الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمود.
ولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب علينا أن نقوم بالخطوات الأربعة الآتيّة:
الخطوة الأولى: ترك مهاجمة من يترك التقليد:
ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام.
لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً.
صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار.
أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت.
يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟
بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.
الخطوة الثانية: نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد:
لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار.
فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:١١١] أوّلاً، ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟!! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع.
وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟
فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟!!
بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة!
ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر.
أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر.
وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل.
ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم.
كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها.
الخطوة الثالثة: الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين:
من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟!
ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال.
لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة.
الخطوة الرابعة: نشر الاجتهاد المقاصدي:
هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).
نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان.
فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان.
أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة.
هذه خطوات أربعة لعلها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج.
والله من وراء القصد.