بسم الله الرحمن الرحيم
الجهاد سياسة أمنيّة أم تبشيريّة؟
الجهاد مثله مثل بقيّة مبادئ وتعاليم الإسلام، كالعدل والشورى والكرامة والأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستخلص فهمه من السياق العام للوحي الرساليّ بجانبيه؛ القرآنيّ والسننيّ، ولا يمكن تعريفه أو تفصيله بطريقة انتقائيّة لبعض النصوص، وسحبها من سياقها، أو تضخيم مدلولها على حساب مقارباتها ومفسراتها النصّيّة والعمليّة.
كمن اتخذ من (آية السيف) ناسخة لكلّ آيات الرحمة والصفح والسلام، مع المخالفين في الدين، وهي -أي آية السيف- بقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة براءة
ولو صحّ هذا الاجتزاء والانتقاء لضربت نصوص القرآن بعضها ببعض، ولاحتجنا في فهم القرآن وإثباته -وهو المتواتر لفظاً والثابت قطعاً- لأخبار الآحاد، التي ولو صحّت لا تقوم مقام النسخ لنصوص القرآن، لأنّها حجّيّة وقطعيّة، إلا إن بلغ من النصّ الخبريّ مبلغ التواتر، كأن كان سنّة ًعمليّة مُتواترة، يمكن حينها اللجوء للتفسير، وإيجاد المخارج لتعارض الأدلّة، وهذا التعارض بالقطع فيما يظهر لنا بحسب قدرتنا البشريّة.
وحتّى لومشينا على قول من يقول بالنسخ، بهذا التوسّع في آية السيف، فلا يمكن للنسخ أن يسري على النسق العام للتشريع، بل وعلى مبادئ الدين الحنيف قطعيّة الثبوت والدلالة والاعتبار، مثل مبدأ حرّيّة العقيدة، وقوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله تعالى (لا إكراه في الدين) وهذا من أصول الدين ومرتكزاته، ولا يجري عليه النسخ، لأنّه يناقض أصل التشريع القائم على الاختيار، لا على القسر والإجبار، وأيّ إكراه أكثر من ان تقاتل المخالفين في الدين وهم مسالمون!
طبعاً سيأتي بعضهم بالحوادث التاريخيّة، ومحطّات من السيرة، ليدلّل على عكس هذا الكلام، ولكن بالمقابل، السيرة والتاريخ حافلان أيضاً بما يبرهن أنّ الجهاد لم يكن مشرعاً ضدّ كلّ كافر، لأنّه كافر فقط، فكثير من الكفّار عاشوا بسلام وأمان داخل الجزيرة العربيّة وخارجها، دون أن يُكرهوا على تغيير دينهم، بل بقي المجوس – وهم الوثنيّون الذين يعبدون النار، ولا يحرّمون الزواج بأمهاتهم وبناتهم – بقوا في أطراف الجزيرة، حتّى أفناهم الدهر، إمّا موتاً وإمّا إسلاماً من طيب أنفسهم.
وهنا يقتضي لزاماً أن ننظر في أساس التشريع الإلهيّ المتعلّق بالجهاد ومقاصده العليا، التي نراها في كتاب الله تعالى وافرة، في أنّ الجهاد عمليّة أمنيّة، وتعاطٍ سياسيّ باستخدام القوّة، لحمايّة الحقوق، وليس للقضاء على الكفّار.
نعم الكافر المحارب والمعتدي لا قرار له، والجهاد مشروع ضدّه، ولكن ليس لأنّه كافرمحض، بل لظلمه وعدوانه وترصّده، وفي هذا يشاركه المسلم الباغي، أو الصائل أو المحارب قاطع الطريق، فإنّ إسلامه ليس بحصن له من العقوبة والقتال، إذا ظلم أو بطش او امتنع عن النظام العامّ، وهذا أوضح دليل على أنَّ القتال في أساس التشريع الإلهيّ، هو لدرء الحرابة والبغيّ والظلم، وردّ الاعتداء، وليس موجّهاً للمخالف في الدّين، إلا إذا تلبّس بإحدى الجرائم الجنائيّة،
قال تعالى (وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة البقرة /190 / ، فهذه الآية تشرّع القتالَ ضدّ من يقاتل، لا ضدّ من يكفر، وكذلك البيان الإلهيّ في ( عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ) سورة الممتحنة.
قال الإمام الطبريّ بعد عرضه التفسيرات التي قال بعضها بنسخ هذه الآية: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إنّ الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميع من كانت تلك صفته، فلم يخّصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ.
لن تتّسع هذه المقالة المحدودة لسبر كلّ النصوص ولابعضها، وإنّما هي إشارة للحاجة في إعادة التروّي، والتريّث في سحب النصوص الشرعيّة من مستقرّاتها المقاصديّة والسببيّة، إلى ساحات التجاذب والتخاصم السياسيّ المعاصر، وتعزيز نظريات المفاصلة الشاملة والعداء الصفريّ، وتقسيم العالم لمعسكرين للحرب لا أمن فيه ولا أمان، ولا تعاهد ولا تعاقد، ولا استقرار ولا نهضة، ولا تعاون ولا تفاهم…
إنّ السياق العام للتشريع الإسلاميّ يركّز في العلاقة مع المخالف في الدين على جملة من المبادئ التالية، والتي هي بعمومها وشموليّتها واتساقها حاكمة على النواحي التفصيليّة، والاجتهادات المرحليّة، ويمكن الإشارة لهذه المبادئ بالتالي:
أولاً : لا إكراه في الدين، كما أنّ الإيمان حقّ لا يجوز منعه، فإنّ الكفر حقّ لا يجوز منعه، وحساب الكافرين على الله يوم القيامة.
ثانياً: إنّ حريّة العقيدة مستندٌ للكرامة الآدميّة الموهوبة من الله تعالى لعباده من بني آدم، فكرامة الإنسان لعقله، والعقل لا يجوز أن يصادر بالسيف، وإنّما يسلم لاختياره.
ثالثاً: إنّ القرآن الكريم، والسّنّة النبويّة الشريفة القوليّة منها والعمليّة، تؤكّد مبدأ حرّيّة الاختيار الدينيّ، وبالتالي هي تقبل التعدّديّة ضمن الدولة الواحدة، ومع الدول الأخرى، ومادامت تقبله فإنّها تحميه أيضاً، وكما لا يجوز للكافر أن يفتن المسلم عن دينه بالقوّة، فليس للمسلم أن يفتن الكافر عن دينه بالقوّة.
رابعاً: من مقاصد الدين الإسلاميّ مدّ جسور الدعوة للعالم كلّه، وليس تأسيس إمبراطوريّة مسيّجة خاصةٍ بالمسلمين دون غيرهم، وهذا يقتضي إشاعة أجواء السلام العالميّ، لتسهيل تحرّك الدعاة لدين الله، ليظهروا دين الله في الأرض.
خامساً: تختلف قواعد الاشتباك تبعاً للتطور البشريّ، فالحرب منذ ألفي عام، وألف عام، ليست كحربنا اليوم، وفي كلّ زمن تحاول البشريّة سنّ القوانين وإحراز التفاهمات، لتضييق سبل الاقتتال، وأخطارها على البشريّة، والمسلمون بذلك أَوْلى، لأنّ السلم أقرب للإسلام من الحرب (وإنْ جنحوا للسَّلمِ فاجنحْ لها)، كما أنّه لا يجوز الاقتباس من حالات تاريخيّة لها ظروفها وقواعدها، التي كانت مقبولة من قواعد الحرب، لعصر قطعت فيه البشريّة مساراً كبيراً في تقنين الحروب، على المستوى النظريّ على الأقلّ.
سادساً: حتّى من باب الضرورة، وفقه الاستضعاف، أين مصلحة المسلمين اليوم من هذا التضخيم الإيديولوجيّ لمفهوم الجهاد، وتحويله من وظيفته في ردع الحرابة، إلى قتال مخالف الدين مهما كان موقعه أو صفته؟ ولا يتوقّف ذلك إلا على قوّة المسلمين، أو ضعفهم أو إذن إمامهم.
إنّ العقيدة القتاليّة الإسلاميّة لا تختلف عن العقيدة القتاليّة الإنسانيّة، التي تطوّرت وتهذّبت بتعاليم رسل الله أجمعين، والتي لا تخرج عن الردع المكافئ للظلم، فنقاتل من يقاتلنا، ونترك من يتركنا، ونسالم من يسالمنا، ونترصّد من يترصّدنا،
قال تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)) سورة البقرة
وكلّما كان الأمر أقرب للسلم، كان للإسلام أقرب، ولكنّه ذلك السلم الذي يأمن فيه المظلوم من الظالم، ويستعاد فيه الحقّ المغتصب، وليس سلام الوهن والضعف.
قال تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) سورة آل عمران.
والحمد لله رب العالمين
حسن الدغيم
باحث
في مؤسسة رؤية
للثقافة والإعلام
انتهت