قبل أيام جمعتنا ندوة علمية تحدَّث فيها أحد الأساتذة الفضلاء، وكانت عبارة
عن تطواف في تاريخنا الإسلامي بمسحة إيمانية ووعظية ظاهرة، وكانت
الفكرة المحورية التي يدور حولها المتحدث أن أجدادنا أنجزوا ما أنجزوا من
فتوحات وانتصارات بسبب تمسكهم بالدين، وبالمقابل فكل الهزائم والمحن
التي تحيط بنا اليوم سببُها البعد عن الدين، ثم راح يسرد من أوراقه ومن
ذاكرته الثرية عددا ليس قليلا من الحوادث والقصص، كان منها ما نسبه إلى
الصحابة -رضي الله عنهم – أنهم في إحدى المعارك قد أبطأ عليهم النصر،
فحثهم قائدهم على التدقيق في سلوكهم وعباداتهم إذ ربما أغفلوا سُنة من
السنن، وحينما نظروا في أنفسهم وجدوا أنهم قد نسوا سُنة السواك فبادروا
إليها، فلما رآهم العدو هربوا جميعا من دون قتال، ظنا أن المسلمين يحدُّون
أسنانهم لأكلهم! ثم راح يؤكد أننا – نحن المسلمين – لا ننتصر بالعدة ولا
بالعدد، إنما ننتصر بالله.
حينما نعرض هذا الكلام على بساط النقد، فإننا في الحقيقة لا ننقد هذا الكلام
بنفسه، وإنما ننقد هذه الظاهرة الطاغية في خطابنا الديني، فأستاذنا الفاضل –
جزاه الله خيرا – إنما هو ابن هذه البيئة التي ألِفت مثل هذا الخطاب حتى
أصبح جزءا من ثقافتها السائدة، فأنت تسمع مثل هذه القصة على منابر
الجمعة وفي مجالس الوعظ وبرامج التواصل وغيرها.
بدايةً، يمكننا الجزم بأن هذه القصة لا أصل لها، فهي باطلة من حيث السند
والمصدر، أما مضمونها فهو متهافت دينيا وعلميا وواقعيا، ومجرد التصديق
بها يعني أن هناك مشكلة كبيرة في عقل المسلم المعاصر من حيث قدرته على
التعاطي مع الأخبار والروايات التاريخية.
من الناحية الدينية، لا أدري إلى أين سنصل بتفكيرنا حينما نعتقد أن الله
يحجب نصره عن المسلمين إذا هم قصروا في مستحَب من المستحبَّات؟ مع
أن تعريف المستحب أو المندوب أو السُّنة أو النافلة – وكلها بمعنى متقارب –
: ما يُثَاب المسلم على فعله ولا يُعاقَب على تركه، فكيف يعاقب الله المسلمين
هذا العقاب ويؤخر عنهم النصر لتركهم نافلة من هذه النوافل؟ مع أن السواك
خاصةً قد توسع فيه علماؤنا، فهو يحصل عندهم بكل ما ينظف الفم ولو
2
بالإصبع الخشنة، كذا نص الإمام النووي وغيره، لكن الأهم من هذا: هل فعلاً
كانت كل الانتصارات الإسلامية خالية من الذنوب والمظالم مما هو معهود في
السلوك البشري؟ وهل العصمة مطلوبة من المسلمين لتحقيق النصر؟ ثم ألا
يرسخ مثل هذا الخطاب حالة اليأس والإحباط؟ إذ إن أكثر الدعاة تفاؤلا لا
يستطيع أن يتخيل مجرد خيال أن حال الأمة سيتحسن بالمستوى الذي تنشده
هذه القصة حتى بالنسبة لمجتمع الدعاة والمشايخ أنفسهم فضلا عن غيرهم.
أما ذلك الجيش الذي يفر من السواك ولا يفر من الرماح، ويخاف من العض
أكثر من السيف! فلا أدري أي جيش هذا؟ وأما قصة أن أسنان البشر تُحَد كما
تُحَد السكاكين لتكون أقدر على العض، فهذه لا تحتاج إلى تعليق، لكنها مؤشر
واضح على غياب الحس النقدي لدى القارئ، ولدى السامع أيضا. إن الخطاب
الديني ينطلق أساسا من عقيدة غيبية، لكن تصورات المتدينين عن علاقة
الغيب بعالم الشهادة ليست واضحة ولا تضبطها منهجية متفق عليها، إضافة
لاختلاط هذه الدائرة بالروايات والقصص والأساطير التي تحل لدى بعضهم
محل العقائد كما في قصة السواك مثلا.
كنت قد سمعت عن أحد الخطباء أنه حذر المصلين من دخول سبعة آلاف جني
يهودي أرسلتهم إسرائيل لتخريب عقول المسلمين بالمس ونحوه! ذهبت إليه
وسألته عن مصدر هذا الخبر؟! فأكد لي أنه سمعه عن شيخ ثقة كان يعالج
ممسوسا فنطق الجني على لسانه وأخبره بذلك، وأن هذا الجني واحد من
السبعة آلاف!
تصديق الشيخ بمثل هذا لا شك أنه مبني على مقدمات منها أنه يرى الجني
ولو كان يهوديا مصدرا موثوقا للمعلومات الغيبية! وأن الجن باستطاعتهم
التحكم بعقول البشر والعبث بها متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ومن ثم لا بد من
فتح مراكز لبث (الوعي الجني) على غرار الوعي السياسي والاقتصادي..إلخ
ثم فتح (عيادات جنية) لمعالجة آلاف البشر من ضحايا الغزو الجني، ولك أن
تتصور حال الناس في مثل هذه الفوضى العقلية والنفسية، ومدى اختلاط
الحق بالباطل، والناصح بالنصاب، والمعلومة الصحيحة بالخرافة..إلخ ثم ما
3
ردود فعل الآخرين من غير المتدينين الذين يرون أن كل هذه الفوضى كانت
بسبب الدين أو التدين؟
المشكلة لا تقف عند هذا، فهناك فوضى أخرى وخراب ودمار امتزجت أيضا
بالخطاب الديني، حيث تصدت مثل هذه العقول للشأن العام، وصار الناس
يسمعون فتاوى وبيانات ومواقف لا يمكن فهمها، وعلى سبيل المثال: تسمع
لأحدهم وهو يهدد أميركا وروسيا والصين والعالم كله، بل ويدعو إلى قلع
الأنظمة الحاكمة لأن (الكفر ملة واحدة)، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا
سألته عن عدته؟ قال: نحن لا نقاتل بعدد ولا بعتاد وإنما نقاتل بالله وننتصر
بالله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وما المانع أن الله ينصرنا على أميركا أو
الروس ولو بعود سواك أو حفنة من تراب؟ وربما يستدل هنا بقوله تعالى:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لأنه يفهمها قانونا إلهيا وليست خارقة
خاصة.
في مقابل هذا تجد من يفتي بالاستسلام التام، لأن هذه إرادة الله و(كيفما
تكونوا يولَّ عليكم) و(أن الكفار هم كلاب الله يسلطهم على عباده حينما
يغفلون عن طاعته) فالتغيير إنما يكون بإصلاح النفوس حتى تتأهل لرحمة الله
التي ستغير لنا كل شيء.
إن هذه لم تعد مواعظ مجردة، بل هي مشاريع وفصائل وجماعات، وقد انبنت
عليها مواقف خطيرة تتعلق بحياة الناس وأمنهم واستقرارهم، ومن ثم فإننا
أمام نتائج قد تكون أخطر وأكبر بكثير مما نتصور.
إننا بحاجة إلى إحياء المنهج الإسلامي الأصيل -وهو منهج السلف الصالح-
لتصفية العقيدة الثابتة في الوحي حصرا عن كل تلك الروايات والحكايات
المنسوبة إلى الجن أو إلى الإنس، ثم التمييز بين النظام الكوني الثابت الذي
ألزمنا الله به وبين الخوارق التي لا يمكن اعتمادها ولا القياس عليها لأنها من
صنع الله وليست من صنع البشر.