بسم الله الرحمن الرحيم
الفرار من الجغرافية
تحت وطأة الصدمات الكبرى، والهجمات المتلاحقة، يلوح خيار الانسحاب من المشهد، والتحيّز لفئةٍ مناصرة، أو التحرّف لخطّةٍ بديلة، ولكن يبقى هذا مفهوماً ضمن الظروف المعتبرة، والأماكن المجاورة لشنّ الهجوم المعاكس، ولا يقبل بتغيير الأرض، والتسليم بالواقع المرّ، قبل استنفاد جميع الوسائل الممكنة.
تذكّرت هذا العنوان من حالنا السوريّة عند مناقشة مآلات الثورة السوريّة، والمشاريع المطروحة من الصفّ الثوريّ الإسلاميّ، بداية من الخلافة إلى الدولة، إلى الإمارة، ثمّ الجبهة، ثمّ تتصاغر الطموحات تحت ضربات العدوّ برّاً وبحراً وجوّاً، حرباً وكيداً، وعندها تبدأ تنبعث ظاهرة المراجعات والتأمّلات، ووضع الخطط البديلة، وهذا طبيعيّ لو كان في نفس حدود الحدث، ولكنّها للأسف تعود للماضي السحيق، أو تستشرف مستقبلاً متخيّلاً، لا معطيات له في الواقع المنظور.
وهذه الطروحات تأتي في مقابلة أفكارٍ أو منظورات سياسيّة، أكثر قرباً من الإقناع والمعقوليّة كالتشاركيّة والمواطنة والديمقراطيّة، وطبعاً هذا كلّه بعد الأمل في حسم معركة الحريّة.
سنتعمّق قليلاً لنقول إنّ أحد أكبر مشكلاتنا في مواجهة التحديات هي الفرار من الجغرافية الحاكمة والواقعة، إلى التاريخ الحالم، أو المستقبل المنتظر، ولك أن تتأمّل النكبات التي نتعرّض لها، وبخاصّةٍ العسكريّة منها، وضحاياها من النساء والبنين والمخطوفين، وما لا يستطيع القلب تحمّله، وما يرافق ذلك من دعاوى تظنّها نظريّات علميّة أو فكريّة، لكثرة حبكها وصياغتها وأدلّتها، بل ومشابهتها للواقع، وذكرها للأماكن، ولكنّها في الحقيقة ليست سوى آهات نفسيّة، وجمر الباطن يظهر دخاناً على السطح.
فمثلاً بعد إنهاء العمل بنظام الخلافة، والذي تزامن مع وقوع غالب الدول العربيّة والإسلاميّة تحت وطأة الاستعمار، كان الفرار من الجغرافية إلى التاريخ، وبدلاً من مواجهة التحدّيات الماثلة أمامنا، من احتلالٍ وفرقةٍ، وظهور النزعات القوميّة والوطنيّة، صارت الدعاوى تنادي باستعادة الخلافة كحلٍّ وحيدٍ وفوريّ لتخلّف المسلمين، وإعادتهم سادة للعالم، بل ونشأت أحزاب وحركات بنت المشروع الأساس على فكرة عودة الخلافة، كحزب التحرير، وأنّها بعودتها سينتهي الاستعمار والاستغلال والفرقة، وسينسى الناس عصبيّتهم وقبليّتهم، وهذا التصوّر غيرُ سديد، فلقد كانت الخلافة وكان في كثير ٍ من أحيانها يغزو أرضها المستعمرون، ويعتدي على حصونها ومقدّساتها ورعاياها كلّ غازٍ ومنتهب، ولم تستطع الخلافة على تاريخها الطويل من حلّ مشكلة العصبيّة القبليّة بين القيسيّة واليمانية، أو العرب والفرس، فضلاً أن تحلّ العصبيّات المناطقيّة والوطنيّة.
والفرار من النوع الآخر للمستقبل بدلاً من الماضي، يشبه فرار الشيعة في القرن الهجريّ الأول والثاني، بعد هزيمتهم أمام الحكم الأمويّ والعباسيّ، وعدم استطاعتهم تأسيس دولة، أو انتزاع السلطة ففرّوا للمستقبل ينتظرُون خروج ( المهديّ المنتظر من ولد فاطمة)، ليملأ الدنيا عدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ولايزالون ليومنا هذا ينتظرون ذلك الغائب في السرداب ليخرج ويسلّمهم السلطة.
ولكن هذا الفرار ليس مقتصراً عليهم، بل كثير من منظّرينا ومفكّرينا ما إن يبادر للكلام عن أيّ مشروع سياسيّ، يخفّف حال الاشتباك التي نعيشها، ويحاول تطويق سعار الطائفيّة والاحتراب، بمشروع سياسيّ تعاقديّ بين الصفّ المعارض على أقلّ تقدير، إلا ويندفع الطرف الحالم بطريقة غريبة، إمّا إلى الماضي ليأتي بحمولة عودة الخلافة وتفاصيلها الزمنيّة، وإمّا أنْ يفرّ للمستقبل ليبشّر بفردوس موعود، يرعى فيه الذئب مع الغنم.
وإذا ما دخلت معه في عمق الأجوبة عن الاستحقاق السياسيّ الواقع، والجغرافية التي لا ترحم وتنتظر من الشعب المنكوب الجواب المؤقّت باليوم والشهر، ونظرتنا للحكم والدستور، وطبيعة المشاركة السياسيّة والمواطنة والديمقراطيّة وغيرها من قضايا العصر، اختزل لك هذا كلّه بأنّه عندنا؛ أي الإسلاميّين، نظام إسلاميّ ومشروع متكامل، وبدأ يحدّثك عن قدرة أهل الحلّ والعقد على إعادة نظام الخلافة من جديد، أو بناء الدولة الإسلاميّة على الأقلّ، طبعاً بتراكيب عموميّة تستشعر وأنت تسمعها أنّ سوريّة والعراق ليس فيها إلا مجموعة من القبائل الصالحة المطيعة لله ورسوله، وتنتظر فقط الإشارة للاجتماع على دولة إسلاميّة، وأنّها ليست مجمعاً لعشرات الطوائف الإثنيّة والعرقيّة والمذهبيّة الممتنعة بشوكة السلاح، والتحالفات الدوليّة مع الدول العظمى، التي تتّخذ منها بوابات للتدخّل في مصيرنا.
وعندما يطول الحديث، وتفشل النظريّات، وينخفض منسوب المدّ والاندفاع الأيديولوجيّ، يقوم الطرف الحالم بالفرار إلى المستقبل الموعود، أمام الصابرين، وأنّ الشّام محفوظة ومكفولة ولن تضيع أبداً.
نحن هنا لا نريد الدخول في معركة السَّنَدِ والمتن، ولا بعلم الرجال والآثار.. ولكنّنا نريد الاعتبار بأمر القرآن (فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي: قيسوا الأحداث ببعضها، ونحن مثلنا مثل غيرنا، جرى علينا ما جرى على شعوبٍ كثيرةٍ، واجهت التحدّيات، كالألمان والفرنسيّين واليابانيّين والأمريكان، وكلّ هذه الشعوب تعرّضت إمّا لاحتلال أو استبداد أو احتراب، واستطاعت بمواجهة التحديّات، وصياغة نظريّات العقد السياسيّ والاجتماعيّ والوصول لانتظام القضاء، ودسترة الدولة، والقضاء على التمييز، ولو بشكل نسبيّ، وتقرير حقوق المواطنة، والتشاركيّة والديمقراطيّة، استطاعوا أن يعبروا مأزق التناحر والتخلّف، وصاروا في مصافّ التنمية والرفاه، بدون أن يعيدوا سلطة الكنيسة، ولا حكم الامبراطور، ولا الممالك التي لا تغرب عنها الشمس، ولم ينتظروا مخلّصهم المنتظر…
طبعاً لكلّ شعبٍ ثقافته وخصوصيّته.. ولكن هذا الذي وصلوا إليه هو تراكم خبرات البشر، والحضارات الإنسانيّة ونموّ الوعي السياسيّ والاجتماعيّ، الذي ضيّق على نظم الاحتكار والتوارث لصالح نظم التعاقد والتدوال، ونحن شعب نعتزّ ونفتخر بالقيم الإسلاميّة الرفيعة، فيجب أن نختصر الكثير من الطريق الذي سلكوه، بفضل المخزون القيميّ المتوافر بين أيدينا، لا أن نشوّشه بنظريّات الفرار من الزحف، إلى صناعة فردوسٍ موهومٍ نخدّر به أعصابنا المرهقة.
حسن الدغيم
باحث في مؤسّسة رؤية
للثقافة والإعلام
بتاريخ 31/1/2018