إنّ الاختلاف بين الخلق سنّة ربّانية في هذا الكون، وكما اختلفت أصناف المخلوقات من نباتات وحيوانات وجمادات وكواكب وسموات وأرضين، فقد اختلف خلق البشر وتفاوت من شخص لآخر، ومن أمّة لأخرى، في الأشكال والألوان والطباع والأخلاق والأديان…
وما كلّ ذلك إلا آية عظمى من آيات الله في خلقه، لا يدرك حكمتها إلا العالمون، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ الروم: (22)
وقد خلق الله عباده بهذه التنوّع الكبير للاختبار والامتحان في هذه الحياة ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، ولو شاء أن يكون خلقه نسخة واحدة لا يتمايز بعضهم على بعض في قليل أو كثير لفعل، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ هود: (118، 119)
وإذا كان الاختلاف بين الخلق في العقول والطبائع والتوجهات، أمراً لا مفرّ منه، فكيف ننظر إلى هذه الأمر؟ وكيف نتعامل معه وفق رضا الخالق سبحانه وتعالى؟
إنّ الحديث حول هذه الجزئيّة التي تمسّ حياة البشر كلّهم، لهو أمر في غاية الأهميّة في حياة الإنسان المسلم، فأنَّى لإنسان أن يعيش بسعادة في هذه الدنيا دون أن يعرف حكمة الله في خلقه مختلفاً عن غيره، أو الحكمة في خلق الآخرين يختلفون معه في كلّ شيء أكثر ممّا يتّفقون…
بل كيف سيقدر على العيش في هذا الوسط المتنوّع، إن لم يتعلّم كيف يتلاءم مع من حوله من خلال فهم واقع الحياة، وشروط العيش فيه بسلام… من هنا ندرك أهميّة إحاطة الإنسان بسنّة الاختلاف الربّانيّة وما يترتب عليها من آداب يتوجّب على الإنسان الالتزام بها تجاه الآخر… إنّ هذا التنوّع في توجّهات الخلق وطبائعهم هو الطريق نحو التكامل البشريّ، إن عرف الإنسان كيف يتعايش معه ويستفيد منه، وليس هذا التنوّع طريق الخلاف والشقاق والتنافر كما يظنّ أصحاب العقول القاصرة، والأفهام السقيمة.
ونحن المسلمين في حياتنا الإسلاميّة نوعان من الاختلاف: أحدهما ممدوح، والآخر مذموم، وقد وقع الخلط بينهما في عقول الكثير من الناس، فلم يميّزوا بينهما…
أمّا الاختلاف المحمود: فمثل الذي يكون بين المجتهدين في الأحكام الشرعيّة، كاختلاف الصحابة في اجتهاداتهم، ومن بعدهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، ممّا أدّى إلى تعدّد المدارس الاجتهاديّة والمذاهب الفقهيّة…
ورغم أنّ خطاب الشرع للمسلمين واحد، وهو القرآن والسنّة، فإنّ فيهما بعض التوجيهات والقواعد الكليّة التي تحتمل عدّة أحكام واتّجاهات، وقد كانت مقصودة للمشرّع الحكيم، ليتّسع على الناس دينهم، فعن أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال 🙁 إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها) حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.
ومن المقطوع به لدى كل أصحاب النظر والتبصر، أن فهم الناس لأدلة الشرع الحكيم، سيختلف من مكان لآخر تبعاً لاختلاف عقولهم وطبائعهم، فمنهم الروحانيّ الذي يفهم الحديث بمقاصده ومراميه الأخلاقيّة قبل كلّ شيء، ومنهم النصّيّ الذي يقف في حياته عند حدود الكلام، ويفضّل ذلك على البحث والتأويل، ومنهم أصحاب النزعة العقليّة الذين يتلقون الأوامر بعقولهم أولاً ويوازنون بينها وبين ما عندهم من معارف سابقة واطلاع على مقاصد الدِّين، ومنهم من يجمع بين هذا وذاك… ولكنّ النتيجة من ذلك كلّه موروث إسلاميّ متكامل وثروة تشريعيّة غزيرة الأحكام، أدّت إلى يسر الدّين وسعته للخلق كلّهم بجميع طبائعهم… فكان رحمة عامّة شاملة للأمّة، وهذا هو مفهوم السلف للاختلاف، فقد ورد عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنّه قال: “ما يسرّني أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا، لأنّهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة”.
وأمّا الاختلاف المذموم: فهو الاختلاف الذي يأخذ بيد أصحابه إلى الجدل الذي نهت عنه الأديان السماويّة كلّها، وأكثر نبّينا صلّى الله عليه من التحذير منه، حيث يتحوّل التنوع الاجتهاديّ إلى ساحة للأخذ والردّ والنقاش الفارغ بقصد نصرة الرأي والتعصّب للنفس أو المذهب أو الإمام… وعند ذلك تضيع مقاصد الدِّين ويلتبس الأمر على عامّة الناس، فيقعون في حيرة مريرة يفقدون معها القدرة على التفريق بين مقاصد الإسلام وحكمه، وبين شذوذات المتعصّبين التي يظهرونها للناس على أنّها دين الله الذي لا يحيد عنه إلّا ضالّ… وإذا انتشر هذا النوع من الجدل في أمّة من الأمم فهو شرّ محض ينبئ عن قرب زوال هذا المجتمع أو انهياره… قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) رواه البخاريّ، وقال أيضاً: (ذروني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاريّ.
وقد أخبرنا النبيّ صلوات الله وسلامه عليه بأنّ أصحاب المنهج الجدليّ البحت، الذي يأخذ بالأمّة إلى الهاوية، هم من أبعد الناس عن الله، وأبغضهم إليه، فقال: (إنّ أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم)…
وفي السنوات الأخيرة انتشر هذا النوع من الاختلاف انتشاراً كبيراً في المجتمع الإسلاميّ، حتّى غدا السّمة العامّة لحياتنا، بل وتحوّل إلى حروب طاحنة بين تيّارات ومناهج وصلت في بعض البلدان إلى حمل السلاح، وقتل الآخر، فقط على الطائفة والهويّة الدينيّة أو المذهبيّة، ومع مرور سنوات على هذا المنوال المقيت، فقد بدأت تتغير نظرة الكثير من أبناء جيلنا إلى الدِّين، بل وأصبح مفهوم الدِّين عند مجموعات لا يستهان بها من المثقّفين وغيرهم مفهوماً آخر غير الذي أراده الله ورسوله له، ولا منجاة لنا ممّا نحن فيه إلا بالحوار الشامل بين جميع تيّارات هذه الأمّة وأبنائها…
وعلى طلّاب العلم ودعاة الإسلام اليوم أن يشقّوا طريق السلام لأبناء هذه الأمّة الواحدة، عبر الحوار الهادف، والتعايش السلميّ، بصبر وتؤدة، بين طريقين آخرين لا يختلفان عن بعضهما في مجانبة الصواب وخطرهما على الأمّة والدّين، أحدهما طريق التطرّف والذي يسلكه أناس ضيّقو الأفق، لم يجدوا في الدِّين إلا مادّة للنقاش والجدل العقيم، والتبديع والتكفير ورفض وجود الآخر، بل وحمل السلاح عليه بحجّة الدفاع عن مفاهيم الدِّين… وبين طريق آخر هو نتيجة ردّة فعل حتميّة لسابقه، وهو طريق التهاون بتعاليم الدين وحدوده بحجّة المصلحة العامّة، حيث يحاول سالكوه محو الفوارق بين أبناء التيّارات الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، بل ميّعوا قضيّة الدِّين وجعلوه سلعة، على كلّ طرف أن يتنازل عن جزء منها ليتّفق مع الآخر بعيداً عن المبدأ المرتبط بقواعد الشرع، فأدّى بهم الأمر إلى إنكار وجود الخلاف في فهم الأدلّة الشرعيّة، واعتمدوا على أفكارهم الشاذّة المخالفة للواقع، فقاموا بمحاربة تراث الأمّة وتشويهه والاعتداء على أئمّته، وادّعاء أنّهم سبب الفرقة وضلال الأمّة وحروبها ونزاعاتها، بل وصل بهم الأمر إلى محاولة توحيد الأديان، وتمييع مفهوم الإيمان والتوحيد من أصله، كردّة فعل للتطرّف الذي يمثّله التيّار الأوّل… فهم كسابقيهم يمشون في طريق الهلاك دون أن يشعروا.
وبين الإفراط والتفريط يبحث رجال العلم والفكر عن طريق الخلاص الذي يعتمد فهم سنّة الله في اختلاف الخلق، والتعامل معها عبر الحوار الهادف الذي ينقذ الأمّة ممّا وقعت فيه من بلاء، دون تمييع للدِّين، كما فعل بعضهم، أو جعله وبالاً على الأمّة كما فعل بعضهم الآخر…
ولكن ما هي الخطوات العمليّة لنتخلّص من الجدل العقيم ونصل إلى الحوار الهادف الذي يؤسّس لبناء أمّة؟
أولاً: علينا أن نؤمن بأن الله خلق الناس مختلفين بشكل لا يجمعهم فيه إلا الله، وأنّ الله له حكمة في ذلك، فعلينا أن نعمل بمقتضى هذه المشيئة الربّانيّة، وننفّذ أوامر الله في التعامل مع الآخر، دون تجاوز للحدّ…
ثانياً: أن يعرف الدعاة أنفسهم أنّهم ليسوا أوصياء على الدِّين ولا على جنّة الله ولا ناره، وليعلموا أنّهم مبلّغون فقط، لا أقلّ ولا أكثر… ويكفي الإنسان شرفاً أن يكون مبلِّغا عن الله، فتلك وظيفة أشرف خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48) فقد حصر الله مهمّة نبيّه بالبلاغ، ونفى مسؤوليّته عنهم إن هم استجابوا أم لا…
وكرّر عليه هذا المعنى مرّات وكرّات لتبقى الدعوة صافية لا يشوب طريقها كدر ولا يأس فقال: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22] ،وقال في موضع آخر: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ الكهف (6)
وأنت أيّها الدّاعي كلّما غضبت وكاد اليأس أن يداخل قلبك تذكّر قول الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82).
ثالثاً: أن نتعلّم أن نقدم مصلحة الأمّة ووحدتها على اجتهاداتنا الخاصّة وقناعاتنا الشخصيّة، وهذا أبو ذرّ رضي الله عنه لمّا سمع تقديم عثمان بن عفان الخطبة على صلاة العيد أنكر عليه أيّما إنكار، ولكن لمّا حضر العيد القابل عمل بما أمر به عثمان، وعندما سئل عن ذلك قال: (نعم، ولكن الخلاف أشدّ).
رابعاً: علينا أن نختلف بعقلانيّة، ونحترم الآخر، وإذا أردنا أن نصوّبه فعلينا أن نسلك أيسر طريق وألينها، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}… وقد أمرنا الله بحسن الحوار مع أهل الديانات الأخرى، فقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْل الْكِتَاب إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } العنكبوت (46)، فكيف بالجدال والحوار داخل الأمّة الواحدة، ثمّ علّمنا أسلوباً نحافظ من خلاله على مجتمعاتنا، وهو البحث عن النقاط المشتركة بيننا وبين أبناء الديانات الأخرى لتقليل المسافات بيننا، فقال: {وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
خامساً: علينا أن ننشر العلم والاستقرار في شتّى البقاع التي توجد فيها أمّتنا، لأنّ الجهل والاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة لها آثار مباشرة في تغيّر طبيعة المجتمع وفساد أخلاقه.
وقبل الختام لا بدّ لنا من نموذج للحوار المباشر مع الآخر والصبر عليه، مهما اختلفت الآراء وتباعدت الأفكار، فقد وردت مواقف كثيرة في كتاب الله، تصف هذا الأمر ،فمن ذلك في كتاب الله حوار نبيّ الله موسى عليه السلام مع فرعون، وحوار لوط عليه السلام مع قومه وحوار إبراهيم عليه السلام مع قومه ومع عبّاد الكواكب ومع أبيه، ولننقل حوار نبيّ الله إبراهيم لأبيه الذي ذكره الله في سورة مريم، ونأخذ منه العبر، قال تعالى ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)﴾.
وأخيراً: علينا أن ندرك أنّه قد حان الوقت لننبذ كلّ الخلافات الصغيرة التي بيننا، لأجل الهدف الكبير في توحيد الأمّة والسعي نحو مجدها وعزّتها.