كان أوْلى بدعاة الحداثة، وهم الذين يكرّرون مقولات التجديد، وينزعون نحو كسر النماذج الجاهزة -بحسب قولهم- أن يدركوا أنّ النهوض هو حصيلة فعل إبداعيّ ذاتيّ لا تقليد جاهزاً، وأن يسائلوا أنفسهم ابتداء عن حقيقة الحداثة الغربيّة ومدلولها، وعن الشروط التاريخيّة التي أنتجتها، وينتبهوا إلى الصيرورة التطوريّة التي لحقتها حتّى أدخلتها -في الواقع الغربيّ- داخل خناق أزمة فتحت أمام لحظة مراجعة نقديّة، وتأسيس فلسفيّ وثقافيّ لما بعد الحداثة؛ فالحداثة الأوروبيّة ليست كينونة جوهريّة معزولة عن سياق التاريخ بإحداثيّاته الزمانيّة والمكانيّة، بل هي نتاج صيرورة تاريخيّة تمتدّ بجذورها إلى قرون عديدة، ولذا لا يمكن فهم مشروع الحداثة الغربيّة إلا باستحضاره عبر جدله وتطّوره منذ تأسيسه الفلسفيّ مع ديكارت، وتقعيده المفهوميّ السياسيّ مع مونتيكسيو وروسو (أقصد مفهوم فصل السلطات، والعقد الاجتماعيّ)، مروراً بلحظة المراجعة النقديّة لأداته الإبستمولوجيّة (العقل) مع كانت، وانتهاء بالثورة عليه مع فلسفة ما بعد الحداثة لدى نيتشه وفرويد وهيدغر.
إنّ مقاربة مشروع الحداثة كفكرة مفصولة عن حقل التاريخ إخلال بمنهج الفهم، وعطالة في الوعي التاريخيّ، وتغييب لآليّاته، وهو ما يسقط الفكر الحداثيّ العربيّ في مزلق التقليد والمناداة باستنساخ النموذج الغربيّ، لأنّه يراه برؤية أفلاطونيّة، أي بوصفه نموذجاً مثاليّاً متعالياً عن شرط التاريخ وسياقه السوسيولوجيّ. لذا لا بدّ من إعمال الوعي التاريخيّ النقديّ، فهذا الوعي الغائب هو الشرط المنهجيّ الأوّل لفهم الحداثة بوصفها نبتة ذات جذور وبيئة خاصّة بها، وأتساءل: هل حقّق الفكر العربيّ بالفعل هذا الشرط المنهجيّ ولو في أدنى صوره؟ للأسف ليس ثمّة إنجاز فعليّ لهذا الشرط المنهجيّ؛ ويكفي دليلاً على ذلك أن نراجع المكتبة العربيّة، حيث سنفاجأ بكمّ هائل من المقالات والكتب التي تعرض لمنتجات العقل الغربيّ بحسّ الاندهاش والانبهار، مع تغييب الفكر النقديّ القادر على فهم التجربة الغربيّة وإدراك خصوصيّتها، ونقد مزالقها، والتأسيس لإمكانيّة الاعتبار بها والاستفادة الواعية منها لا تقليدها، ليس في مكتبتنا المعاصرة إلا كتب تقرّظ الغرب إن لم نقل تدعو إلى تبجيله، وما عندنا من بحوث تستلهم الحسّ النقديّ المطلوب، هي بسبب قلّتها دليل يحقّ أن يدرج ضمن الاستثناء المؤكّد للقاعدة.
إنّ ما ينقص الفكر العربيّ في قراءته لمشروع الحداثة الغربيّة هو الوعي التاريخيّ، فماذا أقصد بالوعي التاريخيّ؟ وما وجه ضرورته؟ وما ثمار تشغيله في قراءة الحداثة الغربيّة؟ نقصد بالوعي التاريخيّ ذاك الأسلوب في التفكير الذي يعامل الفكرة بوصفها نتاج لحظتها التاريخيّة، ومشروطة بأفق تلك اللحظة وأحلامها وإخفاقاتها. ولا نقصد بالمشروطيّة هنا ذاك المعنى الآليّ الذي يجعل علاقة الفكر بالواقع علاقة متبوع بتابع، أو علاقة معلول بعلّة، فتلك النظرة الفلسفيّة التي ترجع الفكرة إلى المادّة نظرة مختلة في طبيعة فهمها للفكر وللمادّة على حدّ سواء، فالفكر لا يتأثّر بالواقع فقط، بل يؤثّر فيه أيضاً، ويغيّره ويتجاوزه بطاقة التخييل والاستبصار، لكن مهما كانت هذه القدرة التجاوزيّة يظلّ الفكر في نشأته وتبلوره وصيرورة تطوّره متعلّقاً بشرطه التاريخيّ، ومستجيباً لهواجسه وأسئلته، الأمر الذي يبرّر بل يفرض معاملته وتحليله ضمن سياقه المجتمعيّ وصيرورته التاريخيّة، وفيما يخصّ الحداثة باعتبارها مشروعاً ثقافيّاً نحتاج إلى هذا الوعي التاريخيّ أشدّ الاحتياج، إذ به نتحرّر من النظرة الماهويّة الأفلاطونيّة للحداثة، بوصفها مقولات مثاليّة مفصولة عن سياقها التاريخيّ، وقابلة من ثمّ للتكرار في كلّ سياق مجتمعيّ مهما اختلفت الظروف والشروط، إضافة إلى هذا فإنّ الوعيّ التاريخيّ يعلّمنا أنّ كلّ مجتمع له خلفيّته التاريخيّة التي تعبّر عن خبرته وتراكمات تجاربه ومثله ورموزه، تلك الخلفيّة التي لا بدّ من وعيها واستثمارها في كلّ فعل يستهدف النهوض بالمجتمع، ودفق حوافز النموّ داخله. ومن ثمّ فإنّ الوعي التاريخيّ يدفعنا إلى إعادة قراءة الحداثة الغربيّة بوصفها نتاج واقع وتجربة تاريخيّة خاصّة، ومن هنا يغدو السؤال ضروريّاً حول الصيرورة التاريخيّة لمشروع الحداثة الغربيّة، أي نشأتها ولحظات تطوّرها.