أحلام باسمة في واقع مؤلم:
في كل يوم يستيقظ أهلنا في سورية، على أمل بفجر جديد باسم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، فإذا بفتنة جديدة تخرج لتقطع نياط آمالهم وتقلب الموازين فتزيد في همومهم، حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، عندئذ يصبح عيشهم في أوطانهم واقعًا ميؤسًا منه، وحالًا لا أمل فيه ولا رجاء.
أهمية القائد:
منذ بداية ثورتنا المباركة وبلادنا تعيش مخاضًا صعبًا، في اختيار القادة المناسبين لحمل هَمّ البلاد والعباد، من سياسيين وعسكريين وفي كثير من شؤون الحياة.
والقيادة ركن رئيس في تسيير وتيسير الأعمال، والقيادة المناسبة هي اللبنة الأولى والعامل الفعّال في نجاح كافة الأمور، فكيف إن كان هذا العمل هو قيادة البلاد ورعاية العباد؟ فمن الأولى وقتئذ اختيار الشخصية المناسبة القادرة على حمل هذه المهمة على محمل الجد، والاجتهاد قدر المستطاع في إنتاجها وصناعتها، ولا يعرف التاريخ قيام أمّة ونهوضها بلا قائد يأخذ بزمامها، وكذلك لا تسير سفينة بلا ربان.
وسورية بلد عظيم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهذا البلد غني بالطاقات الهائلة، وسخي بالإمكانات الرائعة، ومنتج للعبقريات الفريدة، ومصنع للشخصيات القيادية النزيهة، فأين كل هؤلاء في قيادة الثورة؟!
لقد تعقّدت الأحوال في الشأن السوري وتشابكت، وزاد هذا التعقيد بقاء مقعد القيادة لثورتنا شاغرًا، إضافة إلى عجز شعبنا الذي كسر لجام القمع وأغلال القهر في إيجاد قائد يُمثله، يقود البلاد إلى جادة الصواب.
شخصية القائد المطلوبة:
والأهم في الموضوع أنّ كثيرًا من فئات شعبنا غرقوا في شخصية القائد المثالية، كما أُغرِقوا أمس في شخصية الأسد الحضيضية، وأخذتْ أذهانهم تتفتق بمن يدير السفينة، فحلموا بالعبقري المتزن، والأديب الورع، والسياسي المحنّك، والعالم الملهم، والحكيم الحاذق، وزدْ على ذلك مئة صفة وصفة، فاجتماع هذه الصفات في شخصية واحدة أمر قريب للمحال، فلا ريب أن الجميع يريد الرجل المناسب لقيادة ثورتنا والتحدث باسمنا، ولكن لنكن واقعيين، بعيدين عن الأحلام والمثاليات، فمن منّا كامل الأوصاف؟ ومن منّا صاحب شخصية خالية العلام؟ ومن منّا يملك تلك الشخصية القيادة الملهمة المعصومة عن الأخطاء؟ الجواب: أنّ هذه الشخصية غير موجودة في أرض الواقع أبدًا، لا إسلاميًا ولا عربيًا ولا عالميًا.
تكسير المجاديف:
ما نلبث أن نجد شخصية أو كيانًا يمثل شعبنا فإذا بمئات الألسنة المتعالية، والتصريحات اللاذعة، والتقارير المسمومة، تجرد سيوفها للنيل من تلك الشخصية، فلا يبق له عيب إلا وأظهروه، ولا مثلبة إلا وأبرزوها، ولا بائقة إلا وألصقوها به، عدا الافتراءات التي تنهش لحمه، وتقدح بعرضه، وتسيء إلى نسبه. ولا ننكر وجود بعض الشخصيات المتسلقة والمأجورة والعميلة، التي تعتاش على ثورتنا، ووجود تلك الشخصيات المريضة لا يعني أبدًا أنّ جميع فئات شعبنا مريضة أيضًا، فالتعميم ظلم عظيم علينا اجتنابه.
لا ننكر على الشعب حرية اختيارهم واعتراضهم على أي قيادة كانت، فالاختيار يكون عن طوعية مطلقة دون قيد أو شرط، أما الاعتراض فيكون عن أدلة تُبين سبب الرفض والمعارضة، فاختيارك أنت حرٌ فيه، وكذلك الاعتراض إن بينت أسباب ذلك بشكل واقعي ومنطقي، فالحكم بالأهواء والتبعيات آفة خبيثة، وخاصة أنّنا نتكلم عن مصير أمّة لا بشأن خاص.
أسباب ظهور سياسة التخوين:
أولًا: أنّ الحرب على أحرار سورية وثوارها حرب شاملة، والتخوين وسيلة سهلة من وسائل هذه الحرب، فبعض جنود أعدائنا قد يلبس ثوب الثورة على أنّه منها، وهو في الحقيقة عميل للنظام، هدفه ضرب القيادات واستهدافها بنشر الأخبار الكاذبة في تخوينها، فيُبعد الثوار والمجاهدين عن قيادتهم ويُشككهم بقادتهم، ليكون التخوين من أشدّ أنواع الأسلحة فتكًا وأمضاها في شيطنة القيادات، وإظهارهم على أنّهم ذئب في ثوب حَمل.
ثانيًا: غفلة بعض فئات الشعب في التعامل مع الأحداث، فينقلون ما يسمعون دون دراية أو وعي أو تثبّت، بتصديقهم كل شاردة وواردة، ونقلهم ما يَبثّهُ الأعداء من الشائعات، وظنّهم السوء بقياداتهم، فيكونوا بذلك وسيلة غير مباشرة لكسر جبهتهم واختراقها وإضعافها.
ثالثًا: عدم ثقة أبنائنا بكثير من القيادات، بسبب ظهور خيانات حقيقية من بعض الشخصيات، فكانت ردة فعل الشعب تعميم الخيانة على جميع القادة، وهذا ما جعل ثقتهم بالقيادات الصادقة مزعزعة.
رابعًا: قلة التجربة السياسية لدى أبنائنا، فمجال السياسة يتطلب منها الجلوس مع كافة الجهات السياسية الأخرى حتى لو كانت مُعادية، في إطار المفاوضات أو الاتفاقيات أو عقد الهُدن، أما الشعب فيتعجّل في أحكامه، على أنّه تواطئ وتخاذل وبيع وتنازل واستسلام، وهذا أمر خاطئ، فإنّ اللقاءات التي تجمع الخصوم لا يُفهم منها التخاذل دائماً، فالسياسة تقبل الأخذ والرد والنقاش والجدال والواسطة. وأقول: أن السياسة ليست موفقة دائماً في صواب القرار، فهناك الكثير من القرارات السياسية مجحفة وظالمة في حق الشعب، ولكن هل الصواب أن ينتج عن هذه القرارات ردة فعل شعبية تُخوّن المُقرّين؟
خامسًا: سلاح الإعلام المعادي الذي يُسوّقه، فيقلب الحقائق ويزيف الأحداث، إضافة إلى ضعف الإعلام الثوري والجهادي، الذي يُقصّر في نقل الحقيقة، ودحض الافتراءات.
سادسًا: وجود بعض مرضى القلوب (مع الأسف) المصابين بأمراض الحسد والبغضاء والضغينة والكبر، تراهم يقفون بوضعية الرامي، فما أن يرفع شخص رأسه من مقام القيادة إلا ويقنصوه قدحًا وتخوينًا وتجريمًا، بدافع الكبر والحسد والبغض، وهذه من مورثات الجاهلية الباقية فينا، ولم نستطع التخلص منها.
الحلول والوصايا:
إنّ عظمة شعبنا تتجلى في حبّه للتحرر، ورفضه للظلم والذل، وثباته على أهدافه في نيل حقوقه المشروعة، ولكي يَصل إلى مُبتغاه عليه أن يُهيئ نفسه للخروج من الضعف الذي يحيط به، والبداية تكون في اختيار شخصية من أبناء شعبه تمثله، على أن يتخلى عن مثالية القائد في مطالبه، وأن يَغضّ الطرف عن الصفات الرفيعة المرجوة لمن يتولى الأمور، فالكمال لله عز وجل، ولا تخل إدارة عن القصور، ولا رياسة عن الضعف، ولكن تعميم البلاء بلاء، وتقزيم الخامات عجز، وعليه أن يظنّ بأبنائه الظن الحسن، دون المبالغة في التسليم والإجحاف في النقد، مع تيقظه لأي خلل يصدر من قائده ليبادر في تنبيهه ونصحه وتذكرته، ويبدي الجهود المطلوبة متعاونًا معه في البناء والإصلاح، وعلى الشعب أن يمنح الوقت الكافي لمن أسلمه القياد، فلا يستعجله في أمر يسعى لبلوغه، ولا يثبّطه في شأن يرنو ويطمح إليه فيه غنيمة للبلاد والعباد، والنجاح لا يكون إلا بالعمل الجماعي الذي يقوم به الجميع دون استثناء، فيحمل القويُ الضعيف، ويعذر القادرُ العاجز، فبلادنا بحاجة لجميع طاقاتها، وشعبنا معطاء ومخزن طاقات نادرة لا مثيل لها، وينتظر من يشعل فتيله، ليتوهّج وينشر شعاعه كالشمس تجود بنورها على كل الأمم.
اختيار القائد:
إنّ شخصية القائد أو الرئيس تظهر للعيان من خلال أعماله ونشاطاته المتميزة عن غيرها، أو من خلال مشروعه الذي يقدمه بين يدي ترشحه، أو من خلال كفاءته واجتهاده وجهاده، ثمّ تقوم لجنة بجمع هذه الشخصيات المتماثلة أو المتقاربة بالأداء أو المتقدمة لهذا المنصب، فتكون الكلمة الأخيرة لما ينتج عن مجلس الشورى، أو الانتخابات الشعبية أو النيابية حسب النظام الدستوري، وهكذا يُمنح مقعد الولاية لمن ظفر بمعظم أصوات اللجنة أو الشعب أو المجلس.
أنّ واقع التخوين والتهمة والتهميش والتقزيم لكل من حمل على عاتقه هموم هذا الشعب في استلام سدّة القيادة، سواء كان مؤهلاً أو لا، خطأ جسيم وجريمة كبيرة، فإنّ التشدد والغلو لا ينتج خيراً على الإطلاق، ولن يكون لهذا الشعب رئاسة أو قيادة طالما بقيت هذه السياسة العقيمة قائمة على حالها.