بسم الله الرحمن الرحيم
التداول ينسخ التوارث
قال تعالى في كتابه العزيز: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيّة أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ/ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ / أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
هذه الآيّة الكريمة تدلّ على وقوع النسخ بين شرائع الأنبياء، وهذا الموضوع استهلك مساحات واسعة من الخلاف بين العلماء حول وجوده وتوصيفه وكمّيّته وآثاره، وليس هذا موضوعنا، ولكنّا سنسترشد هنا بمقاصد وجود النسخ، ومنها أنّ البشريّة في حركة مستمرّة لاتقف عند حدّ من التطوّر، في المجالات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكان من حكمة الله مخاطبة كلّ عصرٍ بما يناسبه من أدوات المعرفة للتدليل على رسالة التوحيد، ومراد الله من عباده في صلاح دنياهم وآخرتهم.
وعلى جلالة هذه الآيات الباهرة، والمعجزات الخارقة، كانت موسومة بالمحدوديّة في الزمان والمكان، وكان يأتيّ زمنٌ تنسخ فيه وتمحى، بحسب التطوّر البشريّ والتراكم المعرفيّ للإنسان، ولذلك جاءت التوراة مصدّقة لما بين يديها من رسالات السماء، في المقاصد الكلّيّة، ولكنّها ناسخةٌ لما قبلها من الشرائع التفصيليّة، ثمّ جاء الإنجيل بعد التوراة، ثمّ جاء القرآن ناسخاً لما قبله من الشرائع، مصدّقاً لما قبله من البيّنات الثابتة التي لا يأتيّ عليها النسخ ،كالتوحيد والتسليم بأركان الإيمان .. هذا كان في كتاب الله المنطوق، وهو الذكر الحكيم، فماذا عن كتاب الله المنظور في الكون، والإنسان والحياة ؟!.
إنّ النسخ كما هو موجود في كتاب الله المنطوق، فهو موجود في كتاب الله المنظور، بحسب التطوّر البشريّ أيضاً، فانظر معي – هداني الله وإيّاك – كيف تنسخ النظم السياسيّة بعضها بعضاً، فانظر للنظام الملكيّ النبويّ بصورتيه، الأولى حيث كان النبيّ هو من يؤسّس الدولة ويسوسها، كما هو العهد عند داوود وسليمان عليهما السلام، أو الصورة الثانية حيث كان ذلك الملك ينشأ عن السلطة البشريّة، كما كان حال بلقيس وزنوبيا وكسرى وقيصر، وكلا الصورتين كانت تتماشى مع سدّ الحاجة البشريّة في تشكيل السلطة وسياسة الرعيّة.
وكان المطلوب من الملوك فقط أن يكونوا عادلين، ليسوا جبّارين ولا مفسدين، ولم يكن المطلوب منهم أن يسلّموا السلطة للشعب، بانتخابات حرّة ونزيهة مثلاً، لأنّ النضج البشريّ والمعرفيّ للناس، كان يقبل أن تتوارث عائلة الحكم، ضمن أبنائها، حتّى لو ظلم أحدهم، وقامت عليه ثورة، في غالب الأحيان كان يؤتى بابنه أو قريبه ليسدّ مسدّه في استلام السلطة.
وحتّى بعد ظهور الإسلام، الدين الخاتم، والشريعة الناسخة، لم يصطدم مع العرف السياسيّ، وإنّما عني بالجانب القيميّ، بالتأكيد على قيمة الشورى والعدالة والأمانة والاستقرار، وأسّس لأرضيّة معرفيّة تتعزّز فيها سلطة الجماعة، وإرادة الأمّة (وأمرهم شورى بينهم )، ولكنّه لم يقعّد للنّاس بذلك دستوراً أو نظاماً… وإنّما تركهم للاجتهاد الجماعيّ، وحتّى فكرة التوارث لم ينهَ عنها، لأنّه اعتبر مصيرها مرتبطاً بآيات الله الكونيّة في التغيير السياسيّ، وليس بأحكام الله الشرعيّة التي تركز على القيم والثوابت المعرفيّة والأخلاقيّة، ولم يكن النبيّ عليه الصلاة والسلام في مراسلاته مع الملوك يشترط عليهم التخلّي عن الملك، ولا عن التوارث بل أبقى (باذان) صاحب اليمن على ملكه، الذي ورّثه لابنه شهر بن باذان عند موته، وعندما جاء أجل عمر بن الخطاب ونصحوه بأن يسلم السلطة لعبد الله بن عمر لم يستنكر الفكرة لذاتها، وإنّما ورعاً وتقوى، وكان الحسن بن عليّ أوّل من ورِثَ الحكم، ثمّ معاوية ورّثه لابنه يزيد، مع اختلاف بالطريقة من شورى الجماعة، لشورى الصفوة، وتتابع التوارث في استلام السلطة، ولا يخرق إلا بالتغالب، وكان هذا على مستوى المركز العاصمة، وعلى مستوى الولايات أيضاً كمصر والشام والمغرب، ومن فضول القول إنّ هذا أيضاً كان عند الدول الأخرى غير المسلمة.
ومع بداية النهضة الأوربيّة، وبداية ظهور المشاريع العلميّة الصناعيّة والعسكريّة، والنظريّات المعرفيّة والبحوث التطبيقيّة، وانتشار الطباعة والصحافة والنشر، وزيادة حجم التواصل الإنسانيّ، وظهور أفكار الحريّة والفرديّة والديمقراطيّة والمدنيّة، بدأت الشخصيّة الإنسانيّة تبتكر لها هويّات جديدة غير هويّة الرعيّة والراعي، وصار النظام الملكيّ عاجزاً وقاصراً بنظرته الاستبداديّة وتوارثه الكلاسيكيّ، وتركّز السلطات بيد أفراد قليلين، فصار قاصراً عن مواكبة التحدّيات والمسؤوليّات التي دفعت بها عجلة التراكم المعرفيّ، والتطوّر البشريّ، فبدأ هذا النظام تتصدع أركانه، وهو يدافع عن نفسه بشراسة، ومازال في كثير من دول العالم حتّى الآن يحاول شدّ عصبه، وتثبيت أركانه، أمام النظام الجمهوريّ أولاً، ثمّ الديمقراطيّ ثانياً.
وباستقراء القرون الثلاثة الأخيرة يتبيّن لنا أنّ آيةَ التداول السياسيّ تنسخُ آيةَ التوارث، فإمّا أن تحوّلها من ملكيّة مطلقة، إلى ملكيّة دستوريّة، مثل بريطانيا وبلجيكا واليابان، وإمّا تحوّلها إلى جمهوريّات ديمقراطيّة مثل فرنسا وتركيّا.
ولاتزال حركة النسخ تسري في ساحة الحضارة الإنسانيّة، وبحسب الاستنتاج المبنيّ على الاستقراء السابق، يتّضح أنّ المعركة ستحسم في النهاية لصالح الحياة التداوليّة والتشاركيّة، على حساب الملكيّات التقليديّة، كلّما زادت الحاجة للحدّ من سلطات الفرد الشخصانيّ، لصالح الفرد العامّ، وقد يدفع لذلك النظام الملكيّ نفسه، عندما يزيد من حجم تدخّله في مصائر الشعب من حوله، متحكّماً بأنفاسهم ومواردهم وأفكارهم، حتّى يهيّئَهم للانفجار، أو يقوم هذا النظام بحكمة وتدرّج بالانكفاء على نفسه ضمن مساحة شرفيّة وبروتوكوليّة، تضمن لمجتمعه الانتقال السليم للعصر الديمقراطيّ التداوليّ، دون الاضطرار لتدمير البلاد، وإشاعة الفوضى، ومن الضروريّ الانتباه إلى أنّ التداول لا يعني فقط التداول الاسميّ والشكليّ، مع بقاء الموارد والمفاصل السياسيّة بيد قلّة قليلة من كبار العسكر، أو النخبة، باسم النظام الجمهوريّ الذي يستخدم الانتخابات المزيّفة، أو المزوّرة، كالحال في معظم الدول العربيّة التي أنشأت أنظمة جمهوريّة، جعلت الشعوب العربيّة تتمنّى عودة المماليك إليهم، فهي خير لهم من أنظمة كهذه الأنظمة، بل المقصود هو التداول الدستوريّ العميق الذي يتيح انتقال السلطة التنفيذيّة الفعليّة من حزبٍ منتخب، إلى حزبٍ منتخبٍ آخر، يستطيع أن يطبّق فيها برامجه بلا وصاية، ولا تعطيل، إلا من رقابة البرلمان المنتخب..
لقد كان الربيع العربيّ سُنّةً من سنن التغيير، للانتقال من عصر التوارث لعصر التداول، أسوةً بشعوب العالم الحرّ، ليس في ذلك منّةٌ لسلطانٍ أو زعيم، وإنّما هي سُنَّةٌ من سنن الله في كونه، يبتلي بها عباده: (وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
حسن الدغيم
باحث
مؤسّسة رؤية للثقافة والإعلام.