كثير من الموضوعات والظواهر والمسائل نناقشها بآرائنا، ونصدر أحكاماً عليها، وهي أحكام انطباعيّة شخصيّة غير علميّة، وربما نقرأ عنها (نتفاً) هنا وهناك، وهي -في حقيقة الأمر- مباحثُ قُتِلَت بحثاً وقد خُصّص لها علوم مستقلّة.
والسبب بعدم معرفة أنّ لها أقساماً خاصّة في علوم متخصّصة هو عدم اطّلاعنا على تلك العلوم، لذلك عرّف بعضهم العالم بأنّه: “من يجيد استخراج المسألة من الكتب” .
فلم يشترطوا عليه حفظ المسائل كلّها، بل يكفي معرفته بمظانّ المسائل، وقدرته على استخراجها وتحقيقها، واختيار الراجح منها.
لذلك علينا الاطلاع الجيّد على تلك العلوم حتى ننتبه إن مرّت بنا مسألة -وهي جزء من علم ما- أنّه يلزمنا مراجعة ذلك العلم، ونستطيع الرجوع لتلك الكتب والبحث فيها، أو سؤال المتخصّصين بذلك.
أمّا إن كنّا لا نعلم انتماء ما نناقشه إلى تخصّص ما، فكيف سنكون واعين بضرورة الرجوع لذلك التخصّص، حتّى نطّلع على ما يقدّمه لنا من معلومات تساعدنا في فهمنا وقرارنا فيما نحن بصدده؟
فإذا أردنا معرفة الواقع أو فهم الواقع أو فقه الواقع بطريقة (علميّة) فلا يتمّ ذلك بالاختلاط بالناس والنزول للأسواق والمكاتب والمعامل والمحلّات ومخالطة أصحاب المهن والحِرَف المختلفة وفهم الحياة من خلالهم فقط!
فهذا قدر بسيط من فهم الواقع، يشترك فيه الناس كلّهم تقريباً، ويتساوى فيه العاميّ مع العالِم، بل ربّما يتفوّق العاميّ صاحب السَفَر والتجارب بفهم تفاصيل وحِيَل الواقع أكثر من العالم المنعزِل المشغول بكتبه وتدريسه وتآليفه، فالمطلوب في فهم الواقع فهماً علميّاً هو أن نرجع لأهل التخصّص في تلك الجوانب.
فالظواهر الاجتماعيّة والقوانين التي تحكمها تُفهم من خلال علم الاجتماع، وسلوك الأشخاص يُفهم من خلال علم النفس، والسياسة تُفهم مبادئُها من كتب العلوم السياسيّة وليس من متابعة الأخبار السياسيّة! والاقتصاد يفهم من كتب الاقتصاد، ووظائف الأعضاء وحركة الأجرام والقوانين القضائيّة وغيرها من العلوم تُفهم من أهل التخصص الدقيق.
والعلوم الإنسانيّة علوم نسبيّة وغير قطعيّة بطبيعتها، لتعلّقها بالإنسان صاحب الإرادة الحرة التي تمكّنه من التصرّفات المتعاكسة تجاه المؤثّر الواحد، فالضغط على الشعوب قد يؤدّي للثورة، وقد يؤدّي لمزيد من الخنوع والخضوع!
بعكس المادّة التي تستجيب بطريقة واحدة للمؤثّر الواحد، لانعدام الإرادة الحرّة عند المادّة، وهذا يجعل هضم العلوم الإنسانيّة وإتقانها صعباً، فوجهات النظر في العلوم الإنسانيّة متباينة بشكل كبير، بعكس العلوم التجريبيّة التي تحسم التجاربُ المنضبطة الخلافَ في النظريّات وتخفِّفه.
ومما ينبغي الانتباه إليه أنّ العلوم الإنسانيّة لها وظيفتان وظيفة وصفيّة واقعيّة، ووظيفة معياريّة قِيَميّة مثاليّة، فالوظيفة الوصفيّة هي وصفها للواقع كما هو؛ بحلوه ومرّه، بصوابه وخطئه، بإيجابيّاته وسلبيّاته، دون تقييم لذلك، فيكتفي العلم بوصف الواقع وتحليله.
والوظيفة الثانية: هي توجيه الواقع ووضع معايير له، والحكم عليه قِيَميّاً، فهذا صواب وهذا خطأ، ويحدّد الحال المثاليّة المطلوبة.
ومن هنا نستطيع القول: إنّ العلوم الإنسانيّة تصف الواقع أوّلاً ثمّ توجّهه نحو ما تراه صواباً ثانياً، فهي مؤثّرة في الواقع وموجّهة له، وهنا تكمن خطورةُ العلوم الإنسانيّة.
فأصل التغيير والإصلاح هي العلوم الإنسانيّة، أمّا العلوم الطبيعيّة التطبيقيّة فهي غالباً علوم آليّة خدميّة ماديّة.
نستطيع القول -إذا صحّ التعبير- إنّ العلوم التطبيقيّة تبني المدنيّة الماديّة، أمّا العلوم الإنسانيّة فتبني الحضارة الإنسانيّة، أو العلوم الإنسانيّة تبني جسد الحضارة، والعلوم الإنسانيّة تبني روحَها وعقلَها الموجِّه.
لذلك تهتمّ العلوم الإنسانيّة بالشأن الإنسانيّ للأفراد والجماعات والدول والحضارات، فكلّ الحضارات تنطلق من فلسفة تجري في آليّاتها ومؤسّساتها جريان النُّسْغِ في الأغصان، فهي (الغائب الحاضر) الغائب عن وعي العامّة، الحاضر بقوّة وفاعليّة في الحياة.
فينبغي الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة حتّى لا نصاب بـ(العلمانيّة العمليّة) -دون أن نشعر- باقتصارنا على العلوم الشرعيّة وفصلها عن العلوم الإنسانيّة التي تعين على فهم الحياة والتفاعل معها، لما لها من تأثير كبير في طريقة التفكير، وأسلوب التعاطي مع الحياة، وآليّة اتخاذ القرارات.
وهنا لا بدّ من التحذير من بعض الكتابات الإسلاميّة، فمما لا شكّ فيه أنّ كلّ ثقافة لها نظرتها الخاصّة للعلوم وجزئيّاتها وتطبيقاتها واستخدامها في الحياة، سواء العلوم الإنسانيّة الاجتماعيّة أو التطبيقيّة التجريبيّة، ولا بدّ من كتّاب راسخين ينبّهون للأخلاقيّات الإسلاميّة في التعامل مع تطبيقات العلوم التجريبيّة، ونظرات العلوم الإنسانيّة، فيقبلون الصحيح وما يتّفق مع ثقافتنا وتعاليم ديننا، ويحذّرون ممّا يتعارض معه.
لكن علينا الحذر في التعامل مع الكتب التي تتناول العلوم الإنسانيّة أو التطبيقيّة التجريبيّة والحكم عليها إسلاميّاً، أو التي يوضع في عنوانها بعد اسم العلم كلمة (الإسلاميّ) مثل: علم النفس الإسلاميّ، أو: علم الاجتماع الإسلاميّ، أو: علم التربية الإسلاميّة، أو: الطب الإسلاميّ، أو: السياسة الإسلاميّة، أو: علم الاقتصاد الإسلاميّ، أو: الفنون الإسلاميّة، أو: الإعلام الإسلاميّ، وبعضها يتناول الأحكام الشرعيّة لمسائل كذا وكذا..
لماذا يجب الحذر في التعامل مع هذه الكتب؟ لأن ّالكاتب قد يكون في أحيان كثيرة قصير النظر في فهمه للإسلام، سطحيّ الاطلاع، ضعيف الفقه بالإسلام وقواعده العامّة، بعيداً عن مرونة الإسلام وسَعته، وينعكس ذلك في نظرته لذلك العلم عموماً، وفي جزئيّات مسائل ذلك العلم، فيشوّه ذلك العلم بدلاً من أن يقدّم إضافة معرفيّة حقيقيّة.
وفي أحايين أخرى يكون فهمه لذلك العلم قاصراً أو سطحيّاً، فيُغفِل آراء راجحة في ذلك العلم، ويتبنّى آراء سطحيّة أو مرجوحة أو ضعيفة، أو حتّى متروكة، وربمّا جاء بها وبدأ بنقدها مع أنّها مهجورة غير مُعتمَدة عند المتخصّصين في ذلك العلم.
كما أنّ الكثيرين ممّن يكتبون كتابات إسلاميّة يقفون من الأفكار الوافدة موقفَ المستريب الشاكّ الرافض لها، قبل أن يفهمها ويهضمها، ويأخذ النافع منها ويرفض الخاطئ أو الصحيح من وجهة نظر الغربيين -سواء كانوا مسيحيين أو ماديّين- لكنّه لا يناسبنا نحن المسلمين.
فهو رافض لها كلَّها مسبقاً، ويدخل بهذه العقليّة الرافضة ليقرأ لهم ويردّ عليهم، فهو متحيّز ضدّهم مسبقاً، فكيف سيتعامل بموضوعيّة معهم!
لكن للإنصاف نقول: ليست الكتابات الإسلاميّة كلّها كذلك، لهذا قلتُ: (احذر) ولم أقل (اترك).
فمن أراد المساهمة في فهم الواقع أوّلاً، ثمّ بإصلاحه ثانياً، فلا بدّ له من الاطلاع الجيّد على العلوم الإنسانيّة، لأنّ إصلاحه سيتناول -بشكل أو بآخر- الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول، و هذا كلّه لن يتمّ فهمه بشكل جيّد وبطريقة علميّة دون الرجوع للعلوم الإنسانيّة.