بسم الله الرحمن الرحيم
الفيلسوف والفرّان
لا تخفى على البصير أهميّة الإصلاح الفكريّ، من تشخيصٍ نقدٍ،
ومعالجةٍ وتخطيطٍ وتنظيرٍ، وضرورة رسم الصورة المستقبليّة
لمسيرة الأمّة، وهي في طريق تلمّسها سبل الخلاص، ولا يعاب على
أحدٍ أن يبدع في نظريّاته، وتخطيطه لمراقي الفلاح، ومعارج الأمم،
للتقدّم والرقيّ، فذلك كلّه مطلوب بإلحاح،
ولكنّه مطلوب بعد إدراك طبيعة عالم الأفكار والنظريّات، فهذا العالم
أسير لكثير من الطبائع والظروف المتعلّقة بالرجل المسمّى:
فيلسوف، أو منظّر، أو مفكّر أو داعية، فهو عالم يتّسم بالنخبويّة
والمثاليّة والتردّد والمراجعة والتغيير والتأثّر بأسبقيّات العقول، من
عقيدةٍ وبيئةٍ ودوافع شخصيّة ومطامع ذاتيّة، والأخطر من ذلك كلّه؛
هو عدم حساب الوقت، والتقليل من أهمّيّته، فترى من السهل أن
يلوح لك المنظر بالحاجة لعدّة أجيال لتطبيق نظريّته على الأرض،
فهو يحيلك إلى مكان مجهولٍ، بالنسبة إليك، وخالي المسؤوليّة
بالنسبة إليه، فهو بعد أجيال سيكون تحت التراب، بلا رقيب ولا
حسيب، في حال فشلت نظريّته، أو أنّها أرهقت معتنقيها.
نعم هنا تنقلب الفلسفة والحكمة إلى شيءٍ قريب من السفسطة، من
حيث نظرةِ الناس إليها، لا من حيث قيمتها الذاتيّة، ومن هنا تأتي
قابليّة أن يستسلم الناس للمشاريع المزجاة، والبرامج المقولبة
والجاهزة، ولو لم يقتنعوا بأهليّتها أو أحقيّتها،
2
ولكنّهم يرون ثمارها جنىً يتوقّعون قطافه ولو كحمرة على وجنات
التفّاح، وقد بدا صلاحه، فكيف ينتقل الفيلسوف من عزلته، ويقرّب
فكرته إلى سامعيه، ولا يضيع الحكمة في مستقبل الأضغاث، عندما
يدرك علاقة الناس بالخبز، فالناس ليست مستعدة – على ما فيها من
دوافع وبواعث، وما تواجه من تحديّات وعقبات، وما تتعرّض له
من ضغوط وفتن، وما تتشوّف له من رغبات وغنائم، وما تتوجّس
منه من مخاوف ومحاذير – ليست مستعدّة لأن تنتظر من الفيلسوف
أن يفرغ من النقد والتشخيص والمراجعة والتغيير، حتّى تنهل منه ما
تحتاج، ولكن هذه الشعوب تنتظر الفرّان كلّ يوم من أجل الحصول
على حقّ البقاء، ودوام الكفاح،
إنّ إدراك الفيلسوف لأهميّة العلاقة بين الإنسان والفرّان، وبين
الإنسان والضرورة، وأنّ الإنسان عنده جهاز حسّاس يوازن به بين
الأولويّات، عندها يدرك المنظّر كم هو بحاجة للنزول للهمّ اليوميّ،
ولو بجزءٍ من جهده، لأنّه إن لم يفعل فأوّل المتضرّرين هم أولئك
الذين يحرص بنظريّاته على إسعادهم، فهو بعزلته وعاجيّته
ونرجسيّته يزيد من توحّلهم وتعثّرهم واحتباسهم في دوّامة الرغيف،
منشغلين تماماً عن تبصّر النور في آخر النفق.
وهنا اسمحوا لي بالانتقال إلى الذين نحبّهم، ونختلف معهم من
المنظّرين للمشروع الإسلاميّ، أو الدعاة له، والذين وقعوا فيما وقع
به الفيلسوف المسكين من إحالة الناس إلى مجهول أو غائب، فعندما
ترى أقلام العمل الإسلاميّ دائماً مشغولة بالتنظير لدولةٍ تحكم
بالشريعة، ويتساوى فيها الناس أمام حكم الله، فيستبشرون بها الخير،
لعلّهم يتخلّصون من أوحال الاستبداد، ولكنّهم مع حبّهم وتشوّفهم
يحبّون تلمّس شيءٍ قريب ممّا يطمحون إليه، كقليلٍ من الكرامة
3
الآدميّة والحريّة السياسيّة، والرفاه الاقتصاديّ، ومأسسة الرقابة
والمسؤوليّة، ولكنّهم يفاجؤون بأنّ هذا قد لا يحصل بالقريب العاجل،
وإنّما قد يستلزم مثلاً انهيار النظام العالميّ، وسقوط الهيمنة الغربيّة،
حتّى تستطيع هذه الأمّة التعبير عن نفسها، هكذا قال لهم (أبو مصعب
السوريّ)، وربما يطلّ آخر فيقول: لا تصلح هذه الأمّة إلّا بما صلح
به أوّلها، وإنّما صلح أوّلها باتباع الهدي النبويّ الشريف، ولا عودة
للأمّة لما كانت عليه إلّا أن تكون على ما كان عليه محمّدٌ صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابه، ثمّ يشقّ طريقه محارباً البدع ومحيياً السنن،
وربّما يمضي عمره ويستفرغ قوّته، ولا يستطيع إقناع جيرانه إلا
بسيف من نجد، ومنهم من يقول: لا صلاح لهذه الأمّة إلا بوصل
القلب مع الجبّار، والتجرّد من الأغيار، والتحقّق بالصدق
والإخلاص، والبعد عن السياسيّة والأدناس، فيمضي العمر حبيس
الخلوة، ومنهم من ينتهض فيقول: لا عودة إلا بخلافة راشدة، وأمير
واحد من جاكرتا لطليطلة. ويمضي عمره ولا يجد إلا في بلاد الكفر
مأمنه، ونتابع مع هؤلاء الذين نحبّهم كيف يحيلون على المجهول،
ويرمون على المستقبل بلا أيّ محاولة للتفكير بحاجة الناس اليوميّة،
وربّما لا يسأل أحدهم نفسه عن همّ الناس، وكيف يدمى الحصان من
حديد السرج، بدون أن يشعر هذا الفارس المقبل على فتح روما، أو
ذلك الذي ينتظر تطهير الأرض من القبور المشرفة، أو ذلك الذي
وقذه الذكر عن التذكر.
في حين أنّه في الوقت نفسه يخرج على الناس كلّ يوم من يعدهم
بخبز الاستحقاق، بعد شهر وعام، ويرقم لهم إنجازات الأمن
والاقتصاد والتعليم، ويبسط أمامهم خارطة الحلول الناجزة والقريبة،
فينساق الناس له، مع علمهم بفساد طويّته، وسوء بطانته، أو حتّى
4
اختلاف دينه، وما ذاك إلا لأنّه عقلن لهم الطرح، وجعله قابلاً
للتداول والتفكير، وسهّل لهم – ولو على زيف – قيم التشارك والتعدّد،
فما وعدهم بروما، ولا منّاهم بخليفة، ولا تدخّل لهم في نمط، وإنّما
أشعرهم بضرورة أن يتوجّهوا لنافذة الفرن، من أجل الحصول على
الضرورة،
لا نريد ألا نحدّث الناس عن الجنّة، ولا نريد أن نتخلّى عن الدعوة،
ولا نريد أن نتهاون في العبادة، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولكنّا نريد أن
نفهم السّنن، وندرك سعة مساحة التأويل عند البشر، فإنّهم يؤوّلون
تقصيرهم في خدمة المبادئ بسهولة، مقابل خشيتهم من فوات
المصالح، فعلى من عقل مسافة ما بين الناس والمبدأ، وما بين الناس
والمصلحة، وما بين الناس والضرورة، وما تبيح من سعة التأويل أن
يأتي للناس من باب المصالح والبرامج، محتفظاً بدوافع الحماسة،
ومستعيناً بعدالة القضيّة في خدمة المبادئ، وعندما يرى الناس
المصالح المحسّنة، سيتسهلون الطاعة والصبر على ما تقتضيه
المواقف الأخلاقيّة المتطلّبة للبذل والإيثار.