أشرت إلى أمرين في بعض كتبي:
الأمر الأوّل: ما يسمىّ بالحكمة.
والأمر الثاني ما نسمّيه بالميزان.
مستهدياً بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) الشورى.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد.
ما هو الميزان؟
الحكمة وردت في القرآن في نحو من عشرين موضعاً تقريباً، مفردة أو مع الكتاب: `الكتاب والحكمة`.. من قال: إنّ الحكمة هي السنّة النبويّة، فهو مخطئ.. لأنّك تقرأ قوله تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) آل عمران
كيف تكون الحكمة هنا هي السنّة النبويّة؟ والكلام هنا يقصد به عيسى بن مريم
عليه السلام.
وفي قوله عن لقمان عليه السلام “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) لقمان.
وقال تعالى: ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39) الإسراء.
وقال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54) النساء.
ففي نحو عشرة مواضع في القرآن، لا يمكن أن تكو ن الحكمة هي السنّة النبويّة. بل هي ما يستفاد من التعاليم القرآنيّة، أي وضع الأمر في موضعه.
وهنا أقول: إنّ الميزان هو الناحية العمليّة، والحكمة هي الناحية النظريّة في ذلك.
مجموعة الآيات التي وردت فيها الحكمة والميزان، تعطينا منهجاً أنّ الأمّة لابدّ أن يكون لها من الرؤية القرآنيّة التي تستنبطها أو تستدركها من مجموع الآيات سياسة قرآنيّة:
كيف تُحكم الشعب؟، وكيف تنزلها على واقع الناس؟ أي كيف ينزل الفكر القرآنيّ على واقع عملي؟ قد يرى الإنسان أن كلمة `ميزان ` تعنى فيما تعنى تنزيل الأمر على واقع الناس… فالكتاب هو القيم والمبادئ الموحى بها، والميزان هو التجسيد العمليّ، أو الواقع التنفيذيّ البرامجيّ لهذه القيم والمبادئ. نعم. لأنّ الميزان لا يمكن أن يكون معنى حسّيّاً فقط.
والتوازن الاجتماعيّ فيه المعنى نفسه…. فلابدّ من الميزان. والميزان هنا يشترك فيه الأخلاقيّون والقانونيّون، وتشترك فيه شؤون ماديّة ومعنويّة.
الذي ألفت النظر إليه: أنّ الربط الذي يراه أحدنا في تفسير آية، أو استنباط حكم، هو اجتهاد.
لا يوجد إمام من الأئمّة الكبا ر في فقهنا ألزم الناس باجتهاده.
بل كلام أبي حنيفة واضح: كلامنا هذا رأي، من كان عند ه خير منه فليأت به.. و(مالك) كان يرفض أن يعتبر رأيه ديناً، بل معروف من حكمة الرجل أنّه رفض -وهو صاحب الموطّأ- أن يفرضه على الناس، لأنّه قد تبدو للناس علوم أو معارف أخرى، وهذا من صميم ديننا الإسلاميّ، والذي يلزم الناس بأنّ ما عنده هو الدِّين فهو إمّا جاهل أو قاصر أو مريض مصاب بجنون العظمة، أو به شيء يحاسب عليه، أو يجب إصلاحه. فجعل الاجتهادات ديناً، لا… إنّما المهمّ أنّه لابدّ من إعمال النظر في تنزيل القرآن، على واقع عمليّ، وإذا لم يكن هذا هو الاجتهاد، فما هو الاجتهاد الذي نريده؟ وأنا في رأيي الآن أنّ أفضل شيء للأمّة أن يكون الاجتهاد جماعيّاً.
ولا أزال أدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد في العبادات؛ يكفينا في أمور العبادات ما ورثناه من أقوال في الصلاة والحجّ والصيام وما إلى ذلك، ويكو ن الاجتهاد بعد هذا في المعاملات الدوليّة، والمعاملات الاجتماعيّة والإداريّة وغيرها.
القرآن كتاب مفتوح، يقول تعالى:
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) آل عمران
لكن يبقى المطلوب: كيف نعيش بهذ ا الإيمان؟ فلننقل منطق الإيمان إلى كلّ شيء، ومنطق الإيمان منطق واسع، له مواصفات في العادة… وليس له شكل معيّن عمليّاً وإنّما أوصاف معيّنة، وهذا ما يمكن أن نسميه ” القيم “ .
فالقرآن الكريم جاء بقيم تحدّد المسارات العامّة، أو قواعد أو مبادئ عامّة، ولم يجئ ببرامج إلا في القضايا التي لا تتطوّر ولا تختلف فيها الفهوم، كما أنّها لا تختلف من زما ن إلى زمان، ومن بيئة إلى أخرى، ومن طبيعتها أن تكون توقيفيّة.
نعم، ما عدا هذه القضايا فهو متروك للزمن ومتروك للناس.
كأنّي أرى الخلاصة في هذا:
أنّ الأصل أن تبقى القيم القرآنيّة هي الضابطة لمسيرة الحياة في إطار عريض، وأنّ الحركة والاجتهاد ضمن إطار القيم هو متروك لاجتهادات الناس بحسب ظروفهم ومشكلاتهم التي تتبدّل بحسب الزما ن والمكان.
المهمّ ألّا تخرج الاجتهادات عن الإطار الذي رسمه القرآن، وفى ذلك متّسع للزمان والمكان بمقتضى الخلود والخاتميّة.
قلت في بعض كتبي: إنّ هناك وسائل ثابتة……. فإذا قيل إنّ الصلاة لابدّ لها من وضوء، يبقى الوضوء وسيلة محدّدة، لكنّ الأمّة محتاجة للجهاد.
كان رباط الخيل يوماً ما هو وسيلة الجهاد، وانْبَنَى على ذلك أنّ الفارس يأخذ ضعفين، أو ثلاثة أضعاف -على اختلاف المذاهب- ما يأخذه الراجل، وأقيمت الأوقاف في رباط الخيل.
و الآن لا يمكن الأخذ بهذا الاجتهاد، لأنّ رباط الخيل انتهى من عمليّة الجهاد.. هناك إمكانا ت أخرى هي: الدبّابات والمدرّعات وغيرها. الوسائل تختلف ليس فقط في الجهاد وإنّما في العدالة أيضاً…
العدالة قيمة لابدّ أن تضبط الأمور بميزان العدل.. الآن، قد يمكن أن أجعل
محاكم عسكريّة، ومحاكم للقاصرين، ومحاكم للأحداث، وأجعل المحاكم في الوقت نفسه درجات: محاكم ابتدائيّة، ومحاكم استئناف، ونقض وإبرام وتمييز… كلّ ما يعين على تحقيق العدالة، أجتهد فيه كيف أشاء، كذلك التعليم، فكونك تقيم معاهد ومدارس لها مواصفات معيّنة لتعليم الأمّة كلّها، أو تجري إحصاء عامّاً للأمّة كلّها بحسب سنيّ العمر، كي تتعرّف على أعداد الطلاب الذين لابدّ أن تفتح لهم مدارس، فهذه كلّها مسائل حضاريّة لابدّ منها، وهي تدخل في إطار ما عندنا من قيم، وهي جزء من الحكمة والميزان الذي أشار إليهما القرآن الكريم، ولابدّ منها لبناء المجتمع… القيم تضبط، والقيم صفات، لا برامج وأعمال…
وليست لباساً معيّنا، فمثلاً: الإسلام يقول للمسلم: البس اللباس الساتر للعورة الذي لا يشتمّ من لابسه الكبر والخيلاء؛ لكنه لا يقول: يجب أن يكون هذا اللباس: جلابيّة، أو جبّة، أو غيرها، وإنّما يترك له التصرّف؛ فهناك مواصفات وضعها الإسلام للحياة الاجتماعيّة…
وقد تحدّث فيها القرآن باستفاضة دون نصوص خاصّة، أو برامج خاصّة لذلك…. يمكن أن تتدخّل الحكمة هنا لينشئ الناس قوانين تفي بالمطلوب للأمّة، ولذلك، أنا ممّن يرون أن تكثر الاجتهادات ضمن الصورة الإسلاميّة؛ فمثلاً: الإمام أبو حنيفة يجتهد في أن تعطى المرأة حقّ أن تعقد على نفسها، وغيره من المجتهدين يرى غير ذلك، وأن تعطى الحقّ في أن تخالع زوجها، ويحكم القاضي بالحكم المناسب، وأن تعتلى القضاء… هذه برامج واجتهادات… ومن هنا أنا اخترت ترجيح مذهب المالكيّة في أن تقسيم الغنائم ليس تقسيماً ملزماً.
أي أنّ التخميس هو صورة ممّا يمكن أن تقسّم به الغنائم، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يلتزمه عندما وزّع غنائم هوازن وثقيف، فقد حرم بعض الصحابة `الأنصار`، ورأيت أنّ هذا ما صنعه عمر رضي الله عنه عندما رفض أن تقسّم الأرض المفتوحة، وفرض عليها الضرائب، وأعطى الفاتحين أنصبة، أو مرتّبات، من هذه الأرض المفتوحة.
وهكذا تجد أنّ الإسلام ليس مجموعة صور محدّدة ومعيّنة للنظام، وليس هو
قوالب ثابتة، وإنّما هو قيم ثابتة، على ضوئها ننتقي الشكليّات، أي نشكّل ما نريد..
وإدارة شؤون الدنيا أعطانا الإسلام فيها فسحة: “أنتم أعلم بأمور دنياكم ” (مسلم) .. أي أنتم أعلم بالتنظيمات الدنيويّة…. والمهمّ أن تكون هذه التنظيمات ضمن سياج محكم من القيم والقواعد الموجودة في القرآن والسنّة.
الشيخ محمد الغزاليّ – من كتاب: كيف نتعامل مع القرآن الكريم. صفحة 103- 106