بسم الله الرحمن الرحيم
أنسنة المسلمين
لماذا اجتاحوا فسطاط المسلمين؟ ولماذا لا تنزل الطير الأبابيل؟
على شواطئ البحار الهادرة، وعلى وقع صدمات الأمواج العاتيّة، ومع كل محنةٍ تحاصر جزءاً من جغرافيّة المسلمين، فتوقع أبناءها بين قتيل وجريح ومُهجَّر، ووطن مدمَّر، ودولةٍ فاشلة، تتصاعد الأصوات من الحناجر المبحوحة:
- لماذا لم ينصرنا الله؟ لماذا سقطت كابول وبغداد وصنعاء ؟
لماذا سقطت غوطة دمشق، وخرج الثوّار منها؟ وهي فسطاط المسلمين وخيرة بلاد الله يجتبي إليها خيرته من خلقه؟ وأين أجنحة الملائكة المبسوطة على بلاد الشام؟ بل أين حفظها في الكنانة، ورمي من رامها بسوء!؟ بحسب ما ورد في بعض الآثار؟.
وأمام هذا الضغط الهائل من الأسئلة يبتدر الدعاة للتعليق عليها بجواب موحّد تقريباً، وهو رمي الكرة في مرمى السائلين، وذلك باستحضار قوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وباعتبار أنّنا لم ننصر الله، فنحن لا نستحقّ نصره، هكذا يلقي الداعية الهمّ عن نفسه كأنّه قضى المهمّة المطلوبة منه، ولكنّ نفس السائل ستبقى تغرق في بحار من الريبة والشكّ، في مصداقيّة الجواب، وذلك لعدّة أسباب:
أوّلها: أنّ نصر العباد لله ليس برنامجاً قابلاً للقياس، فهناك عشرات الجماعات التي تسلك مشاريع العمل لنصرة الله، والدعوة لسبيله، وإعلاء كلمته، ورغم ذلك فإنّها لا تنجح، ولا يمكن محاسبتها، للجهل بالمعيار الذي من خلاله يحدّد ما إذا كان هذا المشروع نصرةً لله أم لا.
ثانيها: أنّ المسلمين على تقصيرهم يفوقون أعداءهم بمراحل، بمحبّة الله والتضحية في سبيله، والغالبيّة منهم حتّى الآن يستظهرون بالشعائر، ويحتكمون في غالب شؤونهم إلى الشرائع، وأمّا أعداؤهم ففي منحدر خطير من الكفر والإلحاد، بل وتحدّي الله، وحرب دينه وعباده، فلماذا استحقّوا النصر أكثر من المسلمين؟
ثالثها: أنّ هؤلاء المسلمين المظلومين عندما يحصلون على دعم عسكريّ قويّ يستطيعون الصمود، وعندما يحرمون الدعم لا يستطيعون، رغم أن حالهم الدينيّة عقيدةً وسلوكاً لم تتغيّر قبل الدعم وبعده، ممّا يرجّح عدم ارتباط النصر بالمعتقد، فلو ملك ثوّار سوريّة مضاد الطيران لانقلبت الموازين.
وغير هذه الثلاثة هواجس كثيرة تعصف اليوم بأذهان الشباب المسلم، بعد الانكسارات العسكريّة أمام الغزاة، أو أنظمة الاستبداد، وأحببت من تسمية هذا المقال بـ (أنسنة المسلمين) تطبيع الأمر وتحكيمه على أرض الواقع المشاهد، حتّى يستطاع فهمه، فالحقيقة أنّ المسلمين مثلهم مثل غيرهم من الناس، يجري عليهم ما يجري على بني الإنسان، ينتصرون مرّةً ويهزَمون مرّةً أخرى، وكذلك الكفّار ينتصرون ويهزمون، المسلم يقتَل والكافر يقتَل، والحقّ لا يعصم الناس، كما أنّ الباطل لا يبيح قتلهم.
قد يهزم الحقّ، ويسحق أهله، ويشرّدون ويمزّقون في الأرض، وقد ينتصر الباطل ويسود، فلطالما جزّت رؤوس الأنبياء، ومزّقت أجساد الأتقياء، بل يروى أنّ رأس (يحيى بن زكريّا) قطف وقدّم مهرا ً لبغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، وليس خافياً علينا ما حدث لمنتسبي أهل البيت، من التقتيل والتشريد في الأرض، وهم من خيرة الناس.
في الحقيقة ليس هناك عصمة لحامل حقٍّ من الهزيمة أو النكال، وليس هناك أطواق نجاةٍ خاصّة تنجي المؤمنين، ومطارق تزهق أرواح الكافرين، وليس هناك انتصارات تكتب للمصلّين، وهزائم تلحق بتاركي الصلاة، والسواك ليس من أسباب النصر، وعدمه ليس من أسباب الهزيمة.
إنّ الحديد يفلّ الحديد، وإنّ السيف يقطعه السيف، وإنّ العزم يوهنه العزم، وإنّ القويّ يبطش بالضعيف، بغضّ النظر عمّا يحمل كلٌّ منهما من المبادئ…
طيّب… فما الجواب عن موجبات النصر الدينيّة في القرآن والسنة ؟
نقول: إنّ الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن نصر المؤمنين، هي جزء من غيرها من النصوص الواضحة، التي تربط فاعليّة الإيمان بالأسباب الجغرافيّة والسياسيّة، فقوله تعالى: ( كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً ) هي نتاج لمرحلة عسكريّة طويلة، من كفاءة القائد، وحضوره بين جنده، ومراحل التدريب والصقل، والمسير والثبات رغم الصعاب، وقوله تعالى: ( إن تنصروا الله ينصركم ) مرتبط بالبأس الشديد: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)، فليس لنا أن نقتطع نصّاً من سياقٍ عامّ متكامل، ثمّ نبني عليه ما يجب بناؤه، على عموم النسق القرآنيّ الهادي لأقوم الطرق.
ثمّ إنّه لا يخفى دور الإيمان من حيث هو قوّة خفيّة بالبداية، ولكنّها تتحوّل لإرادة معنويّة كبرى، تعدل ميزان القوى غير المتكافئة، ولا شكّ أنّ الحرب المعنويّة لها الأثر البالغ في تحقيق النصر، ولكن… مع هذا نقول: إنّ هذا ليس مقتصراً على المسلمين، فأيّ جماعة تؤمن بمعتقدٍ ما، وتكوّن منه إيديولوجيا حاكمة وملهمة ستبث فيهم هذه الطاقة والقوّة، وهذا ما نراه عند الوثنيّين واليساريّين والمتطرّفين الدينيّين، بل بعضهم تصل به الشجاعة لتفجير نفسه وهو يضحك، منسجماً مع الإيديولوجيا التي يحملها بغضّ النظر عن موقعها من الحقّ والباطل.
أمّا بالنسبة إلى الآثار الواردة في حفظ بعض البلدان وكفالة أهلها، فكعادتي لا أدخل في قضيّة التصحيح والتضعيف، لعدم تخصّصي في هذا العلم، ولكن هذا لا يمنعني أيضاً من التأمّل، بأنّ هذه النصوص – إذا سلّمنا بثبوت بعضِها سنداً- كحديث فسطاط المسلمين في الشام، أو كفالة الله للشام، أو أنّ الملائكة باسطةٌ أجنحتها على بلاد الشام، وغيرها، فإنّ الواقع الشاهد أو التاريخ الغابر يقول غير هذا، فهذه البلاد تمتاز بكثرة الهرج والقتل والفتن والتشظّي، والحروب المزلزلة، وكم هجّر أهلها، وكم قتّلوا، وكم عذِّبوا… ويكفيك ما حدث لهم في هذا العصر و(لفسطاط المسلمين) الغوطة، كما يفسّرها بعضهم بالذات، من أكبر كارثة تقتيل وخنق وتهجير… لم تحدث إلا في الحروب العالميّة الكبرى، وهذا دليل على أنّ المراد ليس الحفظ الماديّ والمشاهد على الأقلّ، وربّما يتعلّق ببركات خفيّة لا تفهم عبر مدركات البشر وعقولهم، شأنها شأن الأمور الغيبيّة التي نؤمن بها دون اشتراط يقين العقل بها، أو توافقها مع مقاييسه، فلا نجعلها من أسباب النصر ولا الهزيمة، فالشام مثل الأرجنتين مثل المكسيك مثل اليابان، تنتصر بما تنصر به تلك الدول، وتهلك بما تهلك به تلك الدول، وقد يقوى أهل الشام – كزمن بني أميّة – فيحكمون العالم، وقد يضعفون، كيوم احتلّتهم فرنسة، وهذا كلّه ضمن الاعتبارات الكونيّة التي تجري على الناس كلّهم، فليس بفضل بلاد الشام فتحت الأندلس، وليس بقرن الشيطان في نجد سقطت الأندلس، ولو ملك ثوّار سوريّة اليوم مضاد الطائرات لخرج الطيران الروسيّ عن المعركة، وسحقت الميلشيات الطائفيّة، وسقط النظام في دمشق،
لقد هزمنا لأنّ عدوّنا متقدّم علميّاً وتكنلوجيّاً علينا، وليس لأنّه أقرب لله ورسالاته، وهنا أدعو إلى عدم تحميل الدين ولا نصوصه مسؤوليّة هزيمتنا أو انكسارنا، بل نحن مع الحقّ ولو سحق، ومع أهل الحقّ ولو هزموا، والنصر لا يعطي قيمة مضافةً وجوهريّة للحقّ والهزيمةُ لا تسلب منه فضيلة، وكذلك الباطل، لا يشرّفه نصر، ولا يعزّزه تفوّق، بل هو زاهق في عالم الأخلاق والقيم، ولو حقّق الانتصار العسكريّ.
انتهى