيل المثال: تسمع
لأحدهم وهو يهدد أميركا وروسيا والصين والعالم كله، بل ويدعو إلى قلع
الأنظمة الحاكمة لأن (الكفر ملة واحدة)، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا
سألته عن عدته؟ قال: نحن لا نقاتل بعدد ولا بعتاد وإنما نقاتل بالله وننتصر
بالله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وما المانع أن الله ينصرنا على أميركا أو
الروس ولو بعود سواك أو حفنة من تراب؟ وربما يستدل هنا بقوله تعالى:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لأنه يفهمها قانونا إلهيا وليست خارقة
خاصة.
في مقابل هذا تجد من يفتي بالاستسلام التام، لأن هذه إرادة الله و(كيفما
تكونوا يولَّ عليكم) و(أن الكفار هم كلاب الله يسلطهم على عباده حينما
يغفلون عن طاعته) فالتغيير إنما يكون بإصلاح النفوس حتى تتأهل لرحمة الله
التي ستغير لنا كل شيء.
إن هذه لم تعد مواعظ مجردة، بل هي مشاريع وفصائل وجماعات، وقد انبنت
عليها مواقف خطيرة تتعلق بحياة الناس وأمنهم واستقرارهم، ومن ثم فإننا
أمام نتائج قد تكون أخطر وأكبر بكثير مما نتصور.
إننا بحاجة إلى إحياء المنهج الإسلامي الأصيل -وهو منهج السلف الصالح-
لتصفية العقيدة الثابتة في الوحي حصرا عن كل تلك الروايات والحكايات
المنسوبة إلى الجن أو إلى الإنس، ثم التمييز بين النظام الكوني الثابت الذي
ألزمنا الله به وبين الخوارق التي لا يمكن اعتمادها ولا القياس عليها لأنها من
صنع الله وليست من صنع البشر.




إلحاد في المريخ

ليس في المريخ إلحاد، غير أن للعنوان قصة تحكي تاريخاً من الصراع بين الإيمان والإلحاد،
والذي بدأت بوادر عودته اليوم بأشكال مختلفة.
قبل بضعة عقود كان الفكر الإلحادي يكتسح المنطقة بحماس غير مسبوق ولا معهود، وكان
الحزب الشيوعي ذو التكوين الشمولي والعالمي يحقق مكاسبه في أكثر من دولة عربية وإسلامية.
كان الشباب الشيوعي يملأ الساحات والمقاهي والمنتديات العامة بالمجادلات والنقاشات التي لا
تهدأ أبداً، وكانوا أكثر نهماً للقراءة والتثقّف من باقي الأحزاب، وأذكر بهذا الصدد ذلك الشاب
الذي كان يحمل شهادة الماجستير في الاقتصاد الشيوعي من إحدى الجامعات الروسية كيف كان
يأتينا إلى كليّة الشريعة في جامعة بغداد ليفتح مواضيع متنوعة للنقاش، ثم يصر بعض الأيام على
توصيلنا بسيارته «الفولفو» إلى مدينة الفلوجة ليكسب مزيداً من الحوار ثم يرجع لبيته في بغداد،
بمسافة 120 كم تقريباً، كانت لحيته كثة وطويلة تشبه لحية ماركس، وكان يصر هو وأهل بيته
على تحمل الملاحقات الأمنية في أيام خلافهم الحاد مع حزب البعث، التي تصل إلى الاعتقال
والتعذيب الشديد، بحسب روايات متعددة منه ومن بعض أقربائه.
أذكر مرّة وهو يحدّثنا عن ضرورة «تفتيت الثروة» تناولت معه أنصبة الزكاة ومقاديرها في
الشريعة الإسلامية، وكيف أن الإسلام مثلا جعل نصاب النقد عشرين مثقالا من الذهب، بينما
جعل نصاب البقر ثلاثين بقرة، وأن معدل زكاة الغنم إذا كثرت %1 بينما زكاة النقود 5/2%
مهما كثرت، توقف كثيراً ثم قال: هذه حسبة معقدة تساهم في التنمية والحد من ادخار النقد، لكن
كيف لي أن أصدّق أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الذي علمكم هذه الحسبة؟! 
لقد كانت تلك النقاشات حافزاً كبيراً للتزوّد العلمي والفكري المستمر، وأنا هنا أعترف بفضل
صديقي «قحطان» في إذكاء هذه الروح، رغم بون الخلاف بيننا في كل شيء.
في مشهد آخر يعبّر عن عمق التحدّي وطبيعته يقف أستاذنا أبو القيم الكبيسي في حوار مع عتاة
الشيوعية، وهو أحد أبرز مشايخ السلفية (الوهّابية) ومع هذا كان أول من درّسنا المنطق! وكان
يستخدمه ببراعة في حواراته كلها، ليقول لهم أمام الملأ: بمناسبة غزو السوفيت للفضاء، ما
قولكم لو أن المركبة السوفيتية حطت على المريخ، فاجتمع أهل المريخ عليها، فقال الشيوعيون
منهم: هذه المركبة لم نشاهد صانعها ومن أطلقها إلى كوكبنا، فإذن ليس هناك إلا الصدفة! بينما
قال المسلمون منهم: نعم إننا لم نشاهد صانعها لكن العقل يجزم بوجوده، إذ لكل مصنوع صانع؟
أذكر أيضاً المناقشات العلمية الواسعة التي كان يجريها معهم شيخنا الوافد إلينا من مصر الشيخ
محمود غريب -رحمه الله- الذي كان يسمّي نفسه «عاشق بغداد» الذي كان يردد: إني أجد متعة
في النقاش مع شباب العراق لا أجدها مع غيرهم.
أتذكر ذلك التاريخ وأنا أرى موجة جديدة من الإلحاد، في العراق خاصة وفي المنطقة بشكل عام،
إلحاد لا يستند إلى فلسفة، ولا إلى فكر، إلحاد ساذج وأبله، يهتم بالأشخاص والأحداث أكثر من
اهتمامه بالأفكار، وعسى أن تكون لنا وقفة مع هذا الإلحاد الجديد

2

السمة الغالبة في (الإلحاد الجديد) في نسخته العربية على الأقل أنه إلحاد ذو طبيعة احتجاجية،
بمعنى أنه أشبه بردود فعل ساذجة على الخطاب الديني المعاصر الذي فقد الكثير من هيبته
وقابليته للإقناع.
وبتحليل علمي وموضوعي لهذه الظاهرة لا بد من الاعتراف بالحقيقة المرّة؛ أن الخطاب الديني
يمثّل اليوم أحد أهم التحدّيات التي تواجه الدين نفسه، ومن ذلك مثلا إظهار الدين بشكل أو بآخر
كعنوان لشقاء البشريّة ومعاناتها، فثقافة (ثارات الحسين) و (إدارة التوحّش) وهما الحالتان الأبرز
في مجموع القوى المتديّنة في المنطقة جعلت الإلحاد كأنه قارب النجاة لكثير من الشباب الشيعي
والسنّي على السواء، والصورة الكليّة التي تنطبع في ذهن الشاب عن الدين إنما يأخذها من
هؤلاء، خاصة مع مباركة المراجع الشيعية للميليشيات، وخفوت صوت العلماء السنّة تجاه
الممارسات الداعشية، لكن الذي فات على هؤلاء الشباب أن التاريخ الدموي للإلحاد ليس بأقل من
هذا، بل إن بعض المصادر أوصلت عدد ضحايا الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين إلى خمسين
مليونا! ما يجعله متفوقا بكثير حتى على الزعيم النازي هتلر.
المناطق التي سلمت إلى حدّ ما من داعش وماعش كانت التجارب (الإسلامية) المرتبكة والفاشلة
كفيلة بأن تفسح المجال للنزعات الإلحاديّة وبمستوى لا يقل عن الحالة الأولى، فبعد مرور قرابة
القرن على مقولة (الحل الإسلامي) لم يسمع الناس جوابا واضحا عن سرّ تراجع هذه المقولة
سوى الإحالة إلى مقولات غيبيّة أخرى مثل: (سنّة الله في التمحيص) و (إذا أحب الله عبدا
ابتلاه)، دون أن يقرأ هؤلاء الشباب تحليلا علميا واقعيا يمكن الاستناد إليه أو الانطلاق منه.
هناك أيضا الخطاب الوعظي الذي يتلقاه الناس من على المنابر، وهو خطاب مكرّر ومملول وذو
طبيعة عاطفية، وكثيرا ما يعتمد على مزاج الواعظ، فإن راق أدخل الناس الجنّة، وإن تعكّر
أدخلهم النار، وقد حدثني أستاذ جامعي معروف أنه طاف مع أولاده في يوم واحد على أكثر من
مسجد لصلاة الجمعة ثم رجع دون صلاة! ويقول: لم أعد أحتمل سماع هؤلاء! وقد رأيت كثيرا
من المصلّين يبحث عن الخطبة الأقصر (تسقيطا للفرض) كما يقال، لأن المصلّي لم يعد ينتظر
من الخطيب حلا لمشكلته، أو تحليلا لواقعه، أو جوابا عن تساؤلاته.
إن هذه الظواهر ينبغي أن نعترف بها لهؤلاء الشباب قبل فتح أي نقاش معهم، فربما رجعوا بهذه
المصارحة قبل الدخول في النقاش أصلا، وما زلت أذكر تلك الأخت الفاضلة التي اتصلت عليّ
وقالت: إن لديها أسئلة إلحاديّة وهي تخشى من طرحها، فرحّبت بها، ثم شجعتها بقوة أن تأخذ
راحتها في الحوار، وكانت النتيجة أنها اكتفت بهذه المقدّمات وقالت: شكرا لك يا دكتور لقد أعدت
لي الثقة بديني! ومثل هذه حالات كثيرة تؤكّد أن هذا الإلحاد إلحاد نفسيّ، بعيد إلى حد كبير عن
المقولات الفلسفية التي كان يستند إليها الإلحاد القديم.
إن المدخل الأساس لحماية مجتمعاتنا وشبابنا تكمن في إصلاح وضعنا الداخلي ومراجعة خطابنا
الديني بشكل خاص، والكف عن سياسة التبرير التي نمارسها لأخطائنا، والتعامل المحترم مع
هؤلاء الشباب مهما اختلفنا معهم




التجربة الإسلامية المغربية

أكتب هذه المقالة من مدينة مراكش في زيارتي الثالثة للمملكة المغربية، والتي حاولت فيها أن
أستمع لشهادات مختلفة عن التجربة الإسلامية في هذا البلد العريق والمتميّز بثقافته الجامعة بين
أصالة (أمير المؤمنين) وحداثة (النظام الديمقراطي)، مع مسحة حضاريّة ملموسة في السلوك
والتعامل اليومي ومفردات التعبير البياني والعمراني.
في لقاءات وجولات متنوعة اكتشفت حجم تشوّق (المغاربة) لأخبار أشقّائهم (المشارقة)
وتواصلهم مع كلّ المتغيّرات والأحداث والمفاجآت التي تعصف بهم، شعب مثقّف ومطّلع،
ويحمل قدرا كبيرا من الوفاء، لقد كانوا يسألونني في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان عن
أستاذنا الدكتور محسن عبدالحميد لأنه كان يدرّس عندهم قبل عقود من الزمن! تذكرت حينها
كلمة كان يرددها الدكتور محسن: (لما ذهبت إلى المغرب كنت أحدث نفسي هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في بغداد، ثم لما عدت من المغرب حدثت نفسي: هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في الرباط؟)!
في زيارة سابقة دعانا الأستاذ الكبير عبدالكريم الخطيب -رحمه الله- وهو أحد أعلام المغرب،
دعانا إلى بيته للغداء، وسألني كثيرا عن العراق وقطر ثمّ قال لي مازحا: أقول لك معلومة لا
تقلها لأحد! إني عراقي، كيف يا شيخنا؟ قال: (نعم مرّت بنا ظروف سياسيّة وأمنية قاسية فلجأت
إلى العراق فأكرمونا غاية الإكرام، وقالوا: هل تأمر بشيء؟ قلت: أحتاج وثيقة أتنقل بها، قال
فأحضروا لي جواز سفر، وما زلت محتفظا به)، وقد فاتني أن أسأله في أي عهد كان ذاك، لكن
الظاهر أنه يتكلم عن فترة انخراطه في جيش التحرير المغربي أواسط الخمسينيات.
في تلك الزيارة أيضا شهدت احتفالية كبيرة في ملعب واسع ضمّ آلاف المشاركين، تنازل فيها
الخطيب عن قيادة (العدالة والتنمية) وتم انتخاب الأستاذ سعد الدين العثماني أمينا عاما، ومعه
أسماء ووجوه قيادية جديدة، وقد رأيت كيف يقوم الذين لم تتح لهم فرصة الفوز بتهنئة الفائزين
بروح أخوية وأجواء أسريّة مريحة وغير متكلّفة، حتى أنك لا تستطيع تمييز الفائز عن غيره،
وقد أتيحت لي حينها فرصة التحدث عن الوضع العراقي، وكان هناك مجموعة من الشباب
يستوقفونني ليهتفوا بكلمات (العراق) (بغداد) (الفلوجة) بأهازيج حماسيّة لم أتمكن من حفظها،
وكان العلَم العراقي يغطي مساحة واسعة من المدرّجات ويتنقل فوق رؤوس الجماهير.
تمعنت كثيرا في العنوان (العدالة والتنمية) وفي (المصباح) بشكله التراثي الموضوع دائما جنب
العنوان كشعار للحزب، وتذكرت العدالة والتنمية التركي ومصباحه كذلك، وحين سألتهم عن سرّ
هذا التوافق أكّدوا لي أنّ الأتراك هم الذين اقتبسوا من المغاربة الاسم والمصباح مع تحديث بشكل
المصباح فقط! ولا شك أن هذا يعني الكثير، فالتجربة المغربية كأنّها أصبحت مثالا يحتذى، وهذا
بحدّ ذاته يدعو للتأمل والدراسة.
إن التجربة المغربية لا تنحصر بالعدالة والتنمية، فهناك لافتات قويّة ومؤثّرة اتخذت طابع التربية
والدعوة والتعليم الشرعي ولها من العمق والتأثير في هذه المجالات ما للعدالة والتنمية في المجال
السياسي.
إن أهم ما يميّز التجربة المغربية هو ديناميكيّتها العالية، وقدرتها على التغيّر والتطوّر ومراجعة

2

الأخطاء وإعادة الحسابات على مختلف الصُّعُد، ويكفي هنا أن أضرب مثالا واحدا: سنة 1979
كان هناك تجمّع لدعم الجهاد الأفغاني، فتقدّم الصفوف رجل أخذته الغيرة وأصرّ أن تكون له
كلمة، وحين أتيح له ذلك أخذ يهتف بالمحتشدين: (إن تحرير أفغانستان يبدأ بتحرير الرباط من
الطواغيت)، ما سبّب حرجا للمنظمين وللمسؤولين أيضا، هذا الرجل أصبح اليوم رئيسا للحكومة
في ظل العرش الملكي، وهو الذي يقول اليوم: (إن المغرب يجدد التأكيد على التزامه المتواصل
بتعاون دولي متضامن لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وإن ظاهرة الإرهاب التي لا
يمكن ربطها بدين معيّن تستدعي نبذ كل أشكال التطرف والعنف من خلال نشر مبادئ الاعتدال
والتسامح والانفتاح وهو ما فتئ يقوم به أمير المؤمنين).
في ثقافتنا (المشرقية) يرجعون هذا التبدّل -في الأغلب- إلى عوامل سلبية كالانتهازية والمزاجية
وضعف المبادئ والانحراف عن الجادّة، أما (المغاربة) فقد أحبّوه في الحالتين، ورأوا فيه عنصر
الصدق، فهو يتكلّم بما يمليه عليه ضميره وما يتوصّل إليه اجتهاده، ولا يمنعه قول سابق حشد له
العباد أن يغيّره بقول لاحق ولو كان فيه خسارة الجمهور، لكن الجمهور المغربي مختلف إلى حدّ
ما عن جمهورنا، فالثبات عندهم في غير الثوابت والضروريّات القطعية هو نوع من الجهل
والجمود والتعصّب المقيت، وأن التغيّر هو علامة الصدق والموضوعية و (التكوين المستمر)،
فالمعيار ليس النوايا والقصود الخفيّة ولا السير على (مثبّت السرعة)، بل قراءة الوقائع
والمستجدات والمآلات والاحتمالات، والمراجعة الجادّة للتجارب والمواقف والأفكار، وعبقريّة
المفكر مهما كانت فإنها ستعزله عن المجتمع الذي لا يتمكن من مواكبة كل هذه الحيثيات، إلا إذا
غلبت على المجتمع نزعة التقليد الأعمى كحال الشيعة مع مرجعياتهم.
في هذا السياق أيضا يذكر الدكتور أحمد الريسوني كيف أنه ومجموعة من الشباب كانوا يعملون
مع جماعة الدعوة والتبليغ، وفي الوقت ذاته كانوا يقرؤون كتب الإخوان المسلمين ويعجبون
بأدبياتهم حتى أنه حفظ (معالم في الطريق) عن ظهر قلب، ولذلك أطلق عليهم اسم (التبليغ
مودرن)، وفي ذلك الوقت أيضا كانوا مهتمين بطروحات الداعية الكبير الشيخ عبدالسلام ياسين
حتى أنهم استنسخوا له خطابا موجّها إلى الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- ووزّعوه لما
فيه من شدّة بلغت حدّ (الإزعاج والاستفزاز)، وحين يتذكّر الريسوني تلك المرحلة يقول: (إنها
مرحلة الإعجاب بالبطولات والأعمال الجريئة)، وبعد هذا أبحر الريسوني في (فقه المقاصد) ثم
في (فقه التقريب والتغليب)، ومع كل هذه التغيّرات اللافتة والارتباطات المتنوعة بقي الريسوني
كما بقي عبدالإله بنكيران وسعد الدين العثماني والمقرئ الإدريسي أبو زيد وعبدالسلام بلاجي
وغيرهم الكثير في قلب الحاضنة الجماهيرية، وهذا دليل يضاف إلى وعي هذه الحاضنة،
وتطلّعها هي أيضا للتغيير والتكوين المستمر، ونبذها للجمود والانغلاق والتعصّب المقيت بكل
أشكاله.
يلخّص الأستاذ سعد الدين العثماني -وهو الذي قاد العدالة والتنمية بعد الخطيب ثم تسنّم وزارة
الخارجية المغربية- رؤيته الكلّية التي أسهمت في نقل الحركة إلى أفقها الأوسع على الصعيدين

3

الفكري والتنظيمي: (كنت وقتها أرى أن هناك مفاهيم وسلوكيّات لدى الإسلاميين تحتاج إلى هزّة
عنيفة لتتغيّر وتتكيّف مع متطلبات الرؤية الإسلامية المستنيرة).
على الصعيد الفكري أذكر أننا اشتركنا في مؤتمر (فقه الدولة) المنعقد في اسطنبول العام الماضي
وقد طرح العثماني أفكارا في غاية القوّة والجرأة، وكان أحد الإخوان العراقيين حاضرا فالتفت
إلى إخوانه وطمأنهم أن هذه الكلمات إنما هي (تقية سياسية)! لم يستطع الرجل وهو أخ كريم
ومميّز بين أقرانه أن يستوعب هذه الهزّة إلا على أنها تقية! مع أن الدكتور العثماني قد أحدث هذه
الهزّة منذ سنين، وكتاباته في هذا موثقة ومنشورة قبل مشاركته الوزارية، وهذا مثال للتفاوت بين
الثقافتين المشرقية والمغربية.
في الجانب التنظيمي يكفي أن نقرأ هذه الاقتباسات التي حاول العثماني فيها مبكّرا أن يسقط
مفهوم (القائد الأسطورة) والمحور (الذي يدور عليه كل شيء) والذي هو (فوق المراجعة والنقد)
والذي (يملك وحده حق النظر للحركة وتقويم خطّها وإصدار الاجتهادات والفتاوى) (ولذلك كانت
قناعتي أن هذا العطب فضلا عن كونه من مخلفات عصور الانحطاط فإن من شأنه… أن يشلّ
طاقات إسلامية كثيرة ويمنع قيام عمل إسلامي حقيقي)!
العثماني هنا أذكره كنموذج فقط، وإلا فإن هذه المقولات لو كانت له وحده لكانت كفيلة بعزله
وإخراجه من الحركة، لكنه الوعي العام داخل الحركة وداخل المجتمع أيضا، وخطاب العثماني
هذا تبنّاه وهو جندي وتبناه وهو قائد، تبنّاه ونشره على الملأ ليقرأه القريب والبعيد والصديق
والعدو، وقد كان في هذا تمتين لبناء الصف الداخلي وتعزيز لمكانة الحركة في المجتمع، بخلاف
الحركات الأخرى التي ما زالت تتخوّف من الوضوح والنقد والمراجعة والتي ما زالت تعاني
بسبب هذا وغيره من عزلة اجتماعية وانشقاقات ومشاكل داخلية.
لقد انطلق المغاربة من مقولة تأصيلية كبيرة (أن كل شيء ما عدا الكتاب والسنّة قابل أن يحرق
ويراجع وينسخ ويلغى ويعدّل) وهذه ليست صرخة واعظ بل هي منهجية عميقة ودقيقة، يقول
الدكتور الريسوني شارحا لها ومبينا أسباب فرقة المسلمين وضعف القابلية على الانسجام
والتوحّد: (لأن كثيرا من الجماعات الإسلامية تلتقي وتفترق على غير الكتاب والسنّة… على
المواقف الآنية والاجتهادات الفكرية والسياسيّة… كانت الاجتهادات والأفكار الخاصة فيما قبل
هي التي توحّد أو تفرّق، وكان الشعار هو: قل لي ما موقفك من النظام أو من الانتخابات أقل لك
هل يمكن أن أسير معك أو لا)، وفي هذا يسجل الأستاذ محمد الحمداوي شهادته التاريخية: (كنا
نتحفّظ على كل شيء، فلم نكن نقبل أن نسمع مسألة الانفتاح على الشيخ المكي الناصري أو
العلماء الرسميين، بل لم نكن نتقبل أن يتحدّث عن هؤلاء بكلام إيجابي، ولم نكن نتقبل أن يلتقي
عبدالإله بنكيران برئيس المجلس العلمي.. ولم يتمكن الإخوة من التخلّص من هذا التحفّظ حتى
سنة 1984) وهكذا يستمر التشخيص الدقيق على هدي الوحي كتابا وسنّة، فالمقبول ما يقبله
الوحي، والمرفوض ما يرفضه الوحي أيضا، والولاء لكل مسلم مقبول في دائرة الإسلام بغض
النظر عن موقفه من الجماعة أو موقف الجماعة منه، وهذا هو الذي استقرّت عليه الحركة
تأصيليا وتطبيقيا، يقول المقرئ الإدريسي أبوزيد: (العلاقة الأخوية هي فوق العلاقة التنظيمية) و

4

(أننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين) وهذه نتيجة لمراجعات فكرية عميقة وجريئة
(وكنا نعيش حالة من الالتباس بسبب الفكر التنظيمي الذي تأثرنا به من الإخوان المسلمين؛ أننا
ننشئ الجماعة الإسلامية على هدي الجماعة الإسلامية الأولى، فلم يكن عندنا تكفير صريح
للمجتمع ولكننا ضمنيا كنا نرى نوعا من الطهرانية الداخلية في مقابل حالة الانحراف الخارجية)
ثم يقول: (وهذا قد وقانا من شرور التكفير والمفاصلة والانعزالية والمنابذة والسرية).
إن تلك المراجعات الفكرية التأصيلية قد قادت بالفعل إلى الوضوح في كل شيء ونبذ السرّية،
يقول الأستاذ الحمداوي أيضا: (تأكّدنا أن السرية ليست هي التي تحمي العمل وتحصّنه، بل
العكس، يمكن أن تأتي عليه من القواعد وتهدّه)، ومن لطائف ما يذكره الحمداوي بهذا الصدد أنهم
استفادوا من تجارب إخوانهم المشارقة، لكنها -على ما يبدو من السياق- استفادة على سبيل
الاتعاظ لا الإعجاب (خاصة التجارب التي اصطدمت مع الأنظمة) على حد تعبيره.
وكما تحرر المغاربة من ثقافة الانغلاق ومن دهاليز العمل السرّي تحرّروا كذلك من ربقة العمل
المركزي، وهي العقدة الأشد على ما يبدو؛ حيث استغرق العمل عليها من 1994 حتى سنة
2006، بحسب شهادة الحمداوي، وهذا الوقت الطويل لم يكن بسبب المنافسات أو الإشكالات
التنظيمية بل لأنه (لا تتوفر الكفاءات البشرية لتطبيق اللامركزية)، وهذا يؤكّد أن تلك المراجعات
كانت بمستوى المسؤولية العملية وليست فكرة طارئة أو شهوة نقدية جامحة.
لقد تزامن كل هذا مع مراجعات جريئة لبعض المفاهيم الدينيّة القاصرة، يقول العثماني: (قطعنا
أشواطا في التأصيل لمفهوم السياسة الشرعية وتصحيح ومراجعة جملة من المفاهيم غير
الصحيحة، ومن ذلك مسألة الولاء… التي جعلها كثيرون متكأ لإدانة أي خطوة يتعاون فيها دعاة
الإسلام مع غيرهم… والتي تؤدي إلى معاداة الواقع أو الانعزال عنه).
أما انعتاقهم الواعي من أي صيغة تنظيمية نحو (التنظيم الدولي) فقد وفّر لهم حماية داخلية عن
أي مصادمة أو إشكالية غير محسوبة، كما وفّر لهم غطاء قانونيا سليما، هذا على مستوى
التنظيم، أما على مستوى الوعي والفكر والتواصل مع هموم الأمة، فلا شك أنهم بالأساس
ينطلقون من ثقافة الأمة وهويتها وعقيدتها.
إن هذه الإطلالة السريعة على ضفاف الأطلسي لن تعطي الصورة الكاملة عن ذلك المحيط
الزاخر، بل هي تحفيز للعاملين هنا من كل اللافتات أن يتواصلوا مع هذه التجربة المتميّزة،
والتي وقاها الله من أدواء الانغلاق والانشقاق والتطرف، وكانت كذلك سببا في حماية بلادها من
موجات الفوضى والعبث التي تعصف بأغلب بلدان المنطقة.




العلاقة الخفية بين إيران والقاعدة

ربما تفاجأ الكثيرون بتصريحات أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم الدولة
الإسلامية في العراق والشام المعروفة بداعش، والتي جاءت بعنوان (عذراً أمير
القاعدة)، والتي اعترف فيها صراحة بأنه ودولته كانا ملتزمين بتوجيهات شيوخ
القاعدة القاضية بعدم التعرض لإيران ومصالحها، وبذلك (نَعِم الروافض في إيران
بالأمن والأمان) على حدّ تعبيره! بمبرر (الحفاظ على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها
في إيران)، أما مبرر هذا الالتزام فهو (للحفاظ على وحدة المجاهدين)! و(احترام
شيوخ الجهاد وما لهم من فضل وسبق). لقد نجح العدناني في كشف السر والإجابة
الصريحة عن السؤال المكرر: لماذا ضربت القاعدة السعودية واليمن ومصر والأردن
وتركيا وغيرها، بينما بقيت إيران سالمة مسلّمة! رغم حدّة الخلاف الديني والفكري
بين الطرفين؟! جاءت تصريحات العدناني هذه ردّاً على دعوات شيخ القاعدة أيمن
الظواهري لأمير (الدولة الإسلامية) أبي بكر البغدادي بضرورة العودة إلى بيت
الطاعة، وترك سوريا للسوريين أو لجبهة النصرة التي أعلنت فك ارتباطها بالدولة
ومبايعتها للظواهري، مما يعني في النهاية أن الخرق قد اتسع بين (دولة البغدادي)
و(قاعدة الظواهري) إلى حدّ كشف الخفايا والأسرار الخطيرة والتي قد تدين الطرفين
بمستوى واحد، فالعدناني الذي أراد إحراج الظواهري بهذه التصريحات قد أدان نفسه
أيضا ومن ناحيتين؛ الأولى: أنه أثبت -من حيث لم يشعر- صدق دعاوى الظواهري
بوجود بيعة ملزمة في عنق الدولة للقاعدة، وهذا ما تنكره الدولة بعد خلافها الحاد
مع النصرة، وإلا فما معنى هذا الالتزام المستمر بتوجيهات القاعدة في قضية يرى
العدناني أنها مدانة وأنها ألبستهم تهمة العمالة لإيران! أما الثانية: فإقراره صراحة
بأنه قد وفّر الأمن والأمان لمن يعتقد أنهم لا يستحقون ذلك، بل لمن لا يتردد في
وصف من يشتبه بالتقرب منهم بالردة والعمالة، وربما أقام الحدّ عليهم بقطع
الرؤوس وهدم البيوت! الخطير في خطاب العدناني هو اعترافه بوجود مصالح
وخطوط إمداد للقاعدة في إيران! وهو اعتراف مبتور ويخفي وراءه ملفات قد تتفتح
في يوم ما على يد منشقّ آخر، فخطوط الإمداد لا يمكن أن تكون هبة إيرانية أو صدقة
لوجه الله. الحقيقة أن هناك من سبق العدناني ومن قيادات عريقة ومتقدمة جدا لا
يصل إليها العدناني ولا أميره البغدادي، من بينهم المفتي الأول للقاعدة سيد إمام

2

الشريف والذي كشف عبر وسائل الإعلام عن (اتفاق زاهدان) المدينة الإيرانية
المعروفة والتي تم فيها الاتفاق بين مسؤولي اللجنة الشرعية في القاعدة وبين
المخابرات الإيرانية! وهذا ما أكّده أبو حفص الموريتاني المفتي الثاني للقاعدة، وأكده
أيضا أبو جندل الحارس الشخصي لأسامة بن لادن والذي قال بالنص: (إن القاعدة
تقيم علاقة مع الحكومة الإيرانية لأن عدوهما واحد وهو الولايات المتحدة الأميركية).
ومن الغرائب التي كشفها الشريف أن الكتاب الذي أصّل للكثير من أعمال القاعدة
وهو (إدارة التوحش) قد ألفه الشيخ محمد خليل الحكايمة القيادي والمنظّر المعروف
في القاعدة، والذي كان في الوقت نفسه يعمل في (إذاعة طهران)! للمراجعة
http://www.youtube.com/watch?v=3J2NPC48pK8
ولقد بات من المسلمات أن أغلب قيادات القاعدة قد أقامت في إيران وبشكل رسمي
خاصة بعد سقوط حكومة طالبان، من بينهم أعضاء في مجلس شورى التنظيم، إضافة
إلى عدد من أفراد عائلة ابن لادن (إحدى زوجاته وبعض بناته وابنه سعد)، وكذلك
صهره القيادي البارز سليمان أبو الغيث، والذي ألقي القبض عليه في الأردن بعد
خروجه من إيران في ظروف غامضة! وكذلك أبو حفص الموريتاني وأبو الخير
المصري وغيرهم، وكلهم من الصفوف القيادية الأولى، وقد بات من المؤكد أيضا أن
الزرقاوي قد دخل العراق قادما من إيران، فإيران أصبحت ملاذا آمنا للقاعدة وجسرا
لعبورهم (من وإلى). وأذكّر هنا بقصة ابنة أسامة بن لادن والتي لجأت قبل أعوام إلى
سفارة المملكة العربية السعودية في طهران طالبة السماح لها بالسفر إلى السعودية
أو إلى أية دولة عربية، وقد نقلت الجزيرة وغيرها من الفضائيات والوكالات العالمية
هذا الخبر دون متابعة النتائج. إن أخطر ما جاء في اعترافات الشريف والموريتاني:
أن التنظيم بعد أحداث 11/9 وسقوط حكومة طالبان قد أصبح ورقة تفاوضية رابحة
بيد الإيرانيين، في علاقاتهم مع الأميركيين ومباحثات الملف النووي، وكذلك في
تهديدهم للدول العربية. في العراق هناك حالة شاذّة تتجاوز الاتفاقات السياسية أو
الأمنية، وقد سجّلها باعتراض شديد قاضي (الدولة) السابق محمد الثبيتي المعروف
بأبي سليمان العتيبي في رسالته لشيوخ القاعدة في (خراسان) والتي جاء فيها
انتقاده لعقيدة أبي حمزة المهاجر بالنص: (ولقد صرح لي أكثر من مرة بعد مناقشته

3

في مثل هذه الأمور بقوله: ما بقي شيء على ظهور المهدي حتى إنه أمر بعض
الإخوة بأن يصنعوا له منبراً ليرتقيه المهدي في المسجد الأقصى)، وقد أكّد لي أحد
شيوخ الفلوجة المعروفين أنه رأى صورة هذا المنبر عند المهاجر وكان يحملها في
جيبه! يذكر أن الثبيتي أو العتيبي هذا هو من قام بنفسه بإحراق ثلاثة من شباب
السنّة في محافظة صلاح الدين وهم أحياء بتهمة الردّة! بحسب اعترافه، والشريط
المصوّر والمنشور يثبت ذلك بالصوت والصورة! إن الواجب الديني والأخلاقي على
من بقي من قيادات القاعدة بعد خروج الشريف والموريتاني واعتقال الآخرين أو
قتلهم أن يكشفوا للأمة حقيقة تلك الاتفاقات أو تلك الخروقات، أما الاختباء خلف
ضرب عوام الشيعة في الأسواق والحسينيات والمآتم فقد أصبح أوهن من ورقة
التوت، بعدما ما تبين أن هذه العمليات كانت ضمن مخطط إيران لاستيعاب (الشيعة
العرب) وعزلهم عن محيطهم القومي، بل وتأليبهم ضد هذا المحيط. إن الكارثة التي
لا يختلف عليها اثنان أن مشروع الثورة السورية قد تراجع كثيرا بسبب سلوك
القاعدة (داعش) ومحاربتها علنا لكل فصائل الثورة، وهذا الشيء نفسه قد حصل مع
المقاومة العراقية، فلا يكاد يوجد فصيل واحد إلا وتعرّض للأذى والحرب من قبل
(الدولة) في حين لم تسجل أية حالة احتراب بين أي فصيل وفصيل آخر مهما كانت
الخلافات السياسية أو الثقافية، وهذا بحق مفخرة من مفاخر المقاومة العراقية
وشقيقتها الثورة السورية، والتي أثبتت الأيام نزاهتهما وبعدهما عن أية علاقة كتلك
التي يتحدث عنها الشريف والموريتاني والعدناني رغم ما تشيعه عنهما أبواق
(داعش) كجزء من (جهادها الإعلامي)! أما ثورة الأنبار وعلاقتها بهذا الملف فهي
بحاجة إلى وقفة خاصة، وهناك معلومات واستنتاجات في غاية الخطورة، ربما
ستكشفها الأيام القادمة والنتائج التي سيلمسها الناس على الأرض. إنه لمن المؤسف
أن تتمكن إيران من تجنيد شباب العرب ضدّ العرب بأنظمتهم وثوراتهم وعلمائهم
ومثقفيهم، وفي الوقت ذاته تحمي أرضها وشعبها ومصالحها، ثم بعد ذلك تطلب من
العالم معاقبة العرب على سوء تربيتهم لأبنائهم! وأخيرا تفاوض الغرب على مفاعلها
النووي ومصالحها الاقتصادية مقابل قدرتها على ضبط (الإرهاب) وكبح جماحه
وتقديم المعلومات الكافية عنه! ووفق هذه المعادلة المعقّدة لا ندري أنلوم الأنظمة

4

العربية وأجهزتها العاجزة والكسيحة، أم نلوم الشعوب التي ما زالت تحكمها العاطفة
ويغيب عنها الوعي بحالها وحال العالم من حولها.




التاريخ والتجديد

التاريخ والتجديد الدكتور عبد الكريم بكار
مقال مدقق
من المشهور بين الناس أننا نقرأ التاريخ من أجل الاستفادة من عظاته ودروسه، وحتى نتمكن من
مقارنة أحوالنا بأحوال من سبقنا؛ فنزداد بصيرة وخبرة بما يجب أن نفعله، وبما يجب أن نتركه،
وهذا المشهور لا شكّ في صحته، وإن كان من يستفيد من عبر التاريخ دائمًا قلة؛ لكن هناك لفهم
التاريخ ووعي معطياته فوائد أخرى مهمة، في مسائل التربية والإبداع، والتجديد، واستشراف
المستقبل، والتعمق في فهم العلوم..

ولعلي أشير إلى شيء من هذا عبر الملحوظات الآتية:

  • الأمم العظيمة تستخدم التاريخ أداةً للتوجيه وأداةً للتربية؛ إذ تتخذ من إنجازات الآباء والأجداد،
    ومن سير العظماء – محفِّزات على السموِّ والعطاء والاستقامة، وهذا – إذا سلم من المبالغة والتهويل
    والقراءة المنحازة – يُعدُّ شيئًا مفيدًا وجيدًا.

المربون والمعلمون والدعاة يختلفون اختلافًا واسعًا في توظيف ما يُعد مصلحة معرفية وأخلاقية،
فمنهم من يستخدم تلك الحصيلة للبرهنة على فضل السلف وانحطاط الخلف! ومنهم من يستخدمها
من أجل تعليم الناشئة الإذعان للمجتمع والتكيف مع الظروف الحاضرة، وقليلون أولئك الذين
يوظفون المستخلَصات التاريخية في إيقاظ الوعي، وتدعيم الحس النقدي، والحفز على الوصول إلى
شيء جديد، وسبب ضآلة هذا النوع من التربية والتعليم يعود إلى أننا حين نقرأ التاريخ لا نتوقع منه
أن يساعدنا في فهم واقعنا وتطوير هذا الواقع.

إن الكثير من شبابنا منغمسون في تلبية الرغبات الآنية، أو غارقون في هموم تأمين الحاجات
الضرورية، والبعض الآخر منهم حائر في أمره ومستقبله! ومن مهام التاريخ حين يُدرّس بطريقة
صحيحة أن يساعد الناشئة على الانفصال عن الواقع، وأن ينقذهم من الضياع في معطياته.

إن التاريخ يدرس الآن على أنه سلسلة أحداث التاريخ عبر سرد متماسك، يربط المعاصرين
بأسلافهم، ويسلط الضوء على سلسلة التطورات الإيجابية والسلبية التي صنعت الفرق بين مرحلة
ومرحلة، وبين جيل وجيل، وهذا يتطلب أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه، وأن نثير الأسئلة حول
أسباب وقائعه وأحداثه، ونبحث عن العلل والمقدمات والجذور، ونكتشف سنن الله – جل وعلا – في

الاجتماع البشري، ونجلو طبيعة النفس البشرية في إقبالها وإدبارها، إن التاريخ حين يُدرس بهذه
الطريقة، يحسّن مستوى البصيرة لدى المتعلمين، ويمكنهم من امتلاك الأدوات التي ينقدون بها
الواقع الذي يعيشون فيه عوضًا عن أن ينجرفوا مع تياراته العاتية من غير أي قدرة على التأبّي
والممانعة.

إن نقد الواقع يساعدنا على بلورة ملامح الهوية التي تميّزنا عن غيرنا، كما أنه يفتح السبيل أمام
تطوير هذا الواقع وإخراجه من سياق التداعيات والتحوّلات العمياء التي تصنعها العولمة بإمكاناتها
الهائلة.

  • إن الهم الذي يسيطر على المدارس والجامعات اليوم هو إعداد خرّيجيها لسوق العمل؛ أي
    مساعدتهم على أن يكرّسوا عقولهم وطاقاتهم، وأن يكيّفوا اتجاهاتهم وميولهم مع ما يساعدهم على
    كسب لقمة العيش، أو بعبارة أخرى: تعدُّهم لأن يكونوا مسمارًا صالحًا في الآلة الكبرى التي يديرها
    رجال المال والأعمال، وهذا الاتجاه في التعليم مطلوب وإيجابي، لكن ينبغي أن نكون على وعي
    بالتأثيرات الجانبية السيئة لهذا التوجيه في التعليم وفي إعداد الناشئة للحياة.

إننا حين نعدّ الأجيال للتكيف مع سوق العمل، عن طريق تلقينهم معلومات تجعل منهم أشخاصًا
تقنيين تنفيذيين كما يجري الآن – فإننا نجعل منهم أشخاصًا عاجزين عن المساهمة في إيقاف
التدهور الذي تتعرض له مجتمعاتهم.

إن التطور الاجتماعي يتم بطريقة غير واعية، ومن مهام المثقفين – على اختلاف درجاتهم – أن
يساعدوا الأمة على تجاوز الأزمات الكبرى التي تتعرض لها من خلال تراكم الأخطاء والخطايا
الصغيرة والكبيرة للأجيال المتعاقبة، ولا يستطيع المثقفون والمتعلمون عامة القيام بهذا الدور إلا إذا
تلقّوا العلم على أنه تحرير وعتق من الاستكانة للقوى الغاشمة، ومن التقليد الأعمى للآباء والأجداد،
وإلا إذا تلقّوه على أنه وسيلة للتكيف مع الواقع، ووسيلة لترشيده وتحسينه أيضًا، ومما يساعد في
بلوغ هذا العمل على إضفاء الطابع الأخلاقي والإنساني على المعرفة والتقنية، فالعلم للعمل ولخدمة
الناس ونصحهم وتصحيح أوضاعهم. يجب أن نعلم الناشئة الدور التاريخي الذي قام به العلم في بناء
الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية، إضافةً إلى توضيح دور العلم في تكوين الرجال العظام على
امتداد التاريخ الإسلامي، يجب أن يطلع الناشئة على تاريخ الحركات الإصلاحية الكبرى، وعلى
العوامل والأسباب التي تساعد على نشوء الأفكار العظيمة ذات الطبيعة الاختراقية إذا ما كنا نريد
للتاريخ وللعلم أن يساهما في تجديد الأمة ودفعها نحو الأمام.

  • في بنائنا المعرفي ثغرات واضحة، لا تخطئها عين الناقد، وتلك الثغرات كثيرة، ولعل من أهمها:
    إهمال تاريخ العلوم، وإهمال اكتشاف مقاصد التشريع، إضافةً إلى التقصير الظاهر في التعرف على
    سنن الله تعالى في الخلق، والتقصير في معرفة طبائع الأشياء، ولا سيما الطبيعة البشرية.

إن العلوم الإنسانية والعلوم البحتة كذلك تُقدَّم للناشئة مبتورةً من بُعْدِها التاريخي؛ فتبدو وكأنها
تكونت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن؛ حيث لا يعرف الدارسون تاريخ نشوئها ولا
الأطوار التي مرت بها، كما لا يعرفون شيئًا ذا قيمة عن العلماء الكبار الذين تركوا بصماتهم عليها،
ولهذا فإنك لا تشعر أن ما نقدمه في المدارس والجامعات يبني عقولاً منهجية، أو يبني شخصيات
تتمتع بالاستقلال الفكري والمعرفي، وما ذلك إلا بسبب شعورهم بضآلة ما يتلقونه وغموضه.

إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفهم أي علم على نحو عميق، إلا إذا فهمنا تاريخه وخارطة تكوينه
وتحوّلاته، ومن المؤسف أننا لا نبذل جهدًا يذكر في شرح كيفية تحدُّر الجديد من القديم، وليس لدينا
أي جامعة أو كلية أو معهد يقدم شيئًا متميزًا في تاريخ أي علم من العلوم!

إن التجديد المعرفي والاجتماعي سيكون صعبًا من غير الاطلاع على الأطوار السابقة لعلومنا
وأوضاعنا، إننا من خلال قراءة تاريخ العلوم نتعرف على بواعث الاجتهاد وبيئاته والعقبات التي
تواجهه، كما أننا ننمي لدينا حاسة المقارنة، ونكتسب المزيد من المرونة الذهنية، والمزيد من القدرة
على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وقد صدق من قال:”إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى
الماضي”؛ إذ تمكّننا معرفة الماضي من اكتشاف السنن التي تجسد العلاقة بين ما فات وبين ما هو
آت، ومن خلال هذا وذاك نكتشف آفاقًا جديدة للتطوير، ونفتح حقولاً جديدة للممارسة، وقد آن
الأوان للعمل على استدراك بعض ما فات، والعمل على توظيف التاريخ في تغيير نوعية الحياة
لمئات الملايين من المسلمين.