في ثقافتنا عادةً ما نردّد عبارة: (النقد البنّاء)، ولكنّنا عمليّاً نخشى النقد، ونتوجّس منه، بل نكرهه، فهو كالدواء مرٌ، لكنّه مهمّ في التقويم والتصويب.
والناجحون دائماً يطلبون من يرشدهم للخلل، وكذا الأمم المتطوّرة تفرح بالكتابات الناقدة النوعية، حتّى إنّ الشركات الكبرى تموّل أبحاثاً لنقدها وذلك لتطوّر منتجاتها وخدماتها وأدائها.
بل أضحى للتفكير الناقد كتبٌ ودورات تقوم بها المؤسّسات والمنظّمات، وتحرص في اجتماعاتها على تمثيل الفكر الناقد، وذلك لأجل الانتباه للأخطاء والمخاطر والعيوب ونقاط الضعف في القرارات، وحرصاً على التطوير والإبداع، فلا يمكن إبداع جديد ما لم نشعر بقصور القديم، وبالتالي نقوم بالبحث والتنقيب والتفكير بحلول جديدة.
فالتطوير والتقدّم مدينٌ للنقد، فلولاه لما عرفنا خطأ السابق أو قصوره على الأقلّ، والحاجة لشيء أكثر صلاحيّة وتطوّراً، فالنقد بداية الإبداع، فلا بدّ من نقد السابق لنفكّر بإبداع الجديد.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي».
فالمطلوب مرآة صقيلة ترينا صورتنا على حقيقتها، لا المقعّرة التي تضخّمنا، ولا المحدّبة التي تصغّرنا.
قد يضيق بعض الفضلاء بالنقد ويعتبرونه نشراً للغسيل الوسخ، أو جلداً للذات أو هدماً للرموز، أو تشويهاً للتاريخ.
هنا يجب أن نميّز بين المندّسين المغرضين الهدّامين المعادين للمشروع الإسلاميّ، وبين الناقدين الناصحين الصادقين المنتمين للتيار الإسلاميّ، الذين همّهم النصح والإصلاح والتطوير والتصحيح، فلا يدفعنا حبّنا وانتماؤنا وولاؤنا للتنظيمات والجماعات، وحماسنا لأفكارنا أن نضع الجميع في سلّةٍ واحدة.
فهل كلّ ناقد كاره لمن ينقدهم؟ أو ضالّ أو مخطئ؟ أو يريد الشهرة والصعود على أكتاف المنقود، أو صاحب مصلحة أو مدفوعٌ له؟!
كلّ حركة وتيّار إسلاميّ لها نقد لبقيّة التيّارات والاتجاهات الإسلاميّة الأخرى، وهذا طبيعيّ لأنّه المسوّغ المنطقيّ لعدم تبعيّتهم لغيرهم، ودليل استقلالهم بمنهج خاصّ.
قد يكون عندنا -مثل ما عند غيرنا- نقدٌ لكثير من أفكار التيّارات الإسلامية في الساحة، ونرى أنّهم لو طبّقوا نقدنا لكانوا أقرب إلى الصواب، وأكثر نفعاً للمسلمين، وأقرب منهجاً للإسلام، والبقاء بالنهاية للأصلح، فعند تصادم الأفكار تبرق بارقة الحقيقة.
علينا سماع المخالفين والنقّاد، بل البحث عنهم وعن أطروحاتهم، حتّى نطّلع عليها، ونقارن بينها وبين أفكارنا وسلوكنا، فنأخذ ما نراه صواباً، ونترك مالا نراه مناسباً.
على منهج الصحابيّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي قال كما في صحيح مسلم: (كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) وغالباً ما يكون ذلك عند المختلف معنا، لأنّ المحبّ والمنتمي عادة لا ينتبه للأخطاء، لانغماسه بالعمل والتنفيذ أو لشدّة حبّه وولائه، بينما من نصنّفهم (ناقدون متحاملون) فإنّهم كثيراً ما ينقدون أشياء تستحقّ النقد.
ينبغي ألا نتعامل مع كلّ فكرة مخالفة، أو نقد على أنّه طعن وشبهات ينبغي الردّ عليها، فنكون نتلقى الكلام دون استماع ولا فهم ولا تعقّل، بل نتلقّاه بألسنتنا بدل آذاننا لنردّ عليه، ولا نتركه يمرّ على عقولنا، فلعلّ النقد صواب! ولعلّ الحقّ معه، كما قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور:15]، وقد امتدح الله سبحانه: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) [الزمر:18]
الكلام والنقد والحوار ينفع من كان ولاؤه للإسلام أكبر من ولائه للفكرة أو الحركة أو التنظيم، ينفع من يرى حزبه وجماعته ومذهبه الفكريّ أو الفقهيّ أو العقديّ أو السلوكيّ يراهم جزءاً من المسلمين، وليس الممثل الحصريّ للإسلام.
أمّا من يرى تطابقاً بين فكره والإسلام، فلا ينفع معه النقاش، فهو ينطلق في نقاشه من كونه الممثّل للإسلام، فأيّ نقد لفكره يعني نقداً للإسلام!!
وعلى كلّ حال.. فليس الحلّ مع الناقدين بنصب محاكم التفتيش والإقصاء وتراشق التهم والألقاب والدخول بالنّيّات.
كما أنّ السخرية والاستهزاء والتسخيف والاستخفاف بالناقدين ليس حلّاً، لأنّه يوغر الصدور، ويجافي بين القلوب، ويفرّق الصفّ، وقد يحوّل المنتقِد من مجرّد منتقد إلى عدوٍّ حقيقي.
من موانع قبول النقد:
1- عدم تقديم البديل أو الحلّ:
طبعاً من الأفضل أن يأتي الناقد بالنقد والحلّ معاً، أو البديل، لكن ذلك ليس شرطاً، فمن رأى بناء خطراً آيلاً للسقوط وإيذاء سكّانه، لا يشترط أن يسكت حتّى يحضر البديل، بل يجب عليه أنْ ينبّه أهله ويدعوهم للإصلاح أو الاستبدال وهم بعدها أحرار، إن شاؤوا استمعوا للنصح وفكّروا بالبدائل وأصلحوا، وإن شاؤوا ألقوا التحذير وراء ظهورهم (لأنّه لا يقدّم بديلاً)، ولا أعتقد أنّ عاقلاً يفعل ذلك! لكنّه مع الأسف في واقعنا كثيراً ما نكابر ونفعل ذلك.
2- صغر سنّ الناقد، أو ضعف خبرته، أو عدم شهرته:
قد يكون الناقد صغيراً سنّاً وقدراً من بعض القيادات (فهو في سنّ أولادهم) لكن هذا لا يسوّغ لهم الأسلوب الوصائيّ والاستعلائيّ وسياسة (تكسير المجاديف) فهذا الأسلوب لم يعد ناجعاً في أيّامنا، حتّى مع أولادنا الصغار، ولا بدّ للقيادات أصحاب الخبرات، الذين تعرّضوا للمحن والابتلاء في سبيل الدعوة من الإصغاء للجيل الجديد، إن أرادوا أن يستوعبوهم ويستفيدوا من حِدّة عقولهم، وفهمهم للمستجدّات (كما كان يفعل الفاروق عمر رضي الله عنه) حيث كان يحرص على وجود حدثاء السنّ في مجلس شوراه.
ثمّ إنّ من أسوأ آفات الكبر: (بَطَرَ الحقّ وغَمْطَ الناس) كما ورد في الحديث الصحيح في تعريف الكبر، وبَطَرُ الحقّ: هو عدم الانصياع للحقّ عندما يظهر على لسان الآخرين، وغمط الناس: احتقارهم واستصغارهم!
3- عدم تخصّص الناقد:
صحيح أنّ الأَوْلى بالنقد والاجتهاد المتخصّصون، لكن بالمقابل ينبغي أن ننزل آراء غير المتخصّصين منزلةَ فكرةٍ تحتاج عرضاً على المتخصصين، وتأكّداً من صوابها، فلا نردُّها مباشرة؛ لأنّها فقط صدرت عن غير متخصّص، فغير المتخصّصين -عادة- يفكّرون (خارج الصندوق) كما يقال، فكم يقيّد التخصّص صاحبه بالقواعد والشروط والتفصيلات، فيأتي غير المتخصّص بأفكار جديدة تظهر أوّل وهلة كأفكار مجنونة، لكنّ الحلّ يكمن فيها، وهذا شأن الأفكار الإبداعية تظهر كجنون، لكنّنا نكتشف لاحقاً أنّ العقل كلّه فيها!
4- فقْدُ الثقة بالناقد، لكونه ليس مخلصاً، أو ربّما يكون عميلاً أو عدوّاً:
هذه القضيّة أقصد (التخوين) قضيّة منتشرة -مع الأسف- في مجتمعاتنا، وليست كلّها اتهامات باطلة، فبيننا عملاء ومحبّو شهرة، يريدون التسلّق على أكتاف المنقودين، وهناك التحاسد بين الأقران، هذا كلّه صحيح وواقعيّ، لكن بالمقابل كثير من هذا النقد صحيح، وفي مكانه، كما قال الشاعر:
عداتي لهم فضلٌ عليّ ومِنّة ٌ ** فلا صَرَفَ الرحمنُ عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ثم إنّ كثيراً من التّهم السابقة تنطلق من تخمين وظنّ، بل كثير منها عارٍ عن الصحّة، فالقاعدة المريحة للجميع، التي تقينا الدخول بالظنون والتخرّصات والخوض بالنيّات، هي: (علينا بالظاهر، والله يتولّى السرائر)، فننظر في النقد بغضّ النظر عن قائله، فما كان من النقد منصفاً وصواباً أخذنا به، وما كان بعيداً عن الصواب، أو مجانباً إيّاه، تركناه، وبذلك لا نُحْرَمُ النقدّ البنّاء.
5- الاعتداد بالتاريخ والخبرة والانتشار:
لا شكّ أنّ القدم والانتشار يعطي الجماعات والأفراد والمؤسّسات خبرة لا يستهان بها، لكنّ ذلك يجعلهم أيضاً معتدّين بأنفسهم، ممّا يمنعهم من التعامل مع النقد بجدّيّة، وبخاصّة في حالات الإيمان بآيديولوجية معيّنة (أقصد بها نظريّة في التغيير) لأنّ الآيديولوجيّة عادة تكون صمّاء لا تذعن للواقع، بل تحاول تغيير الواقع وفق خطواتها التي تتبنّاها، لذلك تكون عادة عصيّة على النقد، ولهذا فإنّ الكيانات العريقة عادة تتكلّس أفكارها وتتصلّب ولا تلتفت للناقدين، رغم تطوّر الحياة وتغيّر الواقع الذي نشأت وفق معطياته وحاجاته وإمكانيّاته، فهي بحاجة للإصغاء جيّداً للأصوات الناقدة، لكنّ ذلك يحتاج قيادات استثنائيّة، ذوي عقول منفتحة، ونفوس متواضعة.
ونحن إذ ننادي بالنقد ونشجّع عليه، وتقديم البدائل، إنّما نطمح من ورائه إلى النهوض بالنخبة الفاعلة في مجتمعاتنا، وكسر حال الجمود التي صرنا إليها نتيجة ركام عقود خلت، وقد سبق إلى مثل هذا العمل أئمّة ومفكّرون ومصلحون كبار.
الحلّ مع المخالفين من إخواننا يكمن بالحوار البنّاء معهم، والتواصل الحميد، وإن كان لا بدّ فبمدافعة الفكرة بالفكرة، والحجّة بالحجّة، والدليل بالدليل، فليس الحلّ ببناء قلاع القطيعة، بل ببناء جسور التواصل.