بسم الله الرحمن الرحيم
مشوشات حول الديمقراطيّة
ليس المقصود بهذا المقال التزلّف للغرب، كما يشاع عند أيّ حديث عن
الديمقراطيّة.
ولكنّ المقصود هو إعادة النظر في طريقة تعاطينا النمطيّ المجتزأ مع
الأفكار والمنظومات السياسيّة ذات المنشأ الغربيّ، إن صحّ التعبير،
وبخاصّة بعد هذه الخسارات الكبرى التي نكبت بها الحركات الاسلاميّة، إن
كانت هذه النكبات لظروفٍ موضوعيّة، أو لعوامل ذاتيّة، وهي الأكثر
خطورة لتعقّد التحليل والعلاج.
ومن هذه العوامل الذاتيّة الإصرار على ضبابيّة المشروع السياسيّ
(الإسلاميّ)، وطرحه بطريقةٍ رماديّة وفق فقه الضرورات، وخوضه
بأدوات غير رقميّة، أو قابلة للقياس، ممّا يؤديّ إلى الشتات والتشظيّ،
وكثرة الانشقاق والتصدّع،
عندما نذكر كلمة (الديمقراطيّة) ليس حبّاً بهذا المصطلح المركّب، ولا بأصله
اليونانيّ، ولا بفلسفات لوك وروسو وهوبز..
نحن فقط ننظر إليه بصفته مدخلاً ممكناً للاختيار السياسيّ من غير وصاية
ولا إكراه، كحقٍّ سياسيّ لكلّ مواطن، في بلدٍ يريد أن ينهض بمنظومته
الاجتماعيّة ومسيرته التنمويّة، شفافيّة بالمال وسيادةٌ للقانون، وضمانٌ
للحرّيّات، وهذا لن يتمّ بدون تعاقدٍ اجتماعيّ على أساس المواطنة، كصيغةٍ
قانونيّة تكفل التساوي بالحقوق والواجبات…
نرضى أو لا نرضى… حقّ الاختلاف الفكريّ معتبر…
ولكن هذا هو الاستحقاق السياسيّ الذي طالما هربنا منه، بألفاظ التعميمات
واستنساخ تجارب التاريخ.
ومن مشوّشات الديمقراطيّة:
أوّلاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي دِين، وبالتالي ليس لمسلمٍ أن يترك دين
الإسلام، ويتّبع دين الديمقراطيّة، وبهذا اللفظ البسيط الكفاية لإخراج كمٍّ هائلٍ
من الأمّة من الإيمان إلى الكفر، بل وتكفير كلّ المشاركين السياسيّين في أيّ
عمليّة ديمقراطيّة في العالم، إذ إنّهم بهذا يشاركون في التبشير بدينٍ غير دين
الإسلام يسمّى (دين الديمقراطيّة).
ويكفي للردّ على هذا الكلام أنّ الديمقراطيّة لا تنتمي لدينٍ ولا لمذهب، ولا
تؤصل أساساً للعلاقة بين الإنسان ومعبوده، وليس في كلّ أدبيّاتها أيّ
محتوًى دينيّ، وإنّما هي مجموعة من العمليّات المنسجمة التي تهدف
لممارسة العمل السياسيّ في جوٍّ من الحرّيّة والرضا الشعبيّ، وهي تأخذ
الطابع الدينيّ في كلّ بلدٍ من دين أهل ذلك البلد، فهي بوذيّة عند البوذيّين،
ومسلمةٌ عند المسلمين، ومختلطةٌ عند الخلطاء.
ثانياً: يقولون إنّ الديمقراطيّة تتنافى مع تطبيق الشريعة؛ لأنّها تضع
الحاكميّة للشعب، وليس لله.
والجواب عن هذا: إنّ الحاكميّة شيء، وتطبيق الشريعة شيءٌ آخر،
فالحاكميّة هي وجوب رجوع المسلم للشريعة في أحواله كافّة، ولكنّه في
الوقت نفسه محكوم بظروف القدرة والاستطاعة، ومنها تطبيق الشريعة،
فقد لا يستطيع المسلمون في كلّ زمن أن يطبّقوا الشريعة، إمّا لضعفٍ أو
لعجزٍ، ولكنّ هذا لا يمنعهم من أن يمارسوا العمل السياسيّ، لتقليل المفاسد
والأخطاء، ومناهضة الظلم والاستبداد، وهم بغير الدخول في قواعد اللعبة
السياسيّة القائمة على الخيار الديمقراطيّ، لن يستطيعوا فعل ذلك.
ثالثاً: يقولون إنّ الديمقراطيّة هي الحريّة المطلقة، وهي تبيح فعل جميع
المنكرات، بل وشرعنتها، وممكن أن يصوّت في الديمقراطيّة على أمور
تناقض صريح القرآن، وهذا الاعتراض أيضاً غير مسلّمٍ به، فالشعب
عندما يحكم نفسه بنفسه يحكم بما يؤمن به، وبالتالي فإنّه ما من حرّيّة
مفتوحة السقوف، يفعل الإنسان ما يشاء، حتّى في أعرق الديمقراطيّات
العالميّة، فالحريّة مقيّدة بالأعراف الدستوريّة وأسس الدولة والمجتمع،
وهويّة الشعب الذي انتخب هؤلاء النواب أنفسهم، فلا يمكن في بلد مثل
بريطانيا أن يتمّ احتقار سلطة الملكة، أو السخرية منها، ولا يمكن التصويت
على قتل إنسان خارج أسوار القضاء، ولا يمكن في دولة مثل الهند أن يتمّ
التصويت على ازدراء آلهة الهنود، التي يعبدونها، وكذلك الأمر في البلاد
الإسلاميّة، فكيف بمجتمع مسلم ينتخب معظم نوّابه من المسلمين، ثمّ
يتصوّر أن يصوّتوا على أمر يناقض الشريعة، فإن حصل ذلك فمردّه إلى
أمرين، أمّا الأوّل: أنّهم عاجزون، وقدّروا المصلحة في ذلك، وهم مبتعثو
الأمّة، والأقدر على تقدير الموقف.
والأمر الثاني: أنّهم ليسوا مؤتمنين على مصالح الأمّة ودينها ورسالتها،
وعلى الشعب الذي انتخبهم أن يعيد النظر في اختياراته، وأن يرقى بوعيه
السياسيّ ليختار أولي الأمر منه بما يحفظ رسالته.
رابعاً: يقولون إنّه لا ديمقراطيّة حقيقيّة، وإنّ المال والإعلام هو الذي يخدع
الشعوب، ويدفع بالفاسدين والمستبدّين، وشراء أصوات الفقراء أو
المنتفعين، وهذا أمر وارد، ولكنّ علاجه لا يكون بإلغاء الخيار
الديمقراطيّ، ولا الانسحاب منه، وإنّما بالسعي لتحسينه وضبطه بالقانون،
بحيث يؤتي ثمرته في تنظيم الاختيار السياسيّ بأقلّ الخسائر، والبشريّة
يوماً بعد يوم تحاول سنّ التشريعات الدائمة لإصلاح الخلل في النظام
الديمقراطيّ، ومنه لم تقتصر على الانتخابات الرئاسيّة، بل والبرلمانيّة ثمّ
النقابيّة ثمّ الانتخابات المحليّة والبلديّة، وذلك كلّه لتوسيع قاعدة المشاركة
الشعبيّة في صياغة الرأي العامّ.
تبقى الديمقراطيّة تجربة بشريّة حافلة بالعثرات والأخطاء، وتستحقّ النقد
والتصويب، مثلها مثل أيّ نظام سياسيّ بشريّ آخر، ولكنّ هذا التصويب
يكون متزامناً مع الممارسة للعمل السياسيّ، لأن السياسة في كلّ يومٍ لها
استحقاق جديد والناس لا ينتظرون حتّى ينتهي المفكّرون من التنظير
السياسيّ، أو يتوافقوا على مشروع جامع، بل يحتاجون القيادة الدائمة لهم،
التي هي رائدة العيش المشترك، ومحقّقة الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ،
والحارسة لمصالحهم من الضياع والفوضى.
حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام
12/2/2018