ربما تفاجأ الكثيرون بتصريحات أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم الدولة
الإسلامية في العراق والشام المعروفة بداعش، والتي جاءت بعنوان (عذراً أمير
القاعدة)، والتي اعترف فيها صراحة بأنه ودولته كانا ملتزمين بتوجيهات شيوخ
القاعدة القاضية بعدم التعرض لإيران ومصالحها، وبذلك (نَعِم الروافض في إيران
بالأمن والأمان) على حدّ تعبيره! بمبرر (الحفاظ على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها
في إيران)، أما مبرر هذا الالتزام فهو (للحفاظ على وحدة المجاهدين)! و(احترام
شيوخ الجهاد وما لهم من فضل وسبق). لقد نجح العدناني في كشف السر والإجابة
الصريحة عن السؤال المكرر: لماذا ضربت القاعدة السعودية واليمن ومصر والأردن
وتركيا وغيرها، بينما بقيت إيران سالمة مسلّمة! رغم حدّة الخلاف الديني والفكري
بين الطرفين؟! جاءت تصريحات العدناني هذه ردّاً على دعوات شيخ القاعدة أيمن
الظواهري لأمير (الدولة الإسلامية) أبي بكر البغدادي بضرورة العودة إلى بيت
الطاعة، وترك سوريا للسوريين أو لجبهة النصرة التي أعلنت فك ارتباطها بالدولة
ومبايعتها للظواهري، مما يعني في النهاية أن الخرق قد اتسع بين (دولة البغدادي)
و(قاعدة الظواهري) إلى حدّ كشف الخفايا والأسرار الخطيرة والتي قد تدين الطرفين
بمستوى واحد، فالعدناني الذي أراد إحراج الظواهري بهذه التصريحات قد أدان نفسه
أيضا ومن ناحيتين؛ الأولى: أنه أثبت -من حيث لم يشعر- صدق دعاوى الظواهري
بوجود بيعة ملزمة في عنق الدولة للقاعدة، وهذا ما تنكره الدولة بعد خلافها الحاد
مع النصرة، وإلا فما معنى هذا الالتزام المستمر بتوجيهات القاعدة في قضية يرى
العدناني أنها مدانة وأنها ألبستهم تهمة العمالة لإيران! أما الثانية: فإقراره صراحة
بأنه قد وفّر الأمن والأمان لمن يعتقد أنهم لا يستحقون ذلك، بل لمن لا يتردد في
وصف من يشتبه بالتقرب منهم بالردة والعمالة، وربما أقام الحدّ عليهم بقطع
الرؤوس وهدم البيوت! الخطير في خطاب العدناني هو اعترافه بوجود مصالح
وخطوط إمداد للقاعدة في إيران! وهو اعتراف مبتور ويخفي وراءه ملفات قد تتفتح
في يوم ما على يد منشقّ آخر، فخطوط الإمداد لا يمكن أن تكون هبة إيرانية أو صدقة
لوجه الله. الحقيقة أن هناك من سبق العدناني ومن قيادات عريقة ومتقدمة جدا لا
يصل إليها العدناني ولا أميره البغدادي، من بينهم المفتي الأول للقاعدة سيد إمام
2
الشريف والذي كشف عبر وسائل الإعلام عن (اتفاق زاهدان) المدينة الإيرانية
المعروفة والتي تم فيها الاتفاق بين مسؤولي اللجنة الشرعية في القاعدة وبين
المخابرات الإيرانية! وهذا ما أكّده أبو حفص الموريتاني المفتي الثاني للقاعدة، وأكده
أيضا أبو جندل الحارس الشخصي لأسامة بن لادن والذي قال بالنص: (إن القاعدة
تقيم علاقة مع الحكومة الإيرانية لأن عدوهما واحد وهو الولايات المتحدة الأميركية).
ومن الغرائب التي كشفها الشريف أن الكتاب الذي أصّل للكثير من أعمال القاعدة
وهو (إدارة التوحش) قد ألفه الشيخ محمد خليل الحكايمة القيادي والمنظّر المعروف
في القاعدة، والذي كان في الوقت نفسه يعمل في (إذاعة طهران)! للمراجعة
http://www.youtube.com/watch?v=3J2NPC48pK8
ولقد بات من المسلمات أن أغلب قيادات القاعدة قد أقامت في إيران وبشكل رسمي
خاصة بعد سقوط حكومة طالبان، من بينهم أعضاء في مجلس شورى التنظيم، إضافة
إلى عدد من أفراد عائلة ابن لادن (إحدى زوجاته وبعض بناته وابنه سعد)، وكذلك
صهره القيادي البارز سليمان أبو الغيث، والذي ألقي القبض عليه في الأردن بعد
خروجه من إيران في ظروف غامضة! وكذلك أبو حفص الموريتاني وأبو الخير
المصري وغيرهم، وكلهم من الصفوف القيادية الأولى، وقد بات من المؤكد أيضا أن
الزرقاوي قد دخل العراق قادما من إيران، فإيران أصبحت ملاذا آمنا للقاعدة وجسرا
لعبورهم (من وإلى). وأذكّر هنا بقصة ابنة أسامة بن لادن والتي لجأت قبل أعوام إلى
سفارة المملكة العربية السعودية في طهران طالبة السماح لها بالسفر إلى السعودية
أو إلى أية دولة عربية، وقد نقلت الجزيرة وغيرها من الفضائيات والوكالات العالمية
هذا الخبر دون متابعة النتائج. إن أخطر ما جاء في اعترافات الشريف والموريتاني:
أن التنظيم بعد أحداث 11/9 وسقوط حكومة طالبان قد أصبح ورقة تفاوضية رابحة
بيد الإيرانيين، في علاقاتهم مع الأميركيين ومباحثات الملف النووي، وكذلك في
تهديدهم للدول العربية. في العراق هناك حالة شاذّة تتجاوز الاتفاقات السياسية أو
الأمنية، وقد سجّلها باعتراض شديد قاضي (الدولة) السابق محمد الثبيتي المعروف
بأبي سليمان العتيبي في رسالته لشيوخ القاعدة في (خراسان) والتي جاء فيها
انتقاده لعقيدة أبي حمزة المهاجر بالنص: (ولقد صرح لي أكثر من مرة بعد مناقشته
3
في مثل هذه الأمور بقوله: ما بقي شيء على ظهور المهدي حتى إنه أمر بعض
الإخوة بأن يصنعوا له منبراً ليرتقيه المهدي في المسجد الأقصى)، وقد أكّد لي أحد
شيوخ الفلوجة المعروفين أنه رأى صورة هذا المنبر عند المهاجر وكان يحملها في
جيبه! يذكر أن الثبيتي أو العتيبي هذا هو من قام بنفسه بإحراق ثلاثة من شباب
السنّة في محافظة صلاح الدين وهم أحياء بتهمة الردّة! بحسب اعترافه، والشريط
المصوّر والمنشور يثبت ذلك بالصوت والصورة! إن الواجب الديني والأخلاقي على
من بقي من قيادات القاعدة بعد خروج الشريف والموريتاني واعتقال الآخرين أو
قتلهم أن يكشفوا للأمة حقيقة تلك الاتفاقات أو تلك الخروقات، أما الاختباء خلف
ضرب عوام الشيعة في الأسواق والحسينيات والمآتم فقد أصبح أوهن من ورقة
التوت، بعدما ما تبين أن هذه العمليات كانت ضمن مخطط إيران لاستيعاب (الشيعة
العرب) وعزلهم عن محيطهم القومي، بل وتأليبهم ضد هذا المحيط. إن الكارثة التي
لا يختلف عليها اثنان أن مشروع الثورة السورية قد تراجع كثيرا بسبب سلوك
القاعدة (داعش) ومحاربتها علنا لكل فصائل الثورة، وهذا الشيء نفسه قد حصل مع
المقاومة العراقية، فلا يكاد يوجد فصيل واحد إلا وتعرّض للأذى والحرب من قبل
(الدولة) في حين لم تسجل أية حالة احتراب بين أي فصيل وفصيل آخر مهما كانت
الخلافات السياسية أو الثقافية، وهذا بحق مفخرة من مفاخر المقاومة العراقية
وشقيقتها الثورة السورية، والتي أثبتت الأيام نزاهتهما وبعدهما عن أية علاقة كتلك
التي يتحدث عنها الشريف والموريتاني والعدناني رغم ما تشيعه عنهما أبواق
(داعش) كجزء من (جهادها الإعلامي)! أما ثورة الأنبار وعلاقتها بهذا الملف فهي
بحاجة إلى وقفة خاصة، وهناك معلومات واستنتاجات في غاية الخطورة، ربما
ستكشفها الأيام القادمة والنتائج التي سيلمسها الناس على الأرض. إنه لمن المؤسف
أن تتمكن إيران من تجنيد شباب العرب ضدّ العرب بأنظمتهم وثوراتهم وعلمائهم
ومثقفيهم، وفي الوقت ذاته تحمي أرضها وشعبها ومصالحها، ثم بعد ذلك تطلب من
العالم معاقبة العرب على سوء تربيتهم لأبنائهم! وأخيرا تفاوض الغرب على مفاعلها
النووي ومصالحها الاقتصادية مقابل قدرتها على ضبط (الإرهاب) وكبح جماحه
وتقديم المعلومات الكافية عنه! ووفق هذه المعادلة المعقّدة لا ندري أنلوم الأنظمة
4
العربية وأجهزتها العاجزة والكسيحة، أم نلوم الشعوب التي ما زالت تحكمها العاطفة
ويغيب عنها الوعي بحالها وحال العالم من حولها.