بسم الله الرحمن الرحيم
إسلاميّو العرب بين البرامجيّة والشعاراتيّة
بشكل شبه دائم نلتقي بوجوه العمل الإسلاميّ، من العالم العربيّ،
بخاصّة بعد مطاردة الثورة المضادّة لهم، واضطرارهم للهجرة إلى
تركيّا، أو أولئك الذين نرصد أفكارهم وتنظيرهم على مواقع
التواصل الاجتماعيّ، ولا يخفى كم لهؤلاء من فضلٍ وسابقة في
بذلهم الكثير من جهودهم ومقدراتهم، بل ومن حياتهم وأمنهم في
سبيل تخليص مجتمعاتهم من غوائل المستبدّين والانقلابيّين
والطائفيّين، مع ما تكبر فيهم من همّة وتفانٍ وقدرة على الحشد
والتأثير، ورغبة في البذل والتضحية، بقدر ما ترى عند الكثير من
نمطيّة مكرّر،ة وأفكارٍ معلّبة كانت سبباً ذاتيّاً في إرهاقهم، وتعطيل
مشاريعهم في بلادهم، عدا عن الأسباب الموضوعيّة الكثيرة التي تقع
على عاتق المستبدّين والظالمين وأجهزتهم المخابراتيّة.
ومثال على ما ترى فيهم، هذا التناقض بين إعجابهم الكبير، وتأييدهم
المنقطع النظير، للتجربة التركيّة ورائدها حزب العدالة والتنمية،
وكيف أنّ الإسلاميّين العرب في غاية الانسجام مع مشروعه، بل
ربّما يعتبرونه من ثمرات تنظير أجدادهم، ويستعدّ الكثير منهم
لخدمته والتشبيك معه، وهذا كلّه مرحّب به، ويدعو للتفاؤل، ولكنّك
في الوقت نفسه تسمع منهم – عندما يتحدّثون عن بلادهم في سوريّة
أو العراق أو مصر أو اليمن أو ليبيا أو الخليج – فيكادون يجمعون
على أنّ التجربة الديمقراطيّة والبرامجيّة التي أوصلت العدالة
والتنمية للحكم في تركيّا غير صالحة لبلادنا، بل لا بدّ من طرح
مختلف في البلاد العربيّة، لا بدّ من التنصيص على إسلاميّة
2
المشاريع الحزبيّة والإصرار على دسترة مصدريّة التشريع، وأنّ
لبلادنا خصوصيّة لا تقبل التجربة الديمقراطيّة، ولا بدّ من التفريق
بين الديمقراطيّة من حيث هي فلسفة، وبين الديمقراطيّة من حيث هي
أداة، ولحين أن تفرّق بين ما هو فلسفة وما هو أداة، يكون اللصّ قد
حاز الخزينة، ونصب سوراً حول المنطقة الخضراء، واجتذب
الأغلبيّة الصامتة، وأدخلنا في معارك التخوم.
لك أن تعجب من هذا عجباً لا ينقضي: ما هو حلال في تركيّا
وماليزيا، هو حرام علينا، وما نهض بالسويد وبلجيكا، نكص بنا، وما
جاز لأردوغان ومهاتير، حرّم علينا.
لماذا تمجّد البرامجيّة في تركيّا وماليزيا؟ وتمجّد الشعاراتيّة عند
العرب؟ لماذا يحوز الإسلاميّون في تركيّا وماليزيا على دعمنا، رغم
أنّهم لم يرفعوا شعاراً دينيّاً، ولا هويّاتياً واحداً، أو لم يتمركزوا
حوله؟ لماذا نصرّ على خوض معركة الشريعة والهويّة والحسبة،
دفعة واحدة في مصر وسوريّة وبلاد العرب؟
لماذا نشعر بغاية الانسجام مع ما تمنحه الحرّيّات العامّة والخاصّة
من الأجواء المتحرّرة والشهوات المباحة، تحت طائلة فقه
الضرورات الخاصّة، وهو مشروع ولاشكّ، وتمنع الأمّة المعذّبة من
تراخيص الضرورة، رغم أنّ الضرورة في حقّ الأمّة آكد، بل
الحاجة في حقّ الأمّة تنزل منزلة الضرورة؟
سأمرّ بكم على نصّ مقتبس من برنامج (حزب العدالة والتنمية) في
تركيّا، وانظروا إلى روح البرامجيّة:
3
( لن يعجز شعبنا – مادام الحلّ في يده – كما قال أتاتورك الكبير: “إنّ
القوّة التي ستنقذ الأمّة هي أبداً ودائماً عزيمة الأمّة وإصرارها”.
إنّ حزبنا الذي هو صنيعة الشعب، ولسان حاله، سيقوم بإعادة
ترسيخ الشعور بالثقة لدى المجتمع، وإكساب المواطنين الثقة في
المستقبل، والشعور بتقدير واحترام المجتمع لهم.
ولدينا مفهوم جديد للإدارة؛ ييسّر ولا يعسّر، ويحتضن ولا يطرد،
ويوحّد ولا يفرّق، ويحمي الضعفاء المظلومين من الأقوياء الجائرين،
ومن أجل تحقيقه سيقوم الحزب بما يلي:
• إرساء مفاهيم تستند على الحقوق والحرّيّات، وفق المعايير
العالميّة، في جميع المجالات.
• حلّ المشكلات المزمنة، التي تواجهها تركيّا حلّاً جذريّاً.
• تحويل بلدنا إلى بلد مستديم الإنتاج والنموّ، من خلال توظيف
الموارد البشريّة والطبيعيّة المعطّلة منذ سنوات.
• القضاء على الفجوة في توزيع الدخل، وبهذه الكيفيّة يتمّ رفع
مستوى الرفاهية لجميع أفراد شعبنا.
• تحقيق التعاون الوظيفيّ في المجتمع من خلال إشراك المواطنين
ومنظمات المجتمع المدنيّ في الإدارة العامّة.
• نشر مفهوم الشفافيّة التامّة والمساءلة في كلّ مجال من مجالات
الحياة العامّة.
4
• تقديم برنامج سياسيّ عصريّ، وعقلانيّ واقعيّ، وقابل للتنفيذ،
في مجالات مثل: الاقتصاد والسياسة الخارجيّة والثقافة والفنّ،
والتعليم والصحّة والزراعة وتربية الحيوان.
ولدينا اعتقاد راسخ بأنّ هذا البرنامج قادر على حلّ مشكلات تركيّا،
وفتح آفاق التقدّم أمامها.
إنّ أهم خاصيّة لهذا البرنامج تتمثّل في قراءته للحاضر قراءة
صحيحة، واستشرافه المستقبل. ونأمل أن يكون هذا البرنامج الذي
نقدّمه لشعبنا بمثابة نقطة انطلاق جديدة لتركيّا.
وبعون الله سيصبح كلّ شيء بنا وبكم أفضل حالًا).
انتهى الاقتباس، ولقد رأينا سعياً لتحقيق مطالب بشريّة يطلبها كلّ
البشر، ويسعى لنيلها كلّ إنسان، لم يتحدّثوا عن تطبيق الشريعة، ولا
عن فتح روما، ولا عن تخمير النساء، ولا عن ملاحقة الخمر، ولا
عن تنميط المجتمع، كلّ ما في الأمر أنّهم سمحوا لهذا المجتمع أن
يتحدّث عن نفسه، ولا شكّ أنّه سيتحدّث بما يؤمن به، وبما تربّى
عليه.
ماذا لو حاولت كإسلاميّ أن تكتب مثل هذا الكلام في دستور حزب
إسلاميّ في بلاد العرب، سيحدث لك ما حدث للغنّوشي والترابيّ،
من تهم التمييع والتضييع والتلاعب بالهويّة والثوابت، ومحاباة
للعلمانيّة والحداثة، فكيف إذا أردت أن تكتب (أتاتورك الكبير)!
سيقولون لك: وهل قدّمنا ملايين الشهداء حتّى نعود إلى ما قبل مائة
عام؟.
5
ونقول: وهل قدّمنا ملايين الشهداء لنبقى في التخوم، ويستفرد المستبدّ
بمفاصل الأمن والقرار السياديّ في منطقته الخضراء، مستغلّاً
تخوّف من لم يفهمنا، أو من يتخوف منّا، فاستمالهم لطاعته، وخوّفهم
على أمنهم من سيفنا، وعلى حرّيّتهم من مشروعنا؟.
إنّ الشعارات جميلة، والاندفاع الروحيّ خلّاق، ولكنّه مؤقّت
ومكلف، ومن الخطأ بناء المشاريع السياسيّة المستدامة على وهج
السطع العاطفيّ، أو الوهج الإيديولوجيّ، لأنّه سرعان ما يخبو بفعل
الزمن، من فقد المؤسّسين، وسيطرة النفعيّين، وكلفة الاستمرار،
وتحفّز الأعداء، واستمالة الرماديّين لبريق المصالح.
انتهى