بسم الله الرحمن الرحيم
تخفيف الصراع السنيّ الشيعي
الخلاف السنيّ الشيعيّ قديم وعميق ومتوسّع، عقديّ وتاريخيّ
وجغرافيّ وقوميّ وسياسيّ، يلبس من كلّ مرحلة من ثيابها ما
يناسبها.
ولكنّ المتدبّر في تاريخ وعنف هذا الصراع، يجد مركزيّة
السلطة واضحة في مخيّلة المتصارعين، بل نستطيع أن نقول:
إنّ السيوف التي سلّت ما سلّت للخلاف الفقهيّ ولا العقديّ،
وإنّما لحسم ملفّ السلطة، ويمكن القول إنّ هذا ليس حديثاً، بل
من بواكير الافتراق التاريخيّ بين السُّنَّة والشيعة، بعد معركة
كربلاء، التي لم تنقض حمولتها بعد.
ولقد اختلفت الأساليب، ومن الطرفين، أيّ التعاطي مع هذا
الصراع، فظنّ قوم أنَّ التقريب بين المذاهب هو الحلّ، فانشؤوا
لذلك مجمّعات التقريب، وولائم العمائم، ومؤتمرات العلماء
التي لم تؤدّ إلا إلى زيادة في التباعد والتباغض، حتّى إنّ
تنظيماً بروتوكوليّاً مثل الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، لم
يستطع أن يدير وجود الشيعة مع السُّنَّة في تنظيم تشريفيّ أكثر
منه تنفيذيّ، وظنّ قوم أنّ الدعوة والتبشير هي الحلّ، فصار
كلٌّ منهم يجنّد دعاته لإقناع الآخر، والمحصّلة هي: سُنيّ يتشيّع
من أجل الطعام هنا، وشيعيّ يتسنّن على قناة فضائيّة هناك،
دون حصول تغييرات حقيقيّة على مستوى البنيّة الصلبة.
وظنّ قوم أنّ الحرب هي الحلّ، ولكنّ السُّنَّة والشيعة ليسوا
وحدهم في العالم، فاستلم إدارة الحرب الغرب، الذي ليس من
مصلحته حسم الصراع، وبالتالي فهو يدعم السُّنَّة بشرط ألا
2
ينتصروا، ويدعم توغّل الشيعة بشرط: ألا يتمكّنوا بالكليّة، حتّى
تبقى إمكانيّة التدخّل في مصير الأمّة واسعة الأبواب.
لن أستطيع في مقالتي هذه تلمّس العلاج، ولكن أزعم أنّ
التحليل الجيّد للصراع يدفعنا لتخفيف وطأة الصراع.
الصراع في كلّ الدنيا، – وليس عند السّنّة والشيعة فحسب- هو
صراع مصالح ونفوذ واستحواذ على السلطة والمقدّرات، هذا
هو الهدف الحقيقيّ لأيّ صراع، ويأتي في المرتبة الثانية
الصراع الدينيّ، وهو على أهميّته.. يشكّل الخطّ الداعم
والحاشد والمشرعن للحرب، ومن الخطأ عند حلحلة الصراع
أن نتّجه للخطّ الداعم والحاشد، ونقدّم علاجه على الخطّ
المنشئ والباعث المؤسس على الصراع،
وفي حال السُّنَّة والشيعة وخلافهم التاريخيّ على السلطة
والسيطرة، فما قام خليفة إلا وانتصب له إمام ينازعه،
ويستدعي كلّ فريقٍ ما يمكنه من الأدلّة النقليّة والعقليّة، على
شرعيّته السياسيّة بتصدّر المسلمين.
والغريب أنَّ القرون تطاولت، ولمّا يحسم أحدهما ملفّ
الشرعيّة إلا بالسيف في مناطق سيطرته.
إنّ تخفيف الصراع بين السُّنَّة والشيعة يبدأ من عقلنة مسألة
السلطة، وإبعادها عن النظرة المذهبيّة أو الدينيّة المسبقة،
فالسلطة ليست لسنيّ ولا لشيعيّ، وليس لأحد أو عند أحد نصّ
من الله ورسوله على ولايته على الناس، وإنّما السلطة حقّ
الأمّة، تسندها بالرضا لمن تشاء من أبنائها.
3
طالما أنَّ هناك شيعيّاً ينظر ويرقب في حكومته الانحياز على
أساس مذهبيّ، فستبقى عيونه على خراسان، ينتظر خروج
الرّايات السود على يد كسرى جديد، سواء كان كسرى هذا
سنيّاً كأبي أم شيعيّاً كإسماعيل الصفويّ، أم باطنيّاً كالحسن بن
الصباح أم ظاهريّاً كالخمينيّ.
وما قلناه عن الشيعيّ وارد، في حقّ السًّنيّ، وأمّا إذا وجد كلّ
منهما نفسه أمام حكومة حياديّة وظيفيّة، تحفظ أمنه، وتسعى
بهمّه، وتكفل له حقوقه، دون النظر إلى دينه أو مذهبه، فلا شكّ
أنّ مناعته ستزداد ضدّ دعوات التمذهب المسلّح والصراع
الطائفيّ.
ثمّ عند بسط أجواء الحريّة ودولة القانون، والمساواة بين
الناس، يمكن أن يكون العمل على ملفّ الصراع الثاني
(العقديّ)، ولكن بلا سيوف ولا دماء، وإنّما يوضع بزاويته
الصحيحة والمناسبة.
إنّ السماح للقوى المجتمعيّة بالتعبير عن نفسها، والحديث عن
نسبتها، في دائرة القرار العامّ، من خلال عمليّة انتخابيّة حرّة
ونزيهة، تسمح بوصول الممثّلين الحقيقيّين لأيّ مجتمع لدائرة
السلطة، هو الحلّ الأمثل والأنجع لإدارة الخلاف على السلطة،
وهذا ما سلكته الدول المتحاربة تاريخيّاً ومذهبيّاً في الغرب،
حتّى ملّت من الصراع، فلجأت إلى تمكين المنظومة
الاجتماعيّة في التعبير عن نفسها في تشكيل السلطة، فانتهت
حروب المائة عام، والثلاثين عام، وسبعة الأعوام، وبدأت
مسيرة الاتحاد الأوربيّ والولايات المتّحدة وغيرها.
4
إنّ إرساء قيم المواطنة والتعدديّة والتشاركيّة، والحريّة، وسيادة
القانون، وحرّيّة الاختيار السياسيّ والثقافيّ، وتمكين الشعب
من حقّه في السلطة، هو الآليّة الممكنة والقابلة للقياس، التي
تكفل دفع أكبر قدر من الهواجس، وتحقيق أكبر قدر من
الرغبات للأمّة الإسلاميّة، بشقّيها السنيّ والشيعيّ.
حسن الدغيم
باحث في مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام.