هذه المسألة مما أشكل عليّ في صغري، حيث كنتُ أشاهد حرصاً شديداً من بعض طلبة العلم الشرعيّ على عدم تجفيف أعضائهم بعد الوضوء (لأنّه مكروهٌ عند الشافعيّة)، وكنتُ أستغرب ذلك، وأحتار بحِكمتِه، فلماذا كلّ الناس يحرصون على تجفيف أعضائهم في حياتهم العادية، ثمّ نتركه نحن عند الوضوء أو الغُسل؟! وكان تعليلهم غريباً حيث قالوا: (فيه تبرأٌ من الوضوء والطاعة)!
وكنتُ أقول في نفسي: أين التبرّي عندما أغسل يديّ بالصابون ثمّ أجفّفهما بـ (البشكير)؟
هل أتبرّى بذلك من غسل يدَيَّ؟!
ومرّت الأيام، وكنتُ أتابع الحنفيّة في قولهم: (بعدم الكراهة) وأجفّف، وزادت راحتي عندما قرأتُ أدلّتهم المجيزة للتجفيف.
ثمّ خطر ببالي أنّ هذا الأمر لا علاقة له بالمأمور والمنهيّ عنه أصلاً، فهو ليس من صلب الوضوء ولا من صلب الغُسل، فهو تابع لعاداتنا وبيئاتنا، يغلب على ظنّي أنّه لو كان النبيّ ☺ في بلد بارد لحرص على توصية أمّته بالتجفيف، حتّى لا يُصابوا بالبرد والمرض، لأنّه رؤوف رحيم بنا، وديننا جاء للناسِ كلّ الناس، في البلدان كلّها.
فكيف يعقلُ نقول للمسلمين في بلد بارد: يُكره تجفيفُ الجسم من الوضوء أو الغُسل؟!
ومع مرور الأيّام، تزداد قناعتي بأنّ الأحكام الشرعيّة الأصل، فيها التعليل، وأنّها لفائدة وحكمة، و بأنّ ديننا دين الفطرة السليمة، والعقل الراجح، ويستحيل تعارضهما، فبحثتُ في الموضوع، وهذه خلاصة الرأي فيه:
الذي أمرنا الله تعالى به هو الوضوء، وبيّنه لنا، مع الغُسل، مع بديلهما؛ وهو التيمّم، ذلك كلّه في آية واحدة في كتابه الكريم، وهي الآية السادسة من سورة المائدة، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ)) وختم الله ﷻ الآية ببيان أنّه أراد (التيسير) وبيّن الحكمة وهي (التطهير) فقال ﷻ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [المائدة: 6]
وطبّقها النبيّ ☺ وعلّمها لأصحابه عمليّاً وهكذا فعل أصحابه من بعده، روى البخاريّ في صحيحه عَنْ حُمْرَانَ رَأَيْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثمّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثمّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثمّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثمّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثمّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا، ثمّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ☺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وَضُوئِي هَذَا، ثمّ قَالَ ☺: ((مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا ثمّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
فلم يذكروا شروط وأركان وسنن ومستحبّات الوضوء لعامّة الناس حتّى لا يعقّدوهم، كما ذكر الدكتور القرضاوي وأطال في نهاية كتابه النفّاع: (العبادة في الإسلام) في فصل (المنهج الأمثل في تعليم العبادات)، في مبحث: (الرجوع لعهد البساطة): حيث ذكر أنّ كثيراً ممّن التقى بهم ودعاهم للصلاة كانوا يعتذرون بأنّهم لا يعرفون هذه الأحكام، والعتب ليس عليهم، بل على من علّمهم واستعرض (عضلاته العلميّة) عليهم!
أما بالنسبة إلى مسألتنا هذه، فقد ورد عنه ☺ أنّه كان أحياناً يجفّف جسدَه بعد الوضوء أو الغسل، وأحياناً لا يفعل، وهذا طبيعيٌ في بيئة مثل مكّة أو المدينة، حيث لَفْح الصيف يجفّف الجسد المبلل خلال دقائق قليلة! فالموضوع ليس له علاقة بالدِّين ولا بالعبادة، بل تروي السيّدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنّه كان لرسول الله ☺ خرقة ينشّف بها بعد الوضوء، وكان -كعادة العرب للآن- يمسح أحياناً وضوءه بطرف ثوبه، كما يُروى عن معاذ بن جبل ؓ قال: رأيت النبيّ ☺ إذا توضّأ مسح وجهه بطرف ثوبه، روى الترمذيُّ تلك الأحاديث وضعّفها، وأنا أميل لتصديقها.
وكما يُروى عن سلمان الفارسيّ، أن رسول الله ☺ توضّأ، فقلب جبّة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه (رواه ابن ماجه).
أمّا ما ورد عنه أنّه لم يجفّف، فله عدّة أسباب محتملة: فقد كان أحياناً مستعجلاً ☺ كما يظهر ممّا يرويه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ☺ فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثمّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ.
فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثمّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ.
بل أشهر ما استدلّ به من كرهوا تجفيف أعضاء الوضوء أو الغُسل هو حديث ميمونة عن ابن عباسؓ:
عن ميمونة قالت: وَضَعَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضوءًا لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ غسل فرجه، ثمّ ضرب يده بالأرض أو الحائط مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ مضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثمّ أفاض على رأسه الماء، ثمّ غسل جسده، ثمّ تنحّى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردّها، فجعل ينفض بيده (رواه البخاري)، ولفظ مسلم: ((ثم أتيته بالمنديل فردّه)) وهذا الحديث لا يدلّ على الكراهة من عدّة أوجه:
قال ابن حجر ؒ: “استدلّ بعضهم بقولها: “فناولْتُهُ ثوبًا فلم يأخذه” على كراهة التنشيف بعد الغُسل، ولا حجّة فيه؛ لأنّها واقعةُ حالٍ يتطرّق إليها الاحتمال، فيجوزُ أن يكون عدم الأخذ لأمرٍ آخر لا يتعلّق بكراهة التنشيف؛ بل لأمر يتعلّق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلّب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال أيضًا عن ابن دقيق العيد بأن نفضَه الماءَ بيديه يدلّ على ألّا كراهة للتنشيف؛ لأنّ كلاًّ منهما إزالة الماء.
وقال إبراهيم النخعي: إنّما ردّه لئلّا تصير عادة”
وقد أجاد الإمام النوويّ في شرحه على مسلم حينما رجّح إباحة ذلك بدليل قويّ جداً، وهو حاجة الاستحباب أو الكراهة لدليل واضح، بل إنّه نقل قولاً للشافعيّة باستحبابه لأنّه يجفّف الأعضاء ويحميها من الغبار والاتّساخ.
وهناك قول لاحظ موضوع المناخ، فميّز بين الصيف والشتاء، فقال:
“وقد اختلف علماء أصحابنا في تنشيف الأعضاء في الوضوء والغسل على خمسة أوجه: أشهرها: أنّ المستحبّ: تركه، ولا يقال: فعله مكروه.
والثاني: أنّه مكروه.
والثالث: أنّه مباح يستوي فعله وتركه، وهذا هو الذي نختاره، فإنّ المنع والاستحباب يحتاج إلى دليل ظاهر.
والرابع: أنّه مستحبّ، لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ.
والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء“.
هذا مذهب الشافعيّة، أمّا سواهم فقد أباحوا التجفيف:
قال ابن قدامة ؒ : “ولا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغُسل، وهو المنقول عن أحمد.. وممّن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم، ونهى عنه جابر بن عبد الله وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعه من أهل العلم.. والأوّل أصحّ لأنّ الأصل الإباحة وتَرْكُ النبيّ ☺ لا يدلّ على الكراهة، فإنّ النبيّ ☺ قد يترك المباح” انتهى بتصرّف [المغني، 1/195]
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين ؒ عن حكم تنشيف أعضاء الوضوء فأجاب:
“تنشيف الأعضاء لا بأس به ؛ لأنّ الأصل عدم المنع، والأصل فيما عدا العبادات من العقود والأفعال والأعيان الحلّ والإباحة حتّى يقود دليل على المنع.
فإن قال قائل: كيف تجيب عن حديث ميمونة رضي الله عنها؟
فالجواب: إنّ هذا الفعل من النبيّ ☺ قضيّة عَيْن تحتمل عدّة أمور: إمّا لأنّه لسبب في المنديل، أو لعدم نظافته، أو يخشى أن يبلّله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، فهناك احتمالات ولكن إتيانها بالمنديل قد يكون دليلاً على أن من عادته أن ينشّف أعضاءه، وإلا لما أتت به” [مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/93)]
حتّى المالكية الذين يقولون بفرْضيّة (الموالاة في غسل أعضاء الوضوء) لا حرج عندهم من تجفيف بعض الأعضاء في أثناء الوضوء!
وكان الإمام مالك ؒ يجفّف أثناء الوضوء، وهو الحريص على السُّنَّة، وشهد سلوك الناسِ في مدينة رسول الله ☺.
قال الإمام القرافي: “وَإِذَا أُبِيحَ التَّنْشِيفُ، فَهَلْ يُبَاحُ قَبْلَ الْفَرَاغِ؟.. عَلَى الْمَشْهُورِ: يَجُوزُ؛ لِيَسَارَتِهِ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ: قيل لِمَالِكٍ: أَيَفْعَلُ ذَلِكَ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنِّي لأفعله” [الإمام القرافي، الذخيرة (1/289)]
أختم بملاحظتين طبيّتين:
الملاحظة الأُولى: قرأتُ لبعضهم أنّ ترك الماء يجفّ وحده له فوائد صحيّة للجِلد، وأقول: المرجع في ذلك إلى العلم التجريبيّ (إلى الأطبّاء) مع مراعاة اختلاف طبيعة الأشخاص والبيئات والمناخ والفصول الموسميّة برداً وحرّاً، وبعدها يمكن الاستدلال أو الاستئناس بالفائدة أو الضرر الصحيّ، أمّا إطلاق الكلام دون بيّنة فلا يجوز، لأنّ بعضهم تدفعهم العاطفة الدينيّة للإقناع بحكم شرعيّ إلى التساهل بنقل مثل هذه المعلومات؛ لأنّها تؤيّد (برأيهم)حكماً شرعيّاً.
الملاحظة الثانية: عدم تجفيف الأقدام بعد الوضوء ولبس الجوارب قبل جفاف الأقدام، مما يتسبّب بنمو الفطور بين الأصابع ممّا يشكّل مصدراً للروائح الكريهة، وهنا ننصح باستخدام سائل مضادٍ للفطور، يُباع في الصيدليّات يوضع بشكل قطرات بين الأصابع، تساعد على القضاء على الفطور بشكل علاجيّ، كما يستخدم وقائيّاً، بعد تجفيف الأقدام، وستكون النتائج ممتازة إن شاء الله.
وخلاصة الأمر كما ظهر –والله أعلم- أنّ تجفيف الجسم من أثر الوضوء أو الغسل أمرٌ لا علاقة له بالعبادة (الوضوء أو الغُسل) بل يعود لرغبة المرء وفطرته، إن شاء جفّف وإن شاء تركه، فهو مباح، وقد عنونت مقالتي بقولي: (لا حُكْم) للفت النظر واتّباعاً للقول بأنّ الإباحة ليست (حكماً تشريعيّاً تكليفيّاً) رغم استقرار ذكرها بين الأحكام التكليفيّة الخمسة، وقد ناقش ذلك الأصوليّون طويلاً فمنهم من لم يعدّها حكماً تكليفيّاً لعدم الكُلفة في تطبيقها، ولكنّهم في النهاية اتّفقوا على ذكرها بين الأحكام التكليفيّة للتغليب، أي أنّ الأحكام الأربعة المتبقيّة فيها تكليف بالترك أو بالفعل، وألحقوا بها الإباحة إلحاقاً.
والله أعلم بالصواب.