أسمى ما يطمح إليه طالب العلم هو تحصيل المَلَكة في التخصّص العلميّ الذي يدرسه، والمقصود بـ(المَلَكَةِ) عقليّة ذلك العلم وصَنعته وحِرفته وإتقانه حفظاً وفهماً وتطبيقاً وتقويماً ونقداً وتأييداً وإبداعاً جديداً، فالملكة تحصيل المهارة والتذوّق، وامتلاك عقليّة ناقدة مبدِعة في ذلك العلم، بحيث يستطيع العالم من خلال تلك الملكة حفظ المسائل بسرعة وفهمها وتقويمها وإلحاقها بنظائرها، وإدراجها تحت قواعدها، وتقويم الأقوال في المسألة أو القضيّة التي يدرسها والترجيح بين وجهات النظر، بل اشتقاق واجتراح وإبداع أقوالٍ جديدة (إن أمكن).
لكنّ واقع تعليم العلوم في المجتمعات الراكدة هو تحفيظ مسائل تلك العلوم، والمحفوظات -بطبيعة الحال- لا آخر لها لكثرة المصنّفات! ورحم الله العبقريّ ابن خلدون حينما وضع قاعدة في التعليم: وهي:
– إنّ (كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل).
فالحاصل فعليّاً في بيئاتنا أنّ المعلّم هو أصلاً غافل عن هدف العلم الذي تخصّص فيه، ويشتغل بجمع المعلومات وحفظها، حتّى أصبح ينطبق عليه قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر)، ويشغل غيرَه من الطلبة بذلك! طبعاً هو لا يفعل ذلك بسوء نيّة، ولا يقصد إشغال المتعلّمين بدوّامة المعلومات التي لا تنتهي!
لكنّه هو نفسُه غافلٌ عن هدف تلك العلوم وهو (تكوين الملكة)، فكيف سيهدي غيرَه، (ففاقد الشيء لا يعطيه)! لذلك واقع تعليمنا أنّ الطالبَ مثاله كالعدّاء الذي يدخل في مضمار سباق دائريّ الشكل يبقى يدور ويدور وهو في مكان واحد لا يبرحه، مهما أسرع وجدّ وبذل قصارى الوُسْع والجهد، لأنّ الهدف غير صحيح.
فليس هدف العلوم حفظ الأقوال والحجج، بل تحصيل (العقليّة والمَلَكة) في ذلك العلم حتّى يصبح مؤهّلاً للمجيء بأقوال جديدة أو موافقةٍ للأقوال السابقة، لكن (باجتهادٍ) وافق اجتهاداً سابقاً، وليس نقلاً وتقليداً، وهذا هو الفرق بين الذي يحفظ وبين من يصبح ذا ملكة!
وهذا لا يلغي أهميّة الحفظ للعلوم، فحفظ المعلومات شيء لا بدّ منه، وهو أساس كلّ علم، فكيف سيمتلك العلم ويصبح ذا ملكة فيه وهو لا يحفظ مسائله؟!
لكن ما نريد تأكيده هو: عدم الاقتصار على حفظ المسائل والتعدادات والتفريعات، بل الانتقال من الحفظ المحض إلى بقيّة مستويات التفكير التي ذكرها (بلوم) في سلّمه الشهير، وهي (الحفظ ثمّ الفهم ثمّ التطبيق ثمّ التحليل ثمّ التقويم، ثمّ الابتكار) وهنا ننبّه إلى أنّ أدنى مهارات التفكير: الحفظ والتذكّرـ ثمّ تصعد إلى أعلاها وهو الابتكار.
ففرق كبير بين من يحفظ ويفهم ويطبّق ويحلّل ويقوّم ويبدع، ويحوز الملكة والمنهج وطريقة التفكير، حتى ينقلب إلى منتِج للمعلومات في ذلك العلم، وبين من يكتفي بالحفظ فقط!
فتجد الكثير من (حفظة العلوم) يعيد لك المفردات والمصطلحات نفسها، بل حتّى الكلمات التي حفظها، ولا يقوى على استبدالها بألفاظ أخرى، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم تمكّن المعاني والفهم العميق للفكرة، فيبقى الحافظ أسيراً للألفاظ مخافة تغيير المعاني التي لم يهضمها!
من مظاهر ولعنا بالحفظ أصبح يطلق على بعض العلماء (هذا الشافعي الصغير، وذاك أبو حنيفة الصغير) ولو جالستَ ذلك العالم أو استمعتَ إليه أو قرأتَ له ستكتشف أنّه حافظ فروع ومسائل ذلك المذهب، ولا يملك عقليّة ذلك العلم، ودليل ذلك أنّك لو سألته سؤالاً سيرجع لذاكرته أو للكتاب ولن يجرؤ أن يقول بحسب الأدلّة وقواعد الحنفيّة فالحكم كذا وكذا!!
لذلك علينا أن نوجّه تلاميذنا النابهين لهذا الهدف الأسمى (بناء الملكة) ومن قَصُرت همّته واستعداداته عن بلوغ تلك المرتبة -بعد السعي والمحاولة- فليكتفِ بما وصل إليه بحسب جدّه واجتهاده، فهو أفضل ألف مرّة من حبس التلاميذ بسجن الحفظ فقط!
وعندما يتّضح الهدف يسهل إيجاد الوسائل لتحقيقه، وهذا ليس عسيراً، فالتعليم الحديث ينمّي في التلاميذ مهارة شرح الشعر وتحليله، كما أنّه يعلّمهم كتابة موضوعات الإنشاء والإبداع فيها، وحلّ مسائل الكيمياء والفيزياء والجبر والهندسة العويصة.
فلماذا نكتفي في علومنا الشرعيّة بتلقين التلاميذ المعلومات دون أن ننمّي فيهم ملكة تطبيق العلوم المنهجيّة، كعلم مصطلح الحديث وأصول الفقه، والمقاصد وملكة التفسير والاستنباط؟!
فنخرّج تلمبذاً لا يجرؤ على استخدام عقله في الحكم على مسألة، بل نجعله خائفاً رعديداً، لا يجرؤ على حكم دون الحصول على الحلّ منصوصاً في كتاب قديم!
قد يقال: إنّ مستوى تلامذتنا ضعيف، فلا تكلّف التلاميذ فوق طاقتهم، فكثير من أساتذتهم لا يستطيعون ذلك!
ونقول: نعم “فاقد الشيء لا يعطيه” والحلّ بإصلاح المناهج، بجعلها تراعي بناء الملكة وتعتمد جوانب التطبيقات والتدريبات العمليّة من المراحل الأولى، وتدريب المدرّسين عليها، عندها سيدهشنا الأساتذة مع تلامذتهم بقدراتهم ومهاراتهم، لكنّهم يحتاجون من يضع عنهم الإصر والأغلال، ويفتّق طاقاتهم.
وهنا لا نشترط في التدريبات وحلّ المسائل صوابَ أجوبة التلاميذ كلّها، ففي الرياضيّات يعطون الدرجات على خطوات الحلّ السليم حتّى لو أخطأ بالنتيجة النهائيّة، لأنّهم يعتمدون على بناءِ المهارة والمنهج والطريقة في استخراج المعلومة، لا على حفظ المعلومة الجاهزة!
وقد اشتكى من ذلك العلّامة ابن خلدون ؒ قديماً فقال:
“وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة، فهو الذي يُقرّب شأنها ويُحصّل مراميها.
فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرّف في العلم والتعليم، ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل، تجد ملكتَه قاصرة في علمه إنْ فاوض أو ناظر أو علّم! وما أتاهم القصور إلا من قِبَل التعليم وانقطاع سنده، وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم، لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك” [المقدّمة، 2 /83]
وحتّى يكون الكلام واقعيّاً وعملّياً، سنضرب أمثلة ببعض العلوم الشرعيّة:
فعلم العقيدة وعلم الكلام بحسب الواقع الذي نمارسه في مدارسنا وكليّاتنا الشرعيّة، هل نهدف لتخريج تلاميذ يحوزون ملكة وقدرة على اجتراح واختيار حجج وبراهين جديدة، تؤكّد العقائد التي يدافعون عنها؟ وخطاب كلّ قوم بحسب عقولهم وخلفيّاتهم الثقافيّة ومخاطبة كلّ قوم بلسانهم، ونقصد باللسان هنا الثقافة، أم همّ مدارسنا الشرعيّة تحفيظ أقوال السابقين واللاحقين من علماء العقيدة فقط؟!
فَلُبُّ علمِ الكلام هو (علم الحجاج، والدفاع عن العقائد) وهو يختلف من ثقافة إلى ثقافة، ومن عُرف إلى آخر، ومن بيئة وعصر إلى آخر.. فالمقصود إقناع الطرف الثاني بصحّة العقائد، مستخدمين الأدلّة العلميّة التجريبيّة والنظر في المخلوقات، والأدلّة العقليّة الفلسفيّة، والأدلّة النقليّة، فالحكمة تقتضي تعدّد الأساليب بحسب المخاطبين، وهذا يحتاج تدريب التلاميذ على ردّ الشبهات المعاصرة، كتابة في مقالات وبحوث وكتب ومناظرة وحواراً وإلقاءً جماهيريّاً وإعلاميّاً، وتربيّة وترسيخاً في نفوس الصغار والكبار.
وعلم تفسير القرآن الكريم، هل همّ المدرسين إكساب التلميذ المتخصّص بالتفسير مهارة ومَلَكة التفسير؟ أم تركيزهم يقتصر على شرح العبارات والمعاني ليحفظها التلميذ؟ فيصبح ناقلاً وحافظاً لأقوال المفسرين، لا متدبّراً وناظراً ومرجّحاً بين الأقوال والمعاني والروايات التفسيريّة، حتّى يصبح مفسّراً للقرآن الكريم لا ناقلا لتفسيرات غيره فقط.
وكم هو سارٌ أنّ أحدَ أصدقائنا من دكاترة الشريعة الأذكياء كان يُعلّم التلاميذ قواعد التفسير ثمّ يطلب منهم أن يجتهدوا هم في تفسير القرآن الكريم، ويكلّفهم بواجبات عمليّة لتفسير بعض الآيات القرآنيّة بمفردهم أولاً، وبجهدهم الشخصيّ، ثمّ أن يرجعوا لكلام المفسّرين ويقارنوا بين ما توصّلوا هم إليه (باجتهادهم) من تفسيرات، وبين ما توصّل إليه الأئمة السابقون والمعاصرون، ليجدوا أنّهم لم يخرجوا عن المعاني الصحيحة إلا نادراً، وهو بذلك يدرّبهم ويمرّسهم على مهارة التفسير، ليصبح التفسير عندهم ملكة ومهارة، فهل هذا هو الشائع في تدريسنا؟ أم أنّ السائد هو شرح تفسيرات المفسّرين الآخرين وتكليف الطلاب بحفظها؟!
هذا نموذج لوسيلة تحقّق الملكة والمهارة في نفس المتعلّم المتخصّص.
وعلم مصطلح الحديث ينبغي أن يكون الهدف الأسمى من دراسته هو إكساب التلميذ المتخصّص بالحديث الشريف القدرةَ على الحكم على الحديث قبولاً أو ردّاً، أي تصحيحاً أو تحسيناً أو تضعيفاً.
بينما الهدف الأَوّليّ لهذا العلم هو أن يحفظ التلميذ المصطلحات التي يستعملها المحدّثون عند الكلام عن ثبوت الأحاديث وصحّتها من ضعفها، إلى آخر المصطلحات التي تملأ كتب علم مصطلح الحديث، حتّى يفهم تلك المصطلحات لو مرّت به.
وهذا الهدف ضروري -ولا شكّ- لكنّ الأرقى منه هو تحصيل ملكة الحكم على المرويّات الحديثيّة ليحكم هو بنفسه على الأحاديث وفق قواعد ذلك العلم.
ولو فرضنا أنه سعى لذلك ولم يدرك الدرجة العليا في هذا العلم، فعلى الأقلّ هو يدرك تماماً ما الذي فعله المتخصّصون حتّى حكموا بما قالوا، فيصبح فهمه أدقّ وأعمق من الذي لم يسعَ أصلاً أن يحصّل القدرة على الحكم على الأحاديث، وعندها يمكنه جمع أقوال المحدّثين السابقين، ويقارن بينها، ويرجّح حكماً على الحديث صحةً أو حسناً أو ضعفاً، أمّا أقلّ من ذلك فما فائدة دراسة هذا العلم إذن؟!
وعلم أصول الفقه هل الهدف أن نعرف القواعد التي اعتمدها الفقهاء في اجتهاداتهم، ونحفظ مصطلحات ذلك العلم؟ أم المقصود الأعلى لهذا العلم أن يتملّك التلميذ هذه القواعد وتصبح من قواعد عقله في الاستنباط والاجتهاد والنظر والترجيح، بحيث يمتلك التلميذ مهارة وملكة الاجتهاد بدرجاته المعروفة: (المجتهد المطلق والمقيّد ومجتهد الباب والمسألة والاجتهاد الانتقائيّ والترجيحيّ) بحسب همّة الطالب ومؤهّلاته وقدراته.
أو على أقل تقدير: يتقن اختيار الفتوى وتنزيلها على الواقعة، فالفتوى عمل اجتهاديّ ولها خطوات وآداب، وكلّ علماء الشريعة وتلاميذها -باختلاف مستوياتهم- يمارسونها، وهي تحتاج تدريباً تطبيقيّاً حتّى لا نقع بكوارث الإفتاء المنتشرة.
وعلوم اللغة العربيّة هل الهدف تحفيظ التلميذ المصطلحات حتّى يفهمها لو مرّت معه في الكتب فقط، أم ينبغي أن يكون الهدف إكساب التلميذ ذوق اللغة العربيّة وفهمها، واستخدام أفضل أسلوب عربيّ للكلام والقراءة والكتابة!
وهكذا… فكلّ علم نبحث عن مَلَكَته وعقليّته فنركّز على زرعها في عقول طالبي هذا العلم.
فالفرق بين من يعتمد حفظ العلوم، وبين من يعتمد المَلَكَة، كالفرق بين (النبع والجمع) كالفرق بين المنهج والمنتَج، كالفرق بين المعلومات ومناهج استنباطها، كالفرق بين المصنع ومنتجاته.
قد يُقال: هذا الكلام للكبار، للعلماء ولطلاب الدراسات العليا، نُجيب: كم نفوّت إذاً من سنوات الدراسة لو غفلنا عن ترسيخ العلوم وتطبيقاتها العمليّة؟
وهذه الآفة تنطبق على طريقة تعاطينا مع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة أيضاً.
ولا يفوتنا أن نؤكّد على ضرورة تنشئة الطلاب على احترام العلماء وتقدير جهودهم، بل لو ربّيناهم على تحصيل المَلَكة سيقدّرون العلماء الراسخين ممّن حصّلوا تلك الملكة، أكثر بكثير ممّا لو اقتصرنا على تحفيظهم أقوالهم فقط، لأنّهم سيعرفون قدْرَهُم ومكانتهم وجهودهم، ولأنّهم سيدركون أيّ منزلة بلغ أولئك الأئمّة حتّى أتوا بهذه العلوم الراسخة.
وكلّ نظريّات التربية والتعليم الحديثة تؤكّد على أهمّيّة التركيز على تنمية العقليّة والتفكير ومنهجيّة البحث والتعامل مع المعلومات عند التلاميذ، وتطوير المنهجيّة المتخلّفة في التعليم القائمة على التّلقين والتحفيظ فقط! وبخاصّة في ظلّ عصر تفجّر المعلومات ووفرتها.
فالحفظ والتذكّر في أدنى مستويات التفكير وفق هرم (بْلُوم) لمستويات التفكير والتعلّم -كما مرّ سابقاً-.
وكرم الله باب واسع مفتوح، قال عليه الصلاة والسلام: (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ) [رواه البخاري].
قال الشرّاح: “قَدْ يَأْتِي فِي الْآخِرِ مَنْ يَكُونُ أَفْهَمَ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ” [فتح الباري]
وحتّى نصل لذلك نحتاج مناهج جديدة لا تقتصر على التنظير، بل فيها تمارين وتدريبات عمليّة تراعي هذا الهدف، ونركّز على مناهج البحث في كلّ علم نعلّمه، وندرس نشأة هذا العلم وتاريخه وتطوّره حتّى يعرف التلميذ المراحل التي مرّ فيها هذا العلم، حيث بدأ بسيطاً ثمّ تطوّر حتّى وصل إلينا، ويضع المؤلّفون آفاق التطوير المطلوبة في هذه العلوم، حتّى تكون منارات لمن أراد بذل الجهد ونيل شرف المساهمة في تطوير هذه العلوم، كما يفعل الباحثون في توصيات رسائلهم الأكاديميّة، بذلك يبني اللّاحق على بناء السّابق، فتزدهر العلوم، وتشرق في عقول حامليها.