التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد؟!!
كثر الحديث في أيامنا عن التجديد الإسلاميّ، وكثر التساؤل عن ضوابطه وملامحه
وتأييده، والقول بوجوبه وضرورته، وبالمقابل الريبة منه والتشكيك فيه وبدعاته،
فهل ديننا يحتاج حداثة أو تحديثاً أو تجديداً أصلاً؟!
كما كثر الحديث عن ظاهرة الإلحاد الجديد وأسبابها وطرق علاجها.
ومن العجائب أنّ الإسلاميّين أنفسهم يتراشقون التهم، فالتجديديّون الميسِّرون يرون
المتشدّدين سبباً للإلحاد (فهم غلاة منفّرون)، كما أنّ الجامدين والمتشدّدين يرون
الميّسرين سبباً في الإلحاد فهم (مميّعون يجعلون الناس يتحلّلون من تعاليم الإسلام)!
مع أنّ الواقع يقول: إنّ الغلوّ يسبب الإلحاد، ولم نسمع بمن ترك الدين بسبب
التنويريّين أو المجدّدين أو الميسّرين!
سأحاول بهذا المقال وضع مقدّمات للجواب عن هذا الإشكال، وبيان دور التجديد
المقبول في الحدّ من ظاهرة الإلحاد.
الإلحاد الجديد:
ممّا لم يعد يخفى على أحد انتشار ظاهرة الإلحاد بين المسلمين، بل أزعم أنّ ظاهرة
الإلحاد ما يظهر لنا منها: (رأس جبل الجليد) فقط، وما خفي كان أعظم، وما نراه
من مظاهر إلحاديّة أمر بسيط بالنسبة إلى الحركة الإلحاديّة التي ستأتي وتزداد نوعاً
وكمّاً، وأسأل الله تعالى أن أكون مخطئاً في توقّعاتي!
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أسباب الإلحاد الجديد كثيرة، أحصيتُ في محاضرة
لي منشورة على اليوتيوب بعنوان: (أسباب الإلحاد وطرق المواجهة)، ستّة عشر
سبباً، فمن الإجحاف تحميل سبب واحد كامل الظاهرة، كما ننبّه إلى أنّ شبهات
الإلحاد الجديد كثيرة وجديدة، بل ومتجدّدة فكلّ يوم هناك جديد، فلا تكفي الكتب
القديمة للمواجهة، ولا يكفي علم لمواجهتها، فهناك شبهات من العلوم النظريّة
والتطبيقيّة كلّها، وهذا يجعلنا نحتاج كلّ الخبرات والكفاءات والتخصّصات.
وما يعنيني هنا من أسباب الإلحاد الجديد الكثيرة سبب مهمّ، وهو الخطاب الإسلاميّ،
وبعض الاجتهادات الإسلاميّة المشكلة على عقليّة إنسان عصرِنا، عصرِنا الذي
أضحت فيه الفلسفات والأنظمة والدول تتنافس بخدمة ورفاهية وحماية ورعاية
الإنسان، كلّ الإنسان.
2
فهذا الانفتاح المتسارع على العالم في زمن الإنترنت وسهولة التواصل، جعل عَقْدَ
المقارنة بيننا وبين بقيّة أمم الأرض المتحضّرة ممّا يتيسّر لأيّ إنسان، وهو جالس
ببيته، وبالصوت والصورة كذلك!
وهذه الموجة الإلحاديّة ستساهم -بما يترتّب عليها من جدل وتأثير متبادل بين
الملحدين من جهة، وبين الدعاة والعلماء من جهة مقابلة- في ترقية (خطابنا
الإسلاميّ)، وبالتالي بتحسين (نوعيّة التديّن) فسننتقل من التديّن الشكليّ الطقوسيّ
إلى القيميّ الأخلاقيّ الذي يركّز على المعاملة الحسنة، والذي لا يهمل الطقوس
طبعاً، فـ(لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خيرٌ لكم).
ويمكن التنبيه على بعض الخطابات الإسلاميّة المنفّرة على سبيل المثال لا الحصر:
أ- خطاب إسلاميّ متشدّد يجعل الاستمساك بأهداب الشريعة الغرّاء يستلزم أن يعيش
المسلم على هامش الحياة، فدائرة المحظورات تغطّي معظم جوانب الحياة في ذلك
الخطاب!
ب- خطاب كراهية وحقد داخل مجتمعاتنا، مقابل مبادئ التسامح والتعايش في
المجتمعات الراقية، طبعاً أتكلّم هنا عن ثقافتهم داخل دولهم ومجتمعاتهم، وهذا لا يعني عدم
وجود خطاب كراهية في تلك المجتمعات، نتيجة وجود اليمين المتطرّف، ولا يلغي ذلك
السياسات الخارجيّة المصلحيّة البعيدة كلّ البعد عن مبادئهم الداخليّة التي يلتزمون بها مع
مواطنيهم!
ولكن نتكلم عن الثقافة العامّة المنظَّمَة والممنهجة التي يحميها التعليم والإعلام
والقوانين والأنظمة في تلك الدول.
ج- خطاب إسلاميّ يفصل بين الحكم الشرعيّ وبين حِكمته وفائدته والغاية والهدف
منه في حياة الناس ودنياهم، فمهما كان الحُكم المستنبَط غريباً يجب أن تسمع وتطيع
فالاجتهاد مشتَق من نصٍّ مقدّس، وهنا نقول على عجالة: “هذا فهمك واجتهادك،
وليس مراد الشارع الحكيم!.
الإنسانيّة ليست اختراعاً ماديّاً:
جعل الله تعالى الإنسان محور الكون، وسخّر له سمواته وأرضه، ونفخ فيه من
روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل له رسله وأنزل عليه كتبه (إنّي جاعل في
الأرض خليفة)، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
3
وشرع الله تعالى للإنسان من القيم والأخلاق والأحكام وأرشده ووجّهه بما يكفل له
سعادته وأمنه في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دعوة مبكّرة للنزعة الإنسانيّة مقابل
الأديان القديمة التي كانت تهدر الإنسان قرباناً لآلهتهم! فالإنسانيّة ليست اختراعاً من
الفلسفة الماديّة، فقد سبق الدين الخالد لها!
وهنا لا بدّ من إبراز موقف الإسلام المشرّف تجاه حقوق الإنسان، ومراعاة تلك
الحقوق عند الاجتهاد والترجيح والفتوى والخطاب المعاصر.
بين الفقيه والمفكّر:
سنتحدّث هنا عن الفروق بين الفقيه والمفكّر، أو بين الكلّيّات والجزئيّات، أوبين الفقه
والأخلاق، فهناك فصام نكد –أحياناً- بين الاجتهادات الفقهيّة الفرعيّة والرؤية الكلّيّة
من جهة، وبين الفروع الفقهيّة وبين الأخلاق من جهة أخرى!
فكثير من عامّة المسلمين ومثقّفيهم استمعوا للخطباء أو قرؤوا للمفكّرين، فأعجبهم
الإسلام الذي يحترم القيم وينادي بالأخلاق ويحافظ على المبادئ، وله فلسفة تشريعيّة
حكيمة متناسقة ومتناسبة ومنتظمَة.
ولكنّهم يتفاجؤون عندما يحتكّون ببعض الفقهاء فيجدون هذه المنظومة القيميّة
الرائعة قد اختلطت وغابت -في كثير من أحيان- فالأحكام مشتّتة هنا، تشدّد فيما
يستحقّ التيسير، وهنا تساهل فيما حقّه التشديد!
وما ذلك إلا لأنّ المفكّر ينظر في الكلّيّات ويسلّط الضوء على جماليّات الإسلام
ونُظُمِه وقواعده الكلّيّة، بينما الفقيه ينغمس في الجزئيّات منشغل –في كثير من
الأحيان- بالنصوص الجزئيّة والاشتقاقات اللغويّة ودلالاتها، ويسهو عن المقاصد
الكلّيّة والمبادئ الأساسيّة والقيم الإسلاميّة.
وبالتالي يحبّ الناس الإسلام القيميّ الأخلاقيّ كما يذكره الخطباء والمفكّرون، وهم
لا يعرفون بعض الاجتهادات التي تضادّ الكلّيّات الجميلة، ويصطدمون بها عندما
تطفو على الإعلام، ويستشكلونها كثيراً، والحقّ معهم!
مثلاً: الزواج بنيّة الطلاق، ولا يُعلم الخاطبُ البنتَ ولا أهلَها.. فلو ناقشتهم في حرمة
ذلك، لأنّه خيانة مبيّتة -مع سبق الإصرار والترصّد- لقالوا لك: هو ينوي الطلاق
والطلاق مباح، كما أنّ النيّة لا يُحاسب عليها الإنسان؟!
4
ونسي القائل حديث: (أترضاه لأختك؟ وأتراضاه لأمّك؟) ونسي أنّ الأصل في العقد
التأبيد، وأنّ الأهل أعطوا ابنتهم ورضيت الفتاة بناء على أنّها ستبقى مع هذا الرجل
مدى الحياة، إلا إنْ طرأ طارئ وتعذّرت الحياة بينهما، فعندها تطرأُ نيّة الطلاق
وفعله.
فلو كانت الفتاة تعرف أنّ هذا الرجل ينوي الزواج بها مدّة ثمّ سيتركها، (بعد أن
يُفقدها عذريّتَها) لما قبلت الارتباط به أصلاً!
فهنا نَظَرُ الفقيه انحصر بآليّات إجرائيّة (مباحة) تمّ تركيبها مع بعضها (نيّة مكتومة
غير محاسب عليها، لفِعْلٍ مباح وهو الطلاق) وغفل عن حيثيّات المسألة ومآلاتها
ونتائجها الكارثيّة على الفتاة المطلّقة في أغلب البيئات في زماننا هذا!
فهنا الفقه انفصل عن الأخلاق تماماً في هذه المسألة، أين الصدق؟ فالمعروف عرفاً
كالمشروط شرطاً، أين الأمانة؟ أين الشهامة؟ أين حفظ أعراض الناس ونسلهم؟ أين
الحفاظ على نفسيّة الفتاة وأهلها؟.. هذه المعاني كلّها تُهدر في هذا الاجتهاد القاصر.
الشرع يراعي مصالح العباد وييسّر عليهم:
عندما نقول: (الدين جاء لإسعاد الناس في دنياهم وآخرتهم)، قد يقول قائل: ليس من
الضروريّ أن يسعد الإنسان في الدنيا، بل يكفي أن يفوز بالسعادة الأخرويّة..
ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عباداتنا وطاعاتنا، فلا
تضرّه معصيّة، ولا تنفعه طاعة، لكنّه أنزل لنا شرائع وتعاليم الدين لتنظيم علاقات
البشر، وسائر شؤون حياتهم في عالم الغيب والشهادة، لحماية الإنسان ورعاية
مصالحه وسعادته: ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)) ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
[النحل : 97]
وبالمقابل: ))وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا، وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ
أَعمى(([طه: 124]
النكد ليس شرطاً في التديّن:
مع الأسف هناك تصوّر أن المتديّن كلّما كان غير مرتاح، كان أقرب إلى الله،
فالأصل بالمؤمن البلاء والعيش الضنك والمشقّة والعسر والضيق، وكأنّ المشقّة
5
مقصودة لذاتها، وبهذا التصوّر الخاطئ يتمّ تسويغ كلّ الاجتهادات المتشدّدة
المرهِقة..
بينما النصوص التي تذكر جزاء المشقّة والمصائب تذكرها لتهوينها على نفس من
يصيبه بلاء، مواساةً وتخفيفاً عن العباد، لا كما قد يتوهّمه بعضهم، من أنّ المشقّة
مقصودة لنيل الثواب، كما ذكر لي أحدهم مرّة: (ينبغي أن نسلك الطريق الأبعد إلى
المسجد، لكونه أكثر ثواباً!!) ونسي الأخ أنّ التبكير في دخول المسجد له ثواب،
وانتظار الصلاة له ثواب، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسُه.
فذِكْر الشارع الحكيم ثواب المسير للمسجد وحسنات كلّ خطوة، لكيلا يستثقل
الذاهب للمسجد طول الطريق أو مشقّته في البرد أو الحرّ، ويعلم أنّ كلّ مشقة تصيبه
في أثناء ذهابه للمسجد له به أجر.
وهكذا كلّ ما ذُكر من ثواب للمصائب والأمراض والهموم وغيرها.. للمواساة
وكرماً منه سبحانه، حتّى يخفّف عناء عباده المبتَلِين، وليس المقصود أن المصائب
مقصودة مطلوبة، نسأل الله العفو والعافية!
فمن حيث تعاليم وأحكام ديننا، فالعَنَت والمشقّة والحرج والشقاء كلّه مرفوع في
شريعتنا.
والأصل في الأشياء الإباحة في شريعتنا، ما لم يرد نهي عن شيء ضارّ للنفس أو
للمجتمع، ولكنّ نفراً من الفقهاء كان مزاجهم التشدّد، وهذا الغالب على فتاويهم حتّى
سمّى بعضُهم منهجَ أولئك الصنف من الفقهاء بـ(فقه النكد) فكلّ لهو أو ترويحٍ حرامٌ،
وكلّ فنّ أو توسّع حرام، والأصل في معاملات الناس الشكّ والريبة والحُرمة!!
فقلبوا القاعدة فأصبحت: (الأصل في الأشياء المنع ما لم يرد نصّ)!
مع أنّ النبيّ ☺ كان متشوّفاً نحو إبقاء دائرة التحريم ضيّقة، لذلك نهى عن كثرة
السؤال، وأخبر أنّ أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء فحُرّمَ من أجل مسألته 1 ،
وكان يخشى أن تُفرض بعضُ السنن على المسلمين، لذلك كان يتركها أحياناً ولا
يداوم عليها، ويقول: (خشيتُ أن تُفرض) فهل مزاج وعقول وقلوب أولئك الفقهاء
المتشدّدين مثل رسول الله ☺؟!
بل بعضهم تشعر أنّه يتلذّذ بتحريم الأشياء على الناس، بينما روى لنا علماؤنا الثقات
عن بعض علمائنا الورعين الصالحين أنّهم كانوا يبحثون عن أسهل الأقوال، ويفتون
1 تخريج؟؟
6
بها الناس توسعةً وتيسيراً، ومنهم شيخ مدينتي في حمص الشيخ محمود جنيد رحمه
الله المعروف بالزهد والورع والصلاح (كان متقناً للمذهبين الحنفيّ والشافعيّ
المنتشرين في ديارنا) روى لنا تلامذته أنّه عندما وجد قولاً في المذهب الحنبليّ فيه
سعة وتيسير حيث يجيز معاملة ماليّة راجت في مدينتي، كاد الشيخ أن يرقص من
الفرح!
فمقصود الشارع الحكيم التيسير على عباده ورفع الحرج والمشقّة عنهم: نصّ على
إرادته ذلك صراحة بنحو قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))
وانتبه إلى قوله تعالى: (يريد) فهو مقصود صراحة، [البقرة: 185] ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج : 78]
فكلّ اجتهاد فقهيّ يوقع الناس في الحرج والعنت والمشقّة، ينبغي البحث عن سواه،
فلم يُخيّر رسولُ الله ☺ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً 2 .
طبعاً ليس ذلك قاعدة مطّردة، فما كان فيه هضم لحقوق الآخرين فنحتاط فيه، لأنّنا
في هذه الحالة نكون قد أوقعنا الطرف الثاني في الحرج، وما كان فيه تقحّم في
المحرّمات القطعيّة نبتعد عنه أيضاً ونحتاط فيه، لأنّ الشارع الحكيم لم يحرّمها إلا
وفيها مفسدة لنا، وقد فصّلت في ذلك في كتابي: (ضوابط التيسير في الفتوى، وهو
منشور على الشبكة).
يقول ابن القيم ؒ: “فصل في بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد:
هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من
الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي في
أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة
كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها
بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه،
وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله أتمّ دلالة وأصدقها” 3
2 ؟؟
3 إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، ابن القيّم، (3 / 2)
7
لا تخلط بين اجتهادك وحكم الله تعالى:
من الظواهر المنتشرة عند الاعتراض على معقوليّة ومنطقيّة وحِكمة وفائدة بعض
الاستنباطات والاجتهادات، يتم استدعاء نصوص السمع والطاعة، واتباع الله ﷻ
ورسوله ☺، وعدم اتباع الهوى..
وهنا نقول: هم لا يعترضون على أحكام الله تعالى، بل على اجتهادك في معرفة
مراد الشارع الحكيم، فما كان من المحكمات والثوابت من المسائل التي نُصّ عليها
وعُرفت في الشريعة من غير اجتهاد ولا استنباط، مِن المعلوم من الدين بالضرورة
كأمّهات الواجبات والمحرّمات، هذه يمكن أن نستدعي لها نصوص السمع والطاعة،
أمّا الاجتهادات الظنيّة (وأغلب الاجتهادات ظنيّة) التي اختلف فيها الفقهاء أصلاً،
وأنكر بعضُهم فيها على بعض! بل ردّ بعضهم فيها على بعض! هذه يسعنا الانتقاء
منها والاختيار فيها، لكن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، وقيم ومبادئ الإسلام
وليس بحسب الهوى!
قراءتان لأحكام الإسلام: بين التعليل والتوقيف:
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك قراءتين لأحكام الإسلام:
القراءة الأولى: قراءة تجعل تعاليم الإسلام غير معقولة المعنى وهو ما يعبّرون عنه
بأنّ الأصل فيها التوقيف (تعبّديّة) يجب الالتزام بها تعبّداً، أي امتثالاً واستجابة
للأمر، وليس معرفة بالهدف والغاية والفائدة، فالأحكام الشرعيّة الأصل فيها ذلك،
وبالتالي يمكن وفق هذه القراءة أن تصبح كلُّ آية كريمة وكلُّ حديث صحيح الإسناد
مبدأً ومصدراً للأحكام والتشريع، بغضّ النظر عن السياق والحال والظرف
والخصوصيّة، لعدم وجود قواعد مستنبَطة حاكمة بأنّها الأصل، وما يخالفها خارج
عن القاعدة، فعند القول بتعليل الأحكام نستنبط من عللها وحِكمها قواعد ومبادئ
ومقاصد نجعلها أصلاً، فما خالفها نلجأ للتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ أو
عدم العمل به..
فعند من يقول إنّ (الأصل عدم التعليل) كلُّ نصّ دينيّ مبدأ مستقِلّ قابل للتطبيق
بغضّ النظر عن بقيّة النصوص، يكفي أن تكون الآية واضحة الدلالة، والحديث
صحيحاً حتّى يُعمل بهما، وبالتالي أنت أمام نصوص كثيرة جدّاً لا ينظُمها شيء
بنظر هؤلاء.
طبعاً الكلام بالعموم وليس بالإطلاق، فالكلّيّات العامّة متفَق عليها، وهي ما يسمّى
“ما يُعلم من الدين بالضرورة” أي يعرفه كلّ مسلم يعرف الإسلام، فمن مقتضيات
8
هذا المذهب (الأصل في الأحكام عدم المعقوليّة) ما يؤدّي لقراءات للإسلام لا
تنتهي، فالنصوص-عندهم- كأحجار البناء، يستطيع كلّ بنّاء تشكيلها كما يشاء،
وبالتالي ظهرت اجتهادات (ليس أوّلَها ولا آخرها داعش).
قراءات قد تهلك الإنسان مقابل إرضاء الإله (بزعمهم)، وقد تجعلك تعادي
العالمين، وتعلن حرباً مفتوحة عليهم، بل قد تقتل أقرب الناس إليك بذريعة الردّة!
وينطبق على هذه القراءة –برأيي- قولهم: (الاتّباع الأعمى)، فهو اتّباع دون معرفة
الفائدة أو الحكمة أو العلّة من الحُكم.
وأيّ واحد يعترض على هذه القراءات، فالاتّهامات جاهزة، فهو إمّا: منبهر بالغرب،
أو عميل لهم، أو متقاعس أو جبان، أو مرتدّ أو يقدّم عقلَه على النصّ، أو قرآنيّ!
كما ظهر بالمقابل قراءات استخدمت النصوص دون قواعد ولا منهج ناظم فتحلّلت
من الإسلام ونقضته عروة عروة، باستدلال من الكتاب والسنّة كذلك!
وأيّ واحد يعترض، كذلك التّهم جاهزة: تقليديّ رجعيّ متشدّد داعش جامد..
أمّا القراءة الثانية ترى أنّ تعاليم الإسلام الأصل فيها التعليل والمعقوليّة وظهور
الحِكمة والغاية والهدف والفائدة.. وللأحكام أنساق وقواعد واضحة ترعاها
النصوص وتؤكّد عليها، وبالتالي فتعاليم الإسلام متناسقة متفهّمة ترعى مصالح
العباد، وتحفظ حقوقهم وتنظّم حياتهم بما يكفل سعادة الجميع.
السؤال: بأيّ هذه القراءات نأخذ؟
عند اختلاف القراءات أو الاجتهادات القديمة والحديثة، بأيّ هذه القراءات
والاجتهادات نأخذ؟
ينبغي ترجيح القراءة الثانية، فالفقه هو الفهم، وكلّما علا كعب الفقيه كان ملتزماً
بالقراءة الثانية أكثر.
وتطبيقات هذه القراءة ليست منحصرة بمذهب فقهيّ معيّن، فعندنا ثروة فقهيّة رائعة،
وكلّ فقيه له فتوحات وإشراقات اجتهاديّة لا تخطئها عين الباحث.
وهنا نحتاج مرجّحات أو ضوابط، وأقترح ما يلي:
1- القيم الكبرى التي جاءت تعاليم الإسلام لترسيخها كالحقّ والخير والعدل
والشورى والرحمة والجمال والتعاون على الخير.. والتضييق على الشرّ.
9
2- مراد الشارع الحكيم ومقاصده وأهدافه من التشريع، أي ما يسمّى مقاصد
الشريعة الكلّيّة وهي ستّة تمثل أمّهات حقوق الإنسان، وهي حفظ دينه ونفسه وعقله
ونسله وعرضه وماله، أو ثمانية، بإضافة: العدل والحرّيّة.
3- مقاصد الشارع الجزئيّة وذلك بمراعاة مقاصد الشارع في كلّ باب فقهيّ، ثمّ
مقاصد الشارع في كلّ مسألة فرعيّة، فالشريعة متكاملة متعاضدة تنظمها قواعد، فلا
يضرب بعضها بعضاً، كلّها مسحوبة بخيوط نحو مقصد كلّيّ واحد؛ هو مراعاة
مصالح العباد، وتحقيق السعادة لهم في الدينا، ومن يلتزم بها يجازيه الله تعالى
بسعادة الآخرة.
4- التيسير ورفع الحرج والعنت والمشقّة، بما لا يتعارض مع المقاصد السابقة.
فخلاصة القول: نحن مبتلون بتيّار تجديد دون ضوابط، وتيّار ضوابط دون تجديد،
والمطلوب تجديد أو تحديث بضوابط، ولا مشاحة بالاصطلاح إذا اتفقنا على
المعانيّ، والمدلولات، والمرجّحات في التجديد الفقهيّ الذي نراه:
(معقوليّة) الأحكام المتمثّلة بالتعليل ومراعاة المقاصد و(إنسانيّة) الأحكام المتمثّلة
برعاية مصالح الإنسان والتيسير عليه.
بذلك نكون ساهمنا في القضاء على سبب هام من أسباب الإلحاد الجديد، وقبل ذلك
نكون قد أرضينا ربّنا واتّبعنا مراده وشريعته كما يحبّ ويرضى، والله الموفّق.