كثيراً ما نسمع من بعض الفضلاء أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، فهو نظام شامل، وهذا حقّ لا ريب فيه، ونسمع أنّ كلّ شيء مذكورٌ في القرآن الكريم، ففيه علم الأوّلين والآخرين، وفيه علوم الدنيا والدين كلّها، الأنظمة والأفكار والحلول كلّها، وقد ورد عن بعض السلف مثل هذا الكلام، ويستشهدون بمثل قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}، (وَنزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (وتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) (اليوم أكملت لكم دينكم)، رغم أن الآية الأولى -والتي يستشهدون بها أكثر من غيرها- فسّرها كثير من المحقّقين بأمّ الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سيحصل في الدنيا(1)، وعلى القول بأنّها القرآن الكريم فإنّ هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى: ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ(2)، وهذا المعنى هو الذي يجب المصير إليه في تفسير هذا المبدأ العامّ، وهو أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، التي تدلّ عليه الأدلّة السابقة وغيرها، أي جاء بآيات وأحاديث تفي بحاجة توجيه الناس، ومن هذه الأحكام مبادئُ عامّة تصلح قواعد وأصولاً نستقي منها الفروع والتطبيقات المتجدّدة عبر تطوّر الحياة واتّساعها، وإلّا لما اضطررنا لمصادر تشريعيّة غير الكتاب والسنّة، لذلك قال علماء الأصول: “لمّا كانت النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية، كان لا بدّ من القياس وغيره من الأدلّة التي نحتاجها للحكم على المستجدّات غير المنصوصة”، فالمصدر الأصليّ في التشريع الإسلاميّ هو القرآن الكريم، وهو أرشدنا للرجوع للسنّة، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، والكتاب والسنّة أرشدانا للعقل السليم، والعقل مسترشداً بالكتاب والسنّة دلّنا على كون القياس الصحيح طريقةً سليمةً لاستنباط الأحكام والإرشادات الشرعيّة، وكذلك اعتبار المصلحة التي لم يُنْهَ عنها، واستصحاب البراءة الأصليّة، ومنع وسائل ومداخل المنهيّات بسدّ ذرائعها، واعتماد الأعراف الصالحة.. وهكذا اكتشفنا أنّ القرآن الكريم دلّنا على منابع وقواعد للمعرفة الصالحة من خارجه، تعتمد اجتهاد الإنسان، أي الجانب البشريّ من التشريع، ومن حكمة الله تعالى أنّه جاء بتعاليم مفصّلة لما كان ثابتاً كالعقيدة والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث.. وجاء بمبادئ وقواعد عامّة للمتغّيرات كالمعاملات الماليّة وأحكام الحرب والسلم، والعلاقات الدوليّة وأحكام الإدارة السياسيّة والإرشادات الاجتماعيّة.
فالجانب البشريّ في تقدير التشريعات والأحكام الإسلاميّة المتغيّرة كبير، طبعاً مع مراعاة القواعد والمبادئ العامّة التي شرعها الشارع الحكيم، وبلزوم مراعاة هذه المبادئ الربّانيّة من قِبَل المشرّع من البشر يختلف التشريع الوضعيّ عن التشريع الإسلاميّ.
لكنّ بعض الخطابات الإسلاميّة توهم الناس أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، فيهما تفاصيل كلّ شيء، وبخاصّة في سياق الوعظ ومدحِ الشرع الإسلاميّ!
وهذا من العبث المنهجيّ، فقد أنتج هذا الخطاب عندنا أناساً يشترطون النصّ من الكتاب والسنّة على كلّ جزئيّة في حياتنا.
وليت الأمر اقتصر على الجوانب التشريعيّة، لكنّ الأمر انتقل للعلوم التطبيقيّة والعلوم الإنسانيّة، وحتّى للآليات والأدوات والوسائل والنظم والإداريّات، وتفاصيل النظام السياسيّ والنظام الاقتصاديّ والأنظمة الاجتماعيّة، وتفاصيل القوانين والأنظمة الإداريّة، والعلوم الطبيعيّة والكونيّة التجريبيّة، فوجدنا علماء يبحثون عن تفاصيل هذه الأمور كلّها في نصوص الكتاب والسنّة!
طبعاً لا يعني هذا تجاوز تعاليم الكتاب والسنّة، بل الذي ننكره تقاعس عقل المسلم عن الاجتهاد البشريّ في إيجاد تفاصيل وحلول لكيفيّة تسخير الكون، واختراع نظم إداريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وتقنيّة واكتشاف العلوم التجريبيّة وتطويرها لحياتهم الدنيويّة والمعاشيّة، امتثالاً لقوله ☺ (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
طبعاً هذه العقليّة أدّت بهم إلى عدم العثور على تفاصيل تلك النظم والآليات في الكتاب والسنّة، فرجعوا للحلول الإسلاميّة المحليّة -رغم قدمها- حيث رجعوا للجهد البشريّ للمسلمين في العصور السابقة، الذين عاشوا في ظلال تعاليم الإسلام -بحسب اعتقاد من أخذوا عنهم- وتبنوا آراءهم وحلولهم وتطبيقاتهم وآلياتهم التي وصلوا إليها.
وهنا لا نقول: إنّ كلّ تراث أمّتنا العلميّ والعمرانيّ والثقافيّ متخلّف ولا يناسب عصرنا!
بل نقول: فيها ما يناسب عصرنا، وفيها ما تجاوزه العصر، ولم يعد صالحاً، فحياتهم كانت أبسط، وواقعنا الجديد معقّد يحتاج حلولاً جديدة تناسبه.
فكان اتجاههم ماضَويّاً ينظر في تراثنا العلميّ والحضاريّ يريد تكراره، بما أنّه منضبط بالكتاب والسنّة (بحسب تصوّرهم)!
وبالمقابل ظهر سلوك آخر رافض للحلول المستوردة (الغربيّة) ولو كانت عصريّة متقدّمة، وصالحة للاقتباس!
والحقيقة أنّ حلولنا الإسلاميّة –تاريخيّاً- كان كثير منها اقتباساً من الحضارات المعاصرة للدولة الإسلاميّة فاقتبسنا في العصور الإسلاميّة الأولى من فارس والروم كثيراً من الأنظمة والحلول، فما المانع أن نقتبس من الغرب والشرق ما توصلّوا إليه من علوم إنسانيّة وتطبيقيّة وأدوات ووسائل ونظم وحلول ناجحة؟! فهي تجارب بشريّة نأخذ ما يناسبنا منها، ونترك ما لا يتلاءم مع واقعنا واحتياجاتنا ومع مبادئنا وديننا.
بل سأذهب لأبعد من ذلك وأقول: حتّى ما نخافه من القيم والمبادئ العليا، نحن نتشارك معهم في كثير من مبادئهم وقيمهم، (كالصدق والأمانة واحترام الوعد والوفاء بالعهد والمواثيق، وكرامة الإنسان والمحافظة على حقوقه..) فقد اهتمّوا وسلّطوا الضوء على كثير من القيم والمبادئ التيّ كانت ضامرة –نسبيّاً- في عموم البشريّة في العصور السابقة، كالحرّيّات والعدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة وتفاصيل حقوق الإنسان وقيم التسامح والتعايش والسلم الأهليّ..
فالحلّ ليس بتكرار التجربة الإسلاميّة التاريخيّة بحذافيرها، ولا باستنساخ التجربة الغربيّة بكلّ تفاصيلها، بل بأخذ الصالح من التجربة الإسلاميّة التاريخيّة والتجربة الغربيّة المعاصرة، بما لا يتعارض مع قيمنا وتعاليم ديننا.
نحن بتكاسلنا عن النظر والبحث والتفكير والاعتماد على الجهد البشريّ، والنظر في الآفاق والأنفس، واستبدال ذلك بطلب تفاصيل ذلك من نصوص الكتاب والسنّة اللذين يرشداننا للنظر خارجهما عبر الأمر بالتفكّر والتدبّر والبحث والاجتهاد والتجربة والمشاهدة والاعتبار.
نحن نمشي بعكس المطلوب، فالمطلوب البحث خارج الكتاب والسنّة لتدبير شؤون حياتنا والنظر في الكتاب والسنّة للتوجيه والإرشاد والالتزام في شؤون حياتنا.
فعمارة الأرض مهمّة بشريّة بحتة، وعملها كله خارج الكتاب والسنَّة، ووضع القيم العليا والأخلاق الفاضلة والأحكام الملزمة موجود في الكتاب والسنَّة.
فالأمور الدنيويّة الأصل فيها الإبداع البشريّ، مع الاتباع للتوجيه الربّانيّ.
فعمارة الدنيا تحتاج بحثاً (خارجيّاً) خارج الكتاب والسنّة، أما تعاليم الإسلام وأحكامه وإرشاداته فتحتاج بحثاً (داخليّاً) للكتاب والسنّة.
وعندها سنكتشف أنّ الكتاب والسنّة يأمراننا بالاتجاه خارجهما لعمارة الأرض، والالتزام بهما في السلوك والأخلاق والعقيدة.
يروي الشيخ الشعراويّ في تفسيره أنّه “سُئل الإمامُ محمّد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في إرْدَبّ الدقيق(3)؟.
فقال: انتظروا.
واستدعى خبّازاً وسأله: كم رغيفاً في إردبّ القمح؟
فقال له: كذا رغيفاً. فقالوا له: أنت تقول إنّه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]”
ها هو القرآن الكريم يرشدنا للمتخصّصين في كلّ علم.
لكنّ حال بعض المنتكسين كالطالب الكسول الذي يعلّمه أستاذه تفاصيل علم ما في كتاب جامع لمسائل وقواعد ذلك العلم، في الكتاب القواعد التي يحتاجها كلّها في هذا التخصّص العلميّ، ثم يكلّفه ببحث التخرّج، وهو بحث تطبيقيّ يقوم به التلميذ وحده، فيأتي التلميذ ولم ينجز بحث التخرّج، متعلّلاً بأنّه نظر في الكتاب الذي أعطاه إيّاه أستاذه لعلّه يجد فيه بحثه المطلوب وحلول مشاكل البحث، فلم يجدها، فيوبّخه أستاذه ويقول له: لن تتمكن من هذا العلم هذا حتّى تستطيع بنفسك تطبيق قواعده ومبادئه في تطبيقات جديدة ليست موجودة في الكتاب.
وبعضنا كهذا التلميذ الكسول، يريد علوم الكون كلّه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة!
كالقاعد عن الجهاد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)) ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ))
فالكتاب والسنّة للهداية وليس موسوعة علميّة تجد فيها الاكتشافات والاختراعات العلميّة.
فلإنسان دور أساس في فهم تعاليم القرآن، واكتشاف علوم الأكوان.
ورد في بعض الآثار “ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه” قال العلماء في بعض تأويلاته أي: عندما يخالف القارئ تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته!
فالقرآن الكريم يدفع بنا للانطلاق خارجه، والنظر في الآفاق والأنفس، ونحن نعود وننكفئ عليه مخالفين أمرَه!!
____________________
1) ينظر: تفسير الطبريّ، وتفسير الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطيّ، عند تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
2) اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ، 8/128
3) مكيال قديم يسع 24 صاعاً أي ما يساوي 60 كيلو غرام تقريباً.