أخلاقٌ إنسانيّة !!

الإنسانُ محورُ الكون، الإنسانُ أكرمُ المخلوقات على الله تعالى، خلقه في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكُتب، وسخّر له الكونَ كلَّه بسماواته وأرضه!!

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

كرَّم الله الإنسان بغضّ النظر عن لونه، أو عرقه، أو بلده، أو دينه، أو مذهبه.

أو دينه؟!!

نعم الإنسان مكرّم بغضّ النظر عن دينه.. 

روى البخاري: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ!!

فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!!
أليست نفساً: أي أليست روحاً أليس بشراً؟!! (لقد كرّمنا بني آدم) فكلّ بني آدم مُكرَّمون عند الله تعالى.

هذه القيم العظيمة، تكريمُ الإنسان، والحفاظُ على حقوقه، وقيمةُ التسامح والتعايش والرحمة والرأفة والمعاملة بالحسنى، هل ستبقى قيماً فقط  للتمدّح والتغنّي والخطب الرنّانة والمقالات البليغة؟ أم لا بدّ من تحويلها إلى سلوكٍ فاعل وأخلاقٍ غالبةٍ، وإجراءاتٍ عمليّة؟

لقد كانت هذه القيم منتشرةً زمنَ قوّتنا وتمكّننا، لكنها تضاءلت في عصرنا هذا، ففي زمن الهزائم والخذلان والضّعف يشيع الفقه المتشنّج، الحدّي مع الآخر (العين الحمرا).. وفي زمن التمكين والاستقرار والقوّة.. يشيع فقه التسامح والتعايش.. 

لقد افتقدنا هذه القيمَ عند صنفين من الناس.. الصنفُ الأوّل:

المتشدّدون والمتطرّفون من المتديّنين. 

والصنفُ الثاني: غيرُ الأخلاقيّين؛ ممّن لا دين له ولا خلق ولا قيم؛ ممّن يَعتبر الحياة مادّة، فمن الذكاء جمعُ ما تستطيع منها دون قيد أو شرط.

فالإنسانُ دون دينٍ وخلقٍ وضميرٍ، وحشٌ كاسر، أطماعُه تَجعلُه يرتكبُ المَجازر، التي يذهب ضحيَّتها النساء والأطفال والشيوخ، ويُتاجرُ بالأعضاء والأطفال والنساء، ويُمارسُ الغشَّ والخداع والاحتيال؛ ليروي شهواته ورغباته..

وهنا نؤكّد على ما يُميّزُ الإنسان، وهو القلب والروح، فالحضارةُ الماديّة منحت الإنسان الرفاهيةَ، لكنّها لم تمنحْه السكينة، ووفّرت له المتعةَ الماديّة، ولم تُوفّر له السعادةَ الروحيّة، وهيّأت له الوسائلَ والأدواتِ، ولم تهيّء له المقاصد والغايات، فهو يحيا حياةً لا يعرفُ لها هدفاً، ولا يجدُ لها معنىً(1).

فالتقدُّم والازدهار، الذي نراه في كلِّ مكان من العالم، إنْ لم يرافقْه نهضةً خُلقيّةً وروحيّةً وقيميّةً، فسيبقى تقدُّماً وانتعاشاً على صعيد المُخترَعاتِ، وأدواتِ الرفاهية والزينة، وأسباب القوَّة فقط، وهذا سيُشكِّل مأساةً على المدى البعيد!

إنّ المذهبَ الوجوديّ الإنسانيّ قدّم للإنسانيّة وعوداً لم يحقّقها، كما أنّه أفقدَ الناس الشعورَ بالطَّمأنينة الروحيّة، وجعلَ الناس عبيداً للمادّة.

أمّا المتشدّدون والمتطرّفون فقد شوّهوا جمال الإسلام وتسامحه ونزعته الإنسانيّة بتصرّفاتهم الرعناء، وروحهم المتعصّبة والطائفيّة، وقلبهم البغيض الأسود..

إلى الآن ما زال بعضنا يعيش بعقليّةٍ كعقليّةِ العصور الوسطى المتخلّفة في أوربّة، التي كانت مشغولةً عن حقوق الإنسان وحرّيّته وأحلامه وتطلّعاته، وكيف نحمي الإنسان من الفقر والجهل والمرض والقهر؟! بينما هم يهدرون الإنسان دفاعاً عن جناب الله تعالى -بزعمهم-، ويسفكون الإنسان خوفاً من الهرطقة والضلال بزعم الكنيسة(2).. 

وكذلك بعضنا يعتدون على إخوانهم، لمخالفتهم رأيهم في بعض صفات الله تعالى، أو حكم التوسّل برسول الله عليه الصلاة والسلام.. 

فكيف يتساهلُ بعض المتشدّدين مع الذين يفجّرون أنفسهم بين أناس لمجرّد مخالفتهم لهم في الدين، وانتمائهم إلى دولة معادية؟، أو لاستحقاق أحدهم للقتل برأي ذلك القاتل؟!!

بالفعل سلوكيّات بعض الغلاة تؤيّد من يقول: (المتديّنون منشغلون بتنزيه الله تعالى، وغافلون عن حقوق الإنسان) مع أنّ الإسلام جاء لسعادة الإنسان ورعاية حقوقه.. إلى جانب ربط قلبه بخالق الكون الواحد سبحانه وتعالى.

وقد كان نبيّنا محمّدٌ عليه الصلاة والسلام الإنسانَ الكامل، فحتّى عندما كان مُستغرقاً في الصلاة كان يراعي أحوال الناس خلفه، قال: ((إذا صلَّى أحدُكُم إماماً للناس، فليُخفِّف، فإنّ فيهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ. وإذا صلَّى لنفسه –أي مُنفرداً– فليُطوِّل ما شاء)) متفق عليه.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنّي لأقومُ إلى الصلاة، وأريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في صلاتي كراهية أن أشُقَّ على أمِّه)) متفق عليه.

والآن ما المطلوب؟ حتّى نُحييَ النزعة الإنسانيّة عندنا؟

أولاً: التعامل برفق مع مخلوقات الله من حيوان ونبات:

علينا أنْ نُعمِّقَ النزعة الإنسانيّة لدى الأجيال الجديدة؛ من خلال التعاطف مع الحيوان، ومع الأشياء من حولنا؛ بغيةَ بناءِ خطوط دفاع متقدِّمة، تَحول دون ظلم الإنسان أخاه الإنسان.

فالنصوصُ الواردةُ في مديح من يُساعد الحيوان، وذكر الوعيد الشديد على إيذائه – تستهدف تنميةَ المشاعر الخيِّرة، ومشاعر الأُلفة والرعاية، كما تستهدف كبحَ المشاعر الشرِّيرة. 

كما يجب صيانةَ ما هو موجود من الثروة الحيوانيّة والنباتيّة، وتنميته وتكثيره؛ لأنّ الناسَ يكثرون، وهم بحاجة إلى المزيد من الموارد، ونجد في هذا المعنى قوله – صلّى الله عليه وسلّم -: ((مَن غَرَسَ غَرساً لم يأكُل مِنهُ آدَمِيٌّ، ولا خَلقٌ من خَلق الله -عزّ وجلّ- إلا كان لهُ صَدَقَة)) أحمد وغيره، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إن قامَتِ الساعةُ على أَحَدِكُم وفي يَدِهِ فَسيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ ألاَّ تقومَ حتى يَغرسَها فَليَغرِسها)) أحمد وغيره.

 كما جاء التوجيهٌ للمسلم أنْ يتعاطفَ مع مخلوقات الله تعبيراً عن الرحمة التي في قلبه، وشكراً له سبحانه على ما سخَّره منها، وورد النهي عن إيذاء الحيوانات في أحاديث كثيرة، منها أنّه نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوَسْم في الوجه، ومرَّ يوماً بحمار قد وُسِم في وجهه، فقال: ((لعنَ الله الذي وَسَمَهُ)) رواه مسلم، والوسم: هو كي الحيوان بحديدة محماة حتّى تترك علامة للزينة، أو لتمييز الحيوان بتلك الإشارة.

ومرّةً أخذ بعض الصحابة فِرخَيْ طائر، فجاءت أمّهما ترفرف باحثةً عن صغيريها، فقال فداه روحي: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها)، (ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار!!) أبو داود.

ثانياً: معاملة الناس كلّهم بأخلاق فاضلة:

معاملةُ الناسِ كلِّهم بالقيم نفسها، وليس المسلمون الملتزمون فقط،

 كذلك الشاب الملتزم الذي ركب الحافلة، ولمّا اكتظت بالركاب، صعدت امرأة طاعنةٌ في السّنّ، فلم يَقمْ لها ليُجلسها موضعه، لأنَّها كانت سافرةً، ولمّا صعدتْ امرأةٌ مُحجّبةٌ، قامَ لها وأجلسها مكانه، على الرّغم من أنّها أحدث سنّاً من العجوز، فكان تصرّفُه غيرَ لائق..

فإطعام الفقير، وتعليم الجاهل، وعلاج المريض، ومساعدة المحتاج… أفعال فاضلة ينبغي تقديمها لكلّ إنسان، بنفس الجَودة والحماسة.. روى البخاريّ عن حبيبنا صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).

أي: كلّ كائن حيّ لنا بمساعدته أجر..

فعمل الخير يجب أن يتناول بني آدم، بغضّ النظر عن انتمائه وعرقه ولونه..

فإذا دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتّى ماتت، ودخل الجنّة رجل سقى كلباً ماء فأنقذ حياته، فكيف بمن يساعد إنساناً!..

بل هذه الأخلاق الفاضلةُ كثيراً ما كانت سبباً لكي يُحبّ غيرُ الملتزم الالتزامَ بتعاليم الإسلام، والخلقُ الحسن كثيراً ما كان سبباً لكي يدخل غيرُ المسلم في الإسلام، لإعجابه بسلوك بعض المسلمين.

قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين) وليس للمسلمين فقط..

وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والبِّرّ: هو أفضل المعاملة، طُولبنا بالبرّ لأهمّ مخلوقين عندنا وهما: الوالدان، والآية الكريمة تطالبنا بالبرّ لغير المسلمين المسالمين، أمّا القسط فهو العدل.

ثالثاً: عدم التسرع بالحكم على ظاهر الناس، والرفق بالعُصاة والشفقة عليهم:

 بعضُ الشباب يحلقون لحاهم، ويلبسون الثياب الضيّقة، وقد أطالوا شعورهم، لكنّهم يحافظون على الصلاة، ويحافظون على صيام النوافل، وفي بعضِ البلدان أعدادٌ هائلةٌ من النساء لا يلبَسنَ الحجاب، ويخرجنَ متزيّنات، ورغم ذلك يُحافظن على الصلاة، وتلاوة القرآن والأذكار، وبعض رجال الأعمال ينفقون على الفقراء والمحتاجين سرّاً، مع أنهم مُقصّرون في أداء الصلاة، وربما يَتساهلون في طرق الكسب وجمع الثروة..

فالحكمُ على الناس بناء على المظاهر -التي قد يكون بعضها مُحرّماً- خطأٌ، قد ينتهي بنا إلى الانصرافِ عنهم، وتركِ الاهتمام بهم، بل قد يدعونا إلى معاداتهم، (فكلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون)، فكثيرٌ من هؤلاء فيه خيرٌ كثير، وقَابليّةٌ كبيرةٌ للصلاح، بل كثيرون ربّما يتفوّقون على الملتزمين بطيب القلب، وحُسن الخلق، والشهامة والرحمة، ويحبّون الالتزام، لكنّ نفوسهم تغلبهم عليه، ويشعرون بالتقصير والانكسار لله تعالى بسبب ذلك..

بينما نحن ـ الملتزمين ـ نشعرُ بالتفوّق والاستعلاء عليهم!! وهذا من باطن الإثم، الذي ينبغي أنْ ننتبه له..

ورحم الله القائل: ربَّ معصيّةٍ أورثت ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزّاً واستكباراً.

ولو قلتُ لبعض الناس في حقّ مُدْمن خمر: (هذا يحبّ الله ورسوله) لعله يُبادر ويقولُ: ما هذا التمييع بالدين، وما هذه المبالغة الممجوجة؟!!

فهذا صحابيّ (كما روى البخاريّ) مُدْمن خمر، وكان فكهاً، يُضحك النبيّ  ، وذاتَ مرةٍ جِيء به وقد شرب، فأُمر به ليجلد، فقال شخص: (لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به). 

فقال رسولنا الكريم الرحيم عليه الصلاة والسلام: (لا تلعنه، فإنّه يحبّ الله ورسوله)…

مثل هذه النصوص تغيب عن ثقافة المتشدّدين المتجهّمين، والغلاة القساة.. الذين شوّهوا الدين، وبغّضوه للنّاس.

رابعاً: تنمية مشاعر الصَّفح والعفو والإعذار:

 وذلك من الاستجابة لأمر الله تعالى في هذه الأمور أوّلاً، ومن أجل التَّكيُّف والتأقلم مع الطبيعة البشريّة الخطّاءة، حيث إنّ علينا دائماً أنْ نتوقَّعَ تصرفاتٍ غيرَ ناضجة، ومواقفَ غير سديدة، وإنّ التوقُّف عندها، والمحاسبة عليها، على نحو مستمرّ من العوامل التي تزيد في الاضطراب الاجتماعيّ، وقد قال الله تعالى مادحاً العفو وأهله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ!}.

وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وقد كان نبيّنا ﷺ يُقدّمُ الأنموذج الأسمى في العفو عن الإساءات، وغضّ الطرف عن الهفوات، وفي هذا تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ما ضربَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من مَحارم الله تعالى، فَينتقمَ لله)) رواه مسلم..

فالأسبابُ التي تجعل الناس يُسيئون التقدير، أو يقعون في الزلل، أو يَجرون خلف رغباتهم أكثرُ من أن تحصى، ولو أنّنا عرفنا هذا حقَّ المعرفة، فإنّنا سنجد أنّ العفو والصفح هو الموقف الصحيح في معظم الأحيان.

وقد ثبت أنّ فرضَ القوانين من غير تثقيف وتربية، وإحداث تغييرات مهمَّة على صعيد الرُّوح والنفس… لا يكون ذا فائدة تُذكَر. 

وقبل أن ننهي كلامنا، هناك تساؤلان على ما قدّمنا:

سؤال يتعلّق بنا نحن المسلمين، وآخر يتعلّق بغيرنا.

أمّا التساؤل الأوّل: أين الولاء والبراء، والحبُّ في الله والبغضُ في الله؟

الجواب: أمّا الولاء والبراء، فمن المؤكّد أنّنا لا نوالي أعداءنا، ونحن نبرأ من عقائد غير المسلمين.

وأمّا الحبّ في الله، والبغض فيه: فيجب أن نكره المعصية، ولا نكره العاصي، ونكره الكفر، ولا نكره الكافر، وإلا فكيف ستدعو من تكرهه؟ وكيف ستحرص عليه، وتشفق عليه من عذاب الآخرة؟، فاللازم هو كره الكفر والمعاصي، لا كرهَ الكافر والعاصي..

ثمّ إنّنا نخلط بين أوامر الشرع وقتَ الحرب، وبين أوامره وقتَ السِّلْم، فبعضُ الكتّاب والجماعات متخصّصون بكتابات الجهاد القتاليّ، فهؤلاء يتشبّع فكرهم بقيم الحرب وتعاليمه، وإذا لم ينتبهوا لذلك تَخرجُ آراؤهم غير متوازنة، وينعكس ذلك على كتاباتهم كلّها، فيشوّهون جمال الإسلام.

 كما أنّ قوماً على الطرف المقابل، يغلب عليهم الكتابة والتنظير للحياة العاديّة وقت السِّلْم، ولا ينتبه لحساسية الحرب، واختلافِ النظر فيها، فيُدخِلون قيم التسامح والتعايش لساحة الحرب..

والصوابُ أنَّ لكلِّ حالٍ أحكامها وآدابها وأخلاقها، فما يصلح وقتَ الحرب لا يصلح وقت السلم، والعكس صحيح.

ووضعُ النَّدَى في موضعِ السَّيْفِ بالعُلا = مُضِرٌّ، كوضعِ السَّيْفِ في موضعِ النَّدَى.

التساؤل الثاني: الآخر ليس متسامحاً معنا كما تطالبنا أن نكون معه:

قد يقول قائل: الآخر الذي تتحدّث عنه، وتطلب منّا معاملته بالحسنى، يتصرّف معنا بحقد وطائفيّة، ويقف مع الغرب، والغرب نفسه الذي يُنادي بحقوق الإنسان، هو يطبّق الحقوق، لكن للشعوب الغربيّة لا لنا.

ونقول: بشكل عام: كلامكم صحيح، لكن تصرّف الآخرين وحقدهم ليس مسوّغاً لمقابلته بحقدٍ مثله..

وإلا فما الميزة لنا عليهم؟ إذا شابهناهم بالطباع والأفعال والأخلاق؟

الإسلامُ يُريد أن يكون المسلم صاحب قلب نقيّ صافٍ، لا محلّ فيه للبغضاء والحقد، وهذا لا يعني الغباء (والسذاجة، أو البلاهة) فنحن طيّبون باختيارنا، لا عن غفلة، (فلستُ بالخِبّ ولا الخبُّ يخدعني)، فمن اعتدى علينا فليس له إلا البندقيّة (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فوقتُ الحرب نُري أعداءنا شدّةً وقسوةً، وصبراً وشجاعةً تَردعه.

ولِمَنْ كان مسالماً موادعاً نحن أطيب من عليها.


(1) خطابنا الإسلاميّ في عصر العولمة، د. يوسف القرضاويّ، ص64.

(2) التراث وإشكالياته الكبرى، د. جاسم سلطان، ص66




نجاحنا لا يتوقف على فشل غيرنا

كثير من الكتاب والمفكرين والدعاة المسلمين إذا تحدثوا عن مستقبل الإسلام، دخلوا مباشرة في الحديث عن مواجهة المخططات والتحديات الخارجية والمؤامرات المعادية، وإذا تحدثوا عن رسالة الإسلام وحضارة الإسلام وحاجة البشرية إلى الإسلام، فإنهم سرعان ما يربطون ذلك بأزمة الحضارة الغربية وعيوبها، ويتحدثون عن فشلها وبوادر تفككها وحتمية انهيارها.. وكأنه لا مستقبل للإسلام ولا مكان لرسالته وحضارته إلا على أنقاض الحضارة الغربية، ولا مكانة للمسلمين إلا بفشل الغرب وتلاشي قوته، وكأنه علينا أن ننتظر ذلك أو أن نعمل لأجله، لكي نأخذ بعد ذلك دورنا ونؤدي رسالتنا ونصنع مستقبلنا، وهذا ليس لازماً، كما أنه -في جزء منه- ليس صواباً، فمصلحة البشرية -ومنها المسلمون- تكمن في إنقاذ الحضارة الغربية وتحسينها وترقيتها ما أمكن، وهذا لن يتأتى -من جهة- إلا بمحاورتها واختراقها واستيعاب إيجابياتها وتبنيها.

ومن جهة أخرى بمزيد من النجاح والتقدم للإسلام، بعقيدته وأخلاقه وقيمه وشريعته، وبالنماذج والإنجازات المشرفة لأهله، والمشوقة لغير أهله.

إن المسلمين -من حيث هم مسلمون- يجب أن يؤمنوا بمستقبل الإسلام ومكانته، وبدوره ورسالته، وبإمكان نجاحه ونجاعته دونما توقف على نجاح الآخرين أو فشلهم، ولا على قوتهم أو ضعفهم، ولا على انتصارهم أو هزيمتهم. 

بعبارة أخرى: إن للإسلام مكانته وقوته ومستقبله حتى مع قوة الغرب وجبروته ومع بقاء حضارته وهيمنته.

لقد نهض اليابانيون ونجحوا فيما أرادوا النجاح فيه، تحت الهزيمة العسكرية والسياسية وتحت الاحتلال والتسلط الأمريكي، وكذلك فعل الألمانيون والكوريون الجنوبيون، والتايوانيون.

نعم هناك اختلافات حقيقية، ولكن هناك إمكانات حقيقية ليتقدم الإسلام وينتصر من حيث هو إسـلام، كما هناك إمكانات حقيقية لفعل الكثير من أجل نهضة المسلمين وتقدمهم وتحضرهم. وإن إظهار الحق وإنجاحه لا يتوقف -مسبقاً- على ذهاب الباطل وزواله، بل إن ظهور الحق ونجاحه وثباته هو المقدمة لزوال الباطل وتنحيه (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً).




من ثائر سوريّ إلى أهلنا في الجزائر

ما يحصل في الجزائر الغالية شيء غير مستغرَب، لأنّ الحكومة هناك كانت تستهين بالشعب البطل، وتستفزّه بترشيح (بوتفليقة) من جديد، وكأنّ الجزائريين الأحرار عقموا عن الإتيان ببديل، لكنّهم استدركوا وتراجعوا تحت ضغط الشعب الأبيّ.

وهنا أرجو أن يتّسع قلبهم لنصائح محبّ عاش في صغره في الجزائر سنتين، فشرب من مائها العذب، وأكل من طعامها الشهيّ، وتنسّم هواءها النقيّ.

ومازال يتتلمذ على فكر أعلامها الكبار، البشير الإبراهيميّ وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبيّ رحمهم الله، على الرغم من أنّ أهل الجزائر الكرام أصحاب تجارب طويلة وعميقة، ولا يحتاجون نصيحة أمثالي، لكنّها تذكير من مشفِق غيور لأهله وأحبابه، والذكرى تنفع المؤمنين إن شاء الله تعالى.

وأهل الجزائر الكرام أصحاب خبرة بالصدام مع السلطات، واستخدام العنف في التغيير. 

فالحذر الحذر من الانجرار للعنف مهما استفزّوكم، واتّهِمُوا كلَّ مَنْ ينادي بالعنف حتّى لو كان تحت اسم (الجهاد والدفاع عن النفس وردّ الصائل..) فالعنف في التغيير داخل المجتمعات نتائجه وخيمة، ومن يتحمّس وينادي باستخدام العنف إن لم يكن (خائناً) فهو (غير واع) والثاني مصيبتنا فيه أكبر، لأنّنا ننخدع بإخلاصِه وحماسَته وغَيْرَتِه.

تجربتنا في سورية علّمتنا أنّ أسلحة الأنظمة المستبِدة في مواجهة الحراك الشعبيّ: 

1- إثارة النعرات الطائفيّة (تفجيرات وتهديدات).

2- إثارة النزاعات العرقيّة (أمازيغ وعرب).

3- إطلاق سراح الشباب المؤمن (بالعنف طريقاً للتغيير) من السجون، وتسهيل مجيئهم من آفاق الأرض (كمقاتلي تنظيم القاعدة).

4- توريط الشباب بحمل السلاح بحجّة (حماية المظاهرات) وربما يدسّ النظام مسلّحين بين المتظاهرين ليُشعلوا فتيل الاقتتال بين (الشرطة والجيش) من جهة، وبين (الشعب الثائر) من جهة ثانية، وعند اللجوء إلى السلاح سيتفوّق النظام، لأنّه جيش منظّم، مدعوم دولياً، ضدّ شعب أعزل وعصابات متفرّقة (على أحسن تقدير) ولأنّه لن يتورّع عن إيذاء المدنيّين، لأنّهم حاضنة المتظاهرين، فيُوقع الشقاق بين الثوّار وحاضنتهم!.

5- أَدْلَجَة الثورة (أو المظاهرات) بجعلها إسلاميّة، أو قومية (عربية أو أمازيغية) أو يسارية أو ليبرالية أو غيرها.. 

فالمجتمع فيه أحزاب وجماعات وطوائف وأعراق وقوميّات وأفكار وإيديولوجيّات..

وكلّها عندها أفكار وأحلام وخطط ومناهج..

والاستعجال في رفع شعاراتها يعني محاولة استغلال الحراك واختطافه، وهذا يعني عدم سكوت الآخرين، ممّا يؤدّي إلى الاختلاف والتفرّق والصراع، فتذهب رِيح الثورة وتفشل..

فالحراك ينبغي أن يكون وطنيّاً، بعناوين عامّة مشترَكة متّفَق عليها بين القوى الوطنيّة المتعدّدة كلّها، وبعد نجاح الحراك تأتي الحملات الانتخابيّة والمرشّحون.. عندها يفرش الكلّ بضاعته، والناس تختار الذي تريده، عبر صناديق الاقتراع.

أمّا قبل نجاح الحراك فليس الوقت وقت شعارات حزبيّة أو إيديولوجيّة، فكلّ تشرذم ومحاولة فَرْض رؤية ضيّقة يعني تشتّت قوّة الثورة وفشلها..

فلْيبقَ لونُ ساحاتكم واحداً (لون العَلَم الجزائريّ الواحد) الذي يجمع تحت ظلّه أبناء الجزائر الأحرار كلّهم..

واتركوا كلّ راية أخرى الآن.. 

فالوطنيّة تجمع وتُنجح الثورات.. والإيديولوجيّة تفرّق الصفَّ وتُحبط الثورة وتشتّتها، وتجعل بأس أبنائها بينهم شديداً..

لذلك ينبغي أن يكون هدف الجميع:

1-إبقاء الحراك (وطنيّاً) يشترك فيه مكوّنات الشعب كلّها دون استثناء.

2-تعزيز الديمقراطيّة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

3- تأجيل التنافس الحزبيّ والإيديولوجيّ إلى ما بعد سقوط النظام.

 وبعد سقوط النظام وإقامة انتخابات حرّة ونزيهة، فالفيصل هو (صناديق الاقتراع) لا (فوّهات البنادق).. وإلا فالبقاء تحت حكم حاكم مستبِدّ أرحم وأفضل ألف مرّة من الحروب الأهليّة، والنزاعات بين مكوّنات الوطن المختلفة!

المعادلة التي يروّج لها المستبِدّون هي: إمّا الاستبداد مع الأمن والاستقرار، أو الحريّة مع الحروب والفتن.. فإمّا الحريّة وإمّا الأمن! كأنّنا محرومون من الجمع بينهما -مثل كل الشعوب المحترمة في الدنيا – ونقول لهم:

– (بل نريد الحريّة والأمن معاً).

لأنّ معادلة المستبدّين خادعة، فالاستبداد سيؤدّي -عاجلاً أم آجلاً- إلى الحروب والفتن، وعندها سنفقد الحرّيّة والأمن معاً..

 أمّا الحريّة والديمقراطيّة فستؤدّي للاستقرار والازدهار -عاجلاً أم آجلاً- بإذن الله تعالى.

منطق المستبدّين يقول: (إمّا نحن أو الطوفان).

ولكنّ الزمان قد استدار وأضحى المنطق الجديد يقول: (إرضاء الشعوب أو الطوفان).

لكنْ ينبغي أن يكون الطوفان مدروساً منضبطاً، وإلا غرق الشعب ونجح المتآمِرون والمتربّصون لا سمح الله,

فسنن الله في الحياة: عند الحراك الشعبيّ تأتي الأجندات والخطط كلّها، وتحاول استغلال هذا الحراك لصالحها! فعلى الشعب أن يحافظ على أهدافه في الحراك، ويلتفّ حولَ نُخَبه العصيّة على البيع والشراء، ممّن يثقون بهم، فلْيلتفّوا حولَهم ويحقّقوا هدفهم بإسقاط المستبِدّ الذي يريد الاستئثار بالحكم دون رضا شعبه الذي وكّله بالحكم لإدارة البلاد، وهو صاحبُ الحقّ في سَحْبِ وكالته.

طبعاً الأنظمة تلعب بالملفّات السابقة كلّها (الطائفيّة والعرقيّة والأَدْلَجَة واستخدام العنف).. لكن أكثرها نجاحاً هو (أَسْلَمَة الحراك، وتحويله لجهاد قتاليّ لإقامة حكومة إسلاميّة)..

وهنا سأهمس في أذن إخواني الإسلاميّين.

وجواباً على سؤال (لماذا الإسلاميّون فقط)؟

أقول: لأنّي منهم أوّلاً، ولأنّهم الفصيل الأقوى المتناغم مع هويّة البلاد، وتطلّعات الشعوب ثانياً.

ونصيحتي لإخواني الإسلاميّين ولغيرهم -طبعاً- بألّا يستعجلوا.. فالعاقبة للتقوى..

ولا ينخدعوا بأرباح (آنيّة هشّة) مثل (سيطرتهم على الحكم بعد سقوط الحكم مباشرة) فالانقلاب عليهم سهلٌ جدّاً، وقد جرّبه الإسلاميُون في عدّة أقطار لم تترسّخ فيها الديمقراطيّة.

بل يركّزوا على أرباح (استراتيجيّة عميقة) وهي (ترسيخ الديمقراطيّة في البلاد).. ولْيتركوا الحكم لغيرهم بعد نجاح الحراك، ولْيُركّزوا على ترسيخ الديمقراطيّة وحمايتها، ويركّزوا كذلك على حماية وجودهم والاعتراف بهم كأحزاب سياسيّة.. وبعد ترسّخ الديمقراطيّة في البلاد، وتمكّن التداول السلميّ على السلطة عبر الانتخابات الحرّة والدوريّة، يمكنهم خلال هذه الفترة (فترة ترسيخ الديمقراطيّة) تأهيل كوادرهم، والمشاركة البسيطة في البرلمان والوزارات، ثمّ التوسّع بالمشاركة بالتدريج حتّى يأتيهم يوم يترشّحون ويحكمون فيه براحة وأهليّة وتمكّن، ولْيخلصوا –دائماً وبخاصّة بعد استلام الحكم- للديمقراطيّة لأنّها العَقد والعَهد الذي وصلوا به للحكم، وقد أمرنا الله بالوفاء بالوعد والعهد، ولا ينقلبوا على الديمقراطيّة -كما يتّهمهم خصومُهم- بل يقدّموا أفضل نموذج واعٍ سياسياً، ومؤهّل كوادِرِيّاً، ونهضويّ برامجيّاً، متحضّر سلوكيّاً، ينهضون بالبلاد ويحترمون العباد، وعندها سيعيد الناس انتخابهم، وإن لم يقدّموا نموذجاً يخدمون فيه الناس، عبر تطوير التعليم والصحّة، والمشاريع الاقتصاديّة، وتأمين الوظائف، والخدمات فسيستبدلهم الناس عبر صناديق الاقتراع.

هذه خلاصة خبرتنا في ثورتنا السوريّة.. فقد استعجلنا وجرّبنا في الثورة السوريّة الأحلام الإيديولوجيّة كلّها قبل سقوط النظام المجرِم!!

وحفظ الله أهلنا في ‎الجزائر من كلّ شر، ووفّقهم لكلّ خير.




مكانة  الدولة عند الحركات الإسلامية

كثير من الجماعات الإسلامية، وكثير من العلماء والدعاة، يعلقون –بدرجة كبيرة- وجود الإسلام، وتطبيق الإسلام، ومصير الإسلام ومستقبله، على موقف الدولة ومدى التزامها بالإسلام وقيامها بحمل رايته، وكثيرون يرون أن التطبيق الحقيقي للإسلام والمستقبل الحقيقي للإسلام إنما يتمثل في “قيام الدولة الإسلامية” أو ربما “الخلافة الإسلامية”.

ولا شك أن الدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي هي عروة من عرى الإسلام، وحصن حصين للحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، ولذلك فإن الانشغال بأمر إقامتها وبذل الجهود والتضحيات في سبيلها أمر مشروع ومعتبر.

 غير أنه حينما تصبح إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل والهدف العاجل، أو هي الأولوية العليا والغاية القصوى، فإن هذا يصبح داعياً للتريث وموجباً للتثبت، حتى نضع الأمور في نصابها ونعطيها قدرها ومكانها.

لقد رأينا في حركاتنا الإسلامية من يجعلون من إقامة الخلافة شعارهم، ومجمع أهدافهم ومبتدأ طلبهم وتحركهم، معتبرين أن الأمة الإسلامية لا ينقصها سوى استرجاع الخلافة السليبة والنظر في وجهها والتمتع بجاهها.

ومنهم من اعتمدوا شعار “الدولـة الإسلاميـة أولاً”، فخاضوا لأجل الإقامة الفورية لها كبرى معاركهم وألقوا فيها كامل ثقلهم، وجندوا لها كل طاقاتهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية.

ومنهم من لا يجعلون الخلافة والدولة كل شيء أو أول شيء، ولكنهم يجعلونها أصلاً من أكبر أصولهم، ومنطلقاً محدداً لتحليلاتهم ومواقفهم ومسارهم، ولذلك فهي عندهم “أعز ما يطلب” حسب عبارة المهدي بن تومرت التي سمى بها أحد كتبه.

وأود أن أوضح أموراً من شأنها أن تساعد على تحديد موقع الدولة ومكانتها في الإسلام، من غير إفراط ولا تفريط، فيما أحسب. 

لا نجد في شـرع الله تعالـى نصاً صريحاً آمراً وملزماً بإقامة الدولة، كما لا نجد في شأنها نصوصاً في الترغيب والترهيب على غرار ما نجد في سائر الواجبات، وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة، ووجوب نصب الخليفة، من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحي والتخريج القياسي، وامتداداً للأمر الواقع الذي تركه رسول الله.

وفي جميع هذه الحالات، فإن وجوب الدولة والخلافة إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد، فهي (أي الدولة) من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بمعنى أن هذا الواجب ليس من نوع “الواجب لذاته” وإنما هو من نوع “الواجب لغيره”، ومعلوم أن الواجب لغيره أخفض رتبة وأقل أهمية من الواجب لذاته، وهذا يعني أمرين:

الأول: أن السعي في إقامة الواجب لغيره لا ينبغي أن يكون على حساب ما هو واجب لذاته، ولا يجوز أن يكون ضاراً به أو مفوتاً له.

والثاني: أن ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة، إذا أصبح ممكن التحقيق بغير الدولة فقد سقط وجوب هذه الوسيلة سقوطاً جزئياً.

كما أن الدولة القائمة قد يتأتى في كثير من الحالات إقامة بعض الدين في ظلها أو من خلالها، حتى ولو كانت منحرفة أو مناوئة أو معادية، فضلاً عما إذا كانت محايدة أو محابية.

وفي هذه الحالات أيضاً فإن أهمية “الدولة الإسلامية” وضرورتها تنقص بقدر ما تتيحه “الدولة القائمة” من فرص وإمكانات لإقامة الدين وإقامة أحكامه في الحياة الخاصة والعامة.

ثم إن الدولة التي نعتبرها وسيلة، هي في الحقيقة وعلى وجه التفصيل مجموعة من الوسائل، وهذه المجموعة من الوسائل قابلة للتفكيك والتفريق، أو بتعبير الأصوليين: قابلة للتبعيض، بحيث يتحقق بعضها دون بعض، ويكون بعضها قابلاً للتحقيق وبعضها ليس كذلك، ويكون بعضها صالحاً مشروعاً، ويكون بعضها منحرفاً مرفوضاً، وهذا يعني أن ما يكون متحققاً وصالحاً ومقبولاً في الشرع، أو كان ممكن التحقيق والإصلاح، فهو جزء من “الدولة الإسلامية” يجب التمسك به والاعتداد به.

غير أن الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصاً على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر، وربما لم تزدد الدولة بفضل جهودهم إلا بعداً وعسراً، وهكذا فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم.

والأدهى من هذا والأمر، هو أن يصل طلب الدولة والسعي إلى إقامتها إلى درجة التعذر والانسداد، أو بعبارة أخرى: يدخل طلب الدولة في مرحة انسداد المسالك وانفتاح المهالك، ومع ذلك يستمر الإلحاح والإصرار والصدام، والحقيقة أن إقامة الدولة تخضع لشروط وأسباب وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية، لا يمكن إلغاؤها أو القفز عليها بمجرد رغبة أو قرار، ولا بمجرد تقديم جهود وتضحيات، حتى ولو كانت صادقة ومخلصة وجسيمة، وقديماً قال ابن عطاء الله الإسكندري رحمه الله: “ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله” فمن يريد ويصر على أن يحقق شيئاً ويظهره في الوجود من غير أن يرى أن الله تعالى قد هيأ أسبابه وأنضج شروطه، فإنما يعبر بذلك عن جهله الكبير بالسنن والقوانين الاجتماعية.

نعم إن عمل الإنسان وجهده وتقدمه ونجاحه هو جزء من الأسباب والشروط، وهو محرك للسنن والقوانين بإذن الله، ولكنه يظل محكوماً أو على الأقل محدوداً بفعل عوامل كثيرة لا يجوز إغفالها أو إسقاطها من الحساب والتقدير، ولو فرضنا أن إقامة “الدولة الإسلامية” هي شعيرة تعبدية وفريضة تعبدية مطلوبة لذاتها، لكان على طلابها أن يتأنوا في التقدير ويتدرجوا في التدبير، وأن يجملوا في طلبهم “فإن المنبَتَّ لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى” فكيف والأمر لا يصل إلى هذه الدرجة ولا يكتسي هذه الصفة.

أضف إلى هذا أن المجال فسيح أمام الحركة الإسلامية ودعاتها وعمالها في أن تحقق الكثير من أهدافها ومن أحكام دينها ومن إصلاح مجتمعها، من غير أن تقيم دولة ومن غير أن تمتلك سلطة، وذلك من خلال العمل في صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة ومن خلال “إقامة الأمة بديلاً عن إقامة الدولة”، وبيان ذلك فيما يلي:

بنـاء الأمـة أولاً:

عن أبي أمامة قال: قال رسول الله :لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة”.

يكثر الاستشهاد بهذا الحديث على أهمية الدول الإسلامية وعلى أولويتها أو ضرورة استعادتها ضمن حركة التصحيح وإعادة البناء، حيث إن الحديث اعتبر الحكم عروة من عرى الإسـلام.

غير أن هذا الحديث يشير إلى حقيقتين ضمنيتين لا ينتبه إليهما المستشهدون به، وهما:

  1. كون الحكم هو أضعف عروة من عرى الإسلام، لأن الانتقاض والانكسار يصيب أول ما يصيب الجزء الأضعف أو الأقل صلابة من أي شيء، بينما يظل الجزء الأكثر قوة ومتانة صامداً مقاوماً لعوامل الهدم والكسر، حتى يكون الأخير بقاء والأخير انكساراً وانتقاضاً، فمعنى الحديث أن أضعف ما يعتمد عليه الإسلام في وجوده وبقائه هو الحكم، وأن أقوى ما يقوم عليه وأصلب ما فيه هو الصلاة.
  2. إن الإسلام يمكنه أن يستمر ويستقر وينمو ويمتد حتى مع انتقاض عروة الحكم، بانحرافه أو غيابه، فمن المعلوم أن الله تعالى أنزل دينه “ليظهره على الدين كله” وأنه وجد ليبقى إلى قيام الساعة، فإذا كان سيفقد عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخه، فمعنى هذا أنه سيعيش ويستمر قائماً زمناً طويلاً دون الاعتماد على تلك العروة المنتقضة !!!

ومصداق هذا التنبيه النبوي وتفصيله وبيانه يوجد في تاريخ الإسلام والمسلمين، من أول قرونه إلى الآن، فقد ترعرع الإسلام واشتد عوده وامتد نفوذه عبر الزمان والمكان بالرغم من انتقاض عروة الحكم، وصان المسلمون عزتهم ومنعتهم وحفظوا بيضتهم وأقاموا حضارتهم وطوروا علومهم، بل وسعوا رقعتهم ونشروا في العالمين دينهم، بالرغم من الانحراف والفساد والوهن في دولتهم وحكامهم وحكوماتهم.

ماذا يعنـي هذا؟

يعني أن عرىً أخرى في الإسلام أكثر أهمية وفاعلية من عروة الحكم بقيت قائمة مشتغلة، ويعني أن الأمة تستطيع أن تكون قوية متينة نامية فعالة حتى مع وجود اختلالات وانحرافات وعاهات في نظام حكمها، ومعنى هذا أيضاً أن الدولة ليست كل شيء وليست أهم شيء، وحين تصير الدولة هي كل شيء أو هي أهم شيء، في حياة الناس، وحتى في أذهانهم، فإنها تصبح حينئذ أخطر شيء على الناس وعلى قدراتهم ومبادراتهم وفاعليتهم.

أما حين ينظر الناس إلى الدولة على أساس أن لها حيزاً محدوداً ووظائف محدودة، وأنها لا يمكن أن تقوم مقام الأمة ولا أن تلغي وظائفها، فإنهم حينئذ يتحررون من عقدة الدولة ومن تأليه الدولة، وينطلقون في أداء واجباتهم وإصلاح شؤونهم وبناء مجتمعهم وحمل رسالتهم، أياً كانت مواقف الدولة ودرجة تعاونها أو تخاذلها أو انحرافها.

ومن الواضح جداً أن عامة المسلمين وعلماء المسلمين عاشوا ومضوا زمناً طويلاً وقروناً عديدة على هذا الأساس، ولذلك استمر الإسلام يزداد قوة بعد قوة، وينتشر ويتسع مداه يوماً بعد يوم، واستمرت الشعوب الإسلامية في تماسكها وتقدمها وعطائها بالرغم مما أصاب أنظمتها الحاكمة وحكامها من أعطاب وعيوب لا أنكر آثارها السيئة ولا أقلل منها.

وهذا ما يحتم علينا العناية بالأمة وبتفعيل طاقاتها وتطوير آليات عملها قبل العناية بالدولة ومؤسساتها، ليكن شعارنا في ذلك: (بناء الأمة وتفعيلها أولاً).

لنتذكر أن الأمة هي ما يزيد على الألف مليون، وأن عشرات الملايين منهم يوجدون في قلب الدول الغربية والحضارة الغربية، وأن في الأمة ملايين من العلماء والأثرياء، ومن المفكرين والمبدعين، ومن الدعاة والعاملين، وملايين من المستعدين الراغبين في البذل والتضحية والجهاد لدينهم ولأمتهم وللبشرية قاطبة، وأن كل هذه الطاقات التي لا يحصيها إلا الله تعالى، لا تحتاج إلا إلى التحريك والتوجيه، تحتاج إلى من يسلك بها سبل الرشاد، في الدعوة والتعليم والإعلام والتدافع السياسي والثقافي السلمي، والعمل الخيري والتنموي.

إن الامتحان الكبير الذي على العلماء وطلائع العمل الإسلامي أن يخوضوه وينجحوا فيه هو تفعيل طاقات الأمة في جميع الاتجاهات، والوصول إلى الاشتغال الآلي للمجتمع الأهلي، أو ما يسمى اليـوم بالمجتمـع المدني.




الجبريّة في العالم الإسلاميّ

بسم الله الرحمن الرحيم

من أسباب انهيار حضارتنا شيوع مبدأ الجبريّة بين الناس، فالمرء لا حول له ولا طَول، ولا قدرة ولا إرادة، وإنّما هو يحيا بتوجيه خفيّ، أو جليّ من مشيئة الله، التي تدفع به ذات اليمين أو ذات الشمال، والتي تهيّئ له حياة العسر، أو حياة اليسر برغمه.

وقد يذكر من باب التغطية أو الاعتذار عن الشرع (!) أنّ للإنسان كسباً أو اكتساباً، والحقيقة أنّه مسلوب الإرادة على حدّ قول الصوفيّ: ” أنا قلم، والاقتدار أصابع”!

وما يصنع القلم وحده؟ إنّه أداة وحسب، أو كما يقول الجبريّون أنفسهم في بيان حال الإنسان مع الأقدار الغالبة:

  • كريشة في مهبّ الريح حائرة .. لا تستقرّ على حال من القلق.

ولا يزال أغلب المسلمين إلى يومنا هذا يرون أنّ الطاعة والمعصية، والغنى والفقر، حظوظ مقسومة، وأنصبة مكتوبة، وأنّ المرء مسيّر، لا مخيّر.

ونشأ عن ذلك أنّ الشخصيّة الإسلاميّة اهتزّت، وسيطر عليها لون من التسليم والسلبيّة… والسبب في ذلك علم الكلام، والتصوّف، وبعض مفسّري القرآن وشرّاح السّنن.

إنّ التربية الصحيحة تقوم على حقائق واضحة، وعلى تقرير حاسم للمسؤوليّة الإنسانيّة، ولا يجدي في هذا المجال جدل ولا لعب بالألفاظ.

ومذهب الأشعريّ الذي اعتنقه جمهور المتأخّرين، يتحدّث عن المسؤوليّة الشخصيّة بأسلوب غامض، لا تتّضح معه عدالة التكليف حتّى قال الظرفاء فيه: أخفى من كسب الأشعريّ!

أمّا الصوفيّة.. فقد محقوا الإرادة البشريّة، وجعلوا الإنسان مشدوداً بخيوط إلهيّة إلى مصيره المجهول أو المعلوم..

وكذلك فعل بعض علماء التفسير والحديث، وهم يشرحون النصوص المتّصلة بالقدر، ولا بدّ من تخليص العقل الإسلاميّ من هذا القصور والتخبّط، بحيث يُقْبِل المسلم على الحياة وهو موقن بأنّه مكلّف بحسب استعدادات حرّة، وأنّ له قدرة وإرادة يملكان قدراً من الاستقلال، يُسال به عمّا يفعل، وأنّه لا جبر ولا افتيات ولا تمثيل في قصّة هذه الحياة التي نحياها..

• المسلمون وقانون السببيّة:

وينضمّ إلى شيوع مبدأ الجبر، ضعف الصلة أو انقطاعها بين الأسباب والمسبّبات، فعدد كبير من المربّين والموجّهين أشعروا الأمّة بأنّ النار قد توجد ولا يوجد الاحراق، وأنّ الماء قد يوجد ولا يوجد الريّ، وأنّ السكّين قد توجد ولا يوجد القطع.. وأنّ الواجبات العاديّة قد تتخلف، وأنّ قانون السببيّة – على الإجمال – غير ملزم ولا مطّرد..

وعلماء الكلام الذين مالوا إلى هذا الرأي، أرادوا الردّ على بعض الفلسفات الإغريقيّة التي تجعل الأسباب خالقة، وتنسب إلى الطبائع ما يقع هنا وهناك..

وكلام اليونان أنّ الطبيعة تخلق، وأنّ السبب – من ذاته – يفعل، كلام لا وزن له، ولا دليل عليه، بيد أنّ الردّ لا يكون بنفي ما أودع الله في الأشياء من خواصّ، وما ناطه بها من آثار، فإنّ الأسباب – بقدر الله فيها – تؤتي نتائجها حتماً، أمّا خوارق العادات فلها شأن آخر، وتعليلات فوق المعارف المعتادة، وهى إذا صدقت شذوذ يؤكّد القاعدة ولا يهدمها..

لكنّ المسلمين – خصوصاً في القرون المتأخّرة – جعلوا الدنيا لا تضبطها قاعدة، ولا يحكمها قانون، ومن المقبول عقلاً وشرعاً أن يتزوّج رجل في المشرق بامرأة في المغرب، وأن تلد منه على بعد الشقة، لأنّه قد يكون من أهل الخطوة!! أي ربّما انتقل من المحيط الهنديّ إلى الأطلسيّ في لحظة مّا من ليل أو نهار..!!

وهذا التصوّر المخبول لا ينضج معه علم، ولا يصحّ فيه بحث، ولا يملك أصحابه الأدوات التي يحقّقون بها نجاحاً عمليّاً في هذه الحياة.

والمقرّر في العلوم الكونيّة والتجريبيّة والإنسانيّة وغيرها أنّ قانون السببيّة محترم، وأنّ رفضه جنون.

والغريب أنّ كتابات دينيّة كثيرة جعلت “الولايّة” مقرونة بخرق العادة، ولمّا كان في كلّ قريّة شيخ مشهور بالصلاح، ولمّا كان لا يخلو زمان من هؤلاء الأشياخ العظام (!) ولمّا كان خرق العادة يقع منهم أحياء وأمواتاً، بطريقة تعتبر إنكارها جرماً، فإنّ سيلان الخوارق زحم العالم الإسلاميّ، وجعل قانون السببيّة لغواً…

وكان لذلك أثر محزن في انهيار حضارتنا، واختلال ثقافتنا…

وقد تدارك العلماء هذا العوج وألّفوا رسائل في دعم قانون السببيّة، وضرورة احترامه..

والشيء الذي نقف عنده قليلاً هو هوس بعض الكاتبين في إثبات الولايات وخوارقها، كأنّ الرسالة الإسلاميّة ما جاءت إلا لإثبات هذه القضيّة!!

والذي بدا لي أنّ هذا الهوس يرجع إلى التعلّق بغير الله تعالى، ودعاء المقبورين لعمل العجائب.

فإذا قلت: رجل مات، ما تنتظرون منه؟

قيل: إنّه – حيّاً أو ميّتاً – يفعل بقدر الله.. فالتعلّق به لا ينكر.

فإذا اعترضت، جاء الاتهام السريع: أتنكر كرامات الأولياء؟!

وأمّة يدور تفكيرها في هذه القوقعة، كان لا بدّ من أن تنهار أمام أعدائها.




مقاربات سلطة النص وسلطة العقل بين الجابري وغليون

تبقى منطلقات المشروع الحضاري خاضعة لثنائية الإحياء والحداثة.

اي بين استحضار الماضي المتمثل بسلطة النص، وبين سلطة الواقع الممثلة بالعقل. 

وغالب ما كتب، سواء أكان بقصد التصالح بين السلطتين ام كان بالدعوة إلى القطيعة المعرفية بينهما، بأن يجهِّل أحدهما الاخر أو يخونه، لم يصل إلى الغاية المنشودة  وهي ان يصل العاملون تحت هاتين  السلطتين إلى مشروع نهضوي مقنع ومرتضى.

ولكن هذا الهاجس لازال يحرك القرائح الغيورة والمحبطة في الوقت ذاته، لتقديم مقاربات تمهد لاجتماع السلطتين  على صعيد  واحد.

وذلك بابتعادها عن المساس بالنص أواللجوء إلى تحويره وبابتعادها عن تأليه العقل.. 

ظهرت مقاربتان  تتبنيان هذه المقولة، فبدل ان تتعامل مع النص اتهاما او تحويرا، قالت سأبحث في العقل الذي تعامل مع النص ومع الواقع..

المقاربة الأولى : قام بها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه ( بنية العقل العربي) عندما حاول الدخول إليه عن طريق تفكيكه  ووضع اليد على المؤثرات الفعالة فيه ، ليصل  إلى معرفة طريقة التعامل مع النص .

فهي محاولة إحيائية، ولكنها لا تدعو إلى اعمال النص وحده   وإنما إلى معرفة الكيفية التي تعامل العقل العربي بعلمائه معها. 

المقاربة الثانية  :قام بها الدكتور برهان غليون في كتابه ( اغتيال العقل) حيث جعل من منطلقاته فهم العقل الحديث وتركيباته وكيفية فهمه للنص وأثر الواقع عليه.

فهي – اذا – محاولة حداثية، تخضع لمقولات الحداثة.

وهما مقاربتان الأولى تنطلق  في البحث ( من العقل القديم) ، والثانية تنطلق  في البحث ( من  العقل الحديث) 

وهاتان المقاربتان جديتان ومقبولتان لأنها ابتعدتا عن الدعوة إلى القطيعة المعرفية بين أصحاب هذه الثنائية. وشكلتا إضافة حقيقية للفكر العربي المعاصر بعيدا عن الشنشنة المعروفة والمكرورة بين أصحاب المذهب الاحيائي ( سلطة النص) وبين المذهب الحداثي ( سلطة العقل).




معاملة المرأة مقياسٌ للتحضّر والتخلّق

بسم الله الرحمن الرحيم

روى الإمامان البخاريّ ومسلم في حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “كنّا معشر قريش قوماً نغلب النّساء، فلمّا قدِمنا المدينةَ وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم … فتغضّبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟! فو الله إنّ أزواج النبيّ – صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة (ابنته)، فقلت أتراجعين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت نعم. فقلتُ: أتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟! قالت نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله – صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً، وسلينى ما بدا لك…”.

وقد دلّ هذا الحديث على أمور عديدة منها:

1. أنّ العلاقة الزوجيّة لدى أهل مكّة القرشيين، كانت قائمة على أساس غلبة الرجال للنساء؛ فالكلمة كلمة الرجل، والشأن شأنه، والصوت صوته، ولا صوت للمرأة يعلو مع صوته، ولا شأن لها فيما يفعله وفيما يتركه.

2. أنّ الأمر عند أهل المدينة كان على خلاف هذا، فالأنصار قوم تغلبهم نساؤهم، أو نقول: كان الأنصار يتركون الغلبة لنسائهم؛ فلهن شأن مرفوع، ولهن رأي مسموع، ولهن نفوذ مع أزواجهن. وهذا هو السلوك الذي وصفه عمر بأنّه “أدب نساء الأنصار”، كما في رواية للبخاريّ، وبفضل هذه المكانة المحترمة للمرأة المدنيّة الأنصاريّة، تميّز نساء الأنصار بشجاعتهنّ في البحث والسؤال عن أحكام دينهنّ الجديد، حتّى فيما يشوبه الحياء والخجل والتحرّج. وها هي القرشيّة أم المؤمنين رضي الله عنها تشهد للأنصاريات بذلك، حيث قالت: “نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين ويتفقّهن فيه”.

3. أن النساء القرشيّات المهاجرات إلى المدينة بدأن يتأثّرن ويقتدين بنساء الأنصار، في ممارسة نوع من الغلبة أو المغالبة، وذلك بمزاحمة أزواجهن في الرأي والقرار والمعاملة.

4. أنّ معاملة رسول الله وعلاقته بنسائه كانت على نحو ما عند الأنصار وعلى وفق” أدب نساء الأنصار”. أو بعبارة أصحّ؛ كان أدب الأنصار ونساء الأنصار على وفق الهدي والأدب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يسمح ويتحمّل أن تناقشه أيّ واحدة من زوجاته، وأن تراجعه في رأيه وتصرّفه، وأن تهجره طيلة النهار، تعبيراً عن مغاضبة ومعاتبة، أو لأجل طلب لم يستجب لها فيه …

5. أنّ زوجة عمر رضي الله عنها وعنه، بدأت تتأسّى بالنموذج النبويّ، وبالنموذج المدنيّ، وسندها في ذلك ما كانت تسمعه من ابنتها حفصة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلذلك تشجّعت وأقدمت على مراجعة عمر في شأن من شؤونه، رغم شدّته المعروفة، ورغم صخبه وغضبه عليها.

وعموماً نستطيع أن نقول: إنّ هذا الهدي النبويّ المتّسم بالاحترام والتكريم والتسامح والإيثار في معاملة المرأة، وكذلك خُلق الأنصار مع نسائهم، المطابق للهدي النبويّ… إنّ هذا قد أحدث نقلة نوعيّة في معاملة النساء في البيئة العربيّة التي كانت سمتها السائدة هي غلبة الرجال للنساء. 

بل إنّ غلبة الرجال للنساء وسيطرتهم عليهنّ، هو الوضع السهل السائد لدى عامّة الأمم والشعوب، قديماً وحديثاً. وليس في هذا أيّ فضل أو مزيّة أو رقيّ، بل الفضل والمزيّة والرقيّ هو ما يتحقّق في عكس ذلك، فلهذا جاء الإسلام ينقل النّاس ويدرّبهم على ما فيه الفضل والمزيّة والرقيّ. وهذه النقلة والترقية ليست بالشيء الميسور على من اعتاد خلافها فرديّاً وجماعيّاً، وهذا واضح في موقف عمر، وما حكاه عن قومه وعن نفسه، رضي الله عنه، فهو حتى حينما تحقّق من نمط المعامة السائدة بين رسول الله وزوجاته، وحتّى حينما “غلبته” زوجته (عاتكة) بقوّة حجّتها، فإنّه لم يستسغ الأمر، ولم يرض من ابنته خاصّة أن تتجرأ على رسول الله بالمراجعة والمغاضبة، حتّى في حياتهما الزوجيّة.

وقد أخرج الإمام مالك في موطّئه “عن عاتكة بنتِ زيد بن عمرو بن نفيل – امرأة عمر بن الخطاب – أنّها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت، فتقول: والله لأخرجنّ إلا أن تمنعني. فلا يمنعها”. إنّه المنطق الجديد والسلوك الجديد، بدأ يفرض نفسه، ويُعلِّم الناس الغلبة بالعدل والإحسان، بديلاً عن الغلبة بالقوّة والشدّة.

وفي سبيل ترسيخ هذه النقلة وقِـيَمها وثقافتها، نجد أيضا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»

فمعيار الخيريّة والأفضليّة هو معاملة الإنسان لأهله، أي: لزوجته وأهل بيته، فأفضل الناس ديناً وخلقاً هو أحسنهم معاملة لأهله، وأحسنهم خلقاً مع أهله، والعكس بالعكس.

وهذا الحديث يشير إلى وضع اجتماعيّ فاسد، ولكنّه سائد؛ وهو أنّنا نجد كثيراً من النّاس على قدر مرموق من حسن الخلق ومن حسن المعاملة، في علاقاتهم مع أصدقائهم وزملائهم ورفقائهم، فتجد عندهم الكثير من الرّقّة والبشاشة والأدب والإيثار والتسامح … ولكنّك تجدهم مع أهلهم وداخل بيوتهم على غير هذا، إن لم نقل على عكس هذا…! 

وما زال كثير من الرجال يعتقدون أنّ من تمام رجولتهم وقوامتهم، أن يفرضوا إرادتهم واستبدادهم وغلبتهم وخشونتهم على نسائهم، ويعتقدون أنّ مراعاة آراء المرأة المخالفة لآرائهم، والتنازلَ عن رغباتهم لرغباتها، وخفض الجناح لها، هو نقصان وضعف لا يليقان برجولتهم ومكانتهم، فلأجل ذلك ولأجل هؤلاء قال عليه السلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»

على أنّ من مواريثنا الخلقيّة الجميلة التي مازالت تحتفظ بشيء من بقاياها في مجتمعاتنا الإسلاميّة، إيثار المرأة بالمساعدة والتقديم والنجدة، كما نجد – مثلاً – في مواطن الازدحام والانتظار، وعند الحاجة إلى مقعد للجلوس في القطارات والحافلات ونحوها، أو عند التبضّع في الدكاكين …

وهذا السلوك الكريم أصله في سنن الأنبياء، كما حكى القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِيّ حتّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّيّ لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص/23، 24]

مسألة ضرب النساء:

في هذا السياق الذي نحن فيه، لا بدّ أن ترِدَ مسألة ضرب الزوجات، المذكور في قوله تعالى {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِيّ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء/34]

فالآية يستفاد منها جواز ضرب الزوجة، فكيف يجتمع هذا مع ما تقدم كلّه من نصوص في تكريمها وتقديمها وحسن معاملتها؟

وللجواب عن هذا السؤال ورفع هذا الإشكال، أقول:

1. لا ينازع مسلم في أن أفضل تفسير وأرقى تطبيق للقرآن الكريم هو ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تزوّج النبيّ الكريم عشر نساء، من أعمار وصفات مختلفة، وعلى مدى زمنيّ يقترب من أربعة عقود، وها هي إحدى زوجاته – السيّدة عائشة – تروي لنا وتقول: “ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شيئاً قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عزّ وجلّ”.

وعن عبد الله بن زمعة ، قال : “وعظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الناسَ في النساء، فقال: يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ثم يعانقها آخر النهار ؟!”

2. هذا الضرب يترتّب على ثلاث مراحل، هو رابعها:

ف

أوّلها: أنّ هناك نشوزاً فعليّاً تخشى عواقبه، والنشوز هو تمرّد الزوجة على زوجها في معاشرته وقوامته، وأمّا عواقبه المحذورة، فهي دفع الزوج إلى الوقوع في الفاحشة، وهي كذلك احتمال الوصول إلى الطلاق وتشتيت الأسرة، قال ابن عاشور: “ومعنى {تخافون نشوزهنّ}: تخافون عواقبه السيّئة، فالمعنى أنّه قد حصل النشوز، مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه، لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال، فإنّ ذلك قلّما يخلو منه حال الزوجين”.

و ثانيها: اعتماد الوعظ والنصح مدّة من الزمن، لمعالجة هذا النشوز وإصلاح ما فسد من علاقة وسوء تصرّف. 

و ثالثها: هجران المرأة الناشز، مدّة أخرى، عسى أن تنتبه إلى عواقب نشوزها.

والحقيقة أنّ هذه المراحل الثلاث التي وضعها الشرع قبل اللجوء إلى الضرب، إنّما هي حواجز حكيمة تمنع الوصول إلى الضرب، لمن كان لهم عقل وخلق، وبهذا لا يكاد يبقى لفكرة الضرب المذكورة في الآية إلا وظيفة تحذيريّة وقائيّة.

3. ومع هذا كلّه، أو بعد هذا كلّه، فإنّ الضرب لا يجوز بحال أن يقع في الوجه، ولا يجوز أن يكون لغير النشوز المتحقّق المستمرّ، ولا يجوز أن يكون ضارّاً ولا مؤثّراً في الجسم، فإن وقع شيء من هذا فهو عدوان يستحقّ فاعله العقاب في الدنيا والآخرة.




لماذا يحاربون التنوير الإسلاميّ؟

تقوم القاعدة الأساسيّة لحركة نهضة الشعوب على تغيير طبيعة الأفكار التيّ تخلّقت في زمن التخلّف، والتيّ عملت السلطة على ترويجها وتثبيتها في المجتمع، كلّ مجتمع، عبر التاريخ الإنسانيّ، ومن ذلك، بل من أهمّها، إسقاط فكرة القيم، ومفاهيم العدالة الإنسانيّة التيّ تحتويها رسالة أيّ دين، وفيّ وحيّ القرآن الكريم، نصوص عن علاقة الفساد، وتغيير معالم الدين، بين السلطة والرهبنة الدينيّة، فالتزوير الدين ذاته هو أحد أهم مفاتيح قمع الشعوب، وتسخير الآلة الوعظيّة ضدّهم، وتبديل قيم الحقوق التيّ تضع الحكم تحت مساءلة الضمير الأخلاقيّ، بصورة مستمرّة، والمحاسبة الشعبيّة، التيّ وردت مواقفها متتالية في عهد المسلمين الراشد، هيّ من صلب الشريعة الإسلاميّة.

لذلك، كان الاستبداد العربيّ (والعثمانيّ) يلجأ إلى تشويه أيّ دعوة إصلاح، تعيد هذا المفهوم إلى حاضر العالم الإسلاميّ، عبر مشروع الالتفاف على شخصيّات (وحركة) الإصلاحيّين وتشويههم، وقد يتمّ تفويج الصراعات المذهبيّة، وإيجاد نموذج مذهبيّ أو فكريّ، ثمّ إطلاق الناس عليه، ضمن الخطّة نفسها، التي كانت تهدف في الأصل إلى خنق الفكر التحرّري، الذي يقود إلى نهضة الشعب، عبر شراكة شعبيّة فاعلة، لا يتحمّلها هذا الاستبداد.
أو تفويجاتٍ موسميّة، بعثها الغرب الاستعماريّ، مستثمراً ردّة الفعل، أو حتّى ضمن خلافات الفلسفتين، القديمة والحديثة، غير أنّ جزءاً كبيراً من بعض هذه الرؤى، كان بالإمكان أن يستوعب في الحوارات العلميّة والفكريّة، ويردّ عليه، وربّما انتهى مبكّراً، أو اعتبر ضمن مساحة الآراء التي يحويها العالم الإسلاميّ الواسع الأفق، في تجربته الاجتماعيّة، لكنّ المستبدّين لم يقبلوا ذلك، ولذلك يروّجون الصراع الفكريّ، ويشجّعون منابره، لا للجدل الحضاريّ للوصول إلى وعي الفكرة الإسلاميّة. 

فهل التنوير الإسلاميّ يحقّق تقدّماً اليوم، أم أنّه يتراجع في ظلّ انهيار الأوضاع في الوطن العربيّ، السياسيّة والاجتماعيّة، التي لا تلقي ظلالها على المشهد الثقافيّ وحسب، وإنّما تخنقه حتّى يصمت أو ينحاز لإطارها الأيديولوجيّ، أو مربّعات المستبدّين، وما أكثرها؟
ومع كثرة الجدل والتشويش المتعمّد، والتوظيف السياسيّ الضخم لمصطلح التنوير الإسلاميّ، فإنّ إعادة التذكير بمعالمه الكبرى من الضرورات اليوم، كما أنّ التنوير الإسلاميّ ذاته ضرورة قصوى لمعالجة خلل التخلّف، وتمكّن الاستبداد من حاضر العالم الإسلاميّ، وهو تخلّفٌ لم يعد مربوطاً بقواعد الجهل العام، بل قد تجد أكاديميّين وشيوخاً وأساتذة موجّهين، يمارسون الجهل والتجهيل في سؤال النهضة، فهم في أحيانٍ كثيرة، عائقٌ صلب يمنع فكر النهضة من التواصل، وتحقيق المرحلة الانتقاليّة التي يعتني بها لمرحلة زمن اليقظة، أي التهيئة لواقع ثقافيّ، يعي فيه الإسلاميّون، وغيرهم مساحة نقد ونقض العقود الماضيّة، وبناء الرصيف الذي نحتاجه نحن العرب، أو حاضر العالم الإسلاميّ.
لندخل إلى بناء النهضة المدنيّة التي عبرها تقوى دول الشرق المسلمة ومجتمعاتها، بل ويقوى خطاب الفكر الإسلاميّ المدنيّ أينما حلّ، بخاصّة في المهجر الغربيّ الحيويّ اليوم، في التناقل الثقافيّ والرسائل بين الغرب الذاتيّ والموزاييك الغربيّ لمواطنيه، حيث يمثّل المسلمون فيه شريحة تحت الأنظار، والتفاعل والاستهداف في الوقت نفسه.
هنا نحدّد معالم التنوير الإسلاميّ الذي يخوض معركتين مُرّتين شرستين: الأولى في تكسير صخر الجهل الذي بني باسم التديّن، وما تراكم عليه من أمراض سلوكيّة، وتخلّف أخلاقيّ، ارتدّت عن تعاليم الإسلام، وزاد تسعيرها جانبان سيئان: الأوّل: حاجات الناس تحت فقدان الضمان المعيشيّ، والأمن السياسيّ، الذي تحوّل إلى التمسّك بروح العزل لأيّ قدرة إبداع، عن أي موقع أو منصّة ثقافيّة، متاح لها أن تقدّم رؤية حواريّة للوعي العربيّ الجديد، خشية من تهديد مصالحها. الثاني: الاستقطاب السياسيّ الحاد بعد سقوط الربيع العربيّ، وقيام قاعدة شعبيّة جديدة مؤيّدة للربيع بمخزون إيديولوجيّ حادّ، وليس قناعة تفكيك فكريّة، يستبصرون بها خلل المواقف والبنية الثقافيّة القديمة لديهم، وعليه تزداد روح التكتّل والاحتقان، فيتيه المعنى في ظلّ الغضب الذي تحوّل بسبب الاستبداد والإخفاق الذاتيّ إلى نفس ضيّق حادّ، يكره أيّ دعوةٍ إلى التأنّي في سبيل صناعة الفكر الجديد، وكيف يفقه المسلم المعاصر رسالة الإسلام اليوم، ببعديها المدنيّ والروحيّ.
وهنا تبرز الأبعاد الثلاثة للتنوير الإسلاميّ:

أوّلاً: هو تنوير استراتيجيّ، وليس رفاهية، وهو يعتمد على فهم معالم الرسالة الإسلاميّة، وآثارها في نهضة الإنسان والعالم.

وأنّها الجسر بين القيم والحقوق والحياة المدنيّة التي يحتاجها كلّ إنسان، وليس الإنسان العلمانيّ وحده، بحسب التفكير الدينيّ المعاصر، وهو في الحقيقة تنوير للعالم، لا المسلمين وحسب. 

الثاني: أنّ (التنوير الإسلاميّ) الملامس للاستبداد العربيّ، ليس فكراً ولا منهجاً، ولا جسراً قيميّاً على الإطلاق، هو مجرّد لعبة شراكة دوليّة مع مصالح الاستبداد الغربيّ، ولفت النظر عن عدائه الفكر الإسلاميّ، أو معاركه مع المتديّنين، ليصبغها بديكورٍ مزيّف، قد يتورّط فيه بعض الصادقين، أو قد تكون شراكتهم ضمن الحديث الفكريّ الذي عبر على هذه المنصّة، وإن لم يؤيّد مشروعها. 

الثالث: أنّه مهما قيل من تشويه، أو هجوم على التنوير الإسلاميّ الأصيل، فهو في الحقيقة، يحمل سرّ القوّة والنهضة المدنيّة التي تؤسّس لأيّ فكر حقوقيّ وسياسيّ، وعلى الرغم من حملة الدعايات المزدوجة من المستبدّين الذين يعتقلون ويقمعون الإصلاحيّين التنويريّين، وحملة الدينيّين المتشدّدين، فإنّ رحى معركة التغيير الناجحة لا يمكن أن تتمّ من دون هذه المفاهيم التي ضحّى من أجلها علماء وقادة فلسفة ونهضة.
وهنا نقف اليوم عند الشمس المشرقة لأفق التنوير الإسلاميّ، وهي تلهّف الشباب من الجنسين وحرصهم، على معرفة هذا الكفاح، وأين يقف بهم الدرب المضيء، وكيف يُجمع شتات قلوبهم، ويحشدهم فكراً لا عاطفة مشحونة ضدّ بعضهم، ليشكّلوا معالم النهضة، ولو طال الطريق، بعد أن تهتف مهجهم: لقد وجدتُ الحقيقة.

المصدر العربيّ الجديد. 




لا يُبنى المجتمع بالتَّشريع وحده

إنّ الإسلام ليس مجرّد تشريع وقانون؛ إنّه عقيدة تفسّر الوجود، وعبادة تربّي الروح، وأخلاق تزكّي النفس، ومفاهيم تصحّح التصوّر، وقيم تسمو بالإنسان، وآداب تَجْمُل بها الحياة، وآيات الأحكام التشريعيّة لا تبلغ عُشْرَ آيات القرآن، وهي ممزوجة مزجاً بالعقيدة والضمير، مقرونة بالوعد والوعيد، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بسائر توجيهات القرآن.

اقرأ مثلاً في أحكام الأسرة قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا، إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229). هذا ليس تشريعاً جافّاً كمواد القانون، بل هو تشريع ودعوة وتوجيه وتربية وترغيب وترهيب.

واقرأ في أحكام الحدود قوله جلّ شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا، جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:38-40).

هنا نجد كذلك التشريع الزاجر، مقروناً بالوعد والوعيد، حاملاً التخويف والترجية، والتوجيه والتربية، مرغباً في التوبة والإصلاح، مذكّراً بأسماء الله الحسنى: العزيز إذا أمر ونهى، الحكيم فيما شرع، والغفور الرحيم لمن تاب وأصلح. مالك الكون، وصاحب الخلق والأمر، وهو على كلّ شئ قدير. 

هذا هو سياق التشريع في القرآن، ومثله في السُّنَّة، فليس بالتشريع وحده يبنى المجتمع المسلم، بل لا بدّ من وسيلتين أخريين: الدعوة والتوعية، ثمَّ التعليم والتربية، إلى جوار التشريع والقانون، بل قبل التشريع والتقنين.

ولهذا بدأ الإسلام بالمرحلة المكيّة -مرحلة الدعوة والتربية- قبل المرحلة المدنيّة، مرحلة التشريع والتنظيم، وفى هذه المرحلة نرى التشريع يمتزج بالتربية أيضاً امتزاج الجسم بالروح.

إنّ مجرّد تغيير القوانين وحده لا يصنع المجتمع المسلم، إنّ تغيير ما بالأنفس هو الأساس.

وأعظم ما يعين على تغيير ما بالأنفس هو الإيمان الذي ينشئ الإنسان خلقاً آخر، بما يضع له من أهداف، وما يمنحه من حوافز وضوابط، وما يرتّبه على عمله من جزاء في الدنيا والآخرة، والإسلام كلّ لا يتجزّأ، فإذا أردنا أن نحارب جريمة ممّا شرّعت له الحدود، فليست محاربتها بإقامة الحدّ فقط، ولا بالتشريع فقط، بل الحدّ هو آخر الخطوات في طريق الإصلاح.

إنّ العقاب إنّما هو للمنحرفين من النّاس، وهؤلاء ليسوا هم الأكثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذّ عن القاعدة، والإسلام لم يجئ فقط لعلاج المنحرفين، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم من أن ينحرفوا، والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج.

فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنى نجد أنّ القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحدّ فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهى قوله تعالى: {الزَّانِيّة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(النور:2) ، ولكنّ السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجّه إلى الوقاية من الجريمة؛ وحسبنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور:19) وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور:27).

ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}(النور:58).

وأهمّ من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغضّ البصر وحفظ الفروج، وذلك في قوله جلّ شأنه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.. الآيّة}(النور:30-31) وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتّى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ، ثمَّ تختم الآية بقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ومعنى هذا: وجوب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة، وسدّ الذرائع إلى الفساد، وأهمّ من ذلك كلّه الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كلّه بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤوليّة تضامنيّة: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32).

ومسؤوليّة المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكّام- تتمثّل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سدّ أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق الماديّة والاجتماعيّة أمام الراغبين في الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتّصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم -ماديّاً وأدبيّاً- على تكوين بيوت مسلمة؛ فليست إقامة الحدّ إذن هي التي تحلّ المشكلة، والواقع أنّ الحدّ هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعيّة إلا في حال الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرّات، على ما يراه عدد من الأئمّة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة في أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك؛ فكأنَّ القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة، أمّا من ابتلي بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيويّ، وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.

………………..

* من كتاب “المجتمع المسلم الذي ننشده” لفضيلة العلّامة.

المصدر: موقع الاتِّحاد العالميّ لعلماء المسلمين




في تجديد معنى سؤال النهضة

ظل سؤال النهضة هاجسا مرافقا للوعي العربي الإسلامي منذ حدوث الصدمة الأولى مع الغرب المعاصر في القرن الثالث عشر الهجري (19م) إلى اليوم. إذ كان ولا يزال السؤال الإشكالي المحوري الذي تضافرت الجهود وتجادلت في محاولة الإجابة عنه.

وليس من المبالغة أن نقول إنه يمكن اختزال النتاج الفكري العربي بأكمله وبمختلف تياراته واتجاهاته في كونه مجرد حاشية على هذا السؤال، حاشية تقاربه وتعيد صياغته، أو حاشية تروم أن تكون متنا يقدم إجابة عنه.

بل يصح القول أيضا إن انقسام الوعي العربي النهضوي إلى تيارات متباينة يعكس الانقسام والتباين في الإجابة عن هذا السؤال.

ومن الملاحظ من حيث التوقيت التاريخي لتبلور تلك الإجابات أن الإجابة الفكرية الإسلامية كانت الأسبق زمنيا إلى البروز والظهور، إذ يمكن عد كتابات جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده أولى محاولات التفكير في بلورة إجابة نظرية عن سؤال النهوض.

ومن نافلة القول، أن الإجابة الفكرية الإسلامية -وإن كانت السباقة إلى التبلور والظهور- لم تكن الوحيدة التي قاربت هذا السؤال وفكرت فيه، بل كما أسلفنا تعددت وتنوعت وتباينت الإجابات باختلاف المرجعيات المذهبية التي يصدر عنها التفكير.

ذلك لأن الجدل الحضاري مع الغرب أوجد في واقعنا الثقافي تيارات مقلدة له، ومتمذهبة ببعض مذاهبه الفلسفية والسياسية، كما أن التيار الإسلامي القائم على فكرة التأصيل والعودة إلى الذات الثقافية، لم ينتج قراءة واحدة لتراثه الفكري بل أنتج قراءات تختلف في انتقاء المقومات التراثية الكفيلة بتحقيق النهضة، وإن كانت تتفق على أن النهوض يكون من داخل ذاتيتنا الثقافية.

ولهذا تعددت الإجابات وتكاثرت، مقدمة أطروحات متباينة حول ذلك السؤال/الهاجس.

لكن رغم تعدد الإجابات وتنوع الأطروحات النهضوية فإن الوضع العربي اليوم ما زال –سواء من الناحية الثقافية أو من الناحية المجتمعية– مختلا مأزوما، ومن ثم ما زال سؤال النهوض يعبر عن مطلب لا عن ماصدق واقعي منظور.

فما هو السبب؟ هل يرجع الفشل إلى خلل في الإجابات؟ أم أن سؤال النهضة لا يتطلب أجوبة نظرية فقط، بل أيضا أفعالا منظورة وممارسة تغييرية واقعية؟

لكن هل يمكن أن يوجد فعل أو ممارسة رشيدة دون سابق نظر وتفكير؟ وهل يصح اختزال عجز الفعل النهضوي في مجرد عجز اعتور عملية تطبيق الإجابة النظرية، وليس اختلالا في الرؤية الفكرية ذاتها التي أنتجت تلك النظرية ووجهت عملية تطبيقها؟

أسئلة واستفهامات مشروعة وضرورية، لكننا سنخصص هذا المقال لمحاولة الاقتراب الدلالي من لفظ النهضة، مع الإشارة بإيجاز إلى معالم ومحددات الجواب.https://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/KEngine/imgs/top-page.gif

في معنى لفظ النهضة
من الناحية اللسنية من الملاحظ أنه في اللحظة الأولى للقاء الصدمة مع العالم الغربي في القرن الثالث عشر الهجري (19م)، كان السؤال النهضوي مطروحا بصيغة تعبيرية تتوسل لفظ “التأخر” للدلالة على الوضعية الإشكالية التي يعيشها العالم العربي الإسلامي وقتئذ.

وهذا ما يتجلى واضحا في سؤال شكيب أرسلان: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، بمعنى أن الزوج المفهومي المستعمل في توصيف الوضعية التي يعشيها العالم العربي بالمقارنة مع العالم الغربي، كان هو “التأخر/التقدم”.

لكن مع تأمل وضعية العالم الأوروبي، ودرس صيرورته التاريخية لفهم سبب تقدمه، استوقفت الوعي العربي تلك اللحظة الموسومة بـ”رنيسانس” Renaissance الدالة على لحظة ابتداء “التقدم” الأوروبي في القرنين الرابع والخامس عشر، وترجم لفظ “رنيسانس” إلى النهضة.

فأصبحت الكلمة بذلك تختزل المطلوب لتحقيق النقلة الحضارية الواجب إنجازها لنخرج من وضعية التأخر، كما خرجت أوروبا من تأخرها في عصر الإنسية والإصلاح الديني، الموسوم برنيسانس. وهكذا أخذ لفظ النهضة في التداول.

فما المقصود دلاليا بهذا اللفظ؟ وهل يكفي معناه اللغوي لتوصيف ماصدقه الحضاري؟

من حيث الدلالة اللغوية يطلق لفظ النهضة ومشتقاته على أفعال حركية، إذ النهضة كلمة دالة على “البراح من الموضع والقيام عنه، والنهضة: الطاقة والقوة. وأنهضه: قواه على النهوض”. ومنه وصف الطائر/الفرخ بالناهض للدلالة على أنه “وفر جناحيه ونهض للطيران”.

أما من ناحية الاصطلاح فلفظ النهضة ليست له دلالة محددة، فهو إذا كان يدل على إنجاز حراك ثقافي ومجتمعي، فإن دلالة ذلك الحراك مختلفة حسب المرجعية الفكرية.

فقد يكون حراكا يتجه نحو الماضي لإعادة إنتاجه أو استحضاره وانتهاجه، أو حراكا يقفز إلى حضارة الآخر داعيا إلى تقليدها واستنساخ نماذجها المجتمعية، أو الاستهداء بمنهجها في التفكير والعيش، بمعنى أن كل تيار فكري يصطلح على جملة معان ومواصفات يراها محددات النهوض.

لكن النظر إلى هذه المحددات المختلفة يكشف أن ثمة مشتركا بينها، نراه في تقديرنا يعكس اختلالا في فهم النهضة ومستلزماتها. فما هو هذا الخلل المشترك؟

أرى أن الاختلال يكمن في المقاربة المذهبية الجاهزة لسؤال النهوض، إذ تنزع التيارات الفكرية السائدة في واقعنا الثقافي إلى اتخاذ مرجعياتها المذهبية الجاهزة أفقا وسقفا لمطلب النهوض.

فالتيار الليبرالي مثلا يرى أن النهضة لا تتحقق إلا بتطبيق الليبرالية، والتيار اليساري الاشتراكي الذي ساد خلال القرن العشرين يرى أن لا نهضة إلا بالاشتراكية، والتيار الفكري الإسلامي في نموذجه السلفي مثلا يرى أن لا نهضة إلا بإعادة إنتاج نفس مواصفات الاجتماع الإسلامي الذي تجسد في لحظة تاريخية ماضية ( اللحظتين النبوية والراشدية).

وإذا كنت أعتقد أن النهوض في عالمنا العربي الإسلامي لن يتحقق خارج إطار ذاتيتنا الثقافية الإسلامية، فإني لا أعتقد أن المطلوب -بل ولا من الممكن- تقليد لحظة من لحظاتنا الماضية وإعادة إنتاجها، كما تنزع إلى ذلك بعض توجهات الفكر السلفي عندما تدعو إلى استنساخ، ليس أفكار ومبادئ العصر الإسلامي الأول، بل استنساخ حتى ديكور الحياة وشكلها في اللباس وطرائق المعاش!

إن اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) والاسترشاد بهدي قرنه، لا يكون إلا باتباع المبادئ والمحددات الفكرية العامة، وليس باستنساخ صورة الحياة حتى في شكلها المادي، كما يرى هذا التيار السلفي الذي وسع من مفهوم البدعة المذمومة ليشمل كل مستحدث ومستجد.

كما أن النهوض لن يتحقق باستنساخ نموذج ثقافي ومجتمعي غربي، لأن الحضارات التي لها هوية عقدية قوية، كما هو حال الحضارة الإسلامية، يستحيل أن تزول محدداتها وتندثر مقوماتها لصالح غزو ثقافي جذري يروم اقتلاع شخصيتها الحضارية، وإحلال نسق بديل محلها.

إن التفكير في النهضة من مدخل مذهبي جاهز نراه عائقا أمام حركة النهوض، وليس حافزا لها. ومن ثم فالخلل الأكبر في فهم ماهية النهضة يكمن في هذه النظرة المذهبية والماهوية التي سقطت في فخها كل مشاريع النهوض، إسلامية كانت أو متغربة، فأنتجت رؤى وثوقية تكبل فعل النهضة ولا تحفزه.

بينما سؤال النهوض ليس سؤالا يستلزم جوابا ماهويا في كل مستوياته، بل هو سؤال تاريخي متحرك. وأقصد بالسؤال المتحرك أنه في كل لحظة تاريخية يحتاج إلى جواب خاص ينسجم مع حاجات تلك اللحظة وشروطها الآنية، واستشرافاتها المستقبلية.

إن النهضة مطلب ثقافي ومجتمعي يعبر عن حالة جدل تاريخي مرتبط بمجموعة من القيم والحاجات، ينبغي ترتيبها وفق أولويات حسب الوضعية التاريخية.

فالنهضة في زمن الاستعمار مثلا من الطبيعي أن ترتبط بأكبر حاجياتها الآنية المتمثلة في مطلب الاستقلال السياسي؛ لأنه يصير مطلبا ذا أولوية، ومقدمة لغيره من المطالب والاحتياجات.

وأن ننهض في لحظة تأزم اقتصادي معناه أن نعمل على معالجة الإشكال الاقتصادي بإعطائه الأولوية…

بمعنى أن الجواب على سؤال النهضة ليس جوابا ماهويا على سؤال ثابت المطلب، بل هو متحرك مع صيرورة التاريخ، ومرتبط بتحديد دقيق لحاجيات اللحظة، وترتيب لها وفق منظور الأولويات.

ومن هذا المدخل القارئ لماهية النهضة على مستوى الحاجات، يأتي رفضنا لكل تمذهب جاهز، يقولب فعل النهوض في استنساخ مرحلة ماضية، أو تقليد لنموذج مستورد.https://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/KEngine/imgs/top-page.gif

في المعنى الماهوي لسؤال النهوض
لكن رغم رفضنا للاختزال المذهبي والماهوي للسؤال، فإننا لا نطلقه من كل تحديد، بل إذا كنا في مستوى الحاجات ننظر إليه بوصفه سؤالا تاريخيا متحركا بسبب انشداده إلى ما هو لحظي، فإنه من جهة القيم سؤال نحتفظ بطابعه الماهوي.

لذا نقول إن النهضة توكيد للقيم المثالية التي تعد أفقا يتحرك تاريخ الوعي والفعل البشريين نحوهما. إنها توكيد لإنسانية الكائن الإنساني وكرامته، بوصفه كائنا واعيا وحرا وأخلاقيا.

وتأسيسا على هذه القيم الثلاث تتحدد ماهية النهضة كفعل اقتراب من هذا الأفق القيمي المثالي، وهو اقتراب دائم لا يتحقق ويكتمل في التجسيد الواقعي، بل يبقى أفقا متعاليا ليتم جذب الفعل الإنساني -سواء كفعل ذهني أو كسلوك اجتماعي– لمزيد من العطاء والاجتهاد.

فمن حيث الكينونة الواعية للإنسان يكون النهوض حركة وعي بالذات، وتوكيدا على القيم المميزة للكائن الإنساني، ككائن واع وحر وأخلاقي.

أما من حيث إن النهضة وعي بالذات، فتلك مقدمة لكل ذات تريد لنفسها أن تتحرك وتبعث قدراتها الذاتية، وتحفزها على الفعل. ونقصد بوعي الذات إدراك الشخصية الحضارية ومقوماتها، والعمل على تعميق الإحساس بالهوية، لكن مع الاحتراس من الوقوع في محاذير الانغلاق.

وتأسيسا على ذلك نقول إنه لا نهضة للعالم الإسلامي خارج شرط وعيه بذاته، أي خارج مقوماته الحضارية الذاتية.

كما أن النهضة من حيث التقييم المعياري تدل على حالة ارتقاء بالمجتمع الإنساني. ومن ثم نرى أن فعل الارتقاء هذا يستلزم تعميق القيم المميزة للإنسان، تلك التي اختزلناها سابقا في الوعي والحرية والأخلاق.

وبناء على ذلك نقول إنه من حيث كينونة الإنسان كذات واعية تأتي قيمة المعرفة، ومنها نؤكد أن لا نهضة للكائن الإنساني، فردا كان أو جماعة، بدون المعرفة، إذ هي محدد من محددات الإنسانية، وكلما انخفضت المعرفة انخفضت درجة ارتقاء الكائن البشري نحو إنسانيته.

ومن حيث كينونته كفاعل حر تأتي قيمة الحرية وما يرتبط بها من عدالة وانعتاق من الجبر الفكري والسياسي. ومن ثم فلا نهضة للفرد ولا للاجتماع الإنساني إلا بالتحرر من عائق الاستبداد بمدلوله الشامل، سواء كان استبدادا ثقافيا أو سياسيا أو اقتصاديا.

ومن ثم فكلما ازدادت أوهاق الاستبداد قلت قدرة الإنسان على الاجتهاد والإبداع. وكلما ازداد التنميط وسلب الحرية اقترب الكائن الإنساني من مملكة الضرورة، أي اقترب من الحيوانية، وانتفت عنه خاصية الفعل الحر المسؤول.

ومن حيث إن الإنسان كائن أخلاقي تأتي قيمة الفعل الإنساني، بوصفه فعلا مسؤولا أخلاقيا، وقابلا للمعايرة والحكم عليه قيميا. فالمحدد الأخلاقي يميز الفعل والوجود الإنساني عن الفعل الحيواني الخاضع لمنطق الضرورة الطبيعية. ومن ثم نرى أن لا نهضة إلا بتعميق هذا البعد المميز للكينونة الإنسانية.

ولذا فأنماط الاجتماع التي تفصل الفعل السياسي، والفعل العلمي، والفعل الفني.. عن القيم الأخلاقية، كما هو الحال في نمط الاجتماع الغربي اليوم، هي تعبير عن انحراف عن النهضة وإخلال بأحد شروطها.

وهذا ما ينبغي لنا أن نعيه من الوحي القرآني الكريم، الذي أكد الرسول الخاتم أن قصده الحضاري هو تتميم مكارم الأخلاق