أكتب هذه المقالة من مدينة مراكش في زيارتي الثالثة للمملكة المغربية، والتي حاولت فيها أن
أستمع لشهادات مختلفة عن التجربة الإسلامية في هذا البلد العريق والمتميّز بثقافته الجامعة بين
أصالة (أمير المؤمنين) وحداثة (النظام الديمقراطي)، مع مسحة حضاريّة ملموسة في السلوك
والتعامل اليومي ومفردات التعبير البياني والعمراني.
في لقاءات وجولات متنوعة اكتشفت حجم تشوّق (المغاربة) لأخبار أشقّائهم (المشارقة)
وتواصلهم مع كلّ المتغيّرات والأحداث والمفاجآت التي تعصف بهم، شعب مثقّف ومطّلع،
ويحمل قدرا كبيرا من الوفاء، لقد كانوا يسألونني في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان عن
أستاذنا الدكتور محسن عبدالحميد لأنه كان يدرّس عندهم قبل عقود من الزمن! تذكرت حينها
كلمة كان يرددها الدكتور محسن: (لما ذهبت إلى المغرب كنت أحدث نفسي هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في بغداد، ثم لما عدت من المغرب حدثت نفسي: هل تراني سأصبر
على مفارقة أحبابي وإخواني في الرباط؟)!
في زيارة سابقة دعانا الأستاذ الكبير عبدالكريم الخطيب -رحمه الله- وهو أحد أعلام المغرب،
دعانا إلى بيته للغداء، وسألني كثيرا عن العراق وقطر ثمّ قال لي مازحا: أقول لك معلومة لا
تقلها لأحد! إني عراقي، كيف يا شيخنا؟ قال: (نعم مرّت بنا ظروف سياسيّة وأمنية قاسية فلجأت
إلى العراق فأكرمونا غاية الإكرام، وقالوا: هل تأمر بشيء؟ قلت: أحتاج وثيقة أتنقل بها، قال
فأحضروا لي جواز سفر، وما زلت محتفظا به)، وقد فاتني أن أسأله في أي عهد كان ذاك، لكن
الظاهر أنه يتكلم عن فترة انخراطه في جيش التحرير المغربي أواسط الخمسينيات.
في تلك الزيارة أيضا شهدت احتفالية كبيرة في ملعب واسع ضمّ آلاف المشاركين، تنازل فيها
الخطيب عن قيادة (العدالة والتنمية) وتم انتخاب الأستاذ سعد الدين العثماني أمينا عاما، ومعه
أسماء ووجوه قيادية جديدة، وقد رأيت كيف يقوم الذين لم تتح لهم فرصة الفوز بتهنئة الفائزين
بروح أخوية وأجواء أسريّة مريحة وغير متكلّفة، حتى أنك لا تستطيع تمييز الفائز عن غيره،
وقد أتيحت لي حينها فرصة التحدث عن الوضع العراقي، وكان هناك مجموعة من الشباب
يستوقفونني ليهتفوا بكلمات (العراق) (بغداد) (الفلوجة) بأهازيج حماسيّة لم أتمكن من حفظها،
وكان العلَم العراقي يغطي مساحة واسعة من المدرّجات ويتنقل فوق رؤوس الجماهير.
تمعنت كثيرا في العنوان (العدالة والتنمية) وفي (المصباح) بشكله التراثي الموضوع دائما جنب
العنوان كشعار للحزب، وتذكرت العدالة والتنمية التركي ومصباحه كذلك، وحين سألتهم عن سرّ
هذا التوافق أكّدوا لي أنّ الأتراك هم الذين اقتبسوا من المغاربة الاسم والمصباح مع تحديث بشكل
المصباح فقط! ولا شك أن هذا يعني الكثير، فالتجربة المغربية كأنّها أصبحت مثالا يحتذى، وهذا
بحدّ ذاته يدعو للتأمل والدراسة.
إن التجربة المغربية لا تنحصر بالعدالة والتنمية، فهناك لافتات قويّة ومؤثّرة اتخذت طابع التربية
والدعوة والتعليم الشرعي ولها من العمق والتأثير في هذه المجالات ما للعدالة والتنمية في المجال
السياسي.
إن أهم ما يميّز التجربة المغربية هو ديناميكيّتها العالية، وقدرتها على التغيّر والتطوّر ومراجعة
2
الأخطاء وإعادة الحسابات على مختلف الصُّعُد، ويكفي هنا أن أضرب مثالا واحدا: سنة 1979
كان هناك تجمّع لدعم الجهاد الأفغاني، فتقدّم الصفوف رجل أخذته الغيرة وأصرّ أن تكون له
كلمة، وحين أتيح له ذلك أخذ يهتف بالمحتشدين: (إن تحرير أفغانستان يبدأ بتحرير الرباط من
الطواغيت)، ما سبّب حرجا للمنظمين وللمسؤولين أيضا، هذا الرجل أصبح اليوم رئيسا للحكومة
في ظل العرش الملكي، وهو الذي يقول اليوم: (إن المغرب يجدد التأكيد على التزامه المتواصل
بتعاون دولي متضامن لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وإن ظاهرة الإرهاب التي لا
يمكن ربطها بدين معيّن تستدعي نبذ كل أشكال التطرف والعنف من خلال نشر مبادئ الاعتدال
والتسامح والانفتاح وهو ما فتئ يقوم به أمير المؤمنين).
في ثقافتنا (المشرقية) يرجعون هذا التبدّل -في الأغلب- إلى عوامل سلبية كالانتهازية والمزاجية
وضعف المبادئ والانحراف عن الجادّة، أما (المغاربة) فقد أحبّوه في الحالتين، ورأوا فيه عنصر
الصدق، فهو يتكلّم بما يمليه عليه ضميره وما يتوصّل إليه اجتهاده، ولا يمنعه قول سابق حشد له
العباد أن يغيّره بقول لاحق ولو كان فيه خسارة الجمهور، لكن الجمهور المغربي مختلف إلى حدّ
ما عن جمهورنا، فالثبات عندهم في غير الثوابت والضروريّات القطعية هو نوع من الجهل
والجمود والتعصّب المقيت، وأن التغيّر هو علامة الصدق والموضوعية و (التكوين المستمر)،
فالمعيار ليس النوايا والقصود الخفيّة ولا السير على (مثبّت السرعة)، بل قراءة الوقائع
والمستجدات والمآلات والاحتمالات، والمراجعة الجادّة للتجارب والمواقف والأفكار، وعبقريّة
المفكر مهما كانت فإنها ستعزله عن المجتمع الذي لا يتمكن من مواكبة كل هذه الحيثيات، إلا إذا
غلبت على المجتمع نزعة التقليد الأعمى كحال الشيعة مع مرجعياتهم.
في هذا السياق أيضا يذكر الدكتور أحمد الريسوني كيف أنه ومجموعة من الشباب كانوا يعملون
مع جماعة الدعوة والتبليغ، وفي الوقت ذاته كانوا يقرؤون كتب الإخوان المسلمين ويعجبون
بأدبياتهم حتى أنه حفظ (معالم في الطريق) عن ظهر قلب، ولذلك أطلق عليهم اسم (التبليغ
مودرن)، وفي ذلك الوقت أيضا كانوا مهتمين بطروحات الداعية الكبير الشيخ عبدالسلام ياسين
حتى أنهم استنسخوا له خطابا موجّها إلى الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- ووزّعوه لما
فيه من شدّة بلغت حدّ (الإزعاج والاستفزاز)، وحين يتذكّر الريسوني تلك المرحلة يقول: (إنها
مرحلة الإعجاب بالبطولات والأعمال الجريئة)، وبعد هذا أبحر الريسوني في (فقه المقاصد) ثم
في (فقه التقريب والتغليب)، ومع كل هذه التغيّرات اللافتة والارتباطات المتنوعة بقي الريسوني
كما بقي عبدالإله بنكيران وسعد الدين العثماني والمقرئ الإدريسي أبو زيد وعبدالسلام بلاجي
وغيرهم الكثير في قلب الحاضنة الجماهيرية، وهذا دليل يضاف إلى وعي هذه الحاضنة،
وتطلّعها هي أيضا للتغيير والتكوين المستمر، ونبذها للجمود والانغلاق والتعصّب المقيت بكل
أشكاله.
يلخّص الأستاذ سعد الدين العثماني -وهو الذي قاد العدالة والتنمية بعد الخطيب ثم تسنّم وزارة
الخارجية المغربية- رؤيته الكلّية التي أسهمت في نقل الحركة إلى أفقها الأوسع على الصعيدين
3
الفكري والتنظيمي: (كنت وقتها أرى أن هناك مفاهيم وسلوكيّات لدى الإسلاميين تحتاج إلى هزّة
عنيفة لتتغيّر وتتكيّف مع متطلبات الرؤية الإسلامية المستنيرة).
على الصعيد الفكري أذكر أننا اشتركنا في مؤتمر (فقه الدولة) المنعقد في اسطنبول العام الماضي
وقد طرح العثماني أفكارا في غاية القوّة والجرأة، وكان أحد الإخوان العراقيين حاضرا فالتفت
إلى إخوانه وطمأنهم أن هذه الكلمات إنما هي (تقية سياسية)! لم يستطع الرجل وهو أخ كريم
ومميّز بين أقرانه أن يستوعب هذه الهزّة إلا على أنها تقية! مع أن الدكتور العثماني قد أحدث هذه
الهزّة منذ سنين، وكتاباته في هذا موثقة ومنشورة قبل مشاركته الوزارية، وهذا مثال للتفاوت بين
الثقافتين المشرقية والمغربية.
في الجانب التنظيمي يكفي أن نقرأ هذه الاقتباسات التي حاول العثماني فيها مبكّرا أن يسقط
مفهوم (القائد الأسطورة) والمحور (الذي يدور عليه كل شيء) والذي هو (فوق المراجعة والنقد)
والذي (يملك وحده حق النظر للحركة وتقويم خطّها وإصدار الاجتهادات والفتاوى) (ولذلك كانت
قناعتي أن هذا العطب فضلا عن كونه من مخلفات عصور الانحطاط فإن من شأنه… أن يشلّ
طاقات إسلامية كثيرة ويمنع قيام عمل إسلامي حقيقي)!
العثماني هنا أذكره كنموذج فقط، وإلا فإن هذه المقولات لو كانت له وحده لكانت كفيلة بعزله
وإخراجه من الحركة، لكنه الوعي العام داخل الحركة وداخل المجتمع أيضا، وخطاب العثماني
هذا تبنّاه وهو جندي وتبناه وهو قائد، تبنّاه ونشره على الملأ ليقرأه القريب والبعيد والصديق
والعدو، وقد كان في هذا تمتين لبناء الصف الداخلي وتعزيز لمكانة الحركة في المجتمع، بخلاف
الحركات الأخرى التي ما زالت تتخوّف من الوضوح والنقد والمراجعة والتي ما زالت تعاني
بسبب هذا وغيره من عزلة اجتماعية وانشقاقات ومشاكل داخلية.
لقد انطلق المغاربة من مقولة تأصيلية كبيرة (أن كل شيء ما عدا الكتاب والسنّة قابل أن يحرق
ويراجع وينسخ ويلغى ويعدّل) وهذه ليست صرخة واعظ بل هي منهجية عميقة ودقيقة، يقول
الدكتور الريسوني شارحا لها ومبينا أسباب فرقة المسلمين وضعف القابلية على الانسجام
والتوحّد: (لأن كثيرا من الجماعات الإسلامية تلتقي وتفترق على غير الكتاب والسنّة… على
المواقف الآنية والاجتهادات الفكرية والسياسيّة… كانت الاجتهادات والأفكار الخاصة فيما قبل
هي التي توحّد أو تفرّق، وكان الشعار هو: قل لي ما موقفك من النظام أو من الانتخابات أقل لك
هل يمكن أن أسير معك أو لا)، وفي هذا يسجل الأستاذ محمد الحمداوي شهادته التاريخية: (كنا
نتحفّظ على كل شيء، فلم نكن نقبل أن نسمع مسألة الانفتاح على الشيخ المكي الناصري أو
العلماء الرسميين، بل لم نكن نتقبل أن يتحدّث عن هؤلاء بكلام إيجابي، ولم نكن نتقبل أن يلتقي
عبدالإله بنكيران برئيس المجلس العلمي.. ولم يتمكن الإخوة من التخلّص من هذا التحفّظ حتى
سنة 1984) وهكذا يستمر التشخيص الدقيق على هدي الوحي كتابا وسنّة، فالمقبول ما يقبله
الوحي، والمرفوض ما يرفضه الوحي أيضا، والولاء لكل مسلم مقبول في دائرة الإسلام بغض
النظر عن موقفه من الجماعة أو موقف الجماعة منه، وهذا هو الذي استقرّت عليه الحركة
تأصيليا وتطبيقيا، يقول المقرئ الإدريسي أبوزيد: (العلاقة الأخوية هي فوق العلاقة التنظيمية) و
4
(أننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين) وهذه نتيجة لمراجعات فكرية عميقة وجريئة
(وكنا نعيش حالة من الالتباس بسبب الفكر التنظيمي الذي تأثرنا به من الإخوان المسلمين؛ أننا
ننشئ الجماعة الإسلامية على هدي الجماعة الإسلامية الأولى، فلم يكن عندنا تكفير صريح
للمجتمع ولكننا ضمنيا كنا نرى نوعا من الطهرانية الداخلية في مقابل حالة الانحراف الخارجية)
ثم يقول: (وهذا قد وقانا من شرور التكفير والمفاصلة والانعزالية والمنابذة والسرية).
إن تلك المراجعات الفكرية التأصيلية قد قادت بالفعل إلى الوضوح في كل شيء ونبذ السرّية،
يقول الأستاذ الحمداوي أيضا: (تأكّدنا أن السرية ليست هي التي تحمي العمل وتحصّنه، بل
العكس، يمكن أن تأتي عليه من القواعد وتهدّه)، ومن لطائف ما يذكره الحمداوي بهذا الصدد أنهم
استفادوا من تجارب إخوانهم المشارقة، لكنها -على ما يبدو من السياق- استفادة على سبيل
الاتعاظ لا الإعجاب (خاصة التجارب التي اصطدمت مع الأنظمة) على حد تعبيره.
وكما تحرر المغاربة من ثقافة الانغلاق ومن دهاليز العمل السرّي تحرّروا كذلك من ربقة العمل
المركزي، وهي العقدة الأشد على ما يبدو؛ حيث استغرق العمل عليها من 1994 حتى سنة
2006، بحسب شهادة الحمداوي، وهذا الوقت الطويل لم يكن بسبب المنافسات أو الإشكالات
التنظيمية بل لأنه (لا تتوفر الكفاءات البشرية لتطبيق اللامركزية)، وهذا يؤكّد أن تلك المراجعات
كانت بمستوى المسؤولية العملية وليست فكرة طارئة أو شهوة نقدية جامحة.
لقد تزامن كل هذا مع مراجعات جريئة لبعض المفاهيم الدينيّة القاصرة، يقول العثماني: (قطعنا
أشواطا في التأصيل لمفهوم السياسة الشرعية وتصحيح ومراجعة جملة من المفاهيم غير
الصحيحة، ومن ذلك مسألة الولاء… التي جعلها كثيرون متكأ لإدانة أي خطوة يتعاون فيها دعاة
الإسلام مع غيرهم… والتي تؤدي إلى معاداة الواقع أو الانعزال عنه).
أما انعتاقهم الواعي من أي صيغة تنظيمية نحو (التنظيم الدولي) فقد وفّر لهم حماية داخلية عن
أي مصادمة أو إشكالية غير محسوبة، كما وفّر لهم غطاء قانونيا سليما، هذا على مستوى
التنظيم، أما على مستوى الوعي والفكر والتواصل مع هموم الأمة، فلا شك أنهم بالأساس
ينطلقون من ثقافة الأمة وهويتها وعقيدتها.
إن هذه الإطلالة السريعة على ضفاف الأطلسي لن تعطي الصورة الكاملة عن ذلك المحيط
الزاخر، بل هي تحفيز للعاملين هنا من كل اللافتات أن يتواصلوا مع هذه التجربة المتميّزة،
والتي وقاها الله من أدواء الانغلاق والانشقاق والتطرف، وكانت كذلك سببا في حماية بلادها من
موجات الفوضى والعبث التي تعصف بأغلب بلدان المنطقة.