بسم الله الرحمن الرحيم
إسلاميّ وعلمانيّ في وجه الاستبداد
تنتمي هذه المقالة إلى (الجغرافيّة السياسيّة) ولا تنتمي إلى التحليل الفلسفيّ، ولذلك
لن نذهب إلى تأصيل (معنى إسلاميّ) أو (علمانيّ)، وإنّما سنستخدم المعنى الشائع
بين الناس.
فإذا قلنا: إنّ الإسلاميّ هو من يحمل تصوّراً شاملاً عن مشروع سياسيّ مستمدّ من
الشريعة الإسلاميّة، ديناً ودولة عقيدة وشريعة ومنهج حياة بمرجعيّة سماويّة.
وإذا قلنا إنّ العلمانيّ من يحمل تصوّراً أنّ الدولة يجب أن تكون حياديّة من جميع
الأديان، وتمشي بقانون وضعيّ بشريّ ومرجعيّة بشريّة
كيف لهؤلاء أن يكونوا سويّة في مكافحة الاستبداد؟.
لو افترضنا أنّ الإسلاميّ في الربيع العربيّ سيأتي ويحمل معه حمولته كاملة،
ليخوض بها معركة الحريّة، فسوف يفرّق أكثر ممّا يجمع، وسوف يضرّ أكثر ممّا
ينفع، لأسباب كثيرة منها:
أوّلاً: عدم وجود برنامج مكتوب ومتداول بين الأطياف الإسلاميّة، قابل للإقناع
السياسي لجماهير الربيع العربيّ، وإنّما هي في الغالب أدبيّات تنظيميّة، ونظرات
حزبيّة متفاوتة في التنظير، ومختلفة في التطبيق.
ثانياً : رغم اتساع جمهور الإسلاميّين، وقدرتهم على الحشد والتأثير، إلا أنّهم
يخسرون كثيراً من قوتهم في معارك جانبيّة بين: سلفّيّ وصوفيّ، وسنيّ وشيعيّ،
وتقليديّ وحركيّ .. ممّا يؤدّي لانقسام جمهورهم ودخولهم في صراعات بينيّة.
ثالثاً: الشعوب لا تنتظر الفلاسفة ريثما يفرغون من تنظيراتهم، لأنّها لا تنتهي،
والشعوب مشغولة بالهمّ اليوميّ الذي يتراكم عليها: من تضحيات، وفوات الأنفس،
وهلاك المصالح.. وهي تريد شيئاً ناجزاً، أكثر منه شيئاً صحيحاً إن كان بعيد المنال.
ولذلك ولأسباب أخرى عجزت القوى الإسلاميّة وخلال 80 عاماً تقريباً من
النضال، أن تقنع الجماهير بجاهزيّة مشروعها ونضوجه.
طبعاً ولاشك إنّ هناك أسباباً موضوعيّة: مثل القمع والتنكيل والاختراق… ولكن
تبقى هذه الأسباب مكمّلات للضعف، والشتات الداخليّ..
ولو افترضنا أنَّ الطرف الآخر العلمانيّ سيأتي بحمولته كاملة، ليخوض بها معركة
الحريّة من الاستبداد، فإنّه سيفرّق الصفوف أكثر ممّا يجمع، ويمزّق أكثر ممّا هو
ممزّق، وذلك لأسباب عديدةٍ أيضاً منها:
2
أولا : تجربة الأنظمة العسكريّة القمعيّة المريرة التي دفعت ببلادنا للتخلّف والدمار
والتبعيّة، التي حسبت بشكل أو بآخر على أنّها أنظمة علمانيّة تعادي هويّة الأمّة،
وتعمل على تغيير ثقافة الشعوب قهراً.
ثانياً: بقاء التوجّه العلمانيّ ضمن طبقة نخبويّة مثقّفة غير متجذّرة ضمن الجماهير،
ممّا يجعلها شبه معزولة، وتنسج حولها هواجس المؤامرات والتبعيّة للغرب،
ومعاداة الدين، بل أصبحت عند الكثير قرينة للإلحاد والانحراف الأخلاقيّ.
3-شأن العلمانيّين شأن الإسلاميّين، من حيث التفرّق، وعدم وضوح المشروع،
والدخول في صراعات وانشقاقات حزبيّة قوميّة ويساريّة، مع دخولهم مع
الإسلاميّين في جدلٍ واسع منع من التحالف والتآزر، وجعل الطرفين عرضة
للاستهداف والإقصاء، من قبل أركان النظام الاستبداديّ.
طبعاً سيجد كلا الفريقين الشهيّة الكافية للحوار والنقاش، بل وللصدام، ولكن ليس
هذا هو الحلّ، لشعوب مغلوبة مقصوفة مدمَّرة يسرح المستبدّ فيها طولاً وعرضاً،
كما قال الكواكبيّ: (المستبدّ يضغط على العقل، فيفسده، ويضغط على الدين، فيفسده،
ويضع كعب رجله في حلوق الملايين ليسكت أنينهم).
والحلّ يبدأ من صفقة وتعاقد سياسيّ واجتماعيّ عام بين المكوّنات الإسلاميّة، وبين
النخب العلمانيّة… أن يتنازل كلّ منهما عن بعض حمولته الفكريّة والسياسيّة لصالح
القاسم المشترك بين الناس، وللصالح العامّ الذي فيه مصلحة الشعب، فيجتمع
الفريقان على مواجهة الاستبداد، وحسم معركة الحريّة، وتحكيم الشعب من قرار
السياسة والأمن، وضمان حقّه في التمثيل السياسيّ لنفسه في دائرة القرار، ضمن
عمليّة سياسيّة، وانتخابات حرّة نزيهة، ترسم خارطة الأقليّة والأكثريّة السياسيّة، في
المجتمع، وبعدها يمكن أن تنطلق مسارات التعاون، بين المكوّنات في بناء وطن
واحد حرّ قويّ كريم.. يشعر جميع مواطنيه بالحقوقيّة والمواطنة، ذاتها دون إقصاء
أو تمييز…
فلا هو مقبول من الإسلاميّ أن ينظر للثورة على أنّها من نتاج مدرسته، فيقيم لجان
الاحتساب، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويفرض على النّاس نوعاً
معيّناً من التوجّه الفكريّ، أو الالتزام الدينيّ أو يتدخّل في حرّيات النّاس الخاصّة.
ولا هو مقبول من العلمانيّ أن يصادم هويّة المجتمع وثقافته، أو يستنسخ كلّ ما
ناسب شعوباً أخرى، ويجعلها من مسلّمات شعبه، ويحاول أن يفرض ذلك دستورياً
أو ما فوق دستوريّ.
إنّ عقد صفقة سياسيّة بين الإسلاميّين والعلمانيّين، على أن يتابعوا النضال ضدّ
الاستبداد حتّى إسقاطه، ومن ثمّ تحكيم الشعب من نفسه، وفق العمليّة الديمقراطيّة،
3
ليختار قانونه ودستوره وطريقة إدارة السلطات، هو الحلّ الممكن الذي يجمع بين
أطياف الثورة، ويقلّل ساحة الاختلاف، وما يتبقّى من أمور يقع فيها تفاوت وجهات
النظر، تحلّ في قبّة البرلمان، ولجان التشريع، والاستفتاء الشعبيّ وغيره من وسائل
الاختيار الحرّ، بلا وصاية ولا ضغط.
إنّ تمكين الاختيار السياسيّ والثقافيّ للمواطن، هو هدف مشترك بين التصوّر
الاسلاميّ الصحيح، وبين العلمانيّة الحقيقيّة، الذي يدعم وجود تعاقد سياسيّ طويل
الأمد، بين شعبٍ متصالح على القيم المشتركة.
حسن الدغيم
باحث
مؤسّسة رؤية للثقافة والإعلام
انتهى