بسم الله الرحمن الرحيم
روى الإمامان البخاريّ ومسلم في حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “كنّا معشر قريش قوماً نغلب النّساء، فلمّا قدِمنا المدينةَ وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم … فتغضّبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟! فو الله إنّ أزواج النبيّ – صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة (ابنته)، فقلت أتراجعين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت نعم. فقلتُ: أتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟! قالت نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله – صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً، وسلينى ما بدا لك…”.
وقد دلّ هذا الحديث على أمور عديدة منها:
1. أنّ العلاقة الزوجيّة لدى أهل مكّة القرشيين، كانت قائمة على أساس غلبة الرجال للنساء؛ فالكلمة كلمة الرجل، والشأن شأنه، والصوت صوته، ولا صوت للمرأة يعلو مع صوته، ولا شأن لها فيما يفعله وفيما يتركه.
2. أنّ الأمر عند أهل المدينة كان على خلاف هذا، فالأنصار قوم تغلبهم نساؤهم، أو نقول: كان الأنصار يتركون الغلبة لنسائهم؛ فلهن شأن مرفوع، ولهن رأي مسموع، ولهن نفوذ مع أزواجهن. وهذا هو السلوك الذي وصفه عمر بأنّه “أدب نساء الأنصار”، كما في رواية للبخاريّ، وبفضل هذه المكانة المحترمة للمرأة المدنيّة الأنصاريّة، تميّز نساء الأنصار بشجاعتهنّ في البحث والسؤال عن أحكام دينهنّ الجديد، حتّى فيما يشوبه الحياء والخجل والتحرّج. وها هي القرشيّة أم المؤمنين رضي الله عنها تشهد للأنصاريات بذلك، حيث قالت: “نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين ويتفقّهن فيه”.
3. أن النساء القرشيّات المهاجرات إلى المدينة بدأن يتأثّرن ويقتدين بنساء الأنصار، في ممارسة نوع من الغلبة أو المغالبة، وذلك بمزاحمة أزواجهن في الرأي والقرار والمعاملة.
4. أنّ معاملة رسول الله وعلاقته بنسائه كانت على نحو ما عند الأنصار وعلى وفق” أدب نساء الأنصار”. أو بعبارة أصحّ؛ كان أدب الأنصار ونساء الأنصار على وفق الهدي والأدب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يسمح ويتحمّل أن تناقشه أيّ واحدة من زوجاته، وأن تراجعه في رأيه وتصرّفه، وأن تهجره طيلة النهار، تعبيراً عن مغاضبة ومعاتبة، أو لأجل طلب لم يستجب لها فيه …
5. أنّ زوجة عمر رضي الله عنها وعنه، بدأت تتأسّى بالنموذج النبويّ، وبالنموذج المدنيّ، وسندها في ذلك ما كانت تسمعه من ابنتها حفصة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلذلك تشجّعت وأقدمت على مراجعة عمر في شأن من شؤونه، رغم شدّته المعروفة، ورغم صخبه وغضبه عليها.
وعموماً نستطيع أن نقول: إنّ هذا الهدي النبويّ المتّسم بالاحترام والتكريم والتسامح والإيثار في معاملة المرأة، وكذلك خُلق الأنصار مع نسائهم، المطابق للهدي النبويّ… إنّ هذا قد أحدث نقلة نوعيّة في معاملة النساء في البيئة العربيّة التي كانت سمتها السائدة هي غلبة الرجال للنساء.
بل إنّ غلبة الرجال للنساء وسيطرتهم عليهنّ، هو الوضع السهل السائد لدى عامّة الأمم والشعوب، قديماً وحديثاً. وليس في هذا أيّ فضل أو مزيّة أو رقيّ، بل الفضل والمزيّة والرقيّ هو ما يتحقّق في عكس ذلك، فلهذا جاء الإسلام ينقل النّاس ويدرّبهم على ما فيه الفضل والمزيّة والرقيّ. وهذه النقلة والترقية ليست بالشيء الميسور على من اعتاد خلافها فرديّاً وجماعيّاً، وهذا واضح في موقف عمر، وما حكاه عن قومه وعن نفسه، رضي الله عنه، فهو حتى حينما تحقّق من نمط المعامة السائدة بين رسول الله وزوجاته، وحتّى حينما “غلبته” زوجته (عاتكة) بقوّة حجّتها، فإنّه لم يستسغ الأمر، ولم يرض من ابنته خاصّة أن تتجرأ على رسول الله بالمراجعة والمغاضبة، حتّى في حياتهما الزوجيّة.
وقد أخرج الإمام مالك في موطّئه “عن عاتكة بنتِ زيد بن عمرو بن نفيل – امرأة عمر بن الخطاب – أنّها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت، فتقول: والله لأخرجنّ إلا أن تمنعني. فلا يمنعها”. إنّه المنطق الجديد والسلوك الجديد، بدأ يفرض نفسه، ويُعلِّم الناس الغلبة بالعدل والإحسان، بديلاً عن الغلبة بالقوّة والشدّة.
وفي سبيل ترسيخ هذه النقلة وقِـيَمها وثقافتها، نجد أيضا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»
فمعيار الخيريّة والأفضليّة هو معاملة الإنسان لأهله، أي: لزوجته وأهل بيته، فأفضل الناس ديناً وخلقاً هو أحسنهم معاملة لأهله، وأحسنهم خلقاً مع أهله، والعكس بالعكس.
وهذا الحديث يشير إلى وضع اجتماعيّ فاسد، ولكنّه سائد؛ وهو أنّنا نجد كثيراً من النّاس على قدر مرموق من حسن الخلق ومن حسن المعاملة، في علاقاتهم مع أصدقائهم وزملائهم ورفقائهم، فتجد عندهم الكثير من الرّقّة والبشاشة والأدب والإيثار والتسامح … ولكنّك تجدهم مع أهلهم وداخل بيوتهم على غير هذا، إن لم نقل على عكس هذا…!
وما زال كثير من الرجال يعتقدون أنّ من تمام رجولتهم وقوامتهم، أن يفرضوا إرادتهم واستبدادهم وغلبتهم وخشونتهم على نسائهم، ويعتقدون أنّ مراعاة آراء المرأة المخالفة لآرائهم، والتنازلَ عن رغباتهم لرغباتها، وخفض الجناح لها، هو نقصان وضعف لا يليقان برجولتهم ومكانتهم، فلأجل ذلك ولأجل هؤلاء قال عليه السلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»
على أنّ من مواريثنا الخلقيّة الجميلة التي مازالت تحتفظ بشيء من بقاياها في مجتمعاتنا الإسلاميّة، إيثار المرأة بالمساعدة والتقديم والنجدة، كما نجد – مثلاً – في مواطن الازدحام والانتظار، وعند الحاجة إلى مقعد للجلوس في القطارات والحافلات ونحوها، أو عند التبضّع في الدكاكين …
وهذا السلوك الكريم أصله في سنن الأنبياء، كما حكى القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِيّ حتّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّيّ لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص/23، 24]
مسألة ضرب النساء:
في هذا السياق الذي نحن فيه، لا بدّ أن ترِدَ مسألة ضرب الزوجات، المذكور في قوله تعالى {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِيّ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء/34]
فالآية يستفاد منها جواز ضرب الزوجة، فكيف يجتمع هذا مع ما تقدم كلّه من نصوص في تكريمها وتقديمها وحسن معاملتها؟
وللجواب عن هذا السؤال ورفع هذا الإشكال، أقول:
1. لا ينازع مسلم في أن أفضل تفسير وأرقى تطبيق للقرآن الكريم هو ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تزوّج النبيّ الكريم عشر نساء، من أعمار وصفات مختلفة، وعلى مدى زمنيّ يقترب من أربعة عقود، وها هي إحدى زوجاته – السيّدة عائشة – تروي لنا وتقول: “ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شيئاً قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عزّ وجلّ”.
وعن عبد الله بن زمعة ، قال : “وعظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الناسَ في النساء، فقال: يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ثم يعانقها آخر النهار ؟!”
2. هذا الضرب يترتّب على ثلاث مراحل، هو رابعها:
ف
أوّلها: أنّ هناك نشوزاً فعليّاً تخشى عواقبه، والنشوز هو تمرّد الزوجة على زوجها في معاشرته وقوامته، وأمّا عواقبه المحذورة، فهي دفع الزوج إلى الوقوع في الفاحشة، وهي كذلك احتمال الوصول إلى الطلاق وتشتيت الأسرة، قال ابن عاشور: “ومعنى {تخافون نشوزهنّ}: تخافون عواقبه السيّئة، فالمعنى أنّه قد حصل النشوز، مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه، لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال، فإنّ ذلك قلّما يخلو منه حال الزوجين”.
و ثانيها: اعتماد الوعظ والنصح مدّة من الزمن، لمعالجة هذا النشوز وإصلاح ما فسد من علاقة وسوء تصرّف.
و ثالثها: هجران المرأة الناشز، مدّة أخرى، عسى أن تنتبه إلى عواقب نشوزها.
والحقيقة أنّ هذه المراحل الثلاث التي وضعها الشرع قبل اللجوء إلى الضرب، إنّما هي حواجز حكيمة تمنع الوصول إلى الضرب، لمن كان لهم عقل وخلق، وبهذا لا يكاد يبقى لفكرة الضرب المذكورة في الآية إلا وظيفة تحذيريّة وقائيّة.
3. ومع هذا كلّه، أو بعد هذا كلّه، فإنّ الضرب لا يجوز بحال أن يقع في الوجه، ولا يجوز أن يكون لغير النشوز المتحقّق المستمرّ، ولا يجوز أن يكون ضارّاً ولا مؤثّراً في الجسم، فإن وقع شيء من هذا فهو عدوان يستحقّ فاعله العقاب في الدنيا والآخرة.