خلال مراحل العمر يغلب أن يمرّ طالب العلم بتجارب متنوّعة، ومن هذه التجارب تجربة الإجازات من المشايخ والعلماء، حيث أولعتُ في فترة من عمري بجمع الإجازات والأسانيد العالية، وخَبَرْتُ القضيّة جيّداً، فكنّا نطوي -مع أصحاب لي- المسافات الطويلة طلباً لإجازة، أو إسناد عالٍ، فنقابل العلماء، ونطلب منهم الإجازة إحياءً لسنّة السند الذي ميّز الله بها هذه الأمّة، وغيرها من الكلمات المحفوظة في هذا السياق، فيعطونا إجازات مكتوبة، بعضها أكثر من عشر صفحات، مليئة بأسماء كتب الحديث وبقيّة العلوم الشرعيّة، ممّا لم أقرأه ولم أطّلع عليه أصلاً! ثمّ استيقظتُ بتنبيهٍ من بعض الأفاضل، وركّزتُ جهدي على طلب العلم، وتركتُ الهَوَس بجمع الإجازات!
كثيراً ما تضيع البوصلة عندنا، فنخلط بين الوسائل والمقاصد، حيث كانت الإجازة وسيلة تمثّل الشهادة لطالب العلم بإتقان علم أو سماع مرويّ، ثمّ أصبحت غاية ضاع معها المقصد.
وكان الإسناد للتوثيق والتأكيد، لذلك كان الرواة يطلبون الإسناد العالي في الرواية (وهو الإسناد قليل عدد الرواة)(1) لتقلّ إمكانيّة الخطأ على الرواة، وانتهى عصر التدوين وتناقلت الأمّةُ الكتبَ التي جمعتِ السُّنةَ النبويّة الشريفةَ، وحفظوها ونقلوها محفوظة في السطور والصدور، ولم يعد للأسانيد تلك الأهميّة التي كانت قبل عصر التدوين، فالناس الآن تتناقل أمّات كتب الحديث بالتواتر، عبر ما يُسمّى في طرق تحمّل الأحاديث (الوِجادة) وهي أن تجد كتاباً فيه أحاديث جمعها شخص وأنت لم تلقَ المؤلّف وليس لك إجازة منه، ووثّقت بنسبة الكتاب إليه، فيجوز لك الرواية من ذلك الكتاب، على أن تشير أنّك تروي من كتاب وجدتَه لفلان، ولا توهم السامع أنّك سمعتَ تلك الروايات منه، وبهذا يظهر أنّنا نروي من كتب أمّهات الأحاديث في أيّامنا على سبيل الوجادة الجازمة بنسبتها إلى أصحابها، فهي منقولة لنا بالتواتر الذي تحيل العادةُ الكذب بنسبتها.
وأصبح في زماننا السند للبركة، والإجازات والإسناد العالي للتفاخر، مع الغفلة عن مقصد علم الحديث الشريف، وهو الفهم والاستنباط والعمل، وتشاهد ذلك عندما يجتمع المهتمّون بالإجازات، ويتفاخرون بها، فهذا يقول: “أجازني العالم الهنديّ فلان صاحب الإسناد العالي بكذا وكذا”، فيجيبه الآخر: “وأنا أجازني العالم المغربيّ فلان بكذا وكذا وإسناده أعلى”، وقد ذمّ علماؤنا القدماء ذلك وعابوه، ومن ذلك كلمة قاسية للإمام الذهبيّ، يقول فيها: “والمحدّثون: فغالبهم لا يفقهون، ولا همّة لهم في معرفة الحديث.. إنّما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة”(2) ومن الواضح أنّه يقصد طائفة من المشتغلين بالحديث ممّن يتّصفون بما ذَكَر، فلا يجوز تعميم تلك الأوصاف، فجهود السادة المحدّثين في جمع حديث رسول الله ﷺ مشهورة مأجورة مشكورة إن شاء الله، وكثير منهم جمع بين الرواية والدراية والحفظ والفهم.
وممّا ينبغي التنبّه له هنا التدليس الذي يفعله بعض طلّاب العلم، من أنّه يروي عن شيخ موهماً أنّه تلقّى عنه العلم أو الرواية، وهو في حقيقة الأمر مجرد مجازٍ منه إجازة، دون تلقٍ لشيء من العلوم التي يرويها أو يشرحها، وقد ذمّ العلماءُ التدليسَ، قال شعبة بن الحجاج: “التدليس أخو الكذب”.
ومن مظاهر انقلاب الوسائل إلى مقاصد الحرصُ على قراءة وإقراء أجزاء وكتب قيمتها العلميّة متدنيّة بالنسبة إلى غيرها، والسبب في ذلك توفّر إجازة وسندٍ في هذه الكتب.
فتسمعهم يحرصون على قراءةِ وإقراءِ أجزاءٍ حديثيّة غريبة الاسم والموضوع، ويتركون الأَولى منها والأجدر، من كتب الحديث ذات القيمة العالية، وما الدافع لقراءة وإقراء هذه الأجزاء الغريبة إلا توفّر إسنادٍ لها، مع أنّ كثيراً من هذه الأسانيد ضعيفةٌ لا يمكن الاعتماد عليها!
ومن أشكال هذه الظاهرة رواية الأحاديث المسلسلات (وهي التي تُرْوَى على هيئة وطريقة محدّدة) وليس ذلك بسبب القيمة العلميّة لهذه الروايات بل لِزَعْمِ توفّر إسناد وإجازة بتلك الرواية!
والمرجوّ والمطلوب من طلبة العلم الشرعيّ بمختلف تخصّصاتهم أن يحرصوا على الاطلاع على خلاصة أمّهات كتب الحديث ولو بقراءة سرديّة، بشرط أن تكون السرعة تعطي مجالاً لفهم معنى الحديث الشريف، ولو المعنى الإجماليّ الكلّيّ.
ولذلك لا داعي لقراءة الأسانيد لغير المتخصّصين بالحكم على الأحاديث (قبولاً وردّاً تصحيحاً وتضعيفاً)، حتّى اسم الصحابيّ (راوي الحديث) لا داعي لحفظه كما كنّا نُكَلَّف في أثناء طلبنا للعلم، ونتعب في ذلك، وتختلط علينا أسماء الرواة، وكلّ ذلك ممّا لا طائل تحته أصلاً، إلا إنْ كان اسم الصحابيّ (راوي الحديث) له علاقة بنصّ الحديث ومتنه.
ولا داعي لقراءة المكرّرات، لذلك فالأفضل أن يتمّ اختيار كتاب جامع لمتون أمّهات كتب الحديث دون تكرار، وأن تتمّ قراءة متون الأحاديث قراءةً متمهّلة فاهمة.
حتّى يسمع طالب العلم أحاديث النبيّ ﷺ، مرّة في العمر -على أقلّ تقدير- ليعرف مواضيعها ومَواضِعَها، ويحيط بالعناوين والأبواب، فيستطيع الرجوع إليها بسهولة، ويتذوّق أسلوب النبيّ ﷺ، وتتكوّن لديه مَلَكة في تمييز الحديث النبويّ الشريف عن غيره، ويحبّذ أن يكون القارئ عالماً متقِناً يعلّق تعليقاتٍ سريعة على الأحاديث التي قد تَشْكُلُ على الناس.
أمّا ما يحصل في كثير من الأحيان فهو أنّ الإجازة تحوّلت من وسيلة إلى مقصد في حدّ ذاتها، فلو تمّت قراءة كتاب من أمّهات كتب الحديث في (مجلس سماع) مثلاً، فلا يتمّ التركيز على إتقان معانيه أو لفظه، بل ما يحصل هو قراءةٌ سرديّة سريعةٌ أقرب (للهَذْرَمَة) لا يفهم السامعُ أغلبَها، ولو ادّعى شخص أنّه يفهم ما يُقرأ ولو كانت القراءة سريعة، فيُقال له: النادر لا عبرة به، فلا بدّ من النظر لغالبيّة الحضور، فلا قدرة للمستمع -عادة- على الاستمرار بالتركيز والفهم، نتيجة السرعة المفرطة التي لا تُبِين الحروفَ والكلمات، فيسهو المستمع وربما ينام! وبتتبع هذه المجالس ينتابك شعورٌ أنَّ همّ القارئ والمستمِع إنهاءُ الصفحات، كأنّها عقوبة يريد التخلّص منها! لينال في نهاية المجلس إجازةً بسندٍ عالٍ!
ومن أهمّ مظاهر تحوّل الوسائل إلى مقاصد جمع الروايات وإهمال المعاني والفقه والعمل بالحديث، رغم أنّه المقصود، وقد نبّه إلى هذه الآفة وغيرها الإمام ابن الجوزيّ، في كتابه الشهير تلبيس إبليس فقال: “من ذلك أنّ قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية، والمتون الغريبة، وهؤلاء على قسمين: قسمٍ قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وهم مشكورون على هذا القصد، إلا أنّ إبليس يلبّس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين، من معرفة ما يجب عليهم، والاجتهاد في أداء اللازم والتفقّه في الحديث.
فإن قال قائل: فقد فعل هذا خلق كثير من السلف، كيحيى بن معين وابن المدينيّ والبخاريّ ومسلم، فالجواب: إنّ أولئك جمعوا بين معرفة المهمّ من أمور الدين والفقه فيه، وبين ما طلبوا من الحديث، وأعانهم على ذلك قصر الإسناد، وقلّة الحديث، فاتّسع زمانهم للأمرين، فأمّا في هذا الزمان فإنّ طرق الحديث طالت، والتصانيف فيه اتّسعت، وما في هذا الكتاب في تلك الكتب، وإنّما الطرق تختلف، فقلّ أن يجمع أحدٌ بين الأمرين..
القسم الثاني: قوم أكثروا سماع الحديث، ولم يكن مقصودهم صحيحاً، ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق، وإنّما كان مرادُهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان ليقول أحدهم: لقيتُ فلاناً، ولي من الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري.. وهذا كلّه من الإخلاص بمعزل”(3).
نعم يمكن استخدام الإجازات كوسائل تحفيز وترغيب بطلب علمٍ ما، كالشهادات التي تُعطى في الدورات العلميّة والمهاريّة والتنمويّة، التي انتشرت في زماننا، وإن كانت هذه الشهادات قد حلّت محلّ الإجازات، وأغنت عنها في كثير من الأحيان، ومن قصص النجاح التي تُحسَب للإجازة في هذا السياق إجازاتُ حفظ القرآن الكريم، يَذكر شيخُنا الشيخ المقرئ أبو الحسن الكرديّ ؒ أّنه عندما أُجيز بالقراءات العشر في خمسينيّات القرن الماضي كان من النادر أن تجد من يحفظ القرآن الكريم في دمشق من الرجال، فضلًا عن النساء! فبحث العلماء والدّعاة عن طريقة تجعل الناس يُقبلون على حفظ القرآن الكريم، فاقترح الشيخ عبد الكريم الرفاعي ؒ على الشيخ أبي الحسن أن يفرد رواية حفص فقط بإجازة، (ولم يكن إفراد الإجازة برواية واحدة مشتهِراً عند قرّاء دمشق وقتئذٍ، بل كان القرّاء يجيزون بالقراءات العشر كاملة).
أُعجب الشيخ أبو الحسن بتلك الفكرة، واستشاروا بذلك شيخَ القراء في الديار الشاميّة وقتها الشيخ أحمدَ الحلواني ؒ فوافقهم على ذلك، وطُبعت الإجازة برواية حفص عن عاصم، ثمّ انتشرت وأقبل الناس على حفظ القرآن الكريم من الرجال والنساء لمّا رأوا الإجازة، وقرؤوا فيها السند العظيم الذي يصل إلى رسول الله ﷺ، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن ربّ العزة تبارك وتعالى(4).
فالإجازةُ شهادةٌ بأنّ فلاناً قد أُجيزَ بعلم ما، مسنَداً كان هذا العلمُ أم غير مسندٍ، سواءٌ كانَ منقولاً عن عالم آخر أو من بطون الكتب أو من جامعة أو مدرسة أو دورة أو من أفكارِ الباحثِ أو العَالِمِ نفسِه، وقد تكون الإجازة في علوم الآلة أو في العلوم الشرعيّة الرئيسة.
وقد تطوّر مفهوم الإجازة من صورته الفرديّة، المقتصرة على الإذن برواية بعض الأخبار؛ إلى كونها شهادة معتمَدة من جهة ذات مصداقيّة في علم من العلوم، تُظهر قدرة حاملها على الأداء العلميّ المتقَن في مجال تخصّصه.
ثمّ تطوّرت في عصورنا المتأخّرة إلى مئات الأنواع، بحسب تخصّصاتها، والجهات المشرفة عليها، والسنوات المبذولة فيها، والمستويات المندرجة تحتها، وغير ذلك من الاعتبارات.
وهذا النوع من “الإجازات” هو الذي ينبغي الاهتمام به، والتفتيش عنه، الإجازات التي تنظّمها القوانين والأنظمة المنضبطة، وتشرف عليها جهات معتمَدة، ذات مصداقيّة عالية في تخصّصها وأمانتها وسمعتها بين الناس، كالجامعات المرموقة، والمعاهد المتخصّصة، والمراكز العالميّة، ونحوها من المؤسّسات الشرعيّة وغير الشرعيّة، أو أفراد العلماء والمشايخ الذين يتثبّتون فيما يمنحون من إجازات وشهادات، المهم أن تُثبت الإجازة لحاملها أنّه ترقَّى في تحصيل العلم بين يدي أهله المتخصّصين، ضمن أنظمة رقابيّة، تضمن تحقّق الحدّ الأدنى من الكفاءة المطلوبة.
أمّا الإجازات التي أشرنا إليها واشتهرت لدى بعض المشتغلين بالعلوم الشرعيّة، التي يتمّ فيها منح حقّ الرواية والتدريس من غير تثبّت من أهليّة المجاز وتمكّنه ممّا أُجيز به؛ فهي من الصور الضعيفة التي لا ينبغي التعويل عليها في توثيق حاملها والأخذ عنه(5).
يقول الشيخ عبد الله الجديع حفظه الله متحدّثاً عن الإجازة في علم الحديث: “توسّع فيها المتأخرون، وزادوا في أنواعها، وأدخلوا فيها صوراً منكرة، شبيهاً بما أدركناه اليوم من طائفة يقتني أحدهم كرّاساً جُمِع فيه له أو جَمَع لنفسه أسماء مصنّفات عدّة، كالصحيحين والسنن، له بمضمون ذلك الكرّاس إجازة من شيخ له، أن يروي تلك الكتب عنه، وذلك بإسناد لذلك الشيخ عن شيخ له، ويقع في السلسلة من هو معروف من علماء المتأخّرين بالإسناد، ينتهي الإسناد إلى إمام من أئمّة الحديث، كالحافظ ابن حجر أو غيره، ومنه إلى الأئمة المصنفين لتلك الكتب. والعيب في هذه الإجازات أنّ الطالب يجاز بمجرّد أسماء لكتب، لا يجاز بمضمون، بل من هؤلاء المجازين من لم يطّلع على مضمون، ولم يرَ الكتاب الذي أُجيزت له روايته عمره، بخاصّة بعض الأجزاء الحديثيّة التي هي في عداد المفقود، فعجباً لأحدهم يقول بعد ذلك: “لديّ برواية صحيح البخاريّ إجازة، وأنا أروي جامع الترمذيّ عن مسند العصر فلان”، ما أراه والله إلا يكذب في دعواه! فإنّه لو قرأ البخاريّ أو الترمذيّ وحفظهما فإنّه إنّما تلقّاهما بالطريق الذي تلقّاهما به سائر الناس، وهو هذه الوجادات عن الأصول الخطيّة والنسخ المنتهية أصولها إلى قرون عدّة، فأيّ فضل في هذا لإسناد هذا المسكين، وأيّ صدق في دعواه: أَرْوي هذا عن فلان، ما هذا إلا من تشبّع الإنسان بما لم يُعطَ، ولا عجب، فكثير من هؤلاء المُجِيزينَ والمُجَازِينَ ممّن لا حظّ لهم في هذا العلم”(6).
____________________
1) مثلاً: لو كان بين الراوي وبين النبيّ ﷺ ثلاثة رجال يكون الإسناد أعلى من أن يكون الإسناد فيه خمسة رجال بين الراوي وبين النبيّ ﷺ.
2) زَغَل العِلْم، الإمام الذهبيّ، ص 27
3 ) تلبيس إبليس، ابن الجوزيّ، ص: 105
4) ينظر مقال: توضيح وبيان حول الإجازات القرآنيّة التي منحها الشيخ أبو الحسن الكرديّ، بقلم ولد الشيخ محمد نزار الكرديّ، المقال منشور في عدّة مواقع على شبكة المعلومات.
5) ينظر: الإجازات القرآنيّة وشروطها: رؤيّة جديدة مهمة، أحمد النبوي
6) تحرير علوم الحديث، الدكتور عبد الله الجديع، 1/152