بسم الله الرحمن الرحيم
إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة
هذه حقيقةٌ يعيشها المسلمون اليوم، بين نبلِ الشعارات، وصفاءِ
النيّات، وعظيم التضحيات من جانب، وبين الناتج المحدود،
والجدوى المختزلة لتلك التضحيّات، والعمل المضني، بعد عقودٍ من
الكفاح للإصلاح والتغيير.
فما من شكّ أنّ الإسلاميّين وهم روّاد المسلمين في الجهاد المسلّح، أو
السياسيّ أو الخيريّ، مافتؤا يجودون بالغالي والنفيس في سبيل
إزاحة صخرة الاستبداد عن صدورهم، وتخليص البلاد – بخاصّة
العربيّة منها – من حكم الأنظمة الاستبداديّة، والانقلابيّة والطائفيّة.
ولكن مع هذا كلّه لم يستطيعوا حتّى اليوم أن يقدّموا بشكل عمليّ
تطبيقيّ نظرتهم للإصلاح السياسيّ والإداريّ، ونستطيع أن نقول:
إنّهم لم يستطيعوا أن يستلموا السلطة بشكل فعليّ كامل، في بلدٍ من
البلدان حتّى الآن، إلّا إذا اعتبرنا أنّ حكومة العدالة والتنمية في تركيّا
من تيّار الإسلاميّين بمفهومه الشامل، قد قطعت خطوات بهذا الشأن.
طبعاً كلّ ما يمكن أن يقال عن مؤامرات وسحق وتنكيل وفظائع
المخابرات بالتيّارات الإسلاميّة موجود، ولكنّها أيضاً ليست هي
الأسباب الوحيدة لانتكاسات التيّار الإسلاميّ، لأنّ كلّ ضعف وهزيمة
تلامسها أسباب موضوعيّة، وأسباب ذاتيّة، أمّا الأسباب الموضوعيّة
فتكلّمنا عنها في مقالات سابقة، بل إنّ ثورات الربيع العربيّ هبّت من
أجل الإطاحة بهذه المنظومات الاستبداديّة الضاغطة،
وهنا سنتكلّم عن بعض الأسباب الداخليّة التي تقوم بتدمير التيّارات
الإسلاميّة من الداخل، ومنها الأسلمة المرهقة.
2
أمّا الإسلام فهو دين الله تعالى، الذي ارتضاه لعباده لهدايتهم، في
الحياة الخاصّة والعامّة، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من آدم عليه
السلام لخاتم النبيّين محمّد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)
وهذا الدين العظيم لم يكلّف اتباعه فوق طاقتهم، وترك لهم تقدير
الظروف التي يستطيعون التحرّك ضمنها، بأقلّ الخسائر، فقال لعبد
خائفٍ (وَلْيَتَلَطَّفْ)، وقال لأمّةٍ مضطّرةٍ منهم: (إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)
وخيّرهم في سياسة أمورهم، فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وجعل
القرآن مصدر إلهامٍ، لا مصدر شقاء،: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) ويسّر عليهم ممارسة الدين، فقال: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) وأناط التكليف الشرعيّ بالاستطاعة، فقال:
(فاتقوا الله ما استطعتم).
والإسلاميّون بالعموم، رغم أنّهم يصدرون عن مرجعيّة الوحي
المبارك، لا يلاحظ عليهم التروّي عند هذه القيم الهادية، وإنّما
تتعرّض لاختزال في معانيها، أو تحييد لآثارها، والاكتفاء بمنظومة
مقتبسة ومجتزأة من سياقها، وتحويلها لمشروع حزبيّ يسمّى:
مشروع تطبيق الشريعة. وهذا ما أسمّيه: (الأسلمة المرهقة)، فهو
محاولة للزجّ بالتصوّر الإسلاميّ بصيغة موحّدة، وغير قابلة للتدرّج
أو التجزئة، بدون النظر للظروف المحيطة، والشروط المناسبة.
فما من حركة مهما قلّ عدد شبابها، ولو كانوا عصبةً صغيرة،
فبمجرّد حصولهم على حزمة بنادق، وبعض صناديق الذخائر، إلا
3
طرحوا مشروع القتال من أجل تحكيم الشريعة، والتجارب المرّة
البارزة تغني عن تكرار ذكرها.
وما من حزب ينطلق للنضال السياسيّ، مهما قلّ مناصروه، أو
ضعفت إمكانيّاته، إلا وأوّل مشروع يطرحه هو: تطبيق الشريعة،
وتأتي هذه الهديّة الثمينة جاهزة، على طبق من ذهب للدولة العميقة،
فتطوف بها على المرأة، وتقول لها: أنت نصف المجتمع، وسيحرمك
الإسلاميّون من حقّك بالولاية.
وتطوف على الأقليّات وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم
عقد الذمّة. وتطوف على أصحاب المصالح الماليّة، وتقول لهم: إنّ
الإسلاميّين سيطبّقون عليكم عقوبة مانع الزكاة. وتطوف على
العلمانيّين وتقول لهم: إنّ الإسلاميّين سيطبّقون عليكم حدّ الردّة.
وهكذا… بشيطنة إعلاميّة بسيطة، تستطيع الدولة العميقة الالتفاف
على مشاعر الجماهير، وجذب الكتل الانتخابيّة لصالحها، هذا عدا
عن قيام أجهزة المخابرات التابعة لها بعمليّات تزوير الإرادة
الشعبيّة، هذا إذا كانت المعركة انتخابيّة، فما بالك إن كانت عسكريّة!
والسؤال المطروح: من الذي يلزم الإسلاميّين بهذا العناء الدائم؟ ومن
هو الذي كلّفهم بتطبيق الشريعة، وهم مستضعفون في الأرض،
وبالكاد يستطيعون التحصّل على حقّ الحياة أو الكلام؟ هذا عدا عن
الغموض والتردّد في طرح المشروع الإسلاميّ، بصفته مشروعاً
برامجيّاً قابلاً للتداول، وإنّما فقط حزمة من الشعارات الدينيّة التي لا
تنعكس في كثيرٍ من الأحيان، حتّى على سلوك حامليها، حامليها
المؤسّسين، فضلاً عن المدعوّين لحملها.
إنّ إصرار الإسلاميّين على تقديم التصور الإسلاميّ على أنَّها كتلة
واحدة غير قابلٍ للتجزئة، وإمّا أن يقبل المجتمع بها كلّها، أو يرفضها
4
كلّها، أرهق هذا الدمج عضد الجماعات الإسلاميّة، بل سرى ذلك
للحاضنة الشعبيّة التي طالما دفعت الضريبة من حسابها.
يقول الدكتور بشير نافع: (إنّ أسّ المشكلة في الحركيّة الإسلاميّة هي
إصرار الحركات الإسلاميّة على اقتباس صورة نمطيّة، تتصوّرها
في مخيّلتها، مرّت بمرحلة تاريخيّة سابقة، وتريد أن تعيدها مستبعدة
ما مرّ من تغيير هائل على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في العالم
الإسلاميّ، منذ ظهور التنظيمات القوميّة في القرن التاسع عشر)،
ا.ه.
وهذا ما نراه عندما تبني الحركة الإسلاميّة مشروعها، منطلقةً من
أنّها ستحصد التأييد الاجتماعيّ، باعتبار أنّ الشعوب مسلمة، ولكنّها
لا تقيس مدى هذا التأييد وجودته وصلابته، فلقد رأينا أنّ الكثير من
التأييد الإعلاميّ والجماهيريّ محكوم بالوقتيّة والمحدوديّة، سرعان
ما يرجع الناس لبيوتهم، تحت الاغترار بالوعود المزيّفة، أو وطأة
آلات القمع والتنكيل.
ومن هنا يقتضي الانتباه لضرورة عدم تحميل الحاضنة ما لا تتصوّر
تبعاته، وما لا تطيق تحمله، وخرط الناس المتديّنين بدلاً من ذلك،
مثل غيرهم في البرامج الانتخابيّة، والهموم السياسيّة، ومحاولة تنمية
وعيهم بعالم المشاريع، وليس الاقتصار فقط على عالم الأفكار
والدعوة.
إنّ الإسلام من عهد آدم عليه السلام، إلى عهد رسول الله عليه
الصلاة والسلام دين موحّد العمق الاعتقاديّ والقيميّ، لكنّه متنوّع
الشرائع والشعائر والأدوات، وبخاصّة في مجال التعاطي السياسيّ.
5
والذي يميل قلبي إليه في الأمر السياسيّ أنّ الإسلام لا يؤسّس لنظرة
مسبقة وجاهزة عن نظام الحكم وإدارة السلطة، وإنّما يدفع بقيمه
وأخلاقه لفعل الأصلح للبشريّة.
وأنّ الإسلام دين هداية وتوجيه، وليس دين مباشرة وتنفيذ، وأنّ
الاسلام إصلاحيّ اجتماعيّ، يراكم التجارب، ويعطي وزناً لأبعادها،
ومستوى نضجها، وليس سياسيّاً انقلابيّاً يفرض رؤيته الجاهزة.
إنّ مقاصد الإسلام ليس معنيّة أساساً بمزاحمة النظم البشريّة، ولكن
عندما يمتزج مع الواقع، فإنّما يفعل ذلك ضمن قواعد التعاقد أو
الاشتباك الممكنة، دون نظرة كاملة مسبقة، فعندما يقول المسيح عليه
السلام:( فردوا مال قيصر لقيصر) هي تعاط ضمن الممكن، وعندما
يقول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّيّ حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) في حكومة وثنيّة، هو تعاط ضمن الممكن، وعندما يقول
سليمان عليه السلام: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ
أَنتَ الْوَهَّابُ) هو تعاط ضمن الممكن، وكلّ هذا إسلام لاشكّ،
وبتوقيع أنبياء الله،
فالإسلام يشارك ويواجه وينازل، ويصبر ويؤسّس، ويقبل ويرفض،
مثله مثل غيره من الكتل البشريّة، دون أن يكون له مشروع مستقلّ،
وهذا دليل كمال، ويعني أنّه دين منفتح، لا يُكْره الناس على أسبقيّات
أو قبليّات، وإنّما يسير معهم وفق قواعد التغيير الاجتماعيّ الطبيعيّة.
انتهى