بسم الله الرحمن الرحيم
من أسباب انهيار حضارتنا شيوع مبدأ الجبريّة بين الناس، فالمرء لا حول له ولا طَول، ولا قدرة ولا إرادة، وإنّما هو يحيا بتوجيه خفيّ، أو جليّ من مشيئة الله، التي تدفع به ذات اليمين أو ذات الشمال، والتي تهيّئ له حياة العسر، أو حياة اليسر برغمه.
وقد يذكر من باب التغطية أو الاعتذار عن الشرع (!) أنّ للإنسان كسباً أو اكتساباً، والحقيقة أنّه مسلوب الإرادة على حدّ قول الصوفيّ: ” أنا قلم، والاقتدار أصابع”!
وما يصنع القلم وحده؟ إنّه أداة وحسب، أو كما يقول الجبريّون أنفسهم في بيان حال الإنسان مع الأقدار الغالبة:
- كريشة في مهبّ الريح حائرة .. لا تستقرّ على حال من القلق.
ولا يزال أغلب المسلمين إلى يومنا هذا يرون أنّ الطاعة والمعصية، والغنى والفقر، حظوظ مقسومة، وأنصبة مكتوبة، وأنّ المرء مسيّر، لا مخيّر.
ونشأ عن ذلك أنّ الشخصيّة الإسلاميّة اهتزّت، وسيطر عليها لون من التسليم والسلبيّة… والسبب في ذلك علم الكلام، والتصوّف، وبعض مفسّري القرآن وشرّاح السّنن.
إنّ التربية الصحيحة تقوم على حقائق واضحة، وعلى تقرير حاسم للمسؤوليّة الإنسانيّة، ولا يجدي في هذا المجال جدل ولا لعب بالألفاظ.
ومذهب الأشعريّ الذي اعتنقه جمهور المتأخّرين، يتحدّث عن المسؤوليّة الشخصيّة بأسلوب غامض، لا تتّضح معه عدالة التكليف حتّى قال الظرفاء فيه: أخفى من كسب الأشعريّ!
أمّا الصوفيّة.. فقد محقوا الإرادة البشريّة، وجعلوا الإنسان مشدوداً بخيوط إلهيّة إلى مصيره المجهول أو المعلوم..
وكذلك فعل بعض علماء التفسير والحديث، وهم يشرحون النصوص المتّصلة بالقدر، ولا بدّ من تخليص العقل الإسلاميّ من هذا القصور والتخبّط، بحيث يُقْبِل المسلم على الحياة وهو موقن بأنّه مكلّف بحسب استعدادات حرّة، وأنّ له قدرة وإرادة يملكان قدراً من الاستقلال، يُسال به عمّا يفعل، وأنّه لا جبر ولا افتيات ولا تمثيل في قصّة هذه الحياة التي نحياها..
• المسلمون وقانون السببيّة:
وينضمّ إلى شيوع مبدأ الجبر، ضعف الصلة أو انقطاعها بين الأسباب والمسبّبات، فعدد كبير من المربّين والموجّهين أشعروا الأمّة بأنّ النار قد توجد ولا يوجد الاحراق، وأنّ الماء قد يوجد ولا يوجد الريّ، وأنّ السكّين قد توجد ولا يوجد القطع.. وأنّ الواجبات العاديّة قد تتخلف، وأنّ قانون السببيّة – على الإجمال – غير ملزم ولا مطّرد..
وعلماء الكلام الذين مالوا إلى هذا الرأي، أرادوا الردّ على بعض الفلسفات الإغريقيّة التي تجعل الأسباب خالقة، وتنسب إلى الطبائع ما يقع هنا وهناك..
وكلام اليونان أنّ الطبيعة تخلق، وأنّ السبب – من ذاته – يفعل، كلام لا وزن له، ولا دليل عليه، بيد أنّ الردّ لا يكون بنفي ما أودع الله في الأشياء من خواصّ، وما ناطه بها من آثار، فإنّ الأسباب – بقدر الله فيها – تؤتي نتائجها حتماً، أمّا خوارق العادات فلها شأن آخر، وتعليلات فوق المعارف المعتادة، وهى إذا صدقت شذوذ يؤكّد القاعدة ولا يهدمها..
لكنّ المسلمين – خصوصاً في القرون المتأخّرة – جعلوا الدنيا لا تضبطها قاعدة، ولا يحكمها قانون، ومن المقبول عقلاً وشرعاً أن يتزوّج رجل في المشرق بامرأة في المغرب، وأن تلد منه على بعد الشقة، لأنّه قد يكون من أهل الخطوة!! أي ربّما انتقل من المحيط الهنديّ إلى الأطلسيّ في لحظة مّا من ليل أو نهار..!!
وهذا التصوّر المخبول لا ينضج معه علم، ولا يصحّ فيه بحث، ولا يملك أصحابه الأدوات التي يحقّقون بها نجاحاً عمليّاً في هذه الحياة.
والمقرّر في العلوم الكونيّة والتجريبيّة والإنسانيّة وغيرها أنّ قانون السببيّة محترم، وأنّ رفضه جنون.
والغريب أنّ كتابات دينيّة كثيرة جعلت “الولايّة” مقرونة بخرق العادة، ولمّا كان في كلّ قريّة شيخ مشهور بالصلاح، ولمّا كان لا يخلو زمان من هؤلاء الأشياخ العظام (!) ولمّا كان خرق العادة يقع منهم أحياء وأمواتاً، بطريقة تعتبر إنكارها جرماً، فإنّ سيلان الخوارق زحم العالم الإسلاميّ، وجعل قانون السببيّة لغواً…
وكان لذلك أثر محزن في انهيار حضارتنا، واختلال ثقافتنا…
وقد تدارك العلماء هذا العوج وألّفوا رسائل في دعم قانون السببيّة، وضرورة احترامه..
والشيء الذي نقف عنده قليلاً هو هوس بعض الكاتبين في إثبات الولايات وخوارقها، كأنّ الرسالة الإسلاميّة ما جاءت إلا لإثبات هذه القضيّة!!
والذي بدا لي أنّ هذا الهوس يرجع إلى التعلّق بغير الله تعالى، ودعاء المقبورين لعمل العجائب.
فإذا قلت: رجل مات، ما تنتظرون منه؟
قيل: إنّه – حيّاً أو ميّتاً – يفعل بقدر الله.. فالتعلّق به لا ينكر.
فإذا اعترضت، جاء الاتهام السريع: أتنكر كرامات الأولياء؟!
وأمّة يدور تفكيرها في هذه القوقعة، كان لا بدّ من أن تنهار أمام أعدائها.