إنّ الإسلام ليس مجرّد تشريع وقانون؛ إنّه عقيدة تفسّر الوجود، وعبادة تربّي الروح، وأخلاق تزكّي النفس، ومفاهيم تصحّح التصوّر، وقيم تسمو بالإنسان، وآداب تَجْمُل بها الحياة، وآيات الأحكام التشريعيّة لا تبلغ عُشْرَ آيات القرآن، وهي ممزوجة مزجاً بالعقيدة والضمير، مقرونة بالوعد والوعيد، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بسائر توجيهات القرآن.
اقرأ مثلاً في أحكام الأسرة قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا، إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229). هذا ليس تشريعاً جافّاً كمواد القانون، بل هو تشريع ودعوة وتوجيه وتربية وترغيب وترهيب.
واقرأ في أحكام الحدود قوله جلّ شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا، جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:38-40).
هنا نجد كذلك التشريع الزاجر، مقروناً بالوعد والوعيد، حاملاً التخويف والترجية، والتوجيه والتربية، مرغباً في التوبة والإصلاح، مذكّراً بأسماء الله الحسنى: العزيز إذا أمر ونهى، الحكيم فيما شرع، والغفور الرحيم لمن تاب وأصلح. مالك الكون، وصاحب الخلق والأمر، وهو على كلّ شئ قدير.
هذا هو سياق التشريع في القرآن، ومثله في السُّنَّة، فليس بالتشريع وحده يبنى المجتمع المسلم، بل لا بدّ من وسيلتين أخريين: الدعوة والتوعية، ثمَّ التعليم والتربية، إلى جوار التشريع والقانون، بل قبل التشريع والتقنين.
ولهذا بدأ الإسلام بالمرحلة المكيّة -مرحلة الدعوة والتربية- قبل المرحلة المدنيّة، مرحلة التشريع والتنظيم، وفى هذه المرحلة نرى التشريع يمتزج بالتربية أيضاً امتزاج الجسم بالروح.
إنّ مجرّد تغيير القوانين وحده لا يصنع المجتمع المسلم، إنّ تغيير ما بالأنفس هو الأساس.
وأعظم ما يعين على تغيير ما بالأنفس هو الإيمان الذي ينشئ الإنسان خلقاً آخر، بما يضع له من أهداف، وما يمنحه من حوافز وضوابط، وما يرتّبه على عمله من جزاء في الدنيا والآخرة، والإسلام كلّ لا يتجزّأ، فإذا أردنا أن نحارب جريمة ممّا شرّعت له الحدود، فليست محاربتها بإقامة الحدّ فقط، ولا بالتشريع فقط، بل الحدّ هو آخر الخطوات في طريق الإصلاح.
إنّ العقاب إنّما هو للمنحرفين من النّاس، وهؤلاء ليسوا هم الأكثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذّ عن القاعدة، والإسلام لم يجئ فقط لعلاج المنحرفين، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم من أن ينحرفوا، والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج.
فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنى نجد أنّ القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحدّ فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهى قوله تعالى: {الزَّانِيّة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(النور:2) ، ولكنّ السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجّه إلى الوقاية من الجريمة؛ وحسبنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور:19) وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور:27).
ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}(النور:58).
وأهمّ من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغضّ البصر وحفظ الفروج، وذلك في قوله جلّ شأنه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.. الآيّة}(النور:30-31) وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتّى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ، ثمَّ تختم الآية بقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ومعنى هذا: وجوب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة، وسدّ الذرائع إلى الفساد، وأهمّ من ذلك كلّه الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كلّه بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤوليّة تضامنيّة: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32).
ومسؤوليّة المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكّام- تتمثّل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سدّ أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق الماديّة والاجتماعيّة أمام الراغبين في الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتّصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم -ماديّاً وأدبيّاً- على تكوين بيوت مسلمة؛ فليست إقامة الحدّ إذن هي التي تحلّ المشكلة، والواقع أنّ الحدّ هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعيّة إلا في حال الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرّات، على ما يراه عدد من الأئمّة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة في أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك؛ فكأنَّ القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة، أمّا من ابتلي بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيويّ، وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.
………………..
* من كتاب “المجتمع المسلم الذي ننشده” لفضيلة العلّامة.
المصدر: موقع الاتِّحاد العالميّ لعلماء المسلمين