بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلاميّون وفخّ الهُويّة
يتصدّر الإسلاميّون طليعة المطالبين بالتغيير والإصلاح السياسيّ، منذ مائة عامٍ
تقريباً، بطرقٍ عديدةٍ، وتيّاراتٍ كثيرةٍ، متوافقةٍ ومتباينةٍ، بل ومتحاربةٍ أيضاً،
فينهج الإخوان نهج ما بات يعرف بـ (الإسلام السياسيّ)، أي الوصول للسلطة عن
طريق قواعد اللعبة الديمقراطيّة والانتخابيّة المعاصرة، مع احتفاظهم بالمطالبة
بسقف مرجعيّ دستوريّ، يعبّرون عنه بأنّه دولة مدنيّة بمرجعيّة إسلاميّة.
بينما ينقسم السلفيّون إلى تيّارين؛ أوّلهما ما بات يطلق عليه اسم (السلفيّة الجهاديّة)،
فيرى أنّ الإصلاح يبدأ من الرأس، سواء كان هذا الرأس حاكماً أو حكومةً أو ملكاً
أو برلماناً.. كلّ هذه المنظومات طاغوتيّة، خارجة عن نهج الشريعة، لابدّ من
إسقاطها، والانقلاب عليها، وتحكيم الشريعة، وهذا التيّار في صدام دائم مع المحيط،
سواءً السلطة أو الشعب، لأنّه يتبنّى دائماً فرض نظامه الإيديولوجيّ على من حوله،
وهذا التيّار تكلّمتُ عنه موسّعاً في كتابي (الغلوّ السياسيّ).
وأمّا التيّار الثاني، فهو يتبنّى النهج السلميّ، ويجعل بداية الإصلاح من القواعد
الشعبيّة، وهذه لا تصلح بحسب قولهم إلا بما صلح به أوّل الأمّة، وهو ما كان عليه
النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولذلك ينشطون في الوعظ والدعوة، وعلوم
الحديث، ومحاربة ما يسمّونه بـ (البدع)، ويهادنون –غالبيّتهم- السلطات الحاكمة، إذ
يرون أنّ الإصلاح لا يكون من القمّة، ويطلق على هذا التيّار اسم (السلفيّة العلميّة)
أو الدعويّة.
مجمل التيّارات الإسلاميّة التي تتبنّى العمل السلميّ إلى حدّ ما، من إخوان وسلفيّين
ومحافظين وصوفيّين.. مهما كانت التسمية، يشكّلون تقريبا السواد الأعظم من
المسلمين المحافظين، الذين يحملون دائماً لواء الشريعة، منهجاً للإصلاح الشامل،
ولكنّ هذا التيّار العريض المطالب بالإصلاح، وقع في فخٍّ كبير، ضمن مسيرته،
وهي ما أسمّيه (معارك التخوم)، فبدلاً من تقديم معركة الحريّة، وتعزيزها في
المجتمع، صاروا إلى تقديم معركة الهويّة الإسلاميّة في الدستور، ومعارك التخوم
هذه التي لو انتصر فيها الإسلاميّون، يبقى انتصارهم هامشيّاً، أو متجاوزاً الأحداث،
بعيداً عن مركز العمّق في السلطة، والنفوذ والتوجيه، وعادةً تنتهي معركتهم بأن
يكتب في الدستور مادّة تنصّ على أنّ: (دين الدولة الإسلام)، أو أنّ: (دين رئيس
الدولة الإسلام)، أو أن يمنع الاقتراب من بعض القوانين الشخصيّة، أو أن يكتب: أنّ
المادّة الثانية من الدستور تنصّ على أنّ: (الشريعة الإسلاميّة هي مصدر التشريع)،
أو (المصدر الرئيسيّ للتشريع)، وبعد هذا يظنّ الإسلاميّون أنّهم انتصروا وحافظوا
على هويّة الدولة، وصورتها الثقافيّة والتاريخيّة، بينما تستمرّ النخب الفاسدة الطائفيّة
2
أو الانقلابيّة مستحوذة على مركز العمق، وتفرض سيطرتها على الإعلام والجيش
والأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجيّة، وبالكثير تتصدّق على بعض خصومها
بوزارات ومقاعد إداريّة وخدميّة، ثم تستثمر الدولة العميقة المنتصرة بعد التمكّن من
مفاصل الدولة، باصطناع الهجوم على فصيل (سلفيّ جهاديّ) باسم مكافحة
الإرهاب، وضبط أمن الدولة، وحماية الدستور، وتقوم بشنّ حملات عسكريّة أو
أمنيّة تطال النخب والشخصيّات التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير، مع اسطوانة
التهم الجاهزة، والملفّات التي تنتظر التحويل فقط إلى المحاكم العسكريّة، ليساق
هؤلاء إلى السجون.
جرى أن يتمسّك الإسلاميّون في كلّ فترة تحوّلٍ أو تغييرٍ، من مطلع الخمسينيّات،
بالنصّ في أيّ دستور، على مرجعيّة الشريعة الإسلاميّة، وأنّها مقدّمةً على كلّ ما
سواها، وهي شرطهم لدعم أيّ حكومة تغيير، أو السكوت عنها، وقد تمّ لهم ذلك في
الكثير من البلدان العربيّة، مثل سوريّة ومصر وليبيا والسودان واليمن والعراق
وغيرها، ولكن مع فقد مبدأ الحريّة السياسيّة، لم تغنِ الكلمات الدستوريّة بتطبيق
الشريعة أو الإقرار بالهويّة الإسلاميّة شيئاً، عن زجّ آلاف الإسلاميّين في السجون،
وتعرّضهم لأبشع ألوان التعذيب، دون رقابة قانون، ولا إعلامٍ، فضلاً عن الضمير،
بعد كلّ حدثٍ سياسيّ، ثورةً كانت أو احتجاجاً أو ربيعاً، أو صداماً عسكريّ أو
تغييراً في نظام حكم، أو إصلاحاً… تقوم قوى الثورات المضادّة، وجنرالات
الانقلابات العسكريّة، بزجّ الإسلاميّين في معركة الهويّة والدستور، فيستنفدون
قواهم فيها، تطاحناً واختلافاً بين بعضهم، وبينهم وبين العلمانيّين، وبين المسلمين
وغيرهم، وتستغلّ السلطة العميقة هذه الضفاف المليئة بالجراح، لتتحالف مع خصوم
الإسلاميّين، طارحة شعارات التقدّم والحداثة والحريّة، وأنّها هي من تحمي الحريّات
الشخصيّة، والأقليّات والخصوصيّات الثقافيّة، وتجلب حولها قطاعاً كبيراً، صدع
الإعلام رأسه بهواجس التخوّف من الإسلاميّين ومشاريعهم، التي ما أسهل أن
توصف بالداعشيّة والقاعديّة والتطرّف والإرهاب، وبخاصّة مع رؤيتهم الشارع
واللافتات والمظاهرات المطالبة بتحكيم الشريعة، بل وسيّارات الاحتساب، وهيئات
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشرطة الدينيّة التي تتحرّك بدون غطاء من
أيّ سلطة…
معركة مفتعلة خاسرة خاضها الإسلاميّون، فدفعوا ضريبتها، أوّلاً من دمائهم،
وأبنائهم، وعلاقاتهم ضمن الصفّ الداخليّ، ثمّ تدفعها الشعوب الطامحة للحريّة
بسبب عطب التيّار الرئيسيّ في الزخم الشعبيّ، وهو التيّار الإسلاميّ، وإشغاله في
معركة الدستور، وهويّة الدولة.
إنّ تعزيز قيم الحريّة والكرامة، وتجريم الاستبداد، مهما كان مصدره وتوجّهه
وثوبه، وتجريم الانقلابات العسكريّة على الحكومات الشرعيّة، والعمل على الوقوف
3
بحزم أمام الحكومات الطائفيّة، هذا هو الطريق للحفاظ على الهويّة والثقافة، وليس
كلمات في دستور مرقوم، لا يقرؤه إلا المتخصّصون.
حتّى لو وجدنا غبناً شرعيّاً في دستور لا يعترف بسيادة الشريعة، ويتحاكم
للوضعيّات في كلّ شأنه، ويتّخذ -ولو زوراً- قوانين الشرعة الدوليّة، أو نموذجاً من
القوانين الغربيّة، ولو حصل هذا مع حكومة ممثّلة النّاس، عادلة في شؤونها،
يستطيع الإسلاميّون العمل ضمن أروقتها، فهو أفضل وأنجع للشريعة والهويّة
والثقافة والدعوة من أن يستنزفوا قوّتهم في معارك مفتعلة، من أجل كلمة أو مادّة أو
قانون،
الحريّة أوّلاً، نعم، وليس الهويّة، فالهويّة هي العمق الذي يتنفّس في مناخ الحريّة.
انتهى