ما يحصل في الجزائر الغالية شيء غير مستغرَب، لأنّ الحكومة هناك كانت تستهين بالشعب البطل، وتستفزّه بترشيح (بوتفليقة) من جديد، وكأنّ الجزائريين الأحرار عقموا عن الإتيان ببديل، لكنّهم استدركوا وتراجعوا تحت ضغط الشعب الأبيّ.
وهنا أرجو أن يتّسع قلبهم لنصائح محبّ عاش في صغره في الجزائر سنتين، فشرب من مائها العذب، وأكل من طعامها الشهيّ، وتنسّم هواءها النقيّ.
ومازال يتتلمذ على فكر أعلامها الكبار، البشير الإبراهيميّ وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبيّ رحمهم الله، على الرغم من أنّ أهل الجزائر الكرام أصحاب تجارب طويلة وعميقة، ولا يحتاجون نصيحة أمثالي، لكنّها تذكير من مشفِق غيور لأهله وأحبابه، والذكرى تنفع المؤمنين إن شاء الله تعالى.
وأهل الجزائر الكرام أصحاب خبرة بالصدام مع السلطات، واستخدام العنف في التغيير.
فالحذر الحذر من الانجرار للعنف مهما استفزّوكم، واتّهِمُوا كلَّ مَنْ ينادي بالعنف حتّى لو كان تحت اسم (الجهاد والدفاع عن النفس وردّ الصائل..) فالعنف في التغيير داخل المجتمعات نتائجه وخيمة، ومن يتحمّس وينادي باستخدام العنف إن لم يكن (خائناً) فهو (غير واع) والثاني مصيبتنا فيه أكبر، لأنّنا ننخدع بإخلاصِه وحماسَته وغَيْرَتِه.
تجربتنا في سورية علّمتنا أنّ أسلحة الأنظمة المستبِدة في مواجهة الحراك الشعبيّ:
1- إثارة النعرات الطائفيّة (تفجيرات وتهديدات).
2- إثارة النزاعات العرقيّة (أمازيغ وعرب).
3- إطلاق سراح الشباب المؤمن (بالعنف طريقاً للتغيير) من السجون، وتسهيل مجيئهم من آفاق الأرض (كمقاتلي تنظيم القاعدة).
4- توريط الشباب بحمل السلاح بحجّة (حماية المظاهرات) وربما يدسّ النظام مسلّحين بين المتظاهرين ليُشعلوا فتيل الاقتتال بين (الشرطة والجيش) من جهة، وبين (الشعب الثائر) من جهة ثانية، وعند اللجوء إلى السلاح سيتفوّق النظام، لأنّه جيش منظّم، مدعوم دولياً، ضدّ شعب أعزل وعصابات متفرّقة (على أحسن تقدير) ولأنّه لن يتورّع عن إيذاء المدنيّين، لأنّهم حاضنة المتظاهرين، فيُوقع الشقاق بين الثوّار وحاضنتهم!.
5- أَدْلَجَة الثورة (أو المظاهرات) بجعلها إسلاميّة، أو قومية (عربية أو أمازيغية) أو يسارية أو ليبرالية أو غيرها..
فالمجتمع فيه أحزاب وجماعات وطوائف وأعراق وقوميّات وأفكار وإيديولوجيّات..
وكلّها عندها أفكار وأحلام وخطط ومناهج..
والاستعجال في رفع شعاراتها يعني محاولة استغلال الحراك واختطافه، وهذا يعني عدم سكوت الآخرين، ممّا يؤدّي إلى الاختلاف والتفرّق والصراع، فتذهب رِيح الثورة وتفشل..
فالحراك ينبغي أن يكون وطنيّاً، بعناوين عامّة مشترَكة متّفَق عليها بين القوى الوطنيّة المتعدّدة كلّها، وبعد نجاح الحراك تأتي الحملات الانتخابيّة والمرشّحون.. عندها يفرش الكلّ بضاعته، والناس تختار الذي تريده، عبر صناديق الاقتراع.
أمّا قبل نجاح الحراك فليس الوقت وقت شعارات حزبيّة أو إيديولوجيّة، فكلّ تشرذم ومحاولة فَرْض رؤية ضيّقة يعني تشتّت قوّة الثورة وفشلها..
فلْيبقَ لونُ ساحاتكم واحداً (لون العَلَم الجزائريّ الواحد) الذي يجمع تحت ظلّه أبناء الجزائر الأحرار كلّهم..
واتركوا كلّ راية أخرى الآن..
فالوطنيّة تجمع وتُنجح الثورات.. والإيديولوجيّة تفرّق الصفَّ وتُحبط الثورة وتشتّتها، وتجعل بأس أبنائها بينهم شديداً..
لذلك ينبغي أن يكون هدف الجميع:
1-إبقاء الحراك (وطنيّاً) يشترك فيه مكوّنات الشعب كلّها دون استثناء.
2-تعزيز الديمقراطيّة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
3- تأجيل التنافس الحزبيّ والإيديولوجيّ إلى ما بعد سقوط النظام.
وبعد سقوط النظام وإقامة انتخابات حرّة ونزيهة، فالفيصل هو (صناديق الاقتراع) لا (فوّهات البنادق).. وإلا فالبقاء تحت حكم حاكم مستبِدّ أرحم وأفضل ألف مرّة من الحروب الأهليّة، والنزاعات بين مكوّنات الوطن المختلفة!
المعادلة التي يروّج لها المستبِدّون هي: إمّا الاستبداد مع الأمن والاستقرار، أو الحريّة مع الحروب والفتن.. فإمّا الحريّة وإمّا الأمن! كأنّنا محرومون من الجمع بينهما -مثل كل الشعوب المحترمة في الدنيا – ونقول لهم:
– (بل نريد الحريّة والأمن معاً).
لأنّ معادلة المستبدّين خادعة، فالاستبداد سيؤدّي -عاجلاً أم آجلاً- إلى الحروب والفتن، وعندها سنفقد الحرّيّة والأمن معاً..
أمّا الحريّة والديمقراطيّة فستؤدّي للاستقرار والازدهار -عاجلاً أم آجلاً- بإذن الله تعالى.
منطق المستبدّين يقول: (إمّا نحن أو الطوفان).
ولكنّ الزمان قد استدار وأضحى المنطق الجديد يقول: (إرضاء الشعوب أو الطوفان).
لكنْ ينبغي أن يكون الطوفان مدروساً منضبطاً، وإلا غرق الشعب ونجح المتآمِرون والمتربّصون لا سمح الله,
فسنن الله في الحياة: عند الحراك الشعبيّ تأتي الأجندات والخطط كلّها، وتحاول استغلال هذا الحراك لصالحها! فعلى الشعب أن يحافظ على أهدافه في الحراك، ويلتفّ حولَ نُخَبه العصيّة على البيع والشراء، ممّن يثقون بهم، فلْيلتفّوا حولَهم ويحقّقوا هدفهم بإسقاط المستبِدّ الذي يريد الاستئثار بالحكم دون رضا شعبه الذي وكّله بالحكم لإدارة البلاد، وهو صاحبُ الحقّ في سَحْبِ وكالته.
طبعاً الأنظمة تلعب بالملفّات السابقة كلّها (الطائفيّة والعرقيّة والأَدْلَجَة واستخدام العنف).. لكن أكثرها نجاحاً هو (أَسْلَمَة الحراك، وتحويله لجهاد قتاليّ لإقامة حكومة إسلاميّة)..
وهنا سأهمس في أذن إخواني الإسلاميّين.
وجواباً على سؤال (لماذا الإسلاميّون فقط)؟
أقول: لأنّي منهم أوّلاً، ولأنّهم الفصيل الأقوى المتناغم مع هويّة البلاد، وتطلّعات الشعوب ثانياً.
ونصيحتي لإخواني الإسلاميّين ولغيرهم -طبعاً- بألّا يستعجلوا.. فالعاقبة للتقوى..
ولا ينخدعوا بأرباح (آنيّة هشّة) مثل (سيطرتهم على الحكم بعد سقوط الحكم مباشرة) فالانقلاب عليهم سهلٌ جدّاً، وقد جرّبه الإسلاميُون في عدّة أقطار لم تترسّخ فيها الديمقراطيّة.
بل يركّزوا على أرباح (استراتيجيّة عميقة) وهي (ترسيخ الديمقراطيّة في البلاد).. ولْيتركوا الحكم لغيرهم بعد نجاح الحراك، ولْيُركّزوا على ترسيخ الديمقراطيّة وحمايتها، ويركّزوا كذلك على حماية وجودهم والاعتراف بهم كأحزاب سياسيّة.. وبعد ترسّخ الديمقراطيّة في البلاد، وتمكّن التداول السلميّ على السلطة عبر الانتخابات الحرّة والدوريّة، يمكنهم خلال هذه الفترة (فترة ترسيخ الديمقراطيّة) تأهيل كوادرهم، والمشاركة البسيطة في البرلمان والوزارات، ثمّ التوسّع بالمشاركة بالتدريج حتّى يأتيهم يوم يترشّحون ويحكمون فيه براحة وأهليّة وتمكّن، ولْيخلصوا –دائماً وبخاصّة بعد استلام الحكم- للديمقراطيّة لأنّها العَقد والعَهد الذي وصلوا به للحكم، وقد أمرنا الله بالوفاء بالوعد والعهد، ولا ينقلبوا على الديمقراطيّة -كما يتّهمهم خصومُهم- بل يقدّموا أفضل نموذج واعٍ سياسياً، ومؤهّل كوادِرِيّاً، ونهضويّ برامجيّاً، متحضّر سلوكيّاً، ينهضون بالبلاد ويحترمون العباد، وعندها سيعيد الناس انتخابهم، وإن لم يقدّموا نموذجاً يخدمون فيه الناس، عبر تطوير التعليم والصحّة، والمشاريع الاقتصاديّة، وتأمين الوظائف، والخدمات فسيستبدلهم الناس عبر صناديق الاقتراع.
هذه خلاصة خبرتنا في ثورتنا السوريّة.. فقد استعجلنا وجرّبنا في الثورة السوريّة الأحلام الإيديولوجيّة كلّها قبل سقوط النظام المجرِم!!
وحفظ الله أهلنا في الجزائر من كلّ شر، ووفّقهم لكلّ خير.