توظيف خطيئة التطبيع
فيّ نقض منهج الإسلام السياسيّ
في البداية دعونا نعترف أنّ موافقة حزب العدالة والتنمية المغربيّ
على التطبيع مع إسرائيل كان خطأ كبيراً، ينبغي تنزّه حزب العدالة
منه، وقد خسر من رصيده الكثير، بل ربما تكون غلطته هذه هي
التي ستطيح به (أقول: ربما)، فيكونون -حاشاهم-كمنديل يُرمى في
سلّة المهملات عند اتساخه، وانتهائه من مهمّته.
وهنا تطالعنا ظاهرة المنظّرين والرموز الإسلاميّين الذين يمارسون
السياسة (مثل: الأستاذ الغنّوشي والدكتور سعد الدين العثمانيّ
وغيرهم) وفي هذا ثلاث ملاحظات:
1-لا شكّ أنّ كتابات أولئك المنظّرين كتابات مفيدة، فيها تجديد مفيد،
بما قدّموه من أطروحات تناسب عصرنا وتواكب تطوّراته، وتتوافق
مع مبادئ ديننا وتطلّعات شعوبنا.
2-ليتهم تفرّغوا للتنظير والتواصل المستمرّ مع المباشرين للسياسة،
وبهذا يُبقون على أَلَقِهم وسمعتهم، ويَستفيدون ويُفيدون بالتواصل مع
السياسيّين المحسوبين عليهم، يستفيدون من اختبار أفكارهم على
أرض الواقع، فيطوّرونها بسبب احتكاكها بالواقع، ويُفيدون
السياسيّين بفكرهم، والمحافظة على الخطّ الاستراتيجيّ عند
السياسيّين، حتّى لا تنحرف بوصلة السياسيّين نتيجة انهماكهم
بيوميّات ومجريات السياسة اليوميّة وضغوطاتها وإكراهاتها
وبراغماتيّتها.
3-على كلّ حال (عَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لعلّ من
المفيد مستقبلاً أنّ المنظّرين يمارسون السياسة حالياً، حتّى يقعوا
ببعض ما يلومهم به الناس، فيكونون مثالاً في المستقبل على من
2
ينكر على السياسيّين أيّ خطأ، أو الإذعان للإكراه، وحتّى لا يأتي
زمان يُقال فيه: (لو كان المنظّر الفلانيّ هو المسؤول، لما فعل كذا،
أو لفعل كذا وكذا)، فيكون الردّ حاضراً وهو: أنّ أولئك المنظّرين
الإسلاميّين حينما يمارسون السياسة يقعون بمثل أخطاء السياسيّين
العاديّين الشرفاء.
وهنا نفترض أنّ (الاستبداد والظلم والخيانة والعمالة) مستثناة في
كلامنا، فهذه الجرائم لا عذر فيها لأحد، ومن ثبت عليه ذلك ففي
مشروعيّة منصبه نظر أصلاً! وفي السكوت عليه وعدم تغييره خَوَر
لا يجوز.
والآن نعود لأصل الموضوع؛ وهو استغلال جماعات العنف لأخطاء
جماعة الإسلام السياسيّ في (نقض) منهجهم، فكثيراً ما يتمّ استغلال
الأحداث والنصوص الدينيّة والرموز والمواقف في نصرة الفكرة
والآيديولوجيّة، وحديثنا هنا عن استغلال الأحداث في (نقض)
الآيديولوجية المخالفة!
فالنقد لا أقول مشروع فقط، بل هو مطلوب ومفروض، وهو من
واجبِ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لكن… هناك (نقد)
وهناك (نقض) وبينهما بونٌ شاسع.
فأهمّ تيّارين إسلاميّين يسعيان للسلطة بجِديّة هما:
1-التيّار الإصلاحيّ السياسيّ: الذي يؤمن بنجاعة وضرورة التغيير
السلميّ السياسيّ عبر الآليّات الديمقراطيّة، ويؤمن غالبيّة هؤلاء
بالإقناع في تطبيق القوانين الشرعيّة، عبر الآليّات الديمقراطيّة، وهم
تيّار (الإسلام السياسيّ).
2-التيار الثاني: هو الريديكاليّ القتاليّ: الذي لا يرى نجاعة التغيير
بالأسلوب الأوّل، بل لا بدّ من امتلاك القوّة، ولا مانع من استخدام
العنف والسلاح في التغيير بداية، لفرض السيطرة بعدها، وغالباً
3
هؤلاء لا يجيزون إخضاع القوانين للتصويت، وغالباً لا يجيزون
التعدّديّة الحزبيّة، بخاصّة الأحزاب غير الإسلاميّة، فرؤاهم شموليّة،
وهم تيّار دعونا نصطلح على تسميته بـ (الإسلام القتاليّ).
قلت (غالباً): لأنّ تفاصيل الرؤى تختلف ضمن كلّ تيار من التيارين.
والحقيقة: إنّ القوّة (نَعَم) قد تلزم لمرحلة تخلّص الدولة من الظلم
والاستبداد والحصول على الديمقراطية (إنْ تعذّر التغيير السلميّ).
لكن بعدها ينبغي حصر دور القوّة في حماية الوطن من العدوّ
الخارجيّ، وداخليّاً من أن ينقلب مستبدّ جديد على اختيارات الشعب،
ويتغوّل على الدولة، ويفتئت على الأمّة.
وكما أنّ الحصول على الديمقراطيّة يحتاج نضالاً وقوّة، فإنّ الحفاظ
عليها يحتاج أضعاف تلك القوّة، فالطامعون بالحُكم كثيرون في
الداخل والخارج!
فجماعات العنف يمكن أن يُسقِطوا نظاماً لكنّهم يستحيل أن يبنوا دولة
قابلة للوجود والاعتراف الإقليميّ والدوليّ، وأن تستقرّ الدولة
وتستمرّ، وتنمو تزدهر دون خطط تنمويّة وانفتاح على المحيط.
الطريف بالموضوع أنّ أحداثاً مثل التطبيع في المغرب وإعلان تأييد
الحزب الحاكم له، يجدها أصحاب التوجّه القتاليّ فرصة لنقض
نظريّة التيّار الأوّل كلّها؛ (نقض المنهج السلميّ والديمقراطيّ
والسياسيّ، والعمل ضمن حدود الوطن، وفصل الدعويّ عن
السياسيّ إلى آخره..) فالخصم بالزاوية ووجهه مكشوف.. فهي
فرصة لتسجيل نقاط على الخصم.. ومحاولة إسقاطه بالضربة
القاضية! وادعاء الاستعلاء الآيديولجي.
والحقيقة: لا تلازم بين انتهاج الإسلام السياسيّ، وبين ارتكاب هذه
التنازلات!
فقد يتنازل تيّار (العنف) أو دعاة استخدام (القوّة) أكثر من هؤلاء
السياسيّين، لكن بطريقة أكثر دهاء.. ومن يتابعهم ويعرف كواليسهم
4
يعرف ذلك جيّداً، فما زلنا نتابعهم في سورية ونعرف مزاوداتهم
وتنازلاتهم في سبيل بقائهم مسيطرين على مناطقهم.
فخطابهم خياليّ حالم في حال الحروب، وإدارة التوحّش، أو عند
بقائهم في المعارضة، والغرف المظلمة، حيث رفع السقف لأعلى
عليّين (فالكلام ليس عليه جمارك) كما يقولون في المثل الشعبيّ
الساخر ممن يقول كلاماً موغلاً في الخيال.
ففرق كبير بين الكلام في الفراغ، وبين تنفيذ ذلك على أرض الواقع..
وقد رأينا وسمعنا مزاودات المتشدّدين أيّام الحروب و(إدارة
التوحّش) كيف تدرّجوا بالتنازلات والمراجعات طرديّاً مع اقترابهم
من جعل مناطقهم آمنة ومستقرّة، ومازال مسلسل التنازلات مستمرّاً
على أمل الاعتراف بهم دوليّاً!
فمن اللؤم استغلال مشاعر الناس المنكِرة لذلك القرار (التطبيع) في
توظيف ذلك (آيديولوجيّاً) من قِبَل تيّارات العنف في نقد الإسلام
السياسيّ، ونقد المشاركة السياسيّة.
ويتغافل هؤلاء عن أنّ الديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة دونها
السجون وأعواد المشانق، والقذف بالدبّابات والراجمات، وهجوم
الطائرات والمصفّحات!
ويتناسى أولئك أنّ الطغاة يُطلقون من سجونهم رؤوس الغلوّ والتشدّد
من دعاة العنف، حتّى يكفّروا الديمقراطيّة ويغتالوا المشاركين
بالعمليّة السياسيّة!
لأنّ المستبدّين يتمنّون أنْ يدفنوا كلمة (ديمقراطيّة)، ويغتالوا
(المشاركة السياسيّة) حتّى تسلم لهم السلطة فينفردوا بها!
وبعد الانتهاء من مهمّتهم الحالية في ضرب الإسلام السياسيّ
والقضاء على التحول الديمقراطيّ في بلداننا، عندها ما أسهل سجن
دعاة العنف باسم (مكافحة الإرهاب)، فكلّ حكومات العالم تؤيّدهم
به، أو يرسلونهم لمهمّة أخرى في بلد آخر، أو يسجنونهم ويتم
5
تخزينهم لمهمّة جديدة مستقبليّة، في ضرب عدوّ مشترَك (كما تمّ
توظيفهم في قتال روسيا سابقاً)، وكما يتمّ إعدادهم حاليّاً لضرب
الصين في ساعة الصفر المرتَقبة!
والله المستعان.