بسم الله الرحمن الرحيم
ماذا يعني تجديد الخطاب الدينيّ؟
إنّ كلمة تجديد (الخطاب الدينيّ) تحدث بشكلٍ فوريّ جدلاً واسعاً بين أطياف عدّة من المهتمّين بالفكر الدينيّ والفلسفيّ، ومن عدّة زوايا، فيراها المحافظون تفريطاً، ويراها السلفيّون ابتداعاً، ويراها التقليديّون استشراقاً واختراقاً، ويراها المجدّدون تنويراً، وتترافق الدعوات للتجديد بالتزامن مع التحوّلات السياسيّة والتاريخيّة الكبرى، مثل ظهور القوميّات، وولادة الدولة الوطنيّة، والانكسارات العسكريّة، أو تلك التي تحدث تحوّلات فكريّة وسياسيّة كحملة (نابليون) على مصر، أو إلغاء منصب الخلافة العثمانيّة 1924، أو نكسة عام 1967، وكذلك دمويّة الأنظمة الاستبداديّة وقمعها للربيع العربيّ.
و تستند الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ على نقطتين،
الأولى:
أنّ الشعوب بغالبيّتها متديّنة، وتتوارث كمّاً متماسكاً من القيم الدينيّة التي تحمل الإجابات عن الأسئلة المصيريّة، وبالتالي عندما تجد هذه الشعوب مفارقة بين ما تعتقد، وبين ما يحدث، فتعود بالمراجعة لاعتقاداتها، و كون أكثر المؤمنين في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ينطلق إيمانهم من التسليم الكامل بعصمة النصّ الدينيّ عن الخطأ، فإنّهم يتّجهون بالتهمة للطبقة الناقلة، أو الفاهمة، أو المفسّرة للنصّ، ومن هنا تنشأ الدعوات للتجديد في الخطاب الدينيّ من قبل المؤمنين.
النقطة الثانية الداعية للتجديد:
لا تتناول الطبقة المبلّغة للدين، أو المفسّرة له، بل تدعو لتجديد الدّين نفسه، وهم على مراحل، فمنهم من يدعو لنزع القداسة عن النصّ نفسه، فلا ضير في تعريضه للنقد، ومنهم من يدعو لوضع النصّ في موضع تاريخيّ؛ كان له فيه دورٌ وانتهى، ومنهم من يدعو لقراءة معاصرة للنصّ.
وكلّ مرحلة من هذه المراحل تجدها تتحوّل بفعل السيلان الشبكيّ إلى تيّارات ومناهج متوالدة ومتناقضة، وكلٌّ يلقي بحمولته في الفضاء، ويتلقّفه الشباب التائه والمصدوم من مآلات الانكسارات العسكريّة أو السياسيّة، التي تحدث تغييراً جوهريّاً في عالم الأفكار والمشاريع والعلاقات.
والتجديد ليس مفهوماً حادثاً، بل قد ورد (تجديد الدّين) في الحديث النبويّ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).
رواه أبو داود (رقم/4291) وصحّحه السخاويّ في “المقاصد الحسنة” (149)، والألبانيّ في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599). والخلاف في تفسير حديث التجديد واسع، فمن جعل المجدّد واحداً في كلّ مائة عام، ومن جعله جماعة، ومن جعله كلّ مائة عام حصراً، ومنهم من جعله في كلّ وقت، ويرجع للاطلاع على هذا الخلاف إلى كتب شرّاح الحديث، لأنّ الذي سنميل إليه من الحديث عن تجديد الدين، هو محاولة تنويريّة تلطيفيّة لهذا المصطلح الذي يثير المعارك الفكريّة الصاخبة، ويقسم الناس بين (تقليديّين وأحرار، وبين سلفيّين وحداثيّين، وبين متزمّتين ومتنوّرين)، وسأضع هذه الإشارات في نقاط متتعدّدة، وأجزم مُسبقاً بأنّها ليست كافية، ولكنّها قد تقدح المزيد من الأفكار في هذا الميدان البالغ الحساسيّة، ويمكن أن ألخّصها في الإشارات التالية:
- إنّ الدعوة لتجديد الخطاب الدينيّ ليست دعوة لترك النصوص الدينيّة ولا هجرانها، وليست لقراءتها بغير القواعد التفسيريّة المعتبرة باللسان العربيّ، كما أنّها ليست اتهاماً مسبقاً للنصّ نفسه، بأنّه المسؤول عن التخلّف أو الهزيمة أو سوء حال المسلمين، بل هي دعوة للتمييز بين النصّ المقول المعنى، والنصّ المتمحّض للتعبّد، مثال ذلك: النهي عن سفر المرأة وحدها بدون محرم، هل هو معقول المعنى؟
أي: هل هو معلّل بسلامتها وأمنها، فينتفي النهي حال ضمان الأمن والسلامة؟ أم هو عبادة لازمةٌ بكلّ حال؟
- الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّ الدينيّ الذي يعطي حكماً عامّاً أبديّاً مثل: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وبين النصّ الذي يعطي حكماً في حال معيّنة، وبسياقٍ معيّن مثل: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فهذا لا يعني أن يكون لعدد الشهور اعتبار في الهدن السياسيّة.
- الدعوة للتجديد هي: دعوة للتمييز بين النصّيّ الدينيّ قطعيّ الثبوت والدلالة، وبين قطعيّ الثبوت، ظنّيّ الدلالة، وبين ظنّيّ الثبوت والدلالة، وكم بنيت أحكام قطعيّة على أصول تبيّن أنّها ظنّيّة.
- الدعوة للتجديد تشمل ضرورة وضع تعريفات ضابطة للمصطلحات الشرعيّة والفقهيّة، بحيث تحدّ من تعميمها واشتمالها على مالا تشتمل عليه، فكم من المسلمين اليوم يمزج بين الحرام والمكروه، وبين المندوب والواجب، إن لم يكن في تأصيله ففي تطبيقه.
- ومن التجديد تحليل مصدريّة الأحكام العمليّة لصاحب الرسالة وعدم النظر لما صدر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بنظرة موحّدة دون التمييز بين ما صدر عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام من أفعال وأقوال، بعضها زمنيّ يخصّ عصره كحاكم للناس، وبعضها كقاضٍ بين الناس، وبعضها كرسول للعالمين، وبعضها كاجتهادٍ مرحليّ.
- الدعوة لتجديد الخطاب الديني تشمل الدعوة للتمييز عند تنزيل النصوص بين الواقعيّة والمثاليّة، وبين حال الاستضعاف وحال التمكين، وبين الاعتقاديّ المطلق والعمليّ المقيّد، وبين فقه النوازل وبين الفقه المستدام، وكم هو الفرق كبير بين العمل السياسيّ القائم على التشاركيّة؛ من مناصفة وتدرّج، وتأثّر بظروف العصور المتغيّرة، وبين العمل الدعويّ القائم على منهجيّة الرسالة الإسلاميّة، في إصلاح الفرد والمجتمع، التي لا تقبل أنصافَ الحلول، بل كم وقعنا في غوائل التعصّب من مزجنا الدائم بين الإسلام ديناً، وبين الإسلاميين حملةً لهذا الدين، بل المزج بين الإسلامّيين قادةَ مشروع متصدّرين، وبين المسلمين الذين يشكّلون الأمّة كلّها.
- الدعوة للتجديد تعني منع المزج بين الوحيّ الإلهيّ، والتاريخ الإسلاميّ، فكم حسبت مواقف تاريخيّة كأنّها مصادر تشريعيّة، فالضرورة قائمة للتمييز بين عصمةِ الوحي الإلهيّ، وبين إمكانيّة وقوع الخطأ بالتفسير البشريّ.
- الدعوة للتجديد هي دعوة لأنسنة المسلمين، فالمسلمون مثل غيرهم تجري عليهم سنن الله في القوّة والضعف، والنصر والهزيمة، والاستخلاف والابتلاء، وقد يتعرّضون للنكبات والنكسات العسكريّة الكبرى، وليس لهم ميزة خاصّة تحصنّهم، أو خوارق تنجّيهم.
- هي دعوة للتمييز بين فقه الأولويّات، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وتأثير ذلك على الفتوى وإصدار الأحكام، ومدى علاقة ذلك بالواقع، ومناسبتها للظرف، ومقياس ما يترتّب على الإخلال بهذه الموازين، من مفاسد تعود على حملة الشرّيعة بالبوار.
- هي دعوة للمرونة في التعاطي مع العمليّة السياسيّة، من انتخاب وترشيح وممارسة ومشاركة ومعارضة، وسلطة ضمن المتاح والممكن، حماية لمصالح الناس، وعدم الانزواء عن العمل السياسيّ، بسبب عدم إقامة نظام إسلاميّ مَرْضِيّ من قبل الإسلاميّين.
- هي دعوة لعدم الانسحاب من مواجهة التحدّيات بإطلاق فتاوى التحريم فقط، بل بمنازلة التحدّيات، والتمييز بين ما ينفع وما يضرّ، وبين ما ينفع مع ضرر قليل، وبين ما يضرّ مع نفعٍ قليل، إذا لم يكد توجد وسيلة متمحّضة للصلاح، إلا شابها شيء ممّا ننكر، وبخاصّة قضايا الشأن العام.
- هي دعوة لإحياء مقاصد الشريعة، ووضعها في زاوية التناول الأصليّ، وليس الثانويّ، التي بها يستبان النسق العامّ للتشريع الإسلاميّ، ومراد الله من عباده، وذلك ليستنير المجتهد في صناعة الفتوى، بمنارات الغايات، ولا ينغلق في التفصيلات،
- هي دعوة لاعتبار أصليّة الخلاف الفقهيّ، وحتّى العقديّ على مستوى الفروع، وإنّ هذا الاختلاف ليس هو الحال الشاذّة، بل هو الأقرب لطبيعة التشريع الإسلاميّ، وبذلك تنتفي غوائل التعصّب المذهبيّ المقيت.
- هي دعوة لإعادة اعتبار العقل ودوره في فهم النص الشرعيّ، وإنّ باب (الاجتهاد لأهله) لا يغلق، وإنّ العقل ليس حصراً على طائفة، حتّى يحيد بتحييدها، فالعقل أداة الاستنباط، وليس هو المعتزلة، كما لو غلا قوم بإمام، فإنّ هذا لا يعيبه.
- الدعوة للتجديد هي أولويّة ماسّة، بخاصّة في قضايا الشأن العامّ، ونظام الحكم وسياسة الدولة، وإدارة السلطة والمعارضة، والجهاد وفق المنظومات المعاصرة، وما طرأ من تغييرٍ هائل، في بنية الدولة، وتركيبتها السياسيّة والاجتماعيّة.
- الدعوة للتجديد دعوة لإعادة النظر ببعض الأحكام الفقهيّة المعلّلة بظروفها الزمانيّة، كولاية المرأة في الشأن العامّ، وطريقة المشاركة السياسيّة مع المختلفين بالدين والمذهب، في بلادٍ لا تحكم كما نريد، ووفق ما نؤمن.
- دعوى التجديد الدينيّ ليست لإقصائه، ولا لتمييع أحكامه، ولكنّها دعوة لتفعيل دوره، وتعزيز حضوره في حياة الأمّة من جديد، بعد أن تمّ قصر دوره على المسجد، بيد العسكر تارةً، وبسبب التحجّر الفقهيّ والتعصّب المذهبيّ، والاقتتال الطائفيّ تارة ً أخرى.
- ودعوى التجديد ليست مفتوحة لكلّ أحد، بل هي متاحة لأهل التخصّص المباشر، أصحاب الكفاءة والقدرة على تقليب المسائل، وإعادة قراءة الأحكام الفقهيّة وتفسيرها، والاجتهاد في تنزيلها، مع فهم الواقع وفق فقه الأولويّات، والموازنات والمآلات.
فإن لم ينهض لها العلماء المتخصّصون، العارفون بمقاصده وأصول التشريع، سينهض لها الهواة غير المتخصّصين، إمّا بحسن نيّة، وإمّا بسوء طويّة، ولا مناص حينها من الردّ عليهم، فالأولى من ذلك مبادرة أهل العلم.
حسن الدغيم
رؤية للثقافة والإعلام.