الحياة هي النشاط والحيويّة، هي الليل والنهار، هي النور والظلام، هي الطيّبون والخبثاء، هي نوازع الخير والشرّ في النفوس البشريّة، هي المصالح المتضاربة، والطغيان المتوقّع.
(إنّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى) فالقوّة مظنّة الطغيان، فبمجرّد استغناء الإنسان، وعدم وقوف قوّة تمنعه، سيمضي وراء مصالحه لا يوقفه إلا عدم القدرة، أو الالتزام بالمبادئ والأخلاق، فالدّين والأخلاق تهذّب الطباع، لكنّها لا تغيّرها، كما أنّ المبادئ قابلة للتأويل والتحايل والتسويغ.
فحتّى تستقرّ الحياة وتتوازن، لا بدّ من التدافع الذي لا تستقيم الحياة لولاه (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251]
وقد قالها أجدادنا قديماً في المثل الشعبيّ: “قالوا لفرعون مَنْ فَرْعَنَكَ؟ قال: لم أجدْ من يردّني”. فحتّى تتوازن الحياة وتعتدل، لا بدّ من الثورة دائماً في وجه أنواع الظلم والفساد والاستبداد كلّها.
والحياة الكريمة لا تستقيم دون ثورات تحمي حياضها، عندما ترفع المرأة صوتها في وجه زوجها القاسي محتجّة.. فهذه ثورة، وحين يعترض العامل على سوء معاملته، وعلى هضم حقوقه، فهذه ثورة، حينما يطالب التلميذ بالعدالة مع زملائه فهذه ثورة، حينما يحتجّ المنتظر الواقف في (الطابور) الطويل على من يأخذ دوره.. فهذه ثورة، إنكار المنكر ثورة، والأمر بالمعروف ثورة.
حينما تطالب الشعوب المقهورة بالكرامة والحرّيّة والعدالة والمساواة ورعاية مصالحهم وحفظ حقوقهم هذه ثورة.
البشريّة كلّها تتقدّم في ميدان حقوق الإنسان والكرامة البشريّة، واحترام المواطن، وتبني الدول الحديثة التي تخلّصت من عقليّة الوصاية والتعامل كالسادة والعبيد الذين يعيشون في مزرعة السيّد، الذي يمنّ عليهم بالعطايا، وبنوْا دولاً ديمقراطيّة تستمدّ الحكومات مشروعيّتها من إرادة شعوبها عبر انتخابهم، وتتقرّب الحكومات من الشعوب بالتفنّن بتقديم الخدمات وترفيه مواطنيهم.
والمستبدّون العرب يسبحون بعكس تيّار الحياة، ويحاربون سنن التاريخ، ولن يستطيعوا الوقوف في وجه التقدّم الطبيعيّ، لن يستطيعوا إيقاف نموّ الأشجار، ولا إيقاف سقوط الأمطار.. لن يستطيعوا الوقوف في وجه الأقدار، لن يستطيعوا الاستمرار في استعباد الشعوب!!
لكن لا بدّ مع الأمل من العمل، فالحقوق لا تُعطى بل تُؤخذ، وما يسمّى (بالثورات المضادّة) أمر طبيعيّ متوقَّع، فإذا كان اللصّ الصغير الذي يسرق شيئاً حقيراً لا يستسلم، ويبذل قصارى جهده للفوز بمسروقاته، فماذا ننتظر من ظالم فاسد سارقٍ مقدّرات بلدان كاملة؟! هل نتوقع أن يستيقظ ضميره ويُسَلّم الجملَ بما حَمَل؟!
هل يتنازل عن مصالحه كلّها؟! ثمّ ماذا عن الطفيليّات التي تعيش على موائد المستبِدّ، هل تستسلم بسهولة هي الأخرى؟! من المؤكّد أنّهم سيحاربون للمحافظة على مكتسباتهم لآخر رمق!.
ومن الواجب أن نصبر على متطلّبات نيل الحقوق، ونصبر على مواجهة الظلم، بدل الدعوات الخائرة التي تطالب بالصبر على الظلم!.
ينبغي أن نطالب بالرضا بما يصيبنا عند إصلاح الواقع، بدل الدعوات للرضا بالواقع الآثم!.
علينا الانتقال من الاكتفاء بالدعاء -والاقتصار على أضعف الإيمان- إلى أعلى درجات الإيمان؛ إلى التغيير باليد، وبذل الغالي والنفيس، فالثورة مستمرّة ما دامت الحياة مستمرّة.