(أربع ملاحظات لتساهم الدراسات العليا بنهضة بلداننا)
ما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، جزاه الله عني كل خير، عندما أمسك بإحدى خطط البحث المقترحة للماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات A4، قرأ الخطة ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: “هنا عملك!” يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك.
تأمّلت تلك الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.
إخواني:
انتشرت في ديار المسلمين -بفضل الله تعالى- الدراسات العليا التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة والتدريس الجامعي إلى درجة (الأستاذية)، وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والترشيد، فبحوثُ الدراسات العليا من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض ببلداننا.
لذلك سأذكر أربع ملاحظات إرشادية للبحوث الأكاديمية:
الملاحظة الأولى: علينا أن نشجّع الباحثين على الإبداع والاجتهاد الجديد:
رغم انتشار الدراسات العليا في ديارنا إلا أنها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو:
تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث، وتقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات، فتنهض البلاد.
لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، وذلك بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم، فيمنعون الباحث من الترجيح أو إبداء الرأي، ويوبّخونه لو ظهرت شخصيته في البحث، بدلاً من تشجيعه على الاجتهاد والإبداع والإتيان بالجديد!! (طبعا هم يزعمون أنهم يريدون أن يربّوا الباحث ويعلموه التواضع واحترام جهود السابقين، لكنهم مثل الذي يريد أن يقوم بعملية للعين ليصلحها فبدلاً من إصلاحها يُعميها!! وهم هكذا يفعلون، فبدل أن يجعلونه يترك التكبر ويتواضع، يجعلونه يترك الاجتهاد والإبداع، ويجمد على أقوال السابقين. لكنّ فِعْلَهم هذا في حقّ الباحث يعتبر جريمة!! لأنهم يقتلون إبداعه.
حتى إنّ أحد (الدكاترة الجامدين) كان يقول: “الترجيح بين أقوال العلماء قلة أدب!!” طبعاً بمعيار هذا الدكتور كلُّ علماءنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، والردِّ على المخالف لهم من بقية المدارس، أو من يخالفهم ضمن المذهب الواحد.
وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ جديد.
الملاحظة الثانية: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا:
ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا.
لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك للطلاب الأغرار هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودَهم بما ينفع بلداننا.
الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسّسات المجتمع المدني وحتى القطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، أو (أي مؤسسة حتى لو كانت ربحية تقوم على الإشراف على هذا الأمر) فيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه من جهة، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث لتطوير نفسها وحلّ مشاكلها من جهة ثانية.
كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق.
وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا يوجد ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!
ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، وننسى الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من (وقت وجهد ومال) حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير.
الملاحظة الثالثة: الاختصار والتركيز في البحوث والدراسات على موضع الإبداع وحلّ الإشكال:
بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث؟ فكثير من البحوث الاكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الترتيب، وفي أحيان قليلة إعادةُ الصياغة والإتيان بأمثلة معاصرة.
يجب أن نعمل على أن تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟!
فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ؛ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير!!
لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د.عبد الكريم بكار، فالتفاخر -مع الأسف- بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها!
ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).
وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟
الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي.
فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:
1-في ذلك هدر للموارد: كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر والجهد الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار!
2-البحوث الطويلة تُلزم القارئَ لها أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهر البحث وآراء الباحث الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة.
بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث.
حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، لكثرتها وطولها وتكرارها للمعلومات، فلا يقف المتخصص بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ”كثرة المصنّفات تعيق عن التحصيل” كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.
3-في البحوث المطوّلة عندما يصل الباحث للجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) ربما يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً!! وقد سمعت أستاذنا د.أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيه حقّه من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد).
فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار وإعادة صياغة المعلومات القديمة المعروفة!
4-نريد الاختصار في الأبحاث حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة!
نريد الاختصار حتى نخفف من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: “ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات”، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ المنطق يقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجَودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.
الملاحظة الرابعة: ضرورة نشر الدراسات والأبحاث حتى يستفيد منها الناس:
فبعد الانتهاء من البحث، ومناقشة اللجنة العلمية للباحث، ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحثُ في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب، لا يستفيد منه أحد! على الأقل انشروه إلكترونياً فالنشر الإلكتروني لا يكلّف شيئاً، وإلا فما فائدة هذا البحث إذا لم يأخذ طريقه للنشر والتطبيق في الواقع.
بصراحة: علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسيات العليا، حتى تساهم بنهضة بلادنا، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، نكسب منها أمرين اثنين:
أولاً: باحثون أكاديميون يحملون مناهج علمية في عقولهم، ويطبّقونها في حياتهم.
والأمر الثاني الذي نكسبه: بحوث نوعية راقية تساهم في تطوير واقعنا، حتى نستعيد حضارة أمتنا، والله الموفّق.